رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

وبين من فصّل بعين ما في العبارة لكن مقدّماً للأكثرية على الأعدلية ، كالحلّي في السرائر (١) ، وعزاه إلى ظاهر الأصحاب مشعراً بدعوى الإجماع عليه.

وبين من اقتصر على القرعة خاصّة ، كالعماني (٢).

والإنصاف أنّ الجمع بين هذه الفتاوى المختلفة والنصوص أيضاً بالإجماع المزبور لا يخلو عن إشكال ، سيّما مثل فتوى الحلّي والعماني ، فإنّ سياق عبارته كالصريح في المنع عن القضاء بينهما بالسوية ولو بعد نكولهما عن الحلف بعد القرعة ، فإنّه قال بعد الحكم بها ـ :

وزعم بعض العامّة أنّ المدّعيين إذا أقام كل واحد منهما شاهدي عدل على شي‌ء واحد له دون غيره حكم بينهما نصفين ، فيقال لهم : أكتاب الله تعالى حكم بذلك ، أم سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم بإجماع. فإن ادّعوا الكتاب ، فالكتاب ناطق بالردّ عليهم. وإن ادّعوا السنّة ، فالسنّة بالقرعة مشهورة بالردّ عليهم. وإن ادّعوا الإجماع كفوا الخصم مؤونتهم ، يقال لهم : أليس إذا أقام كل واحد منهما شاهدي عدل في دار أنّها له ، فشهود كل واحد منهما تكذّب شهود الآخر ، والعلم محيط بأنّ إحدى الشهداء كاذبة والأُخرى صادقة. فإذا حكمنا بالدار بينهما نصفين فقد أكذبنا شهودهما جميعاً ؛ لأنّ كل واحد تشهد شهوده بالدار كلّها دون الآخر. فإذا كانت إحدى الشهود كاذبة والأُخرى صادقة فيجب أن تسقط إحداهما ؛ لأنّه لا سبيل إلى الحكم فيما شهدوا إلاّ بإلقاء إحداهما ، ولم يوجد إلى إلقاء واحد منهما سبيل إلاّ بالقرعة (٣).

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٦٧.

(٢) راجع ص ٢٠٧.

(٣) نقله عنه في المختلف : ٦٩٣.

٢٢١

واستدلاله كما ترى يمنع عن القضاء بينهما بالتنصيف بسبب البيّنتين مطلقا ؛ لمنافاته لشهادة كل منهما وتضمنه إسقاطهما ، وهو يشمل التنصيف في الصورة التي نحن فيها ، إلاّ أن يقال باستناد التنصيف فيها إلى تعارض البيّنتين وتساقطهما مع عدم إمكان ترجيح إحداهما على الأُخرى بالقرعة ونحوها ، فتكون كالصورة التي وقع النزاع ولا بيّنة فيها أصلاً. ولا كذلك التنصيف قبل القرعة ؛ لعدم تساقطهما ، لإمكان ترجيح إحداهما بها.

هذا مع عدم تمكن العماني عن منع التنصيف بعد القرعة ونكولهما عن الحلف ، كما لا يخفى. فتأمّل.

وكيف كان ، فلا ريب في شهرة ما في العبارة من التفصيل ، على الظاهر المصرح به في المسالك والكفاية (١) ، فيعضد بها الإجماع المتقدّم إليه الإشارة. مضافاً إلى اعتضاده بالإجماعات الظاهرة من عبارة الشيخ والحلّي (٢) ولو في الجملة.

( و ) قال الشيخ ( في المبسوط ) : إنّه ( يقرع بينهما إن شهدتا بالملك المطلق ، ويقسم إن شهدتا بالملك المقيد ) ولو اختصّت إحداهما بالمقيد قضي بها دون الأُخرى (٣).

وحجته مع شذوذه وندرته ، ومخالفته لما مرّ من الحجة غير واضحة عدا ما في المسالك (٤) من استدلاله له بالقرعة مع الشهادة بالملك المطلق بالصحيح (٥) المصدّر به أخبار القرعة ، قال بعد نقله : فحمله على‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٩١ ، الكفاية : ٢٧٦.

(٢) راجع ص ٢٢٠ ، ٢٢١.

(٣) المبسوط ٨ : ٢٥٨.

(٤) المسالك ٢ : ٣٩١.

(٥) المتقدّم في ص ٢١٨.

٢٢٢

ما إذا أطلقت ؛ لدلالة ظاهر الشهادة عليه (١).

أقول : وفيه نظر.

وفي القسمة مع الشهادة بالملك المقيّد بالموثّق المتقدّم (٢) المتضمن لـ « أنّ عليّاً عليه‌السلام اختص إليه رجلان في دابّة ، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها ، فقضى بها للذي هي في يده ، وقال : لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين ».

أقول : وهي مع قصورها عن المقاومة لما مضى قد عرفت الجواب عنها. وعبارة العماني المتقدّمة (٣) يؤيّد ورودها للتقيّة ، مضافاً إلى المؤيّدات المتقدم إليها الإشارة (٤) ، مع أنّها معارضة بصريح الموثقة وغيرها المتقدّمين في أحاديث القرعة (٥) ؛ لتضمّنها الحكم بها مع شهادة البيّنتين فيها بالملك المقيد لا مطلقاً. وفي ترجيح ذات السبب بقوتها ، مضافاً إلى ما سبق من الأخبار الدالة على تقديم ذات السبب.

أقول : وجه ترجيح ذات السبب غير واضح. وما سبق من الأخبار قد سبق الجواب عنه ، مع أنّ ظاهرها أنّ سبب الترجيح إنّما هو اليد لا خصوص السبب ؛ لأنّ موردها تضمّن البيّنتين إيّاه ، فإنّ الترجيح فيها لذات اليد منهما ، ولو كان للسبب لكان التوقف لازماً ، وإنّما استنبطه الأصحاب من الجمع بينها وبين ما دل على ترجيح بيّنة الخارج كما مرّ.

وبالجملة : لا شبهة في ضعف هذا القول ( و ) أنّ القول ( الأوّل ) بإطلاق القرعة ( أشبه ) وأشهر ؛ لما مرّ.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٩١.

(٢) في ص : ٢٠٦.

(٣) راجع ص : ٢٢١.

(٤) في ص : ٢١١.

(٥) في ص ٢١٩.

٢٢٣

ووجّه الأشبه في التنقيح وشرح الشرائع للصيمري (١) بشي‌ء آخر ، وهو أنّهما بيّنتان تعارضتا ، ولا ترجيح لإحداهما على الأُخرى ، ولا يجوز إبطالهما ، فيتعيّن الجمع بينهما بعد القرعة واليمين.

واعلم أنّ ظاهر العبارة هنا وفي الشرائع والإرشاد والتحرير والقواعد واللمعة (٢) عدم اعتبار اليمين مع الترجيح بالأعدلية أو الأكثرية.

خلافاً للصدوقين ، والشيخ في النهاية والخلاف والكتابين ، والقاضي ، وابن زهرة (٣) فاعتبروا اليمين لكن مع الترجيح بالأكثرية ، وسكتوا عن اعتبارها مع الترجيح بالأعدليّة.

وهو أظهر ؛ لدعوى الأخير والشيخ في الخلاف عليه إجماع الإمامية ، ويناسبه الأخبار المتقدّمة الدالة على اعتبارها مع القرعة ، لكن مقتضى هذا اعتبارها مع الترجيح بالأعدلية أيضاً ، كما أفتى به شيخنا في الروضة (٤) ، فيمكن إرجاع كلمات القوم إلى اعتبارها مطلقاً ، فلا خلاف في المسألة بحمد الله سبحانه.

__________________

(١) التنقيح الرائع ٤ : ٢٨٢ ، غاية المرام ٤ : ٢٦٠.

(٢) الشرائع ٤ : ١١١ ، الإرشاد ٢ : ١٦٣ ، التحرير ٢ : ١٩٥ ، القواعد ٢ : ٢٣٢ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٠٧.

(٣) الصدوق في المقنع : ١٣٤ ، وحكاه فيه عن والده ، النهاية : ٣٤٣ ، الخلاف ٦ : ٣٣٣ ، الاستبصار ٣ : ٤٢ ، التهذيب ٦ : ٢٣٧ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٧٨ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٤) الروضة ٣ : ١٠٧.

٢٢٤

( كتاب الشهادات )

جمع شهادة ، وهي لغةً إمّا من شَهد بمعنى حضر ، ومنه قوله سبحانه ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) الآية (١). أو من شَهِدَ بمعنى علم ، وعلى ذلك سمّي تعالى شهيداً أي عليماً.

وشرعاً قيل : إنّه إخبار عن حق لازم لغيره ، واقع عن غير حاكم. وبالقيد الأخير يخرج إخبار الله تعالى ورسوله ، والأئمّة عليهم‌السلام ، وإخبار الحاكم حاكماً آخر ؛ فإنّ ذلك لا يسمّى شهادة (٢).

والأصل فيها بعد إجماع العلماء كافّةً الآيات المتكاثرة ، قال سبحانه ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (٣) وقال تعالى ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ) (٤).

والنصوص بها مع ذلك مستفيضة بل متواترة ، تقدّم إلى جملة منها‌

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) قاله الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٠.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

(٤) البقرة : ٢٨٣.

٢٢٥

الإشارة ، وسيأتي جملة أُخرى منها وافرة في تضاعيف الأبحاث الآتية.

وفي النبوي المشهور : أنّه سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الشهادة ، فقال للسائل : « ترى الشمس؟ » قال : نعم ، فقال : « على مثلها فاشهد أو دع » (١).

( والنظر ) في هذا الكتاب يقع ( في أُمور أربعة : )

( الأوّل : في ) بيان ( صفات الشاهد ) المعتبرة فيه ( وهي ست : )

( الاولى : البلوغ ) بلا خلاف فيه في الجملة ، وبه صرّح في الغنية (٢) مطلقاً ، ولكن قال فيما بعد : وتقبل شهادة الصبيان في الشجاج والجراح خاصّة إذا كانوا يعقلون ذلك ، ويؤخذ بأوّل أقوالهم ولا يؤخذ بآخرها ؛ بدليل إجماع الطائفة (٣). هذا مضافاً إلى ما ستقف عليه من الإجماعات المحكية.

( فلا تقبل شهادة الصبي ) غير المميّز إجماعاً كما في الإيضاح والدروس والمسالك (٤). وكذا المميز ( ما لم يصر مكلّفاً ) بالبلوغ ، بلغ عشراً أم لا ، إجماعاً في الثاني إذا شهد في غير الجنايات ، كما في الإيضاح والمهذّب وشرح الشرائع للصيمري (٥). وكذا إذا شهد فيها عند معظم الأصحاب ، على الظاهر المصرح به في المهذّب (٦) ، بل يظهر من التنقيح عدم الخلاف فيه ، حيث حمل إطلاق بعض النصوص الدال على قبول شهادته على ما إذا بلغ عشراً ، قال : إذ لا قائل بقبولها لدون العشر (٧).

__________________

(١) عوالي اللئلئ ٣ : ٥٢٨ / ١ ، المستدرك ١٧ : ٤٢٢ كتاب الشهادات ب ١٥ ح ٢.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٤) الإيضاح ٤ : ٤١٧ ، الدروس ٢ : ١٢٣ ، المسالك ٢ : ٤٠٠.

(٥) الإيضاح ٤ : ٤١٧ ، المهذّب البارع ٤ : ٥٠٧ ، غاية المرام ٤ : ٢٧٤.

(٦) المهذّب البارع ٤ : ٥٠٧.

(٧) التنقيح ٤ : ٢٨٥.

٢٢٦

ولكن في الكتب الثلاثة المتقدّمة المحكي فيها الإجماع في المسألة السابقة حكي الخلاف هنا عن ظاهر الخلاف والإسكافي (١) ، حيث أطلقا القول بقبول شهادته في الجراح من دون تقييد بالعشر.

والأصح ما عليه الأكثر ؛ لما سيظهر.

وعلى الأظهر في الأوّل أيضاً إذا كان في غير الجنايات ، وهو الأشهر ، بل عليه عامّة من تأخّر ، بل ومن سبق إلاّ من شذّ وندر ، ويستفاد من جملة من العبارات الإجماع عليه كما سيظهر ؛ للأصل ، بل الأُصول ، مع عدم دليل يدل على القبول عدا إطلاقات الكتاب والسنّة ، وخصوص بعض النصوص ، كالخبرين :

في أحدهما : « إذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره وجازت شهادته » (٢).

وفي الثاني : « شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرقوا ويرجعوا إلى أهلهم » (٣).

وفي الجميع نظر ؛ لعدم عموم في الأوّل لغةً ، بل ولا عرفاً بعد اختصاصه بحكم التبادر وغيره بالبالغ من الرجال ، ومع ذلك معارض بعموم كثير من النصوص الدالة على اعتبار أُمور في الشاهد ، مع القطع بعدم وجود شي‌ء منها في الصبي بلا شبهة.

وقصور سند الخبرين ؛ بالقطع في الأوّل ، وطلحة بن زيد العامي في‌

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢٧٠ ، وحكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧١٧.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٨ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٥١ / ٦٤٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٤ كتاب الشهادات ب ٢٢ ح ٣.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٧ / ٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٥ كتاب الشهادات ب ٢٢ ح ٦.

٢٢٧

الثاني ، مع ضعف دلالتهما باحتمال الحمل على القبول في الصورة الآتية المتفق عليها حمل المطلق على المقيد ، وتضمن الأوّل ما لا يقول بإطلاقه أحد من أصحابنا ، واحتمال الثاني الموافقة للعامّة العمياء ، بقرينة الراوي الذي مضى.

ومع ذلك معارضان بإطلاق كثير من النصوص المانعة عن القبول فيه ، كالصحيح : في الصبي يشهد على الشهادة ، فقال : « إن عقله حين يدرك أنّه حق جازت شهادته » (١).

وأظهر منه القويان ، القريب أحدهما منه : « إنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها » (٢).

والمراد من الكبر فيه والإدراك في الأوّل بحكم التبادر بل والاستقراء البلوغ.

وأظهر منهما الصحيح : تجوز شهادة الصبيان؟ قال : « نعم في القتل ، ويؤخذ بأوّل كلامه ، ولا يؤخذ بالثاني منه » (٣).

والخبر : عن شهادة الصبي ، قال : فقال : « لا ، إلاّ في القتل ، يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني » (٤).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٩ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٥١ / ٦٤٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ كتاب الشهادات ب ٢١ ح ١.

(٢) الأوّل : الكافي ٧ : ٣٨٩ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٥١ / ٦٤٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ كتاب الشهادات ب ٢١ ح ٢.

الثاني : الفقيه ٣ : ٢٨ / ٨٠ ، التهذيب ٦ : ٢٥٠ / ٦٤٣ ، الإستبصار ٣ : ١٨ / ٥١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٣ أبواب الشهادات ب ٢١ ح ٤.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٩ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥١ / ٦٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٣ كتاب الشهادات ب ٢٢ ح ١.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨٩ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٥٢ / ٦٤٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٣ كتاب الشهادات ب ٢٢ ح ٢.

٢٢٨

وهذه النصوص أجدر بالترجيح وأولى ؛ لوجوه شتى لا تخفى.

ومنه يظهر ضعف القول المشار إليه بقوله : ( وقيل ) : إنّه ( تقبل إذا بلغ عشراً ) مطلقاً في الجنايات وغيرها ( وهو ) مع ذلك ( شاذّ ) متروك كما هنا وفي الشرائع وشرحه للصيمري (١) بحيث كاد أن يعدّ مخالفاً للإجماع ، كما تشعر به العبارات المزبورة ، مع أنّه لم ينقله غير الفاضلين ، والشهيد (٢) ، وفي شرح الشرائع للصيمري عن عميد الرؤساء (٣) أنّه إلى الآن لم نظفر بهذا القول.

ولكن في المهذّب والمسالك (٤) عن صاحب كشف الرموز أنّه حكاه عن الشيخ في النهاية. وفيه نظر ؛ فإنّ الموجود في كلامه أنّ الشيخ في النهاية حكى هذا القول (٥) ، لا أنّه حكاه عنه فيها. وقد عرفت ما يصلح دليلاً مع جوابه مفصّلاً ، وزاد الأصحاب فذكروا في ردّه وجوهاً :

منها : حديث : « رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ » (٦) بناءً على أنّ في رفعه عنه دلالة على أنه لا عبرة بأقواله وأفعاله.

ومنها : علمه بعدم المؤاخذة له يرفع الوثوق بقوله ، فلا يحصل الظن بصدقه ؛ لعدم المانع له عن الكذب حينئذٍ.

ومنها : أنّ قوله على نفسه لا يقبل بالإقرار ، فلا يقبل على غيره بالشهادة ؛ لكونه أكثر شروطاً ؛ ولعدم التهمة في الإقرار وتجويزها في الشهادة ، فهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٢٥ ، غاية المرام ٤ : ٢٧٤.

(٢) التحرير ٢ : ٢٠٧ ، الدروس ٢ : ١٢٣.

(٣) غاية المرام ٤ : ٢٧٤ ، وهو في كنز الفوائد ٣ : ٥٤٠.

(٤) المهذّب ٤ : ٥٠٨ ، المسالك ٢ : ٤٠٠.

(٥) كشف الرموز ٢ : ٥١٤.

(٦) عوالي اللئلئ ١ : ٢٠٩ / ٤٨.

٢٢٩

وأكثر هذه الوجوه وإن كان لا يخلو عن نظر وجهه لا يخفى ، إلاّ أنّه يصلح مقوّياً لما قدّمناه من الأدلة ومؤيّداً. كلّ ذا في قبول شهادة الصبيان ذوي العشر في غير الجنايات.

( واختلف عبارة الأصحاب في قبول شهادتهم في الجنايات ) من القتل والشجاج والجراح ، بعد اتفاقهم على القبول فيها في الجملة ، كما في الانتصار والمهذّب وظاهر التنقيح وشرح الشرائع للصيمري ، بل صريح الأخير والغنية (١) كما عرفته ، وكلام التقي المحكي في التنقيح ، فإنّه قال : والقدر المجمع عليه القبول في الجراح مع بلوغ العشر ، ويؤخذ بأوّل كلامهم. (٢)

ونحوه كلام الماتن في الشرائع ، وشيخنا في الروضة (٣) ، ولكنهما زادا القيودات الآتية ، ولذا نسب الماتن الاختلاف هنا وفي الشرائع (٤) إلى العبارة ، وبه صرح جماعة ومنهم الصيمري في شرح الشرائع ، قال : وإنّما قال المصنّف : اختلف عبارات الأصحاب في قبول شهادتهم بالجراح والقتل ؛ لأنّه لا خلاف بينهم في قبول شهادتهم في الجملة ، وإنّما الخلاف في العبارات ، فبعضهم قَبِلَها في الجراح والقصاص ، وهو المفيد (٥) وبعضهم قَبِلَها في الجراح دون القصاص ، وهو الشيخ في النهاية والعلاّمة والشهيد (٦) ، وبعضهم اشترط اجتماعهم على مباح (٧) ، وبعض لم يشترطه ،

__________________

(١) الانتصار : ٢٥٠ ، المهذّب البارع ٤ : ٥١٠ ، التنقيح ٤ : ٢٨٦ ، غاية المرام ٤ : ٢٧٤ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٢) التنقيح ٤ : ٢٨٦ ، وانظر الكافي في الفقه : ٤٣٦.

(٣) الشرائع ٤ : ١٢٥ ، الروضة ٣ : ١٢٥.

(٤) الشرائع ٤ : ١٢٥.

(٥) المقنعة : ٧٢٧.

(٦) النهاية : ٣٣١ ، التحرير ٢ : ٢٠٧ ، الدروس ٢ : ١٢٣.

(٧) الخلاف ٦ : ٢٧٠ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الروضة البهيّة ٣ : ١٢٥.

٢٣٠

وبعضهم اشترط عدم الافتراق (١) ، ولم يشترطه بعضهم (٢).

وقريب منه كلام الفاضل المقداد ، وابن فهد في شرحي الكتاب (٣) ، ولكنّهما والماتن في الشرائع (٤) نقلا عن النهاية ما اختاره المفيد من إلحاق القصاص بالجراح ، وعزاه الثاني إلى الحلّي (٥) أيضاً ، وحكى الأوّل ما نسبه الصيمري إلى الشيخ في النهاية عنه في الخلاف.

ونحوه الماتن في الشرائع وشيخنا في شرحه ، وحكى فيه مذهب المفيد عن الأكثر حيث قال بعد نقل الروايتين الأخيرتين المتضمنتين لقبول شهادتهم في القتل ـ : ولفظ الروايتين تضمن القتل فيمكن أن يدخل فيه الجراح بطريق أولى ، فمن ثم ذكر الأكثر القتل والجراح ، ومنهم من اقتصر على الجراح ، كالشيخ في الخلاف والمصنّف في النافع ، ولعله أراد بها ما يشمل لغةً القتل ؛ لأنّ القتل هو المنصوص فيما هو مستند الاستثناء (٦) انتهى.

ومنه يظهر كون مذهب المفيد هو مختار الأكثر ، بل الكل كما يفيده توجيهه المتقدّم ، مع تخصيصه فيما بعد القول بالقبول في الجرح خاصّة إلى الشهيد ؛ فإنّه قال : وفي الدروس صرّح باشتراط ان لا يبلغ الجراح النفس ، ثم قال : واشتراط ذلك لا يخلو من إشكال ، إلاّ أن يجعل مجرّد الاحتياط في النفوس ، وإلاّ فمراعاة النصوص تقتضي إدخالها. وإطراحها نظراً إلى‌

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢٧٠ ، القواعد ٢ : ٢٣٦ ، الروضة البهيّة ٣ : ١٢٥.

(٢) غاية المرام ٤ : ٢٧٤.

(٣) التنقيح الرائع ٤ : ٢٨٦ ، المهذّب ٤ : ٥١٠.

(٤) الشرائع ٤ : ١٢٥.

(٥) المهذّب البارع ٤ : ٥٠٩ ، وهو في السرائر ٢ : ١٣٦.

(٦) المسالك ٢ : ٤٠٠.

٢٣١

عدم صحتها ومخالفتها الأصل يقتضي إخراج الجراح أيضاً (١).

( و ) من قوله هذا يظهر وجه النظر في مختار الماتن هنا وفي الشرائع من أنّ ( محصّلها ) الذي يعتمده وفاقاً منه للخلاف (٢) ( القبول في الجراح ) خاصّة ( مع بلوغ ) الصبي ( العشر ما لم يختلفوا ) في القول ( و ) لو اختلفوا فيه ( يؤخذ بأوّل قولهم ) إذا أراد من الجراح ما يقابل القتل ، لا ما يشمله ؛ لعدم استفادته من الروايتين اللتين هما الأصل في المسألة.

اللهم إلاّ أن يكون المراد من قوله : محصّلها ، يعني القدر المتفق عليه من تلك العبارات والمجمع عليه بيننا ، ولعله الظاهر من العبارة ، سيّما وأن صرّح بأظهر منها على ذلك دلالة في الشرائع ، فقال بعد نقل الروايتين ـ : والتهجّم على الدماء بخبر الواحد خطر ، فالأولى الاقتصار على القبول في الجراح بالشروط الثلاثة بلوغ العشر ، وبقاء الاجتماع إذا كان على مباح ؛ تمسّكاً بموضع الوفاق (٣).

وهو كما ترى صريح في طرحه الروايات وأخذه بالمجمع عليه.

فما في كلام شيخنا المتقدم من أنّ اطراحها يقتضي إخراج الجراح أيضاً ، محل نظر واضح ؛ إذ طرح الروايات يقتضي ذلك لو انحصر المستند في مخالفة الأصل فيها ، وقد عرفت من كلام الماتن استناده إلى الإجماع الذي ادّعاه ، فالإطراح حينئذ لا يقتضي إخراج الجراح أيضاً ، فقد يكون نظر الدروس إلى ما ذكره الماتن.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٠٠ ، وهو في الدروس ٢ : ١٢٣.

(٢) الخلاف ٦ : ٢٧٠.

(٣) الشرائع ٤ : ١٢٥.

٢٣٢

والعجب من شيخنا كيف نسب مختار الخلاف إلى الماتن هنا خاصّة مع أنّ عبارته في الشرائع (١) كعبارته هنا في الموافقة له ، هذا.

وما ذكره من عدم صحة الروايات ، محل نظر ؛ فإنّ الرواية الأُولى (٢) صحيحة على المختار ، وإن كان فيه إبراهيم بن هاشم ، وفاقاً لجماعة من المحققين (٣) ، وحسنته كالصحيحة حجّة عند المشهور ، ومنهم هو أيضاً في مواضع عديدة (٤).

وحينئذ يتوجه المصير إلى إلحاق القتل بالجراح ، سيّما مع كونه مذهب الأكثر كما ذكره هو وجمع ممّن تأخّر عنه (٥) ومنهم الحلّي (٦) الذي لا يعمل بأخبار الآحاد إلاّ بعد احتفافها بالقرائن القطعية.

فهذان معاضدان للرواية أو جابران لها ، مضافاً إلى اعتضادها بالرواية الثانية (٧). وبهما مضافاً إلى الإجماعات المحكية تجمع بين الروايات والأدلة المتقدمة المختلفة.

ومنه يظهر ضعف ما عليه فخر الإسلام (٨) من عدم قبول شهادتهم مطلقاً ؛ تمسّكاً ببعض الوجوه التي قدّمناها.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٢٥.

(٢) راجع ص ٢٢٨.

(٣) منهم السيد ابن طاوس في فلاح السائل : ١٥٨ ، والسيد الداماد في الرواشح السماوية : ٤٨ ، والأردبيلي في زبدة البيان : ١٥٥ ، والسيد بحر العلوم في رجاله ١ : ٤٦٢.

(٤) المسالك ١ : ٥٠٧.

(٥) منهم السبزواري في الكفاية : ٢٧٨ ، وانظر المفاتيح ٣ : ٢٧٦.

(٦) السرائر ٢ : ١٣٦.

(٧) راجع ص ٢٢٨.

(٨) إيضاح الفوائد ٤ : ٤١٧.

٢٣٣

وبندرته والإجماع على خلافه صرح في المهذب وشرح الشرائع للصيمري (١). وليس في مختاره احتياط بعد قيام الأدلة القاهرة على خلافه ، بل يجب المصير إلى ما اقتضته حذراً من ضياع حق المجنيّ عليه ، فتأمّل.

نعم الأحوط الأخذ بالمتفق عليه خاصّة دون غيره مما اختلف فيه ، وهو ما ذكره الماتن في الشرائع ، والفاضل في جملة من كتبه ، والشهيدين في الدروس واللمعتين (٢) من اعتبار قيود أربعة : بلوغ العشر ، والاجتماع لمباح ، وكون الحكم في الجراح والشجاج دون النفس ( و ) ما ( شرط في الخلاف ) من ( أن لا يفترقوا ) ويرجعوا إلى أهلهم بعد الفعل المشهود به إلى أن يؤدّوا الشهادة.

سيّما مع دلالة الرواية المقطوعة المتقدمة (٣) ونفي الخلاف المتقدم من التنقيح (٤) على القيد الأوّل ، وفحوى ما دل على اعتبار العدالة في البالغين على الثاني ، والاحتياط المأمور به في صيانة النفس المحترمة عن التلف على الثالث ، ورواية طلحة بن زيد المتقدمة (٥) على الرابع.

وهذه الأدلة على اعتبار القيودات المذكورة وإن كان في صلوحها حجةً سيّما وإن تخصّص بها الروايتان المتقدمتان اللتان هما الأصل في المسألة مناقشة ، إلاّ أنّها توجب شدّة الأمر في الاحتياط وقوّته ، سيّما في مراعاة القيد الأوّل ، بل لا يبعد المصير إلى تعين اعتباره ؛ لانجبار المقطوعة‌

__________________

(١) المهذّب البارع ٤ : ٥١٠ ، غاية المرام ٤ : ٢٧٤.

(٢) الشرائع ٤ : ١٢٥ ، القواعد ٢ : ٢٣٥ ، التحرير ٢ : ٢٠٧ ، الدروس ٢ : ١٢٣ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٢٥.

(٣) راجع ص ٢٢٧.

(٤) التنقيح الرائع ٤ : ٢٨٥.

(٥) راجع ص : ٢٢٧.

٢٣٤

المتقدمة الدالة عليه بما عرفته (١) من الشهرة المحكية ، بل لعلّها أيضاً ظاهرة.

ووجه ما ذكرناه من الاحتياط قوّة الأدلّة المانعة من الأُصول المؤيّدة بالاعتبار والعمومات المعتضدة بخصوص ما مرّ من الأخبار ، وعدم الاطمئنان التام بتخصيصها بمثل الروايتين المتقدمتين (٢) ؛ لضعف الثانية ، وقصور الاولى عن الصحة على الأشهر بين الطائفة ، مع عدم وضوح جابر لهما ؛ لعدم وقوف القائلين بهما على موردهما ؛ لكونه القبول في القتل مطلقاً غير مقيّد بشي‌ء من القيود المتقدمة جدّاً ، مع أنّهم أطبقوا على اعتبارها كلاًّ أو بعضاً واختلفوا في القبول في القتل الذي هو مورده كما هو ظاهر الشيخين والحلّي (٣) ، وعدمه كما هو ظاهر كل من اقتصر على ذكر الجراح خاصّة كالتقي ، والمرتضى ، وابن زهرة ، والفاضلين في كتبهم المتقدمة (٤) ، وصريح الشهيدين في الدروس والروضة (٥) ، وظاهر الانتصار والغنية (٦) دعوى الإجماع على عدم القبول في غيرها.

ولا ريب أنّ المتبادر منها الجراح التي لا تؤدّي إلى النفس ، ولذا فهم الفرق بينها وبين القصاص جماعة من أصحابنا ، فجعلوا القول بكل منهما‌

__________________

(١) في « ح » و « ب » زيادة : عن المهذب.

(٢) في ص ٢٢٨.

(٣) المفيد في المقنعة : ٧٢٧ ، الطوسي في النهاية : ٣٣١ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٣٦.

(٤) التقي في الكافي : ٤٣٦ ، المرتضى في الانتصار : ٢٥٠ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، المحقق في الشرائع ٤ : ١٢٥ ، العلاّمة في التحرير ٢ : ٢٠٧.

(٥) الدروس ٢ : ١٢٣ ، الروضة ٣ : ١٢٥.

(٦) الانتصار : ٢٥٠ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

٢٣٥

مقابلاً للآخر ..

والقائلون باختصاص القبول بها على هذا هم الأكثر ، ولازم ذلك طرحهم الروايتين ، فينعكس الجابر ، سيّما مع دعوى الإجماع عليه في الانتصار والغنية.

وحينئذ فلعلّه يتعين الاحتياط المتقدم ، كما اختاره الفاضلان والشهيدان ؛ اقتصاراً فيما خالف الأُصول القطعية على المجمع عليه المتيقن.

لكن يستفاد من سياق كلمات السيدين (١) أنّهما أرادا بالجراح ما يعم القتل ؛ حيث ذكرا على وجه الاستناد ما يدل عليه ، فقالا : وقد اشتهر عند الناس أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قضى في ستة غلمان دخلوا الماء فغرق أحدهم ، فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنّهما غرّقاه ، وشهد الاثنان على الثلاثة أنّهم غرّقوه : أنّ على الاثنين ثلاثة أخماس الدية وعلى الثلاثة الخمسان (٢).

وعليه فيتقوى القبول في نفس القتل أيضاً.

ثم إنّ مقتضى الأدلّة المانعة مع اختصاص الأدلة المجوّزة فتوًى ورواية بالصبي خاصّة عدم قبول شهادة الصبية مطلقاً ، وبه صرّح جماعة كالفاضل في التحرير ، وشيخنا في الروضة (٣).

( الثانية : كمال العقل ، فالمجنون لا تقبل شهادته ) في شي‌ء إجماعاً على الظاهر المصرح به في كثير من العبائر (٤) ؛ لقوله تعالى ( ذَوَيْ عَدْلٍ

__________________

(١) الانتصار : ٢٥٠ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٢) الكافي ٧ : ٢٨٤ / ٦ ، الفقيه ٤ : ٨٦ / ٢٧٧ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٩ / ٩٥٣ ، إرشاد المفيد ١ : ٢٢٠ ، الوسائل ٢٩ : ٢٣٥ أبواب موجبات الضمان ب ٢ ح ١.

(٣) التحرير ٢ : ٢٠٧ ، الروضة ٣ : ١٢٥.

(٤) كالمحقق في الشرائع ٤ : ١٢٦ ، والعلاّمة في التحرير ٢ : ٢٠٧ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١٢ : ٢٩٧ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٦٩.

٢٣٦

مِنْكُمْ ) (١) و ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ) (٢) وخصوص ما مرّ من الصحيح في شهادة الصبي : « إن عقله حين يدرك أنّه حق جازت شهادته » (٣).

( ومن يناله الجنون ) ويعتوره ( أدواراً ) في وقت دون وقت ( تقبل ) شهادته ( في حال الوثوق باستكمال فطنته ) وكمال عقله ، بلا خلاف فيه أيضاً على الظاهر المصرح به في بعض العبائر (٤) ؛ لعموم الأدلّة وزوال المانع.

وذكر المتأخّرون (٥) من غير خلاف بينهم أجده أنّ في حكمه المغفّل الذي لا يحفظ ولا يضبط ويدخل فيه التزوير والغلط وهو لا يشعر ؛ لعدم الوثوق بقوله. وكذا من يكثر غلطه ونسيانه ، ومن لا يتنبّه لمزايا الأُمور وتفاصيلها ، إلاّ أن يعلم عدم غفلته فيما يشهد به.

وعلى الحاكم التفتيش عن حال من هذه صفته إلى ان يغلب على ظنّه علمه وتفطنه ، ووجهه واضح.

وفي الخبر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله تعالى ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) قال : « ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقّظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه ، فما كل صالح مميّز محصّل ، ولا كل محصّل مميّز صالح » (٦).

__________________

(١) الطلاق : ٢.

(٢) البقرة : ٢٨٢.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٩ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٥١ / ٦٤٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ كتاب الشهادات ب ٢١ ح ١.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٩٧.

(٥) كالمحقق في الشرائع ٤ : ١٢٦ ، والشهيد في الدروس ٢ : ١٢٤ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٧٩ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٧٧.

(٦) تفسير العسكري عليه‌السلام : ٦٧٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٩ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ٢٣.

٢٣٧

( الثالثة ) : الإسلام ، فلا تقبل شهادة الكافر بأقسامه مطلقاً إلاّ فيما سيستثنى ؛ بالإجماع ، والكتاب ، والسنّة المستفيضة بل المتواترة ، تقدم بعضها وستأتي جملة أُخرى منها وافرة.

والمعروف من مذهب الأصحاب اشتراط ( الإيمان ) أيضاً ، أي كونه اثني عشرياً ، بل في التنقيح والمهذب وشرح الشرائع للصيمري والمسالك وشرح الإرشاد للمقدس الأردبيلي (١) رحمه‌الله الإجماع عليه ؛ وهو الحجة.

مضافاً إلى الأصل ، وعدم دليل على قبول شهادة غير المؤمن ؛ لاختصاص إطلاقات الكتاب والسنّة لقبول شهادة المسلم بحكم التبادر وغيره بالمؤمن دون غيره ، سيّما نحو ( رِجالِكُمْ ) و ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) بناءً على مذهب الإمامية من اختصاص الخطابات الشفاهية بالمخاطبين بها دون غيرهم ، وليس المخالف بموجود زمن الخطاب جدّاً ، هذا.

وعلى تقدير العموم فلا ريب أنّ التقييد بمن ترضون يدفع احتمال دخول المخالف بناء على ما عرفت في الرواية السابقة المفسّرة له بمن ترضون دينه وأمانته ، ولا ريب أنّه ليس بمرضيّ الدين.

هذا كله على تقدير القول بإسلامه حقيقةً ، وأمّا على القول بكفره كما هو مختار كثير من قدماء الأصحاب ، ومنهم الحلّي (٢) مدّعياً الإجماع عليه فلا إشكال في عدم قبول شهادته ؛ لكفره ، فلا يدخل في إطلاق‌

__________________

(١) التنقيح ٤ : ٢٨٧ ، المهذّب البارع ٤ : ٥١٠ ، غاية المرام ٤ : ٢٧٥ ، المسالك ٢ : ٤٠١ ، مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٩٨.

(٢) السرائر ٢ : ١٣٩.

٢٣٨

ما دلّ على قبول شهادة المسلم.

ثم على تقدير الدخول فيه فهو معارض بإطلاق ما دلّ على عدم قبول شهادة الكافر بناءً على إطلاق الكفر عليهم في الأخبار المستفيضة (١) بل المتواترة المقتضي كونه إمّا كافراً حقيقةً كما هو رأي بعض الأُصوليين (٢) ، أو مشاركاً له في أحكامه التي منها عدم قبول الشهادة.

وعلى تقدير تعارض الإطلاقين والتساقط في البين فالرجوع إلى حكم الأصل متعين.

وأمّا الصحيح : قلت للرضا عليه‌السلام : رجل طلّق امرأته وأشهد شاهدين ناصبيين ، قال : « كلّ من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته » (٣).

فهو وإن توهّم منه قبول شهادة من هو عدل في مذهبه من أهل الإسلام ، إلاّ أنّه مضعّف بأنّ ظاهره على التوهم المزبور قبول شهادة الناصبي ، وهو خلاف الإجماع المنعقد على كفره بالكفر المقابل للإسلام ، ومع ذلك فاشتراط الصلاح فيه يدفع احتمال دخول المعاند ؛ لفساده بفسقه الناشئ عن حكمه بالباطل وغير ما أنزل الله تعالى ، فيشمله قوله سبحانه ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات المحكوم فيها بكفره وظلمه أيضاً (٥).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٣٨٦ كتاب الشهادات ب ٣٨.

(٢) انظر المنتهي ١ : ٥٢٣.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٨ / ٨٣ ، التهذيب ٦ : ٢٨٤ / ٧٨٣ ، قرب الاسناد : ٣٦٥ / ١٣٠٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٨ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ٢١.

(٤) المائدة : ٤٧.

(٥) المائدة : ٤٤ ، ٤٥.

٢٣٩

وبفسقه صرّح جماعة (١) من الأصحاب هنا حيث استدلوا لاعتبار الإيمان بأنّ غير المؤمن فاسق وظالم ؛ لاعتقاده الفاسد الذي هو من أكبر الكبائر.

وأمّا الجواب عن هذا الاستدلال بأنّ الفسق إنّما يتحقق بفعل المعصية مع اعتقاد كونه معصية ، لا مع اعتقاد كونه طاعة ، والظلم إنّما يتحقق بمعاندة الحق مع العلم به.

فحسن إن اختير الرجوع في بيان معنى الفسق والظلم إلى العرف حيث إنّ المتبادر منهما مدخلية الاعتقاد في مفهومهما.

وأمّا إن اختير الرجوع إلى اللغة فمنظور فيه ؛ لعدم مدخلية الاعتقاد في مفهومهما فيها ، فتأمّل جدّاً. هذا.

ويستفاد من بعض الروايات (٢) كما قيل (٣) ردّ شهادة بعض المخالفين في أصول العقائد ، وفي القوي : « إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان لا يقبل شهادة فحاش ، ولا ذي مخزية في الدين » (٤).

وبالجملة لا ريب في اعتبار هذا الشرط أيضاً.

( فلا تقبل شهادة غير الإمامي ) مطلقاً على مسلم أو غيره أو لهما قطعاً ، إلاّ في صورة خاصّة أشار إليها بقوله : ( وتقبل شهادة الذمّي ) العدل‌

__________________

(١) منهم الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٢٨٧ ، والشهيد في المسالك ٢ : ٤٠١ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ١٢ : ٢٩٩ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٦٩.

(٢) دعائم الإسلام ٢ : ٥١١ / ١٨٣٤ ، المستدرك ١٧ : ٤٣٣ كتاب الشهادات ب ٢٦ ح ١.

(٣) مفاتيح الشرائع ٣ : ٢٧٨.

(٤) الكافي ٧ : ٣٩٦ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٢٤٣ / ٦٠٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٧٧ كتاب الشهادات ب ٣٢ ح ١.

٢٤٠