رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

العمل بالبيّنة مطلقاً حتى التي نحن نقول بها ؛ إذ البيّنة التي أجازته بنو أُميّة لعلها كانت البيّنة على صحة الكتابة لا على الحكم ، أو عليه لكن من دون شرائطه المتقدمة.

( الثانية : ) في بيان أحكام ( القسمة ).

وإنّما ذكرت في كتب أكثر الأصحاب هنا مع أنّها بكتاب الشركة أنسب ؛ لأنّ القاضي لا يستغني عن القسام للحاجة إلى قسمة الشركاء ، بل القسام كالحكام.

والأصل في شرعيتها الإجماع ، بل الضرورة ، والكتاب والسنّة ، قال الله تعالى ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ) (١) الآية.

وفي اخرى ( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) (٢).

وفعلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قسم خيبر على ثمانية عشر سهماً (٣).

وقال : « الشفعة فيما لا تقسم ، فإذا رفعت الحدود وعرف الطرق فلا شفعة » (٤).

وروى أنّه كان لعليّ عليه‌السلام قاسم يقال له : عبد الله بن يحيى ، وكان يرزقه من بيت المال (٥) ، ولذا أفتى الأصحاب باستحباب أو وجوب أن يتخذ الإمام قاسماً ، وأنّ رزقه من بيت المال ، مع أنّ الحاجة تدعو إليها ؛ إذ قد يتبرم الشركاء أو بعضهم بالمشاركة ، أو يريدون الاستبداد بالتصرف ، والناس مسلّطون على أموالهم.

__________________

(١) النساء : ٨.

(٢) القمر : ٢٨.

(٣) المبسوط ٨ : ١٣٣.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ١٠٢.

(٥) المبسوط ٨ : ١٣٣.

١٤١

وهي عندنا على الظاهر المصرح به في جملة من العبائر (١) مجرد ( تمييز الحقوق ) والأنصباء بعضها عن بعض ، وليست بيعاً وإن اشتملت على ردّ ؛ لعدم افتقارها إلى صيغة ، وقبولها الإجبار ، وتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر ، والبيع ليس فيه شي‌ء من ذلك. واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات. واشتراك كل جزء يفرض قبلها بينهما واختصاص كل واحد بجزء معيّن وإزالة ملك الآخر بعدها بعوض مقدر بالتراضي ليس حد البيع حتى يدل عليه.

وتظهر الفائدة في عدم ثبوت الشفعة للشريك بها ، وعدم بطلانها بالتفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه التقابض في البيع ، وعدم خيار المجلس ، وقسمة الوقف من الطلق ، وغير ذلك.

( ولا يشترط حضور قاسم ) من قبل الحاكم ، بل ولا من قبلهما في صحتها ولزومها ، بلا خلاف ؛ لأنّ المقصود وصول كل حق إلى صاحبه ، فإذا حصل من الشركاء كفى ( بل هو أحوط ) لأنّه أبعد من التنازع ، خصوصاً إذا كان من قِبَل الإمام عليه‌السلام ، فإنّه كالحاكم يقطع التنازع بين المتقاسمين.

( وإذا عدّلت السهام ) بالأجزاء في متساويها كيلاً ، أو وزناً ، أو ذرعاً ، أو عدّاً بعدد الأنصباء ، أو بالقيمة في مختلفها ، كالأرض والحيوان وغيرهما ( كفت القرعة في تحقق القسمة ) ولزومها ، بلا خلاف فيما لو كان القاسم من قِبَل الإمام ، قالوا : لأنّ قرعته بمنزلة حكمه ، ولذا يشترط فيه العدالة والمعرفة ، فلا يعتبر رضاهما بعدها.

__________________

(١) كالقواعد ٢ : ٢١٨ ، وإيضاح الفوائد ٤ : ٣٦٦ ، والروضة البهية ٣ : ١١٣ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٥٠.

١٤٢

وأمّا لو تراضيا بقاسم ، أو تقاسمها بأنفسهما بالتعديل والإقراع ، ففي كفايتها عن الرضا هنا أيضاً مطلقاً ، أم لا بدّ من اعتباره بعدها كذلك ، أم الثاني إن كان قسمة ردّ ، وإلاّ فالأوّل ، أقوال.

خيرها أوسطها ، وفاقاً للشيخ والفاضل في التحرير (١) ؛ اقتصاراً فيما خالف الأصل الدال على عدم اللزوم وبقاء الشركة بحالها على المتيقن من الفتاوى ، وليس إلاّ اللزوم بقسمة قاسم الإمام أو غيره مع الرضا بعد القرعة لا مطلقاً.

خلافاً لإطلاق العبارة ، بل ظاهرها وصريح جماعة كالفاضل في الإرشاد والقواعد (٢) فالأوّل ، بل قال في الأخير بالاكتفاء بالرضا ولو من غير قرعة ، وتبعه الشهيدان في المسالك واللمعة (٣).

قيل : لصدق القسمة مع التراضي الموجبة لتمييز الحق (٤).

وهو حسن [ لو ورد (٥) ] نص معتبر بلزوم القسمة بقول مطلق ، ولم أجده ، وبه صرح أيضاً في الكفاية (٦). فدعوى إيجابها التمييز مطلقاً مع مخالفته الأصل محلّ نظر.

وبالجملة : يجب الوقوف في كل حكم مخالف للأصل لم يرد به النص بحيث يقتضيه خصوصاً أو عموماً على المتفق عليه المتيقن. وإلى ما ذكرناه يشير كلام فخر الإسلام في منع ما استدل به والده لمختاره من أنّ‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٣٣ ، التحرير ٢ : ٢٠٢.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٥٤ ، القواعد ٢ : ٢١٨.

(٣) المسالك ٢ : ٣٨٢ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١١٧.

(٤) قاله في الروضة ٣ : ١١٧.

(٥) في النسخ : لورود ، والظاهر ما أثبتناه.

(٦) الكفاية : ٢٧٣.

١٤٣

القرعة سبب التعيين ، حيث قال : إنّ القرعة إنّما تعيّن بحكم الحاكم ، أو تراضيهما بعدها ، أمّا لا مع أحدهما فيمنع أنّها سبب التعيين ؛ لأصالة بقاء الشركة (١).

وظاهره حيث اقتصر على المنع ولم يردّه قبوله.

وللدروس والروضة (٢) ، فالثالث ، ولعل مستنده الجمع بين الدليلين.

وهو ضعيف في الغاية ؛ لعموم مقتضاهما بلا شبهة ، ولا شاهد على الجمع من إجماع أو رواية ، هذا.

ويظهر من فخر الإسلام والفاضل المقداد (٣) عدم الإشكال بل والخلاف في اعتبار الرضا في قسمة الردّ ، حيث قالا بعد ذكر وجهي القولين بالاكتفاء والعدم : وهذا البحث إنّما هو في القسمة التي لا تشتمل على ردّ ، وأمّا إن اشتملت على ردّ فلا بُدّ من التراضي كما في الابتداء ، وكل قسمة يعتبر فيها التراضي بعد القرعة لا بد في التراضي من ذكر القسمة ، كأن يقول : رضيت بها.

( و ) اعلم أنّ ( كل ما يتساوى أجزاؤه ) وصفاً وقيمةً ، ويعبر عنه بالمثلي ، لو التمس أحد المتشاركين فيه القسمة وامتنع عنها الآخر ( يجبر الممتنع على قسمته ) جامداً كان ( كالحنطة والشعير ) ونحوهما من الحبوب والثمار ، أو مائعاً كالخلول والعسل والسمن والأدهان.

( وكذا ) يجبر على قسمة القيمي ، وهو كل ( ما لا يتساوى أجزاؤه إذا لم يكن في القسمة ضرر ) ولا ردّ ( ك‍ ) الدار المتفقة الأبنية و ( الأرض

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٦٩.

(٢) الدروس ٢ : ١١٧ ، الروضة ٣ : ١١٩.

(٣) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٦٩ ، التنقيح الرائع ٤ : ٢٦٣.

١٤٤

المتشابهة الأجزاء والخشب ) وغير ذلك ، ولا خلاف في دخول الإجبار في جميع ذلك ، على الظاهر المصرح به في الكفاية (١) ، ويظهر من غيره (٢) ؛ لأنّ للإنسان ولاية الانتفاع بماله ، والانفراد أكمل نفعاً ، ويسمّى قسمة إجبار.

( و ) أمّا ( مع الضرر ) أو الردّ فـ ( لا يجبر الممتنع ) على القسمة إن لزمه أحدهما بلا خلاف فيه أيضاً ، على الظاهر المصرح به في الكتاب المتقدم ؛ إذ لا ضرر ولا إضرار ، والردّ معاوضة محضة يستدعي التراضي ، ويسمّى قسمة تراض.

والتعليل الأخير وإن اقتضى منع دخول الإجبار في أصل القسمة لتضمنها شبه المعاوضة بل نفسها وإن كانت معاوضة على حدةٍ ، لا بيعاً ، ولا غيره ، إلاّ أنّه خارج بعدم الخلاف فيه كما مر ، بل الإجماع كما يظهر من بعض مَنْ تأخر (٣).

ولو لزمهما الضرر معاً أو الملتمس خاصّة وكان طلب القسمة معه يوجب سفهاً لم يجبر الممتنع أيضاً ، بل لم يجز له ولا للحاكم الإجابة ، بلا خلاف أجده ، ووجهه واضح تقدم هو وبعض ما يتعلق بالمقام من تحقيق الضرر والاختلافات فيه وغيره.

( النظر الرابع )

( في ) بيان ( الدعوى ) وما يتعلق بها ( وهي تستدعي ) أن نذكر هنا‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٧٣.

(٢) انظر المفاتيح ٣ : ٨٧.

(٣) انظر مجمع الفائدة والبرهان ١٠ : ٢١٩.

١٤٥

( فصولاً ) ثلاثة :

( الأول : في ) بيان ( المدّعى و ) قد اختلف الفقهاء في تفسيره ، فقيل : إنّه ( هو الذي يترك ) ويخلّى سبيله ( لو ترك الخصومة ) ولم يطالب بشي‌ء.

( وقيل : إنّه الذي يدّعي خلاف الأصل ، أو أمراً خفياً ) خلاف الظاهر ، ويقابله المنكر على التعريفين.

وظاهر العبارة هنا وفي الشرائع والقواعد والروضة (١) انحصار الخلاف في قولين ، وحكي التصريح به عن عميد الرؤساء في شرح القواعد ، فقال : وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين ، حكاهما المصنف ، وكذا الشيخ نجم الدين في الشرائع (٢). وهو ظاهر التنقيح (٣).

ولكن الظاهر من باقي الأصحاب كفخر الدين والشهيد في الدروس والمهذب والصيمري وشيخنا في المسالك وجملة ممن تبعه (٤) ، بل صريحهم أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة :

ثالثها : المعطوف بأو في العبارة خاصّة في مقابل الثاني وهو المعطوف عليه خاصّة. وربما ينسب إلى فخر الدين جعله هو المعطوف مع المعطوف عليه مردّداً بينهما كما في العبارة ، ولم أجده في الإيضاح.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٠٦ ، القواعد ٢ : ٢٠٨ ، الروضة ٣ : ٧٦.

(٢) كنز الفوائد ٣ : ٤٧١.

(٣) التنقيح الرائع ٤ : ٢٦٦.

(٤) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٢٣ ، الدروس ٢ : ٨٣ ، المهذّب البارع ٤ : ٤٨٢ ، غاية المرام ٤ : ٢٥١ ، المسالك ٢ : ٣٨٧ ؛ وانظر الكفاية : ٢٧٤ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٣٥ ، والمفاتيح ٣ : ٢٧٠.

١٤٦

ولو صحت النسبة كان الفرق بين القولين حينئذ انحصار الدعوى في مخالف الظاهر على الثاني ، وثبوتها بمخالفة الأصل أيضاً على الأوّل.

فظهر فساد توهم اتحادهما ؛ لتواردهما على ثبوت الدعوى بمخالفة الظاهر ، فلا شهادة في كلام الفخر من هذه الجهة على انحصار الخلاف في القولين ، مع أنّه صرح سابقاً بما قدّمنا إليه الإشارة.

وكيف كان ، القائل بالأوّل معروف ، وهو الماتن هنا وفي الشرائع والشهيدان في اللمعتين وغيرهم (١) ، ولعله المشهور. والقائل بغيره مطلقا غير معروف ، وإنّما ذكره الأصحاب قولاً ، ولم يسمّوا له قائلاً ، ومع ذلك لم يختاروا عدا ما ذكرنا من الأقوال شيئاً ، ولم يذكروا لشي‌ءٍ منها دليلاً. والتحقيق في مثله يقتضي الرجوع إلى العرف واللغة ؛ لأنّهما المحكّمان فيما لم يرد به نص في الشريعة.

فنقول : الدعوى لغة الطلب ، كما صرح به جماعة ، كفخر الدين في الإيضاح وشارحي الكتاب في المهذب والتنقيح (٢) ، ولعل القول الأوّل أنسب به ، وإن كان أعم منه ، ولعل العرف يساعده أيضاً ، بل ربما يساعد الثاني ، كما أشار إليه المقدس الأردبيلي رحمه‌الله فقال : الحق في معناه الأوّل ، وقريب منه الثاني ؛ لأنّه المتبادر عرفاً من المدّعى فيحمل عليه ؛ لما تقرّر من أنّه إذا لم يكن للّفظ حقيقة شرعية يحمل على العرفي (٣). هذا.

وأثر الاختلاف هيّن ، إذ لا يختلف موجبه غالباً ، كما إذا طالب زيد عمرواً بدين في ذمّته ، أو عين في يده فأنكر ، فزيد لو سكت ترك ،

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٠٦ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٧٦ ؛ وانظر القواعد ٢ : ٢٠٨.

(٢) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٢٣ ، المهذّب البارع ٤ : ٤٨٢ ، التنقيح الرائع ٤ : ٢٦٦.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١١٥.

١٤٧

ويخالف قوله الأصل ؛ لأصالة براءة ذمّة عمرو من الدين ، وعدم تعلق حق زيد بالعين ، قالوا : ويخالف قوله الظاهر من براءة عمرو.

وهو حسن مع قيام أمارات على براءته توجب ظهورها ، وإلاّ فظهورها ليس إلاّ من جهة الأصل ، ولعله غير الظهور المدّعى هنا فلا يقابل به.

وكيف كان ، عمرو منكر على جميع التقادير ؛ إذ لا يترك وسكوته ، ويوافق الأصل والظاهر على ما قالوه.

وقد يختلف ، كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول ، فقال الزوج : أسلمنا معاً فالنكاح باقٍ ، وقالت : مرتّباً فلا نكاح ، فهي على الأوّلين مدّعية ؛ لأنّها لو تركت الخصومة لتركت ، واستمر النكاح المعلوم وقوعه ، والزوج لا يترك لو سكت ؛ لزعمها انفساخ النكاح ، والأصل بقاؤه ، وعبّروا عنه بأصل عدم التعاقب ؛ لاستدعائها تقدم أحد الحادثين على الآخَر ، والأصل عدمه ، وعلى الظاهر الزوج مدّع ؛ لبعد التساوق ، فعلى الأوّلين يحلف الزوج ويستمرّ النكاح ، وعلى الثالث تحلف المرأة ويبطل. وكذا لو ادّعى الزوج الإنفاق مع اجتماعهما ويساره وديانته ، وأنكرته ، فمعه الظاهر ، ومعها الأصل (١).

( ويشترط ) فيه أي في المدّعى ( التكليف ) بالبلوغ وكمال العقل ( وأن يدّعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه ) بأن يكون وكيلاً ، أو وصيّاً ، أو وليّاً ، أو حاكماً ، أو أمينه ، فلو ادّعى الصغير أو المجنون أو من لا ولاية له عليه لم تسمع دعواه ، بلا خلاف في شي‌ء من ذلك أجده ، وبه‌

__________________

(١) انظر إيضاح الفوائد ٤ : ٣٢٤ ، والتنقيح الرائع ٤ : ٢٦٦ ، والروضة البهية ٣ : ٧٧.

١٤٨

صرح بعض الأجلّة (١) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى الأصل ، واختصاص إطلاق ما دل على سماع الدعوى وأحكامها من النص والفتوى بحكم التبادر وغيره بما إذا صدرت ممن اجتمعت فيه الشرائط المزبورة وغيرها. ويزيد الحجة على اعتبار التكليف تضمّن الدعوى أُموراً تتوقف عليه كإقامة البيّنة ونحوها.

( و ) من الدليل السابق يظهر وجه اشتراط ( إيراد الدعوى بصيغة الجزم ) إمّا بأن يصرّح به ، أو يطلق أنّ لي عليه كذا من دون تصريح بما يعرب عن عدم الجزم به من لفظ الظن ونحوه ؛ لرجوع الإطلاق إليه بحكم التبادر ، وبه صرّح في الدروس وغيره (٢).

( وكون المدّعى به مملوكاً ) ممّن يصح تملكه ، فلو قال : أظن الحق عليه ، أو أتّهمه ، أو قال : لي عليه خمر أو خنزير ونحوهما ، وكان مسلماً لم تسمع منه الدعوى بلا خلاف في الأخير ، وكذا في الأوّل إذا كان فيما لا يخفى.

وأمّا في غيره كالتهمة فقولان ، ظاهر إطلاق الماتن هنا وصريحه في الشرائع وصريح الفاضل المقداد في شرح الكتاب والكيدري وابن زهرة (٣) العدم ، ونسبه في الكفاية إلى المشهور (٤).

وفخر الدين والشهيدان في نكت الإرشاد والمسالك والروضة والمحقق الثاني (٥) كما حكي على الثاني ، وفاقاً منهم لبعض القدماء‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١١٥.

(٢) الدروس ٢ : ٨٤ ؛ وانظر مجمع الفائدة ١٢ : ١٢٤.

(٣) الشرائع ٤ : ٨٢ ، التنقيح الرائع ٤ : ٢٦٨ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٤) الكفاية : ٢٦٦.

(٥) فخر الدين في إيضاح الفوائد ٤ : ٣٢٨ ، غاية المراد ( مخطوط ) الورقة : ٢٥٠ ، المسالك ٢ : ٣٦٦ ، الروضة ٣ : ٧٩ ، رسائل المحقق الكركي ٢ : ٢١٩ ، ٢٢٠.

١٤٩

كابن نما (١).

وتردد فيه الفاضل في القواعد والإرشاد والتحرير (٢) ، وهو ظاهر الصيمري وغيره (٣).

ينشأ : ممّا قدمناه ، مضافاً إلى أنّ الدعوى توجب التسلّط على الغير بالإلزام بالإقرار ، أو بالإنكار ، أو التغريم ، وهو ضرر عليه منفي ، وأنّها في معرض أن يتعقّبها يمين المدّعى أو القضاء بالنكول وهما غير ممكنين هنا ؛ لاستحالة الحلف على الظن ، وامتناع ثمرة النكول ؛ إذ لا يستحل الغريم أن يأخذ بمجرد إنكار المدّعى عليه ونكوله عن اليمين ؛ لاحتمال كونه للتعظيم أو غيره.

ومن عموم قوله تعالى ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (٤) ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (٥) وأنّ الأصل عدم الاشتراط ، وأنّه لو كان الجزم شرطاً لم يكف اللفظ المحتمل عند الحاكم ، بل كان يجب عليه الاستفسار فيه ، فيقول : هل أنت جازم أم لا؟ والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الملازمة : أنّ الجهل بالشرط يستلزم عدم الجزم بالمشروط ، فلا يحصل الجزم بسماع الدعوى.

وفي جميع هذه الأدلة الأخيرة نظر ؛ لمنع العموم في الآية ، وإنّما غايتها الإطلاق الغير المعلوم انصرافه إلى محل النزاع ، ولو سلّم فلا دلالة‌

__________________

(١) حكاه عنه في الشرائع ٤ : ٨٢.

(٢) القواعد ٢ : ٢٠٨ ، الإرشاد ٢ : ١٤٤ ، التحرير ٢ : ١٨٦.

(٣) غاية المرام ٤ : ٢٢٩ ، وانظر المفاتيح ٣ : ٢٥٩.

(٤) المائدة : ٤٩.

(٥) النساء : ٦٥.

١٥٠

فيها على كون الحكم فيه سماع الدعوى ، فقد يكون الحكم فيه ردّها كسائر ما يردّ فيه الدعاوي ولم تسمع إجماعاً.

والتمسك بأصالة عدم الاشتراط حسن حيث يكون إطلاق ينفع ، أو عموم ، ووجود كل منهما هنا غير معلوم ، وعموم الآية على تقدير تسليمه دليل آخر ، فلا يتم به الأصل.

واشتراط الجزم إنّما هو في الصيغة لا في نفس الأمر والعقيدة ، كما صرح به الشهيدان في النكت والمسالك ، والصيمري في شرح الشرائع (١) ، قالوا : فإنّه من المعلوم أنّه إذا كان للإنسان بيّنة تشهد له بالحق وهو لا يعلم به له أن يدّعي عند الحاكم لتشهد البيّنة له.

ولعله لهذا نسب الجزم المعتبر في العبارة وغيرها إلى الصيغة خاصّة ، تنبيهاً على عدم اعتباره في العقيدة ، وحينئذ فلا يجب على الحاكم الاستفسار بعد ظهور الصيغة في الجزم وإن احتمل خلافه حيث لم يصرح به ؛ لما عرفت من رجوع الإطلاق إليه ، هذا.

ولو سلمت هذه الأدلة فمفادها سماع الدعوى مطلقاً ولو لم يكن هناك تهمة أصلاً ، ولم يقولوا به ، بل ظاهرهم الإطباق على خلافه ، وإن حكى القول بالإطلاق شيخنا الشهيد الثاني (٢) ، فإنّ قائله غير معروف ولا في كلام أحد عدا شيخنا مذكور ، ولعله من العامّة ، وعلى تقدير كونه منّا يصح النقض أيضاً جدلاً مع هؤلاء الجماعة ، ولو ذبّ عنه بالإجماع على التقييد لم ينفع ؛ لإيراثه الوهن في أدلتهم ولو بالإضافة إلى ما تقدم من الأدلة المعارضة.

__________________

(١) غاية المراد ( مخطوط ) الورقة : ٢٥٠ ، المسالك ٢ : ٢٦٦ ، غاية المرام ٤ : ٢٢٨.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٧.

١٥١

وبالجملة : الظاهر ما عليه الماتن ، والله سبحانه هو العالم.

قالوا : وعلى الثاني إن حلف المنكر أو قضينا بالنكول فلا كلام ، وإن لم نقض إلاّ بردّ اليمين لم تردّ هنا ؛ لعدم إمكانه ، بل توقف الدعوى (١).

ومنه يظهر ما في استدلال الشهيد في النكت (٢) على اختياره له بأنّ فيه حسماً لمادة النزاع ؛ لعدم انحسامها على تقدير النكول عن اليمين ، وعدم إمكان الردّ والقضاء بالنكول.

نعم تنحسم على القول بالقضاء به ، وهو لا يقول به ، فلا يوافق دليله مختاره ، إلاّ أن يلتزم بحبس المنكر إلى أن يقرّ أو يحلف ، كما ذكره الصيمري (٣) ، ولكنّه لم يذكره هو ولا من عداه ، بل ظاهرهم إيقاف الدعوى ، وبه صرح بعضهم (٤) ، فتأمّل جدّاً.

مع أنّ حسم مادة النزاع غير منحصر في سماع الدعوى ؛ لإمكانه بردّها أيضاً كسائر ما يردّ فيه الدعاوي إجماعاً ، كما مضى (٥).

( و ) اعلم أنّ ( من كانت دعواه ) عقوبة كالقصاص ، وحدّ القذف ، فلا بُدّ من الرفع الى الحاكم ، بلا خلاف يعرف ، كما في الكفاية (٦).

وإن كانت ( عيناً ) وتيقن استحقاقها ( فله انتزاعها ) عن المنكر ولو قهراً ما لم يثر فتنة ، ولا يقف ذلك على إذن الحاكم بلا خلاف ؛ لأنّه عين ماله فلا حاجة الى الرجوع في تحصيله إلى غيره فإنّ « الناس مسلّطون على‌

__________________

(١) انظر المسالك ٢ : ٣٦٧ ، والكفاية : ٢٦٧ ، والمفاتيح ٣ : ٢٥٩.

(٢) غاية المراد ( مخطوط ) الورقة : ٢٥٠.

(٣) غاية المرام ٤ : ٢٣٠.

(٤) المسالك ٢ : ٣٦٧.

(٥) في ص ١٥١.

(٦) الكفاية : ٢٧٥.

١٥٢

أموالهم » (١) ولو أدّى إلى الفتنة فلا بُدّ من الرفع إليه أو إلى من يؤمن معه منها ؛ دفعاً لها.

( ولو كانت ديناً والغريم مقرّ ) به ( باذل ) له غير مماطل ، أو مماطل ، أو غير باذل مع إمكان الانتزاع بالحاكم ( أو ) كانت دعواه دينا ( مع جحوده ) أي الغريم ، ولكن له ( عليه ) أي على الدين ( حجّة ) يتمكن معها من إثباته عليه عند الحاكم وانتزاعه منه بإعانته ( لم يستقل المدّعى ) حينئذ ( بالانتزاع من دون ) إذن الغريم ، أو ( الحاكم ) حيث لا يمكن إذنه ، بلا خلاف فيه فيما عدا الأخير.

للأصل ، مع فقد ما يوجب الخروج عنه عدا تعلق حقه بذمّته ، وليس بمخرج ؛ لأنّه أمر كلّي وللمديون التخيير في تعيينه من ماله ، فلا يتعين في شي‌ء منه بدون تعيينه ، أو تعيين الحاكم حيث لا يمكن تعيينه بمماطلته أو عدم بذله.

ولا يتصور اعتبار إذن الحاكم إلاّ في هاتين الصورتين ، دون ما فرضه الماتن من بذل الغريم ؛ لأنّ الحاكم إنّما ( يتولي عن ) (٢) الممتنع ومن في معناه.

اللهم إلاّ أن يتصور حينئذٍ في غيبة الغريم مع حلول الدين وتضرّر المدّعى بالتأخير إلى حضوره ، فيكون في معنى الممتنع ، فيندفع به الاعتراض المتقدم ، وإن أورده شيخنا في المسالك (٣) على عبارة الماتن في الشرائع (٤) القريبة من عبارته هنا ، فتأمّل.

__________________

(١) عوالي اللئالئ ١ : ٢٢٢ / ٩٩ ، ٤٥٧ / ١٩٨ ، وج ٢ : ١٣٨ / ٣٨٣ ، وج ٣ : ٢٠٨ / ٤٩.

(٢) في « ح » : يلي على.

(٣) المسالك ٢ : ٣٨٨.

(٤) الشرائع ٤ : ١٠٨.

١٥٣

وأمّا عدم الاستقلال في الأخير فمختار الماتن هنا خاصّة ؛ للاقتصار فيما خالف الأصل على موضع الضرورة ، وهي هنا منتفية ؛ لإمكان التوصل إلى الحق بالحكم بمعونة البيّنة ؛ ولأنّ الممتنع عن وفاء الدين يتولّى القضاء عنه الحاكم ويعيّن من أمواله ما يشاء ، ولا ولاية لغيره عليه.

خلافاً للأكثر ، على الظاهر المصرح به في المسالك (١) ، بل المشهور كما في كلام الصيمري والكفاية (٢) ، وعليه عامّة المتأخّرين حتى الماتن في الشرائع (٣) ، وهو الأظهر ؛ عملاً بعموم الأدلة التي ستذكر ، بل صريح بعضها كما سيظهر ، وبها يخصّ الأصل الذي مرّ ، سيّما بعد التأيّد بأصالة عدم إلزام المدّعى بكلفة الترافع إلى الحاكم ، وإقامة البيّنة وإحضارها مع تشتّتها ، واحتمال ردّ الحاكم لها أو غيره ممّا يوجب سقوط الحكم كما قيل (٤) ، فتأمّل.

والعجب من بعض الأصحاب (٥) حيث استدل للمختار بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لما قالت له هند : يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل شحيح وأنّه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلاّ ما أخذت منه سرّاً وهو لا يعلم ، فهل عليَّ في ذلك شي‌ء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (٦).

فإنّ فيه : أنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها بذلك لعله إذن منه لها من قِبَل ولايته على زوجها الممتنع ، إلاّ أن يمنع بتوقفه على استئذان هند إيّاه في ذلك ، والحال أنّها قد سألته ، والسؤال يقتضي كون الأمر جواباً عن مسألة لا إذناً عن‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٨٨.

(٢) غاية المرام ٤ : ٢٥٤ ، الكفاية : ٢٧٥.

(٣) الشرائع ٤ : ١٠٩.

(٤) انظر كشف اللثام ٢ : ٣٤٣.

(٥) المسالك ٢ : ٣٨٨.

(٦) صحيح مسلم ٣ : ١٣٣٨ / ٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٦٩ / ٢٢٩٣.

١٥٤

الممتنع ورخصته.

وفيه نظر.

( ولو فات أحد الشروط ) المتقدمة بأن كانت دعواه عيناً أو ديناً ، والغريم منكر لا حجة له عليه ، أو مقرّ غير باذل ، أو باذل مماطل مع عدم إمكان الانتزاع بالحاكم ( وحصل للغريم في يد المدّعى مال كان له المقاصّة ) وأخذه عوضاً عن حقه من غير زيادة ، بلا خلاف أجده فيما إذا لم يكن مال وديعة ، وبه صرّح جماعة (١) ، بل يفهم الإجماع عليه من الغنية (٢) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى قوله سبحانه ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (٣) الآية ، وقوله عزّ شأنه ( فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) (٤) وفحوى النبوي : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه » (٥).

وخصوص النصوص المستفيضة التي كادت تكون متواترة ، منها زيادة على ما مرّ إليه الإشارة في بحث سقوط الدعوى بإحلاف المنكر ولو أُقيم عليها البيّنة بعده (٦) الصحاح المستفيضة :

منها : إنّي أُعامل قوماً فربما أرسلوا إليَّ فأخذوا منّي الجارية والدابّة‌

__________________

(١) منهم المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة ٩ : ١٢٦ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٧٥ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ١٣٢.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٩٢.

(٣) البقرة : ١٩٤.

(٤) البقرة : ١٩٤.

(٥) مسند أحمد ٤ : ٣٨٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨١١ / ٢٤٢٧ ، سنن أبي داود ٣ : ٣١٣ / ٣٦٢٨ ، الوسائل ١٨ : ٣٣٣ أبواب الدين والقرض ب ٨ ح ٤.

(٦) راجع ص ٧٧.

١٥٥

فذهبوا بها منّي ، ثمّ يدور لهم المال عندي ، فآخذ منه بقدر ما أخذوا منّي؟ فقال : « خذ منه بقدر ما أخذوا منك ولا تزد عليه » (١).

ومنها : إنّي أُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها ، والدابّة الفارهة فيأخذونها ، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ فقال : « خذ مثل ذلك ولا تزد عليه » (٢) ونحوه آخر (٣).

والحسنان كالصحيحين : قلت : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي لو أن وقع له قِبَلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال : فقال : « نعم ، ولهذا كلام » قلت : وما هو؟ قال : « يقول : اللهم إنّي لم آخذه ظلماً ولا خيانة ، وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي ، ولم أزدد عليه شيئاً » (٤).

ولا يقدح تضمّنهما جواز القصاص مع الحلف ، واعتبارهما الدعاء المزبور ؛ لاحتمال حمل الأوّل على الحلف من غير استحلاف ، كما تقدم في البحث السابق (٥) ، والثاني على الاستحباب ، كما هو ظاهر الأصحاب ؛ لخلوّ أكثر أخبار المسألة الواردة ظاهراً في بيان الحاجة عنه بالمرّة ، مع اختلاف المتضمن له في بيان الكيفية ، ففي بعض كما مرّ ، وفي آخر يقول : « اللهم‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١١٥ / ٤٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ذيل الحديث ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤٧ / ٩٧٨ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ذيل الحديث ١.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٣٨ / ٩٣٩ ، الوسائل ١٧ : ٢١٤ أبواب ما يكتسب به ب ٥١ ح ٧.

(٤) الفقيه ٣ : ١١٤ / ٤٨٥ ، التهذيب ٦ : ٣٤٨ / ٩٨٢ ، الإستبصار ٣ : ٥٢ / ١٦٨ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٣ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٤.

(٥) راجع ص ٧٩.

١٥٦

إنّي لم آخذ ما أخذت منه خيانةً ولا ظلماً ولكني أخذته مكان حقي » (١).

وفي الفقيه : وفي خبر آخر : « إن استحلفه على ما أخذ منه فجائز له أن يحلف إذا قال هذه الكلمة » (٢).

وظاهره اعتبار الدعاء لجواز الحلف لا لأصل جواز الأخذ ، كما هو ظاهر الأخبار المتقدمة ، فهذا أيضاً اختلاف آخر ، مع قصور أسانيد الكل ، وعدم مقاومته لما مرّ من وجوه عديدة تظهر لمن تدبّر ، ومع ذلك فهو أحوط ؛ حملاً للمطلق على المقيد ، وفاقاً للصدوق في الفقيه ، والشيخ في التهذيب ، إلاّ أن ظاهرهما التعيين ، وفيه نظر.

( و ) مقتضى إطلاق النصوص والفتاوي ، بل ظاهرهما وصريح جملة منهما عدم الفرق في الحكم بين ما ( لو كان ) المال المقتص منه ( من غير جنس الحق ) أو من جنسه ، قالوا : ويتخير في الأوّل بين أخذه بالقيمة العادلة فيما بينه وبين الله تعالى ، وبين بيعه وصرفه في جنس الحق ، ويستقل بالمعاوضة كما يستقل بتعيين أحد الفردين المخير بينهما.

قيل : والرجوع إلى الحاكم في ذلك أولى (٣). ولا ريب فيه إذا لم يخف به على حقه من التلف أصلاً.

وهل يتعين عليه أخذ الجنس إذا اجتمع مع غيره؟ ظاهر إطلاق الأدلة كالعبارة ونحوها العدم ، خلافاً للشهيدين وغيرهما (٤) ، فيتعين ، وهو أحوط ، وإن كان في تعيينه نظر.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١١٤ / ٤٨٦ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ذيل الحديث ٥.

(٢) الفقيه ٣ : ١١٤ / ٤٨٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٦.

(٣) قاله في المسالك ٢ : ٣٨٩ ، والمفاتيح ٣ : ١٣٢.

(٤) الدروس ٢ : ٨٥ ، المسالك ٢ : ٣٨٩ ؛ وانظر المفاتيح ٣ : ١٣٢.

١٥٧

وأمّا الوديعة ففي جواز الاقتصاص منها مع الكراهة قولان :

أوّلهما ظاهر إطلاق المتن ونحوه ، وصريح الشرائع ، والشيخ في التهذيبين ، والحلّي في السرائر ، والفاضل في الإرشاد والمختلف ، والصيمري في شرح الشرائع ، والفاضل المقداد في التنقيح ، والشهيدين في النكت والمسالك ، وفيه وفي الكفاية أنّه عليه أكثر المتأخّرين (١).

وهو كذلك ، بل لعله عليه عامّتهم ؛ لإطلاق الأدلة ، بل عمومها الناشئ من لفظة « مَنْ » في الآية ، ومن ترك الاستفصال في الأخبار المتقدمة وغيرها ، كالأخبار المتقدمة (٢) في البحث المتقدم إليه الإشارة.

والخبرين ، في أحدهما : عن الرجل يكون له على الرجل [ الدين ] (٣) فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده ، أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال : « نعم » (٤).

وفي الثاني : إنّه كان لي على رجل دراهم ، فجحدني ، فوقعت له عندي دراهم ، فأقبض من تحت يدي مالي عليه؟ وإن استحلفني حلفت أن ليس له عليّ شي‌ء؟ قال : « نعم » (٥) الخبر ، هذا.

مضافاً إلى خصوص جملة من المعتبرة ، ومنها : رواية هند المتقدمة ،

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٠٩ ، الاستبصار ٣ : ٥٣ ، التهذيب ٦ : ٣٤٩ ، السرائر ٢ : ٣٧ ، الإرشاد ٢ : ١٤٣ ، المختلف : ٤١٢ ، غاية المرام ٤ : ٢٥٤ ، التنقيح ٤ : ٢٦٩ ، غاية المراد ( مخطوط ) الورقة : ٢٤٩ ، المسالك ٢ : ٣٨٩ ، الكفاية : ٢٧٥.

(٢) في ص : ٧٧.

(٣) في النسخ : العين ، وما أثبتناه من المصادر.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٩ / ٩٨٦ ، الإستبصار ٣ : ٥١ / ١٦٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ١٠.

(٥) التهذيب ٨ : ٢٩٣ / ١٠٨٣ ، الوسائل ٢٣ : ٢٨٥ كتاب الأيمان ب ٤٧ ح ١.

١٥٨

بناءً على أنّ مال الرجل في يدي امرأته كالوديعة (١).

وأظهر منها الخبر : عن رجل دفع إليه مال ليصرفه في بعض وجوه البرّ ، فلم يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمره به ، وقد كان له عليه مال بقدر هذا المال ، فقال : هل يجوز لي أن أقبض مالي أو أردّه عليه وأقتضيه؟ فقال : « اقبض مالك مما في يدك » (٢).

وأظهر منهما خبران آخران ، بل هما صريحان ، أحدهما الصحيح : أنّ شهاباً ما رآه أي أبا العباس في رجل ذهب له ألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العباس : فقلت له : خذها مكان الألف الذي أخذه منك ، فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبد الله عليه‌السلام فذكر له ذلك ، فقال : « أمّا أنا فأحبّ إليّ أن تأخذ وتحلف » (٣).

ومحبته عليه‌السلام ذلك مع الاتفاق على المرجوحية غير قادح في الحجية بعد احتمال خصوصية في واقعة شهاب أوجبت تلك المحبة. ودفعه بالأصل حسن إن لم يستلزم منه طرح الرواية المعتبرة وخروجها عن الحجية بالكلية ، وأمّا مع الاستلزام كما فيما نحن فيه فلا ؛ لعموم ما دل على حجية أمثال الرواية. مع أنّ فيه جمعاً بين الأدلة.

وفي الثاني : رجل غصب رجلاً مالاً أو جاريةً ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه ، أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب : « نعم يحل له ذلك إن كان بقدر حقه ، وإن كان أكثر فليأخذ منه‌

__________________

(١) راجع ص ١٥٥.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤٨ / ٩٨٤ ، الإستبصار ٣ : ٥٢ / ١٧٠ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٨.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤٧ / ٩٧٩ ، الإستبصار ٣ : ٥٣ / ١٧٤ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٢.

١٥٩

ما كان عليه وليسلّم الباقي إليه إن شاء الله » (١).

وقصور سنده إن كان كغيره منجبر بالشهرة العظيمة المتأخّرة ، مع أنّ سند هذا ربما استظهر فيه الصحة ، فهذا القول لا يخلو عن قوّة.

خلافاً للصدوق في الفقيه ، والشيخ في النهاية بل أكثر كتبه كما في المختلف ، والتقي والحلبي (٢) ، والكيدري ، وأبي علي الطبرسي ، وابن زهرة العلوي ، فاختاروا المنع (٣) ، وادعى الأخير عليه إجماع الإمامية ، ومال إليه بعض متأخّري متأخّري الطائفة (٤) ..

له ، وللكتاب ، والسنّة المستفيضة الآمرة بردّ الأمانة ، وخصوص المعتبرة ، ففي الصحيح : عن الرجل يكون لي عليه حق فيجحدنيه ، ثم يستودعني مالاً ، أَلي أن آخذ مالي عنده؟ قال : « لا ، هذه خيانة » (٥).

وفيه : « من ائتمنك بأمانة فأدّها إليه ، ومن خانك فلا تخنه » (٦) فتأمّل.

وفي القريب منه بابن أبي عمير الراوي عن موجب قصوره ، وهو ممن قد أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه من رواياته (٧) ـ : أنّ‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٤٩ / ٩٨٥ ، الإستبصار ٣ : ٥٣ / ١٧٣ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٩.

(٢) كذا في النسخ ، ولعل المراد بالحلبي هو القاضي ابن البراج.

(٣) الفقيه ٣ : ١١٥ ، النهاية : ٣٠٧ ، الخلاف ٣ : ٤٦١ ، المختلف : ٤١٢ ، الكافي في الفقه : ٣٣١ ، وحكاه عن القاضي في المختلف : ٤١٢ ، وعن الكيدري في غاية المراد ( مخطوط ) الورقة : ٢٤٩ ، المؤتلف من المختلف ٢ : ٥٧٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٩٢.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ١٢٦ و ١٢ : ١٠٧ ١١١ ، وانظر المفاتيح ٣ : ١٣٢.

(٥) الكافي ٥ : ٩٨ / ٢ ، الفقيه ٣ : ١١٤ / ٤٨٣ ، التهذيب ٦ : ١٩٧ / ٤٣٨ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ١١.

(٦) الفقيه ٣ : ١١٤ / ٤٨٤ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٦ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ١٢.

(٧) رجال الكشي ٢ : ٨٣٠.

١٦٠