رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

في دينه ( في الوصية ) بالمال ( خاصّة مع عدم المسلم ) بإجماعنا الظاهر ، المستفيض النقل في كثير من العبائر (١).

( و ) لكن ( في اعتبار الغربة ) حينئذ ( تردّد ) واختلاف بين الأصحاب ، فبين : معتبر لها ، كالإسكافي والحلبي (٢) صريحاً ، والشيخ في المبسوط وابن زهرة في الغنية (٣) ظاهراً ، وربما يفهم منهما كونه إجماعيا بيننا.

ونافٍ لاعتبارها ، كعامّة متأخّري أصحابنا ، وفاقاً منهم لظواهر أكثر القدماء ، كالشيخين في المقنعة والنهاية ، والعماني ، والديلمي ، والقاضي ، والحلّي (٤). وربما ظهر من الفاضلين في الشرائع والتحرير انعقاد الإجماع عليه ، حيث قالا : وباشتراط الغربة رواية مطرحة (٥).

وأشارا بالرواية إلى الخبر القاصر السند بالجهالة ، وفيها : « وإنّما ذلك إذا مات الرجل المسلم في أرض غربة وطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين أشهد على وصيته رجلين ذمّيين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهم » (٦).

__________________

(١) منهم ابن فهد في المهذّب البارع ٤ : ٥١٠ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٢٧ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٦٩.

(٢) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٢ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٦.

(٣) المبسوط ٨ : ١٨٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٤) المقنعة : ١١٢ ، النهاية : ٣٣٤ ، حكاه عن العماني في المختلف : ٧٢٢ ، المراسم : ٢٣٣ ، المهذّب ٢ : ٥٥٧ ، السرائر ٢ : ١٣٩.

(٥) الشرائع ٤ : ١٢٦ ، التحرير ٢ : ٢٠٨.

(٦) الكافي ٧ : ٣٩٩ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٢٥٣ / ٦٥٥ ، الوسائل ١٩ : ٣١٢ كتاب أحكام الوصايا ب ٢٠ ح ٧.

٢٤١

وقريب منها الآية (١) وأكثر النصوص (٢) الواردة في المسألة ؛ لتضمّنها اشتراط الغربة ، ومنها يظهر أحد وجهي التردّد.

والوجه الآخر قوة احتمال ورود الحصر والشرط مورد الغالب ، فلا عبرة بمفهومهما ، مع إطلاق كثير من النصوص ، بل وعموم جملة معتبرة منها ؛ لتضمّنها التعليل بأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد (٣). ومفهوم التعليل يتعدى به الحكم إلى غير مورده ويعارض به مفهوم الحصر والشرط ولو سلّم عدم ورودهما مورد الغالب.

وحيث إنّ التعارض بينهما من باب التعارض الذي يمكن معه رفع اليد عن ظاهر أحدهما بالآخر وجب المصير إلى الترجيح ، وهو من جهة الشهرة العظيمة مع عموم مفهوم التعليل.

والإجماع المستشعر من عبارتي المبسوط والغنية مع وهنه بكون ظاهر أكثر الأصحاب على خلافه معارض بمثله المستشعر من عبارتي الفاضلين ، مع عدم وهنه بمصير الأكثر إلى مضمونه.

وقد تقدم الكلام في المسألة مع بعض ما يتعلق بها في أواخر كتاب الوصية.

( وتقبل شهادة المؤمن على ) جميع ( أهل الملل ) اتّفاقاً على الظاهر المصرّح به في المسالك (٤) ؛ للنبوي المروي فيه وفي الخلاف (٥)

__________________

(١) المائدة : ١٠٦.

(٢) الوسائل ١٩ : ٣٠٩ أبواب أحكام الوصايا ب ٢٠.

(٣) الكافي ٧ : ٣٩٨ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥٢ / ٦٥٢ ، الوسائل ١٩ : ٣١١ كتاب أحكام الوصايا ب ٢ ح ٥.

(٤) المسالك ٢ : ٤٠١.

(٥) الخلاف ٦ : ٢٧٤.

٢٤٢

« لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دين إلاّ المسلمون ، فإنّهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم ».

وفي الصحيح : « تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل ، ولا تجوز شهادة أهل الذمّة على المسلمين » (١).

وفي آخر : « تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب » (٢).

( و ) يستفاد من الأولين مضافاً إلى ما تقدم من الأدلة على اشتراط الإيمان أنّه ( لا تقبل شهادة أحدهم ) أي أحد أهل الملل ( على مسلم ولا ) على ( غيره ) مع أنّه إجماعي في الحربي مطلقاً كما في الإيضاح (٣) ، وفي الذمّي أيضاً إذا كان على مسلم في غير الوصية كما فيه وفي التحرير والمهذب والمسالك (٤).

وأما إذا كان على غيره فإن كان من أهل ملّته فسيأتي الكلام فيه. وإن كان من غير ملّته فمشهور بين الأصحاب ، بل لا يكاد يتحقق فيه خلاف ، ولا ينقل إلاّ عن الإسكافي (٥) ؛ حيث ذهب إلى قبول شهادة أهل العدالة منهم في دينه على ملّته وعلى غير ملّته.

وهو مع شذوذه محجوج هو كمستنده الآتي بما مرّ من الأدلة على اشتراط الإيمان ، وخصوص النبوية المتقدمة ، والموثقة الآتية ، ورواية‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٩٨ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٥٢ / ٦٥١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٦ كتاب الشهادات ب ٣٨ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٨ / ٨١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٧ كتاب الشهادات ب ٣٨ ح ٣.

(٣) الإيضاح ٤ : ٤١٨.

(٤) التحرير ٢ : ٢٠٧ ، المهذّب البارع ٤ : ٥١٠ ، المسالك ٢ : ٤٠١.

(٥) حكاه عنه في المختلف : ٧٢٢.

٢٤٣

اخرى معتبرة بل محتملة للصحة : عن شهادة أهل الملل هل تجوز على رجل من غير أهل ملّتهم؟ فقال : « لا ، إلاّ أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم ، وإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية لأنّه لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم ولا تبطل وصيته » (١).

( وهل تقبل ) شهادته ( على أهل ملّته؟ فيه رواية بالجواز ) وفيها : عن شهادة أهل الملّة ، قال : فقال : « لا تجوز إلاّ على أهل ملّتهم ، فإن لم تجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية ، لأنّه لا يصلح ذهاب حق أحد » (٢) وأفتى بها الشيخ في النهاية (٣). واعترضها الماتن وغيره (٤) بأنّها ( ضعيفة ) وليس كذلك ، بل هي على الأظهر الأشهر موثقة ، لكنها غير مكافئة لعمومات الأدلّة على اعتبار الإسلام من الكتاب والسنّة. ومع ذلك فهي عند الشيخ القائل بها ضعيفة ؛ لأنّ في سندها العبيدي ، وهو ممن اختص بتضعيفه ، فقال : إنّه ضعيف استثناه أبو جعفر محمّد بن بابويه من رجال نوادر الحكمة وقال : لا أروي ما يختص بروايته (٥). ومع ذلك فقد رجع عنها في المبسوط والخلاف (٦) وإن اختلف مقالته فيهما ، ففي الأوّل اختار المنع مطلقاً ، وفي الثاني الجواز إذا اختاروا الترافع إلينا ، قال : فأمّا إذا‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٩٩ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٢٥٣ / ٦٥٤ ، الوسائل ١٩ : ٣٠٩ كتاب الوصايا ب ٢٠ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٩٨ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥٢ / ٦٥٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٠ كتاب الشهادات ب ٤٠ ح ٤.

(٣) النهاية : ٣٤٤.

(٤) الشرائع ٤ : ١٢٦ ؛ وانظر التحرير ٢ : ٢٠٧.

(٥) انظر الفهرست : ١٤٠.

(٦) المبسوط ٨ : ١٨٧ ، الخلاف ٦ : ٢٧٢ ٢٧٤.

٢٤٤

لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك.

واختار هذا الفاضل في المختلف ، ونزّل الرواية عليه ، فقال معترضاً عليها : والجواب : المنع عن صحة السند ، والقول بالموجب كما اختاره الشيخ في الخلاف ، وهو أنّه إذا ترافعوا إلينا وعدلوا الشهود عندهم فإنّ الأولى هنا القبول (١).

ومال إليه الفاضل المقداد في التنقيح ، فقال بعد نقله عن الخلاف : وهذا في الحقيقة قضاءً بالإقرار ؛ لما تقدم أنّه إذا أقرّ الخصم بعدالة الشاهدين حكم عليه (٢).

أقول : وفيه نظر ؛ إذ حكم الحاكم بشاهدين اعترف الخصم بعدالتهما إنّما هو حيث جهلها ولم يعلم بفسقهما ، وإلاّ فلو علم به لم يجز له الحكم وإن اعترف الخصم بعدالتهما. وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ الفرض علمه بفساد مذهبهما وإيجابه فسقهما ، فيكون من قبيل ما إذا رضي الخصم من الحاكم الحكم بشهادة الفاسقين مع علمه بفسقهما ، وهو غير جائز قطعاً.

( و ) مما ذكرنا ظهر أنّ ( الأشبه المنع ) عن القبول مطلقاً ، وفاقاً للعماني ، والمفيد في المقنعة ، والشيخ في المبسوط ، والحلّي ، والقاضي (٣) ، وبالجملة الأكثر كما في الدروس (٤) ، بل المشهور كما في‌

__________________

(١) المختلف : ٧٢٢.

(٢) التنقيح ٤ : ٢٨٨.

(٣) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٢١ ، المقنعة : ٧٢٦ ، المبسوط ٨ : ١٨٧ ، السرائر ٢ : ١٣٩ ، المهذّب ٢ : ٥٥٧.

(٤) الدروس ٢ : ١٢٤.

٢٤٥

المسالك وغيره (١) ، واختاره الفاضلان والشهيدان وعامّة المتأخّرين (٢) ، ونقله في الخلاف (٣) عن مالك والشافعي وأحمد ، وعزا فيه مختار الإسكافي إلى أبي حنيفة والثوري.

وبه تشعر الصحيحة المتقدمة (٤) من حيث تخصيصها المنع عن قبول شهادته ب : على المسلمين خاصّة.

وأظهر منها الصحيح المروي في الفقيه ، وفيه : هل تجوز شهادة أهل الذمّة على غير أهل ملّتهم؟ قال : « نعم إنّ لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم ؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حق أحد » (٥).

ولكنهما مع ضعف دلالة الأُولى غير مكافئتين لما مضى من وجوه شتى ، مع احتمالهما الحمل على التقية عن رأي أبي حنيفة (٦) المشتهر رأيه بين العامّة في الأزمنة السابقة واللاحقة كما عرفته ، ويؤيّده مصير الإسكافي (٧) إليه كما مرّ غير مرّة.

ومع ذلك تحتمل الثانية الاختصاص بالوصية بقرينة ما فيها من العلّة الموجودة في كثير من روايات تلك المسألة ، ومنها الرواية المتقدمة (٨)

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٠١ ، مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣٠٣.

(٢) الشرائع ٤ : ١٢٦ ، التحرير ٢ : ٢٠٧ ، إرشاد الأذهان ٢ : ١٥٦ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٢٧ ؛ إيضاح الفوائد ٤ : ٤١٨ ٤١٩ ، التنقيح الرائع ٤ : ٢٨٨ ، المقتصر : ٣٨٨.

(٣) الخلاف ٦ : ٢٧٢.

(٤) في ص ٢٤٣.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٩ / ٨٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨٩ كتاب الشهادات ب ٤٠ ح ١.

(٦) نقله عنه ابن قدامة في المغني ١٢ : ٥٢.

(٧) راجع ص ٢٤٣.

(٨) راجع ص ٢٤٤.

٢٤٦

المانعة عن قبول شهادته على غير أهل ملّته المستثنية من المنع صورة الوصية خاصّة ، معلّلةً بما علّل به الجواز المطلق في هذه الرواية.

ومع ذلك فظاهر قوله عليه‌السلام : « إن لم يوجد » إلى آخره ، مخالف للإجماع إن جعل مرجع الضمير في « ملّتهم » و « غيرهم » المذكورين فيه أهل الذمّة ، كما هو ظاهر السياق من وجه ، وإن خالفه من وجه آخر كما سيظهر ؛ لدلالته على قبول شهادة الحربي مع فقد الذمّي ، وقد مرّ أنّه خلاف الإجماع من الكل حتى الإسكافي (١).

وكذا إن جعل مرجع الضميرين غير أهل ملّتهم المتقدم في السؤال ؛ لتضمنه معنى الجمعية كما هو ظاهر سوق عبارة : « إن لم يوجد » إلى آخره ؛ حيث لم يذكر فيها الواو ؛ وذلك لأنّ مفادها حينئذ أنّه إن لم يوجد من أهل ملّة غير أهل الذّمة جازت شهادة غيرهم أي أهل الذمّة عليهم ، ومقتضاه اشتراط قبول شهادة كل ملّة على غير أهلها فَقْد شاهد عليه من أهل ملّته ، ولم يقل به أحد من أصحابنا حتى الإسكافي ؛ لحكمه بالقبول مطلقاً من غير تقييد بما ذكر من الشرط أصلاً.

وبالجملة الظاهر ضعف هذا القول ، سيّما مع ظهور عبارة الخلاف (٢) بكونه مخالفاً لما اختاره أصحابنا ، حيث نسب مضمون الموثقة إلى جماعة من العامّة وقال : إنّه الذي اختاره أصحابنا ، فتأمّل.

ثم إنّه عندنا كما لا تقبل شهاداتهم على أمثالهم كذا لا تقبل لأمثالهم ؛ لعموم الدليل ، وبه صرّح الفاضل في التحرير (٣) ، والشيخ أفتى بقبول‌

__________________

(١) راجع ص ٢٤٣.

(٢) الخلاف ٦ : ٢٧٣.

(٣) التحرير ٢ : ٢٠٧.

٢٤٧

شهاداتهم لأمثالهم كما أفتى بقبول شهادتهم عليهم (١)

( الرابعة : العدالة ) فلا تقبل شهادة الفاسق اتفاقاً ، بل ضرورةً بالكتاب والسنّة والإجماع ، والنصوص به مستفيضة بل متواترة ، وقد مضى بيان ما يتحقق به العدالة في كتاب القضاء ، وبقي الكلام في بيان ما تزول به.

( ولا ريب ) ولا خلاف ( في زوالها بالكبائر ) وقد مرّ من النصوص ثمة ما يدل علية.

ومنها الصحيح : بم تعرف عدالة الرجل من المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ، فقال : « أن تعرفوه بالستر ، والعفاف ، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، وباجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر ، والزناء ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك » (٢) الخبر.

وقد اختلف الفقهاء في تفسيرها اختلافاً شديداً ، إلاّ أنّ الذي عليه أكثرهم كما في التنقيح (٣) هو أنّها كل ذنب توعّد الله تعالى بالعقاب في الكتاب العزيز. وهو الذي عليه المشهور من أصحابنا كما صرّح به جمع منهم ، ومنهم صاحب الذخيرة (٤) وبعض المتأخرين عنه (٥) ، وزاد الأوّل فقال : ولم أجد في كلامهم اختيار قول آخر.

__________________

(١) النهاية : ٣٣٤.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٤ / ٦٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩١ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١.

(٣) التنقيح ٤ : ٢٩١.

(٤) الذخيرة : ٣٠٤.

(٥) كصاحب الحدائق ١٠ : ٤٦.

٢٤٨

أقول : وهو كذلك ، ولذا نسبه الصيمري (١) إلى أصحابنا بصيغة الجمع المضاف المفيد للعموم ، مشعراً بدعوى الإجماع عليه ، وبه تشعر الصحيحة السابقة ، ونحوها صحيحة أُخرى في تفسير ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (٢) قال : « معرفة الإمام ، واجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار » (٣).

وهو مع ذلك ظاهر كثير من المعتبرة المستفيضة ، بل صريحها.

ففي الصحيح : عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب : « الكبائر من اجتنب ما أوعد الله تعالى عليه النار كفّر عنه سيئاته إذا كان مؤمناً ، والسبع الموجبات : قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والتعرب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف » (٤).

وفيه : « الكبائر سبع : قتل المؤمن متعمداً ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وكلّ ما أوجب الله عليه النار » (٥).

وفي الخبر : عن الكبائر ، فقال : « ما أوعد الله تعالى عليه النار » (٦).

__________________

(١) غاية المرام ٤ : ٢٧٧.

(٢) البقرة : ٢٦٩.

(٣) الكافي ٢ : ٢٨٤ / ٢٠ ، الوسائل ١٥ : ٣١٥ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٥ ح ١.

(٤) الكافي ٢ : ٢٧٦ / ٢ ، الوسائل ١٥ : ٣١٨ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ١.

(٥) الكافي ٢ : ٢٧٧ / ٣ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٢ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٦.

(٦) الفقيه ٣ : ٣٧٣ / ١٧٥٨ ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٣٣ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٧ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٢٤.

٢٤٩

وفي آخر : في قول الله تعالى ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية (١) « الكبائر التي أوجب الله تعالى عليها النار » (٢).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

وفي الصحيح : « هي في كتاب علي عليه‌السلام سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة » (٣).

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام في رسالته إلى المأمون : « هي قتل النفس التي حرم الله ، والزناء ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ به لغير الله من غير ضرورة ، وأكل الربا بعد البيّنة ، والسحت ، والميسر وهو القمار ، والبخس في المكيال والميزان ، وقذف المحصنات ، واللواط ، وشهادة الزور ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، ومعونة الظالمين والركون إليهم ، واليمين الغموس ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب ، والكبر ، والإسراف ، والتبذير ، والخيانة ، وكتمان الشهادة ، والاستخفاف بأولياء الله تعالى ، والاستخفاف بالحجج ، والاشتغال بالملاهي ، والإصرار على الصغائر من الذنوب » (٤).

__________________

(١) النساء : ٣١.

(٢) مسائل علي بن جعفر : ١٤٩ / ١٩١ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٦ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٢١.

(٣) الكافي ٢ : ٢٧٨ / ٨ ، الوسائل ١٥ : ٣٢١ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٤.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٠ / ١ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٩ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٣٣.

٢٥٠

ووجه الجمع بين الأخبار السابقة وهذه الأخبار ونحوها المتوهم تعارضها لها من حيث تضمن هذه تعداد الكبائر ، وحصرها في عدد مخصوص من سبع كما في الأوّل ونحوه ، أو ما زاد كما في الباقي ، وهو مناف لما تضمنته تلك من أنّها ما أوجب الله تعالى عليه النار ، وهو يزيد عن الأفراد المعدودة في هذه النصوص وترتقي إلى سبعمائة كما عن ابن عباس (١) وتبعه من الأصحاب جماعة (٢) ما ذكره بعض الأصحاب من أنّه يجوز أن يكون مراتب الكبائر مختلفة بأن يكون السبع أكبر من الباقي (٣).

أقول : ويعضده بعض الصحاح المتقدمة المتضمنة لأنّها سبع بعد الحكم فيه بأنّها ما أوجب عليه النار.

وأظهر منه الخبران (٤) : « أكبر الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس التي حرّم الله تعالى إلاّ بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، وإنكار ما أنزل الله تعالى عزّ وجلّ ».

هذا ، ويحتمل حمل الأخبار الأخيرة المتضمنة للتعداد على التمثيل ،

__________________

(١) حكاه عنه الطبري في جامع البيان ٤ : ٢٧.

(٢) منهم الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٢٩١ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٢٩ ، وصاحب الحدائق ١٠ : ٥١.

(٣) الحدائق ١٠ : ٤٩.

(٤) الأول في : التهذيب ٤ : ١٤٩ / ٤١٧ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٥ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٢٠.

والثاني في : الفقيه ٣ : ٣٦٦ / ١٧٤٥ ، الخصال : ٣٦٣ / ٥٦ ، علل الشرائع : ٤٧٤ / ١ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٦ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٢٢.

٢٥١

لا الحصر. ويؤيّده اختلافها في بعض الأفراد المعدودة فيها.

( وكذا ) لا ريب ( في ) زوالها بـ ( الصغائر ) وهي ما عدا الكبائر إذا كان ( مصرّاً ) عليها ، ولا خلاف فيه أيضاً ؛ فإنّ الإصرار عليها يلحقها بالكبائر ، ولذا ورد : « لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار » (١).

واختلفوا في المراد من الإصرار على أقوال ، فقيل : هو الإكثار منها ، سواء كان من نوع واحد أو من أنواع مختلفة (٢).

وقيل : المداومة على نوع واحد منها (٣) :

وقيل : يحصل بكلٍّ منهما (٤). ونقل بعضهم قولاً بأنّ المراد به عدم التوبة (٥). وضعّفه جماعة من المحققين (٦) ، مع أنّه ورد في النصوص ما يدل عليه ، كالخبر : في قول الله عزّ وجلّ ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) قال : « الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر ، ولا يحدّث نفسه بتوبة » (٧).

ولعلّه لضعف السند ، مع مخالفته لما يستفاد من كلام جماعة من أهل اللغة من كون المراد بالإصرار المداومة عليه أو العزم على المعاودة ، قال‌

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٨٨ / ١ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٧ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٨ ح ٣.

(٢) قاله الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٢ ، والسبزواري في الذخيرة : ٣٠٥.

(٣) انظر المدارك ٤ : ٦٧.

(٤) المسالك ٢ : ٤٠٢ ، وفيه : ولعل الإصرار يتحقق بكل منهما.

(٥) حكاه الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٥٠٦ عن الحسن.

(٦) الذخيرة : ٣٠٥ ، البحار ٨٥ : ٢٩ ، وانظر الحدائق ١٠ : ٥٤.

(٧) الكافي ٢ : ٢٨٨ / ٢ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٨ أبواب جهاد النفس ب ٤٨ ح ٤ ، والآية في سورة آل عمران : ١٣٥.

٢٥٢

الجوهري : أصررت على الشي‌ء ، إذا أقمت ودمت عليه (١).

وقال ابن الأثير : أصرّ على الشي‌ء يصرّ إصراراً إذا لزمه وداومه وثبت عليه (٢).

وقال في القاموس : أصرّ على الأمر لزم (٣). وقريب منه كلام ابن فارس في المجمل (٤).

وقسّم الشهيد الإصرار إلى فعلي وحكمي ، فالفعلي : هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة ، والحكمي : هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها (٥). وقد ارتضاه جماعة من المتأخّرين ، كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، والفاضل المقداد في كنز العرفان (٦).

والنص خال عن بيان ذلك ، لكن المداومة على نوع واحد من الصغائر ، والعزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها يناسب المعنى اللغوي ، بل العرفي المفهوم من الإصرار ، على تأمّلٍ في الأخير.

وأمّا الإكثار من الذنوب وإن لم يكن من نوع واحد بحيث يكون ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه إذا عنّ له من غير توبة فالظاهر أنّه قادح في العدالة ، بلا خلاف بينهم في ذلك أجده ، وبه صرّح بعض‌

__________________

(١) الصحاح ٢ : ٧١١.

(٢) النهاية ٣ : ٢٢.

(٣) القاموس : ٢ : ٧١.

(٤) مجمل اللغة ٣ : ٢٢٣.

(٥) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٧.

(٦) المسالك ٢ : ٤٠٢ ، الروضة ٣ : ١٣٠ ، كنز العرفان ٢ : ٣٨٥.

٢٥٣

الأجلّة (١) ، وفي التحرير الإجماع عليه (٢). فلا فائدة في تحقيق كونه داخلاً في مفهوم الإصرار أم لا.

ويفهم من عبارة جماعة كالفاضل في الإرشاد والقواعد والتحرير (٣) أنّه غير داخل في معنى الإصرار. وعلى كل تقدير فالمداومة على الذنب أو الإكثار منه قادح في العدالة قطعاً.

وأمّا العزم عليه بعد الفراغ ففي كونه قادحاً تأمّل إن لم يكن ذلك اتفاقياً.

( أمّا الندرة من اللمم ) وصغائر الذنوب مع عدم العزم عليها ثانياً ( فلا ) تزول بها العدالة على الأقوى ، وفاقاً للإسكافي والمبسوط وابن حمزة والفاضلين والشهيدين (٤) ، وغيرهم من سائر المتأخّرين (٥) ، بل عليه عامّتهم ؛ لظاهر بعض الصحاح المتقدمة (٦) المعرِّف للعادل بمجتنب الكبائر خاصّةً من دون تعرض فيه للصغائر بالمرّة. وذلك بناءً على الفرق بينهما كما سيأتي إليه الإشارة.

هذا مضافاً إلى ما ذكروه من أنّ زوال العدالة بمثل ذلك يوجب عدم وجود عادل أصلاً ؛ إذ الإنسان لا ينفك عن الصغائر إلاّ المعصوم عليه‌

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ٣٧١.

(٢) التحرير ٢ : ٢٠٨.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٥٦ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، التحرير ٢ : ٢٠٨.

(٤) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧١٧ ، المبسوط ٨ : ٢١٧ ، الوسيلة : ٢٣٠ ، المحقق في الشرائع ٤ : ١٢٧ ، العلاّمة في التحرير ٢ : ٢٠٨ ، الشهيد الأول في الدروس ٢ : ١٢٥ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٣٠.

(٥) إيضاح الفوائد ٤ : ٤٢١.

(٦) في ص ٢٤٨.

٢٥٤

السلام ، وفي ذلك تعطيل للأحكام الكثيرة المبتنية على وجود العدل ، وتفويت للمنافع العظيمة الدينية والدنيوية ، وتضييع للحقوق بالكلية ، وفيه من الحرج والضيق ما لا يخفى على ذي دُرْبَة ، وقد قال سبحانه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) وقال عزّ شأنه ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) الآية (٢).

خلافاً للمفيد ، والقاضي ، والحلبي ، والشيخ في العدة ، وأبي علي الطبرسي ، والحلّي (٣) ، فقالوا بقدح ذلك في العدالة ، بناءً منهم على أنّ كل ذنب كبيرة ، ولا صغيرة إلاّ بالإضافة ، وظاهر الشيخ ومن ذكر بعده كونه مجمعاً عليه بين الطائفة. وعلى هذا فلا تنافي مذهبهم الصحيحة المتقدمة.

والوجه الاعتباري المذكور بعدها قد اعترضه الحلّي بأنّه متّجه إن لم يمكن تدارك الذنب بالاستغفار ، والحال أنّه ممكن به وبالتوبة.

وفي كلّ من البناء والاعتراض نظر ، أمّا الأوّل : فلأنّ الأظهر الأشهر الذي عليه عامّة من تأخّر انقسام الذنب إلى كبيرة وصغيرة حقيقةً ؛ لما يظهر من الآية الكريمة ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٤) الآية. والنصوص المستفيضة بل المتواترة.

منها ـ زيادةً على المستفيضة المتقدمة (٥) الدالّة على تفصيل الكبائر ـ

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) أوائل المقالات ( مصنفات الشيخ المفيد ٤ ) : ٨٣ ، المهذب ٢ : ٥٥٦ ، الكافي في الفقه : ٤٣٥ ، عدّة الأصول ١ : ٣٥٩ ، مجمع البيان ٢ : ٣٨ ، السرائر ٢ : ١١٨.

(٤) النساء : ٣١.

(٥) راجع ص ٢٥١.

٢٥٥

الخبر : « إنّ الأعمال الصالحة تكفّر الصغائر » (١).

وفي آخر : « من اجتنب الكبائر كفّر الله تعالى عنه جميع ذنوبه ، وذلك قول الله تعالى ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) (٢).

وفي ثالث : عن قول الله عزّ وجلّ ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) هل تدخل الكبائر في مشيئة الله تعالى؟ قال : « نعم ذاك إليه عزّ وجلّ إن شاء عذّب عليها وإن شاء عفا » (٣).

وقريب منه خبران آخران (٤). ويشهد له الأخبار الواردة في ثواب بعض الأعمال أنّه يكفّر الذنوب إلاّ الكبائر (٥) ، وأمثال ذلك.

وبالجملة : تخصيص الكبيرة ببعض أنواع الذنوب في الأخبار أكثر من أن تحصى. ولا معارض لها صريحاً بل ولا ظاهراً عدا الإجماع المستفاد من كلمات من تقدم ، وما دلّ من الأخبار على أنّ كل معصية شديدة وأنّها قد‌

__________________

(١) لم نعثر عليه بهذا النص ، ولكن المضمون موجود في أخبار كثيرة ، انظر ثواب الأعمال : ١٥ ، ١٧ ، ٤٣ ، ٧٥ ، ١٩٥ ، ١٩٧ ، وإرشاد القلوب للديلمي : ٤١٢ ، ودعائم الإسلام ١ : ١٣٥ ، مستدرك الوسائل ٣ : ١٣ أبواب أعداد الفرائض ب ٢ ح ٤ ، ٦ ، ٧.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٧٦ / ١٧٨١ ، الوسائل ١٥ : ٣١٦ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٥ ح ٤.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٧٦ / ١٧٨٠ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٤ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٧ ح ٧. والآية في سورة النساء : ٤٨.

(٤) أحدهما في الكافي ٢ : ٢٨٤ / ١٨ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٣ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٧ ح ١.

والآخر في : تفسير القمي ١ : ١٤٠ ، الوسائل ١٥ : ٣٣٦ أبواب جهاد النفس ب ٤٧ ح ١٤.

(٥) ثواب الأعمال : ١٩٣ ، ١٩٥ ، ١٩٧.

٢٥٦

توجب لصاحبها النار (١) ، وما دل منها على التحذير من استحقار الذنب واستصغاره (٢).

ولا شي‌ء منهما يصلح للمعارضة ، أمّا الإجماع : فـ بعد الإغماض عن وهنه في أمثال ما نحن فيه إنّه معارض بما مرّ من الصيمري من نسبة تعريف الكبائر بما أوعد الله تعالى عليه النار إلى الأصحاب ، وهو يستلزم أنّ الذنوب التي لم يتوعّد الله عليها بالنار ليست كبائر عندهم ، فلا يبقي بعد ذلك إلاّ أن يكون صغائر.

مع أنّه جعل هذا القول الذي عمّم فيه الكبائر لجميع الذنوب مقابلاً لما نسبه الى الأصحاب. وعن شيخنا البهائي في الحبل المتين (٣) أنّه عزا المختار إلى الأصحاب معرباً عن دعوى الإجماع عليه ، هذا.

وقد عرفت استفاضة نقل الشهرة على تخصيص الكبيرة بما نسبه الصيمري إلى الأصحاب كافّة ، فالإجماع المستظهر من كلامهما يترجح بها على الإجماع المستظهر من عبائر هؤلاء الجماعة.

وأمّا الروايات : فنحن نقول بمضمونها من أنّ كلّ ذنب شديد ؛ لاشتراكها في معصية الربّ المجيد ، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كون الجميع كبائر بمعنى ما توعّد عليه بالنار كما استفيد من الأخبار.

مع أنّها على تقدير تسليم وضوح دلالتها لا تعارض الآيات والأخبار التي قدّمنا ؛ لاستفاضتها ، بل وتواترها ، واعتضادها بفتوى عامّة متأخّري‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥٠ / ٣١ ، التهذيب ٢ : ١٣٠ / ٥٠٢ ، الوسائل ١٥ : ٣٢٢ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٥.

(٢) الوسائل ١ : ١١٤ أبواب مقدمة العبادات ب ٢٨.

(٣) الحبل المتين : ٨٢.

٢٥٧

أصحابنا بحيث كاد أن يكون ذلك منهم إجماعاً.

وأمّا الثاني : فلما ذكره جماعة (١) أوّلاً : من أنّ التوبة متوقفة على العزم على عدم المعاودة ، والعزم على ترك الصغائر متعذّر أو متعسّر ؛ لأنّ الإنسان لا ينفك عنه غالباً ، وكيف يتحقق منه العزم على تركها أبداً مع ما جرت من حاله وحال غيره من عدم الانفكاك منها غالباً.

وثانياً : أنّه لا يكفي في التوبة مطلق الاستغفار وإظهار الندم حتى يعلم من حاله ذلك ، وهذا قد يؤدّي إلى زمان طويل يفوت معه الغرض من الشهادة ونحوها ، فيبقى العسر والحرج بحالهما.

وفي الأوّل نظر ؛ لمنع توقف التوبة على ما ذكر من العزم كما عن جمع (٢) ، قيل : وفي بعض الأخبار (٣) دلالة عليه (٤). مع أنّه لو تمّ لزم منه عدم وجوب التوبة عن صغار الذنب بل وكباره إذا جرّب الإنسان من حاله عدم الانفكاك منها في أغلب أحواله ، وهو خلاف الإجماع على الظاهر المصرح به في كلام بعض الأصحاب (٥).

والثاني أيضاً لا يخلو عن نظر ، هذا.

ولا ريب أنّ اعتبار ترك مطلق الذنوب أحوط ، كما يستفاد من الخبر : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهد ان فهو من‌

__________________

(١) منهم العلاّمة في المختلف : ٧١٨ ، وفخر المحققين في الإيضاح ٤ : ٤٢١ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٢ ، وانظر مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣٢١.

(٢) حكاه عنهم في الذخيرة : ٣٠٣.

(٣) الوسائل ١٦ : ٦١ أبواب جهاد النفس ب ٨٣ ، مستدرك الوسائل ١٢ : ١١٧ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٨٣.

(٤) الذخيرة : ٣٠٣.

(٥) الذخيرة : ٣٠٣.

٢٥٨

أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة ، وإن كان في نفسه مذنباً » (١) الحديث.

واعلم أنّ الماتن لم يتعرّض للمروءة في مزيل العدالة مع اشتهار زوالها بمخالفتها ، إمّا لكونها جزءاً منها كما هو المشهور بينهم ، أو شرطاً في قبولها كما جرى عليه جماعة (٢).

وكأنّه لم يجعل تركها قادحاً فيها ، أو متوقّف فيه كما هو الوجه جدّاً ؛ لعدم وضوح دليل على اعتبارها ، عدا ما قيل (٣) من أنّ مخالفة المروءة إمّا لخبل ونقصان عقل أو قلّة مبالاة وحياء ، وعلى التقديرين تبطل الثقة والاعتماد على قوله ، أمّا الخبل فظاهر ، وأمّا قليل الحياء فلأنّ من لا حياء له يصنع ما يشاء ، كما ورد في الخبر (٤).

وهو مستند ضعيف. وأضعف منه ما استدل به بعض (٥) من قول مولانا الكاظم عليه‌السلام : « لا دين لمن لا مروءة له ، ولا مروءة لمن لا عقل له » (٦).

فإنّ فيه ما ذكره بعض الفضلاء (٧) من أنّ استعمال المروءة بالمعنى‌

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٩١ / ٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٥ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١٣.

(٢) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٢ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٣١٥.

(٣) قاله في المسالك ٢ : ٤٠٢.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٠٠ / ٤١٨٣ ، أمالي السيد المرتضى ١ : ٥٣ ، عوالي اللئالي ١ : ٥٩ / ٩١ ، المستدرك ٨ : ٤٦٦ / ٢٢.

(٥) هو الشيخ أحمد بن محمد بن يوسف البحراني ، حكاه عنه في الحدائق ١٠ : ١٨.

(٦) تحف العقول : ٢٩٠ ، المستدرك ٨ : ٢٢٤ أبواب آداب السفر ب ٣٨ ح ١٢.

(٧) هو الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ، حكاه عنه في الحدائق ١٠ : ١٨.

٢٥٩

الذي ذكره الأصحاب غير معروف في كلامهم عليهم‌السلام ، وحينئذ فالأظهر حمله على بعض المعاني المروية عنهم عليهم‌السلام في تفسيرها.

أقول : وأشار بالمعنى المذكور لها بين الأصحاب إلى ما قالوه من أنّها التخلق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه ، فالأكل في السوق والشرب فيها لغير سوقي إلاّ إذا غلبه العطش ، والمشي مكشوف الرأس بين الناس ، وكثرة السخرية والحكايات المضحكة ، ولبس الفقيه لباس الجندي وغيره ممّا لا يعتاد لمثله بحيث يسخر منه ، وبالعكس ، ونحو ذلك ، يسقطها عندهم.

وبالمعاني المروية عنهم عليهم‌السلام إلى ما في بعض النصوص من أنّها إصلاح المعيشة (١). وما في بعض آخر منها من أنّها ستّة ، ثلاثة منها في الحضر وهي : تلاوة القرآن ، وعمارة المساجد واتخاذ الإخوان. ومثلها في السفر ، وهي : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمزاح في غير معاصي الله سبحانه (٢).

وما في ثالث من أنّها أن يضع الرجل خوانه بفناء داره (٣). إلى غير ذلك. وليس في شي‌ء من هذه المعاني المروية ما يوافق ما ذكره الأصحاب في معنى المروءة ، ولا كونها معتبراً في العدالة بالكلية.

نعم ربما يشعر به بعض الروايات ، منها : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت اخوّته ، وحرمت غيبته » (٤).

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٥٨ / ٥ ، الوسائل ١١ : ٤٣٥ أبواب آداب السفر ب ٤٩ ح ٩.

(٢) عيون الأخبار ٢ : ٢٦ / ١٣ ، الخصال : ٣٢٤ / ١١ ، الوسائل ١١ : ٤٣٦ أبواب آداب السفر ب ٤٩ ح ١٤.

(٣) معاني الأخبار : ٢٥٨ / ٩ ، الوسائل ١١ : ٤٣٦ أبواب آداب السفر ب ٤٩ ح ١٣.

(٤) الخصال : ٢٠٨ / ٢٨ ، عيون الأخبار ٢ : ٢٩ / ٣٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٦ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١٥.

٢٦٠