رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

البرية ، ويكون المراد بحضوره المشترط فيه الإذن الخاص لنصب القاضي الحضور الخاص الذي ينفذ حكمه فيه ، ويكون غيره في معنى الغيبة.

وبذلك صرح جماعة ومنهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال بعد قول الماتن : ( ومع عدم الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام الجامع للصفات ) المشترطة في الفتوى ؛ لقول أبي عبد الله عليه‌السلام : « فاجعلوه قاضياً فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه » (١) ولو عدل والحال هذه ، إلى قضاة الجور كان مخطأ ما لفظه :

ما تقدم من اشتراط نصب القاضي وإن كان فقيهاً مجتهداً وعدم نفوذ حكمه إلاّ مع التراضي به مختص بحال حضور الإمام وتمكّنه من نصب القضاة ، أمّا مع عدم ذلك إمّا لغيبته أو لعدم بسط يده فيسقط هذا الشرط من جملة الشروط ، وهو نصب الإمام (٢). انتهى. ووجهه يظهر ممّا قدّمناه.

ثمّ قال : وينفذ عندنا قضاء الفقيه العدل الإمامي الجامع لباقي الشرائط وإن لم يتراض الخصمان بحكمه ؛ لقول أبي عبد الله عليه‌السلام لأبي خديجة : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم قاضياً ، فإنّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه » (٣).

إلى أن قال : وقريب منها رواية عمر بن حنظلة : قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ فقال : « من تحاكم‌

__________________

(١) راجع ص : ١٦.

(٢) المسالك ٢ : ٣٥٢.

(٣) راجع ص : ١٦.

٢١

إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقه ثابتاً ؛ لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله تعالى أن يكفر به » قلت : كيف يصنعان؟ قال : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردَّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله تعالى ، وهو في حدّ الشرك بالله تعالى » (١).

وفي طريق الخبرين ضعف ولكنّهما مشتهران بين الأصحاب متفق على العمل بمضمونهما ، فكان ذلك جابراً للضعف عندهم (٢). انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وهو كما ترى قد كفانا مئونة الاشتغال لشرح ما هنا ، إلاّ أنّ ما ذكره من الضعف في الرواية الثانية محلّ مناقشة ؛ إذ ليس في سندها سوى داود بن الحصين ، والنجاشي قد وثّقه (٣) ، وعلى تقدير ثبوت وقفه كما ذكره الشيخ وابن عقدة (٤) فهو موثّق ، لا ضعيف كما ذكره. وعمر بن حنظلة ، وهو ممّن قد حكي عنه بأنّه وثّقه (٥) ، هذا.

مع أنّ في السند قبلهما صفوان بن يحيى ، وقد حكي على تصحيح ما يصح عنه إجماع العصابة (٦).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ / ٥١٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٣ أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٤.

(٢) المسالك ٢ : ٣٥٢.

(٣) رجال النجاشي : ١٥٩ / ٤٢١.

(٤) رجال الطوسي : ٣٤٩ / ٥ ، وحكاه عن ابن عقدة في الخلاصة : ٢٢١.

(٥) حكاه عنه التفريشي في نقد الرجال : ٢٥٣ / ٢٦ ، وصرّح به في الدراية : ٤٤.

(٦) رجال الكشي ٢ : ٨٣٠ / ١٠٥٠.

٢٢

وبالجملة فالرواية قويّة غاية القوة كالصحيحة حجة في نفسها ، مع قطع النظر عن الشهرة الجابرة.

وبها يُعارض جماعة في استدلالهم بالرواية الأُولى على جواز التجزّي في الاجتهاد (١) ؛ لمكان قوله فيها : « يعلم شيئاً من قضايانا ».

وذلك لدلالة الرواية الثانية على اعتبار المعرفة بالأحكام جملة ؛ لمكان الجمع المضاف ، وهو حيث لا عهد يفيد العموم لغة ، وهي كما عرفت بحسب السند معتبرة ، ولا كذلك الرواية الأُولى ؛ لأنّها بالاتفاق ضعيفة ، لأنّ في سندها معلّى بن محمّد وأبا خديجة وحالهما في الضعف مشهورة ، والشهرة الجابرة مشتركة فقوّة السند في الأخيرة مرجّحة.

هذا بعد تسليم دلالتها ، وإلاّ فهي ممنوعة يظهر وجهه بالتدبّر فيما ذكره الخال العلاّمة أدام الله تعالى ظلّه في بعض حواشيه ردّاً على بعض هؤلاء الجماعة ، فقال : لا نزاع في أنّ العلم بجميع الأحكام ليس شرطاً في الفتوى والاجتهاد ، كيف؟ وهو من خواص الشارع ، بل النزاع إنّما هو في اشتراط الاطلاع بجميع مدارك الأحكام والقدرة على استنباطها ، ومنها التوقف ، كما لا يخفى على المطلع بأحوال المجتهدين الذين لا تأمّل في اجتهادهم ، بل لا يوجد مجتهد إلاّ ويتوقف في بعض المسائل ، بل وغير واحد منها.

فعلى هذا لا دلالة للرواية على التجزّي ، بل على أنّ العالم ببعض الأحكام مجتهد وقوله فيه حجة ، والمانع للتجزّي يمنع حصول العلم ببعض الأحكام للمتجزّي إلاّ أن يدعي ظهور العلم ببعضها من دون الإحاطة‌

__________________

(١) منهم العلاّمة في التحرير ٢ : ١٨٠ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٧ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦١.

٢٣

بجميع المدارك في ذلك الزمان.

لكن لو تمّ هذا بحيث ينفع محلّ النزاع يكون هو الدليل من دون مدخلية الرواية. ثم أطال سلّمه الله تعالى في وجه منع المانع للتجزّي عن حصول العلم للمتجزّي ، ويرجع حاصله إلى ما قدّمنا تحقيقه قريباً ، هذا.

وذكر شيخنا في المسالك أنّه لا يكفي اجتهاد القاضي في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزّي الاجتهاد أيضاً (١). ولم ينقل فيه خلافاً ، وظاهره يعطي الاتفاق على المنع من قضاء المتجزّي.

وينبغي القطع به مع وجود المجتهد المطلق والتمكّن منه ؛ للأمر بالرجوع إلى الأعلم في مقبولة عمر بن حنظلة الطويلة ، ونحوها من أخبار كثيرة (٢).

وما يستفاد من الروايتين من حرمة التحاكم إلى حكّام الجور مجمع عليه بيننا ، وغيرهما من الروايات مستفيضة به بل متواترة جدّاً (٣) ؛ مضافاً إلى الآية الكريمة المذكورة فيها (٤).

ويستفاد منها عدم جواز أخذ شي‌ء بحكمهم وإن كان له حقّا ، وهو في الدين ظاهر ، وفي العين مشكل ، لكن العموم مقتضاهما.

وفي المسالك وغيره (٥) استثنى من الحكم بتخطئة التحاكم إليهم ما لو توقّف حصول حقّه عليه فيجوز ، كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحق‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٥١.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ب ٩.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١١ أبواب صفات القاضي ب ١.

(٤) النساء : ٦٠.

(٥) المسالك ٢ : ٣٥٢ ؛ مفاتيح الشرائع ٣ : ٢٤٨ ، كشف اللثام ٢ : ٣٢٠.

٢٤

بغير القاضي ، قال : والنهي في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختياراً مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحق ، قال : وقد صرّح به في خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه ، فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء : كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجل ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (١) » (٢) الآية. انتهى.

وظاهرهما عدم الخلاف حيث لم ينقلاه فيه كالفاضل في المختلف ، لكن في صورة ما إذا كان أحد المتخاصمين محقّاً والآخر مخالفاً ، وأمّا في صورة كونهما محقّين ، فقد نقل القول بمنعهما عن الترافع إلى هؤلاء عن الحلبي ، واعترضه بالمنع من الفرق بين الصورتين ، قال : لأنّ للإنسان أن يأخذ حقّه كيف أمكن ، وكما جاز الترافع مع المخالف إلى المخالف توصّلاً إلى استيفاء الحق ، فليجز مع المؤمن الظالم بمنع الحق (٣).

وهو ظاهر في اعتراف الحلبي بأنّ علّة الجواز حيثما يقول به : هو التوصّل إلى الحق (٤) ، ومرجعها إلى الأدلّة العامة بنفي العسر والضرر (٥) في الشريعة ، وقوله سبحانه ( فَمَنِ اعْتَدى ) الآية (٦).

__________________

(١) النساء : ٦٠.

(٢) الكافي ٧ : ٤١١ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٣ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٢٠ / ٥١٩ ، الوسائل ٢٧ : ١١ أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٢.

(٣) المختلف : ٧٠٠.

(٤) الكافي في الفقه : ٤٢٥.

(٥) في « ح » ونسخة في « ب » : الحرج.

(٦) البقرة : ١٩٤.

٢٥

فالحكم لا بأس به ، إلاّ أنّه ينبغي أوّلاً إعلام الخصم المانع عن الحق برفعه إلى حاكم الجور إذا أصرّ على حبس الحق ، فإن ارتدع وإلاّ فليترافع ، اقتصاراً فيما خالف الأصل الدال على حرمة الترافع إليهم على محل الضرورة.

وأمّا ما في الكفاية من استشكاله في الحكم بأنّ في الترافع إليهم إعانة لهم على الإثم محرّمة (١) فضعيف غايته ، إذ ليس ما دلّ على حرمتها بأقوى ممّا دلّ على حرمة التحاكم إلى هؤلاء الظلمة ، فكما تخصّص بأدلّة نفي الضرر والعسر في الشريعة ، وآية الاعتداء المتقدمة هذه ، فلتكن تلك الأدلّة بها أيضاً مخصصة ، وإنّما جعلت أدلّة نفي الحرج مخصِّصة للأدلّة المانعة بنوعيها مع كون التعارض بينهما تعارض العموم والخصوص من وجه فيحتمل العكس ، لأوفقيّتها بأصالة البراءة التي هي حجة مستقلة ، لو فرض تساقط الأدلّة بعد تعارضها من كل جهة.

( وقبول القضاء عن السلطان العادل مستحب لمن يثق ) ويعتمد ( بنفسه ) بالقيام بشرائط القضاء ، واستحبابه عينيّ ، فلا ينافي ما قدّمناه من أنّه واجب كفائي.

( وربما وجب ) عيناً إذا ألزمه به الإمام عليه‌السلام ، أو لا يوجد من يتولاّه غيره ممّن يستجمع الشرائط. ولا فرق في هذا بين حالتي حضور الإمام وغيبته. ولا خلاف في شي‌ء من ذلك عندنا.

خلافاً لبعض العامة (٢) فحكم بالكراهة ، للنصوص المحذّرة ، منها : « من جُعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين » (٣).

__________________

(١) الكفاية : ٢٦٢.

(٢) انظر المغني والشرح الكبير ١١ : ٣٧٨.

(٣) المقنعة : ٧٢١ ، الوسائل ٢٧ : ١٩ أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٨.

٢٦

وفي آخر : « يجاء بالقاضي يوم القيامة فيلقى من شدّة الحساب ما يتمنّى أنّه لم يقض بين اثنين في تمرة قطّ » (١).

وحملها الأصحاب على من لم يستجمع الشرائط ، أو إرادة بيان خطره ، ولا بأس به.

( النظر الثاني : في الآداب ).

( وهي ) قسمان : ( مستحبة ومكروهة ).

ولم يرد بكثير منها نص ولا رواية ، ولكن ذكرها الأصحاب ، ولا بأس بمتابعتهم ، مسامحة في أدلّة السنن والكراهة.

( فالمستحب : إشعار رعيته ) وإخبارهم ( بوصوله ) وقدومه ( إن لم يشتهر خبره ) وطلب من يسأله ما يحتاج إليه من أُمور بلده ؛ ليكون فيها على بصيرة من أمره ، والنزول في وسط البلد ؛ للتسوية بين الخصوم في مسافة الطريق.

( والجلوس في قضائه ) أي : حالة القضاء في موضع بارز مثل رحبة (٢) أو فضاء ، ليسهل الوصول إليه ، ويكون مستقبل القبلة في جلوسه ؛ لتحصيل الفضيلة على قول (٣) ، والأكثر على استحبابه ( مستدبر القبلة ) ليكون وجوه الناس إليها (٤) ، نظراً إلى عموم المصلحة.

( وأن يأخذ ) مبتدئاً ( ما في يد ) الحاكم ( المعزول من حجج

__________________

(١) عوالي اللئلئ ٣ : ٥١٦ / ٩ ، كنز العمال ٦ : ٩٧ / ١٥٠٠٨. بتفاوت.

(٢) الرَّحْبَة : الساحة المنبسطة المتّسعة. تهذيب اللغة ٥ : ٢٦ ، القاموس ١ : ٧٥ ؛ مجمع البحرين ٢ : ٦٩.

(٣) انظر المبسوط ٨ : ٩٠.

(٤) كالمفيد في المقنعة : ٧٢٢ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٢٠٩ ، والعلاّمة في القواعد ٢ : ٢٠٣.

٢٧

الناس وودائعهم ) ليعلم تفاصيل أحوال الناس ، ويعرف حقوقهم وحوائجهم.

( والسؤال ) بعد ذلك ( عن أهل السجون وإثبات أسمائهم والبحث عن موجب اعتقالهم ) وحبسهم ( ليطلق ) ويخلص ( من يجب إطلاقه ) بأن لا يثبت لحبسه موجب ، أو لم يظهر له خصم بعد إشاعة حاله. وإن ادّعى أن لا خصم له ، ففي إحلافه مع ذلك قولان.

ثم يسأل عن الأوصياء على الأيتام والمجانين ، وعن ثبوت وصايتهم وتصرفهم في المال ، ويفعل بهم ما يجب : من إنقاذ ، أو إسقاط ، أو تضمين.

ثم ينظر في الامناء الحافظين لأموال اليتامى والمحجور عليهم والغُيّب ، فيعزل الخائن ويسعد الضعيف بمشارك ، أو يستبدل به حسب ما اقتضاه رأيه.

ثم ينظر في الضوالّ واللقيط ، فيبيع ما يخشى تلفه وما يستوعب نفقته ثمنه ، ويعمل فيها على ما ينبغي ، ويقدم من كل نوع من ذلك الأهم فالأهم.

( و ) يستحب له ( تفريق الشهود عند الإقامة ، فإنّه أوثق ، خصوصاً في موضع الريبة ) كما فعله سيّد الأوصياء في جملة من قضاياه المعروفة ( عدا ذوي البصائر ) والشأن من العلماء والصلحاء الأعيان ، فلا يستحب تفريقهم ، بل ويكره وربما حرم ( لما يتضمن ) تفريقهم ( من الغضاضة ) والمهانة بهم ، بل وربما يحصل في ذلك كسر قلوبهم.

( وأن يستحضر من أهل العلم ) والاجتهاد ( من يخاوضه ) ويعاونه ( في المسائل المشتبهة ) ويشهدهم حكمه فإن أخطأ نبّهوه ، وما أتلفه خطأً‌

٢٨

فعلى بيت المال المعدّ للمصالح كما في النص المعمول به (١).

وينبغي أن يجمع قضايا كل أُسبوع ووثائقه وحججه ، ويكتب تاريخها عليها وأنّها لمن هي ، فإن اجتمع كل شهر كتب عليه شهر كذا ، أو سنة فسنة كذا ، أو يوم فيوم كذا ؛ ليكون أسهل عليه وعلى من بعده من الحكّام في استخراج المطلوب منها وقت الحاجة.

وإذا اتخذ كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ؛ ليؤمن انخداعه ، فإن كان مع ذلك فقيهاً جيّد الخط كان حسناً ، وينبغي أن يجلس بين يديه ليملي عليه ويشاهد ما يكتب.

وإذا افتقر إلى مترجم قيل : لم يقبل عندنا إلاّ شاهدان عدلان عملاً بالمتفق عليه الأحوط ، وإذا تعدّى أحد الغريمين أقامه برفق وعمل بمراتب النهي عن المنكر (٢).

( والمكروهات : الاحتجاب ) أي : اتخاذ الحاجب ، وهو الذي لا يدخل عليه أحد إلاّ برضاه ( وقت القضاء ) للنبوي : « من ولّي شيئاً من أُمور الناس ، فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم ، احتجب الله تعالى دون حاجته وفاقته وفقره » (٣).

ونقل قول بتحريمه عن بعض الفقهاء (٤) ؛ لظاهر الخبر. وفيه نظر. وقرّبه فخر الدين مع اتخاذه على الدوام ، بحيث يمنع أرباب الحوائج ويضرّ‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٥ / ١٦ ، التهذيب ٦ : ٣١٥ / ٨٧٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٦ أبواب آداب القاضي ب ١٠ ح ١.

(٢) قاله الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٠.

(٣) عوالي اللئلئ ٢ : ٣٤٣ / ٦ ، سنن أبي داود ٣ : ١٣٥ / ٢٩٤٨. وفيهما بتفاوت يسير.

(٤) حكاه في الإيضاح ٤ : ٣١٠.

٢٩

بهم (١). واستحسنه شيخنا الشهيد الثاني قال : لما فيه من تعطيل الحق الواجب قضاؤه على الفور ، والحديث يصلح شاهداً عليه ، وإلاّ كان مفيداً للكراهة ؛ للتسامح في أدلته (٢). انتهى. ولا بأس به.

( وأن يقضي مع ما يشغل النفس ، كالغضب ) لغير الله تعالى ( والجوع ، والعطش ، والغم ، والفرح ، والمرض ، وغلبة النعاس ) ومدافعة الأخبثين ونحو ذلك من المشغلات ، كما يستفاد من الأخبار ففي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يقضي وهو غضبان » (٣).

وفي آخر : « لا يقضي إلاّ وهو شبعان » (٤).

وفي ثالث : « لا يقضي وهو غضبان مهموم ، ولا مصاب محزون » (٥).

وفي وصية عليّ عليه‌السلام لشريح : « ولا تقعدنّ في مجلس القضاء حتى تطعم » (٦).

وأن يستعمل الانقباض المانع من الإتيان بالحجة ، واللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصم.

( وأن يرتّب ) ويعيّن ( قوماً ) دون غيرهم ( للشهادة ) لما يترتب عليه من التضييق على الناس ، والغضاضة من العدل الغير المرتّب ، ونقل‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٤ : ٣١٠.

(٢) المسالك ٢ : ٣٥٨.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٣ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٦ / ١٩ ، التهذيب ٦ : ٢٢٦ / ٥٤٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٣ أبواب آداب القاضي ب ٢ ح ١.

(٤) سنن الدارقطني ٤ : ٢٠٦ / ١٤.

(٥) المبسوط ٨ : ٨٨ ، مغني المحتاج ٤ : ٣٩١.

(٦) الكافي ٧ : ٤١٢ / ١ ، الفقيه ٣ : ٨ / ٢٨ ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ / ٥٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢١١ أبواب آداب القاضي ب ١ ح ١.

٣٠

قول بتحريمه (١) ، نظراً إلى أنّ ذلك موجب لإبطال شهادة مقبولي الشهادة ؛ فإنّه ربما يتحمل الشهادة غيرهم ، فإذا لم تقبل شهادتهم ضاع الحق عن أهله ، وقد قال سبحانه ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٢) فأطلق ، فتحمل ذلك ضرر على الناس وحرج بالاقتصار ، وهما منفيان ، والأشهر الكراهة.

( وأن يشفع إلى الغريم ) صاحب الحق ( في إسقاط ، أو إبطال ) خوفاً من أن ينسمح الغريم في وجه القاضي فيجيبه لسؤاله مع عدم رضاه في الباطن ، هذا إذا كان بعد ثبوت الحق ، وإلاّ فلا يكره ، بل يستحب الترغيب في الصلح وهنا‌ ( مسائل ) خمس :

( الأُولى : للإمام عليه‌السلام أن يقضي بعلمه في الحقوق مطلقاً ) للناس كانت أم لله تعالى ، إجماعاً في الظاهر المصرح به في كتب جماعة حد الاستفاضة ، كالإنتصار والغنية والإيضاح ونهج الحق للعلاّمة (٣) ، وغيرها من كتب الجماعة (٤) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى فحاوى الأدلّة الآتية ، وعلمه المانع من الخلاف ، وعصمته المانعة من التهمة ، وإمضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم له بالناقة على الأعرابي من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما في الرواية المشهورة (٥).

__________________

(١) قاله الشيخ في المبسوط ٨ : ١١١.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣) الانتصار : ٢٣٦ ٢٣٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٣١٢ ، نهج الحق : ٥٦٣.

(٤) كالتنقيح الرائع ٤ : ٢٤٢ ، والمسالك ٢ : ٣٥٩ ، والكفاية : ٢٦٣ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٢٩.

(٥) الفقيه ٣ : ٦٠ / ٢١٠ ، أمالي الصدوق : ٩٠ / ٢ ، الانتصار : ٢٣٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٨ ح ١.

٣١

( و ) هل ( لغيره ) أي : لغير الإمام عليه‌السلام أيضاً أن يقضي بعلمه ( في حقوق الناس وفي حقوق الله ) تعالى من حدوده؟ فيه ( قولان ) أظهرهما أنّه كسابقه ، وهو أشهرهما ، بل عليه عامّة متأخّري أصحابنا ، وفي صريح الانتصار والخلاف والغنية ونهج الحق وظاهر السرائر أنّ عليه إجماع الإمامية (١) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى أدلة كثيرة ذكرها الجماعة.

منها : استلزام عدم الجواز إمّا إيقاف الأحكام ، أو فسق الحكّام ، واللازم بقسميه باطل ، بيان الملازمة أنّه إذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً بحضرته ثم جحد كان القول قوله مع يمينه ، فإن حكم بغير علمه وهو استحلافه وتسليمها إليه لزم فسقه ، وإلاّ لزم إيقاف الحكم لا لموجب ، وكذا إذا أعتق عبده بحضرته ثم جحد ، ونظائره كثيرة.

ومنها : استلزامه أحد الأمرين ، إمّا عدم وجوب إنكار المنكر وعدم وجوب إظهار الحق مع إمكانه ، أو الحكم بعلمه ، وبطلان الأوّل ظاهر ، فتعيّن الثاني ، بيان اللزوم : أنّه إذا علم بطلان قول أحد الخصمين ، فإن لم يجب عليه منعه عن الباطل لزم الأوّل ، وإلاّ ثبت المطلوب.

ومنها : أنّ العلم أقوى من البيّنة ، وجواز الحكم بها يستلزم جوازه بالعلم بطريق أولى.

ومنها : عموم الأدلّة الدالّة على الحكم مع وجود الوصف المعلّق عليه ، كقوله سبحانه ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (٢) وقوله‌

__________________

(١) الانتصار : ٢٣٦ ٢٣٧ ، الخلاف ٢ : ٦٠٢ ، ٦٠٣ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤ ، نهج الحق : ٥٦٣ ، السرائر ٢ : ١٧٩.

(٢) المائدة : ٣٨.

٣٢

تعالى ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (١) والخطاب للحكّام ، فإذا علموا بالوصف ، عملوا به ، وهو أقوى من الحكم ، وإذا ثبت ذلك في الحدود ففي غيرها أولى.

ومنها : ما ذكره المرتضى رحمه‌الله وهو أقواها ، حيث قال : وكيف يخفى إطباق الإماميّة على وجوب الحكم بالعلم؟ وهم ينكرون توقّف أبي بكر عن الحكم لفاطمة ( سلام الله عليها ) بفدك لمّا ادعت أنّه نحلها أبوها ، ويقولون : إذا كان عالماً بعصمتها وطهارتها ، وأنّها لا تدّعي إلاّ حقاً فلا وجه لمطالبتها بإقامة البيّنة ، لأنّ البيّنة لا وجه لها مع القطع بالصدق (٢).

ومنها : إمضاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم له بالناقة على الأعرابي من خزيمة بن ثابت (٣).

ومنها : قول علي عليه‌السلام لشريح لمّا طالبه بالبيّنة على ما ادّعاه من درع طلحة : « ويحك خالفت السنّة بما طالبت إمام المسلمين بالبيّنة ، وهو مؤتمن على أكثر من هذا » (٤).

والقول الثاني : للإسكافي ، فمنع عنه مطلقاً على ما نقل عنه جمع ، ومنهم المرتضى (٥) رحمه‌الله.

ولابن حمزة والحلّي ـ رحمهما الله ـ فمنعا عنه في الأخير خاصّة (٦) ، ونسب‌

__________________

(١) النور : ٢.

(٢) الانتصار : ٢٣٨.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٠ / ١ ، الفقيه ٣ : ٦٢ / ٢١٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧٦ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٨ ح ٣.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨٥ / ٥ ، الفقيه ٣ : ٦٣ / ٢١٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ / ٧٤٧ ، الإستبصار ٣ : ٣٤ / ١١٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٦.

(٥) الانتصار : ٢٣٧.

(٦) الوسيلة : ٢١٨ ، وانظر السرائر ٢ : ١٧٩.

٣٣

في المسالك عكس هذا إلى الإسكافي في كتابه المختصر الأحمدي (١).

ومستندهم غير واضح ، سوى أنّ في القضاء بالعلم من دون بيّنة تهمة ، وتزكية لنفسه ، وكل منهما للقضاء مانعة.

والنبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضية الملاعنة : « لو كنت راجماً من غير بيّنة ، لرجمتها » (٢).

وأنّ حقوقه سبحانه ، مبنيّة على الرخصة والمسامحة ، فلا يناسبها القضاء بالعلم من دون بيّنة.

والمناقشة في الجميع واضحة ؛ لأنّ التهمة والتزكية آتيتان في القضاء بالشهود والبيّنة ، مع أنّه غير مانع باتفاق الإمامية.

والرواية عامية غير صالحة بذلك للحجية.

والمسامحة في الحدود إنّما هي قبل ثبوتها ، لا بعد الثبوت.

وبالجملة : لا ريب في صحة القول المشهور.

وعلى الأقوال يقضي بعلمه بلا خلاف ظاهر مصرح به في كلام جمع (٣) في تزكية الشهود وجرحهم ، حذراً من لزوم الدور ، أو التسلسل. وفي الإقرار عنده وإن لم يسمعه غيره ، وقيل : يشترط أن يكون في مجلس القضاء (٤). وفي العلم بخطإ الشهود يقيناً أو كذبهم. وفي تعزير من أساء أدبه في مجلسه ، وإن لم يعلمه غيره ؛ لأنّه من ضرورة إقامة أُبّهة القضاء. وفيما إذا شهد معه آخر ؛ فإنّه لا يقصر عن شاهد واحد.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٥٩.

(٢) عوالي اللئلئ ٣ : ٥١٨ / ١٤.

(٣) منهم الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٢٤٣ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦٤ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٦٨.

(٤) انظر الدروس ٢ : ٧٩ ، والمسالك ٢ : ٣٥٩.

٣٤

( الثانية : إن عرف ) الحاكم ( عدالة الشاهدين حكم ، وإن عرف فسقهما أطرح ) شهادتهما.

( وإن جهل الأمرين فالأصح التوقف ) في الحكم بشهادتهما ( حتى يبحث عنهما ) مطلقاً ولو علم بإسلامهما ، أو صرح المشهود عليه بعدالتهما ، على إشكال في هذا ينشأ :

من أنّ البحث والتعديل لحقّ الله تعالى ، ولذا لا يجوز الحكم بشهادة الفساق ، وإن رضي به الخصم ، وأنّ الحكم بشهادة الإنسان حكم بتعديله ، ولا يجوز بخبر الواحد إجماعاً ، كما حكاه في الإيضاح (١).

ومن أنّ البحث لحقّ المشهود عليه ، وقد أقرّ بعدالتهما ، وأنّه أقرّ بوجود شرط الحكم ، وكل من أقرّ بشي‌ء نفذ عليه ؛ لقوله عليه‌السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٢).

وبهذا أفتى الإسكافي والفاضل المقداد في التنقيح والفاضل في التحرير والإرشاد والقواعد ، وولده في شرحه قاطعاً به (٣) كالإسكافي والمقداد ، دون والده في القواعد ، وقوّاه في الدروس أيضاً (٤).

وهو كذلك ؛ لما رواه في الوسائل عن مولانا الحسن بن علي العسكري في تفسيره عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي : ألك حجة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٤ : ٣١٥.

(٢) الوسائل ٢٣ : ١٨٤ أبواب الإقرار ب ٣.

(٣) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٠٥ ، التنقيح ٤ : ٢٤٣ ، التحرير ٢ : ١٨٤ ، الإرشاد ٢ : ١٤٤ ، القواعد ٢ : ٢٠٥ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٣١٥.

(٤) الدروس ٢ : ٧٩.

٣٥

ويعرفها ، أنفذ الحكم على المدّعى عليه » إلى أن قال : « وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ ، بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كلّ منهما من حيث لا يشعر الآخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحلاّتهم ، فإذا أثنوا عليه قضى حينئذ على المدعى عليه ، وإن رجعا بخبر سيّئ وثناء قبيح ، لم يفضحهم ، ولكن يدعو الخصم إلى الصلح ، وإن كان الشهود من أخلاط الناس ، غرباء لا يعرفون ، أقبل على المدّعى عليه فقال : ما تقول فيهما؟ فإن قال : ما عرفنا إلاّ خيراً ، غير أنّهما غلطا فيما شهدا عليّ ، أنفذ شهادتهما ، وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصمين ، أو أحلف المدّعى عليه وقطع الخصومة بينهما » (١).

والرواية طويلة ومحصّلها ما ذكرنا من دون نقيصة ، وهي صريحة في وجوب البحث عن الوصفين لو جهلا ، وإطلاقها يشمل صورة الجهل بإسلامهما وغيرها ، بل لعلّها بحكم التبادر وغلبة الإسلام في المتخاصمين وشهودهم في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهرة في الثانية جدّاً.

ولا خلاف في الحكم في الصورة الأُولى على الظاهر المصرح به في جملة من العبائر (٢).

وأمّا ثبوته في الثانية فهو الأشهر بين الطائفة ، كما صرح به الشهيدان (٣) وغيرهما من الجماعة (٤).

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧٣ / ٣٧٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٦ ح ١.

(٢) انظر المسالك ٢ : ٣٦١ ، والكفاية : ٢٦٤.

(٣) الدروس ٢ : ١١٣ ، المسالك ٢ : ٣٦١.

(٤) انظر الكفاية : ٢٦٤ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٣٠.

٣٦

خلافاً للإسكافي والمفيد في كتاب الإشراف والشيخ في الخلاف ، فلم يوجبوا البحث ، بل اكتفوا بظاهر الإسلام (١) ، بناءً منهم على أنّ الأصل فيه العدالة ، وادعى الأخير عليه إجماع الطائفة (٢) ، ومبنى الخلاف هنا على الاختلاف في تفسير العدالة ، هل هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور فسق ، أو حسن الظاهر ، أو الملكة ، أي : الهيئة الراسخة في النفس الباعثة لها على ملازمة التقوى والمروءة؟.

وينبغي القطع بضعف القول الأوّل منها ؛ لمخالفته الرواية المتقدّمة الدالّة على لزوم البحث مع المعرفة بالإسلام أيضاً ، بناءً على الظهور الذي قدّمنا.

واستصحاب عدم ثبوت المشروط بالعدالة إلاّ بعد تيقّنها ، ولا يقين هنا ؛ لعدم دليل على كونها مجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق أصلاً ، عدا الإجماع المتقدم ، والنصوص المدعى عليه دلالتها.

منها الصحيح : في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ، فعدّل منهم اثنان ولم يعدّل الآخران ، قال : فقال : « إذا كانوا أربعة من المسلمين لا يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً ، وأُقيم الحد على الذي شهدوا عليه ، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا به وعلموا ، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم ، إلاّ أن يكونوا معروفين بالفسق » (٣).

والمرسل : عن البيّنة إذا أُقيمت على الحق ، أيحلّ للقاضي أن يقضي‌

__________________

(١) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧١٧ ، الاشراف ( مصنفات المفيد ٩ ) : ٢٥ ، الخلاف ٦ : ٢١٧.

(٢) الخلاف ٦ : ٢١٨.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٣ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٧٧ / ٧٥٩ ، الإستبصار ٣ : ١٤ / ٣٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٧ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١٨.

٣٧

بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : « خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ بها بظاهر الحكم : الولايات ، والتناكح ، والمواريث ، والذبائح ، والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً ، جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه » (١).

والخبر : عن شهادة من يلعب بالحمام؟ فقال : « لا بأس به إذا لا يعرف بفسق » (٢).

وفي آخر : « كلّ من ولد على الفطرة وعرف بصلاح في نفسه جازت شهادته » (٣).

وفي ثالث : « المسلمون عدول بعضهم على بعض إلاّ مجلود في حدّ لم يتب منه ، أو معروف بشهادة زور ، أو ظنين » (٤).

وفي الجميع نظر : فالإجماع بوهنه بمصير الأكثر على خلافه ، مع عدم قائل بما ادّعى عليه عدا الناقل له وبعض من سَبَقَه ، ومع ذلك فالمحكي عنه وعن الموافق له ما يوافق القوم ، فعن الإسكافي : إذا كان الشاهد حراً ، بالغاً ، مؤمناً بصيراً ، معروف النسب ، مرضيّاً ، غير مشهور بكذب في شهادة ، ولا بارتكاب كبيرة ، ولا مقام على صغيرة ، حسن التيقّظ ، عالماً بمعاني الأقوال ، عارفاً بأحكام الشهادة ، غير معروف بحيف‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٩ / ٢٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٢ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٠ / ٨٨ ، التهذيب ٦ : ٢٨٤ / ٧٨٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٤ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ٦.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٨ / ٨٣ ، التهذيب ٦ : ٢٨٣ / ٧٧٨ ، الإستبصار ٣ : ١٤ / ٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٣ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ٥.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٢ / ١ ، الفقيه ٣ : ٨ / ٢٨ ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ / ٥٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢١١ أبواب آداب القاضي ب ١ ح ١.

٣٨

على معامل ، ولا تهاون بواجب من علم أو عمل ، ولا معروف بمباشرة أهل الباطل والدخول في جملتهم ، ولا بالحرص على (١) الدنيا ، ولا بساقط المروءة ، بريئاً من أهواء أهل البدع التي توجب على المؤمنين البراءة من أهلها ، فهو من أهل العدالة المقبول شهادتهم (٢).

وعن المفيد : العدل من كان معروفاً بالدين والورع عن محارم الله (٣).

وعن النهاية : العدل الذي تجوز شهادته للمسلمين وعليهم ، هو أن يكون ظاهره ظاهر الإيمان ، ثمّ يعرف بالستر والصلاح والعفاف (٤) ، إلى آخر ما سيأتي في بعض الصحاح ، وقريب منه عن المبسوط (٥) ، هذا.

مع أنّه معارض بما يظهر من الفاضل المقداد في كنز العرفان من كون تفسير العدالة بالملكة مجمعاً عليه ، حيث نسبه إلى الفقهاء بصيغة الجمع المحلّى باللام المفيد للعموم لغة (٦). وإليه يشير كلام المقدس الأردبيلي رحمه‌الله في شرح الإرشاد أيضاً ، حيث قال : وقد عُرّفَتْ في الأُصول والفروع من الموافق والمخالف بالملكة التي يقتدر بها على ترك الكبائر ، و [ عدم ] الإصرار على الصغائر ، و [ ملازمة ] المروءات (٧).

وأظهر منهما في الدلالة على انعقاد الإجماع على خلاف الإجماع‌

__________________

(١) في النسخ زيادة : أهل ، حذفناها وفقاً للمصدر لاستقامة المعنى.

(٢) حكاه عنه في المختلف : ٧١٧.

(٣) المقنعة : ٧٢٥.

(٤) النهاية : ٣٢٥.

(٥) المبسوط ٨ : ٢١٧.

(٦) كنز العرفان ٢ : ٣٨٤.

(٧) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٣٥١ ، و ١٢ : ٣١١ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

٣٩

المتقدم كلام الماتن في الشرائع ، حيث نسب الرواية الدالة على الاكتفاء في العدالة بظاهر الإسلام إلى الشذوذ والندرة (١).

وأمّا النصوص ، فبضعف سند أكثرها ، وعدم جابر لها ، مع عدم وضوح دلالة جملة منها ، كالمرسل المشترط كون ظاهره ظاهراً مأموناً (٢).

والخبر المشترط زيادةً على الولادة على الفطرة كونه معروف الصلاح في نفسه (٣) ، والشرطان كما يحتمل أن يكون المراد بهما عدم ظهور الفسق ، كذا يحتمل أن يراد بهما ما يزيد عليه من الملكة ، أو حسن الظاهر ، ومعه لا يمكن الاستدلال ، سيّما مع ظهوره منهما بحكم التبادر ، وما سيأتي من الأخبار.

ومع ذلك فهي معارضة بظواهر الكتاب ، والسنّة المستفيضة ، بل المتواترة المانعة عن قبول شهادة الفاسق بالمرّة ، بناءً على أنّ الفاسق اسم لمن ثبت له وصف الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة في نفس الأمر ، ولا مدخليّة لسبق المعرفة به في حقيقته ومفهومه لغة ، بل ولا عرفاً.

مع أنّ المنع عن قبول شهادته في الآية (٤) معلّل بكراهة الوقوع في الندم ، وهي كالصريحة بل صريحة في اعتبار الوصف الواقعي ، ومقتضى تعليق الحكم عليه لزوم مراعاته والبحث عن ثبوته وعدمه في نفس الأمر ، والإسلام كما يجامع هذا الوصف ظاهراً ، كذا يجامعه واقعاً ، وبسببه يحتمل الوقوع في الندم ، فيجب الفحص عنه.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٧٦.

(٢) المتقدم في ص : ٣٧.

(٣) المتقدم في ص : ٣٧.

(٤) الحجرات : ٦.

٤٠