رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

بها من المقذوف قولان ، أحدهما وهو الذي اختاره الشيخ في المبسوط (١) : أنّها تسمع ترجيحاً لجانب حق الآدمي وهو المقذوف ، وفرع على قوله بأنّه لو ادّعى عليه بأنّه زنى لزمه الإجابة عن دعواه ويستحلف على ذلك ، فإن حلف سقطت الدعوى ولزم القاذف الحدّ ، وإن لم يحلف ردّت اليمين على القاذف فيحلف ويثبت الزنا في حقه بالنسبة إلى سقوط حدّ القذف ، ولا يحكم عليه بحدّ الزنا ؛ لأنّ ذلك حق الله تعالى محض.

واستشكله الماتن في الشرائع والفاضل في القواعد (٢) ؛ لعموم قوله عليه‌السلام : « لا يمين في حدّ » (٣) ويعضده خصوص ما مرّ من النصوص ، ولا ضعف فيه بإرسال ولا غيره كما عرفته ، هذا.

مضافاً إلى عموم ما دلّ على حدّ المفتري من الكتاب والسنّة ، وثبوته قبل حلفه بالردّ بهما وبالإجماع ، وسقوطه بحلف القاذف بعد ردّ اليمين إليه غير معلوم ، فيستصحب ، فعدم السماع هنا أيضاً أظهر ، وفاقاً للأكثر ، بل عامّة من وقفت على كلامه ممّن تأخّر ، عدا الشهيد في الدروس ، فقد استحسن قول الشيخ من حيث تعلقه بحق الآدمي ، وحمل نفي اليمين في الخبر على ما إذا لم يتعلّق بحقه (٤).

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا مرّ.

( ولو ادّعى الوارث لمورثه مالاً ) على غيره ( سمعت دعواه ) مطلقاً ( سواءً كان عليه ) أي على المورث ( دين يحيط بالتركة أو لم يكن ) بلا خلاف ظاهر ولا محكي ، حتى من القائل بعدم انتقال التركة إلى الوارث ،

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢١٦.

(٢) الشرائع ٤ : ٩١ ، القواعد ٢ : ٢١٢.

(٣) المتقدم في ص ٦٧٠٨.

(٤) الدروس ٢ : ٩٣.

١٢١

وأنّها باقية على حكم مال الميت مع إحاطة الدين بها.

ولا إشكال فيه على القول بالانتقال كما عليه الفاضل في جملة من كتبه (١) ، وشيخنا الشهيد الثاني وجمع ممّن تبعه (٢) ؛ لأنّها على هذا التقدير ماله فتسمع منه الدعوى على إثباته ، وإن منع عن التصرف فيها إلى أن يوفّى الدين إجماعاً كما في الإيضاح والمسالك (٣) ، عملاً بالعمومات أو الإطلاقات الدالة على سماع الدعوى من كل من يستحق المدّعى فيها ، وحجره عن التصرف فيه إلى الوفاء غير مانع ، كما أنّ حجره عنه في أمواله المرهونة أو المحجور عليه فيها غير مانع عن سماع الدعوى فيها.

وأمّا على القول الآخر الذي عليه الشيخ في المبسوط والخلاف كما حكاه عنه في الدروس (٤) ، والماتن في الشرائع والفاضل في بعض كتبه (٥) ، بل الأكثر كما في المسالك وغيره (٦) ، فوجهه بعد الاتفاق عليه على الظاهر ما ذكروه من أنّ الوارث قائم مقام المورث ، ومن ثَمّ لو أبرأه الغريم من الدين صارت التركة ملك الوارث ، فهو مالك لها بالقوة ، وعلى هذا فلو توجه اليمين مع الشاهد أو بردّ الغريم فالحالف هو الوارث ، وإن كان المنتفع بالمال هو المدين.

وفي هذا الوجه إشكال ، والعمدة هو الوفاق ، ويمكن أن يجعل وجهاً مرجّحاً للقول بالانتقال.

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢١٢ ، التحرير ٢ : ١٩٢.

(٢) المسالك ٢ : ٣٧٥ ؛ وانظر الكفاية : ٢٧٣ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٤٢ ، والمفاتيح ٣ : ٣١٧.

(٣) الإيضاح ٤ : ٣٤٢ ، المسالك ٢ : ٣٧٥.

(٤) الدروس ٢ : ٩٥ ، وهو في المبسوط ٨ : ١٩٣ ، والخلاف ٦ : ٢٨٢.

(٥) الشرائع ٤ : ٩٢ ، التحرير ٢ : ١٩٢.

(٦) المسالك ٢ : ٣١٦ ؛ وانظر الكفاية : ٢٩٢.

١٢٢

مضافاً إلى ما استدلوا به من استحالة بقاء ملك بغير مالك ، فإنّه لا ينتقل إلى الديّان إجماعاً كما حكاه جماعة (١) ، والميت غير مالك ، فينحصر المالك في الوارث.

ولا تنافي هذه الأدلّة الأدلّة الدالة على أنّ الإرث بعد الدين والوصية من الكتاب والسنّة كقوله سبحانه ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٢).

والصحيح : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في دية المقتول : أنّه يرثها الورثة على كتاب الله تعالى وسهامهم ، إذا لم يكن على المقتول دين » (٣) لإمكان حملها على الملك المستقر ، ولكنه خلاف الظاهر.

وتظهر الفائدة في النماء المتخلل بين الوفاة والوفاء وغيره ، دون حكم المسألة ؛ لما عرفته من الاتفاق عليه.

ولا ريب في تعيّن هذا القول لو سلمت مقدمات دليله الذي ذكرناه عنهم ، وإلاّ فيمكن أن يكون تركة الميت كدية ما يجنى عليه بعد موته ، فإنّها لا مالك لها ، بل تصرف عنه في وجوه القرب كما في الصحيح (٤) ، وعليه الأكثر ، بل في الغنية الإجماع عليه (٥). وحينئذٍ فالأصح ما عليه الأكثر عملاً بظواهر أدلتهم المتقدمة السليمة عما يصلح للمعارضة.

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣١٦ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٩٢ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٣١٧.

(٢) النساء : ١٢.

(٣) الكافي ٧ : ١٣٩ / ٢ ، الفقيه ٤ : ٢٣٢ / ٧٤٤ ، التهذيب ٩ : ٣٧٥ / ١٣٣٨ ، الوسائل ٢٦ : ٣٥ أبواب موانع الإرث ب ١٠ ح ١.

(٤) انظر الكافي ٧ : ٣٤٧ / ١ ، و ٣٤٩ / ٤ ، الفقيه ٤ : ١١٧ / ٤٠٤ ، التهذيب ١٠ : ٢٧٠ / ١٠٦٥ ، و ٢٧٣ / ١٠٧٣ ، الوسائل ٢٩ : ٣٢٤ أبواب ديات الأعضاء ب ٢٤ ح ١ ، ٢.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢١.

١٢٣

( و ) اعلم أنّه يجوز عندنا للحاكم أن ( يقضي بالشاهد ) الواحد ( واليمين في الأموال والديون ) مطلقاً ، وبالجملة ما يكون مالاً أو يقصد منه المال ، كما في عبائر الأكثرين كالمفيد ، والشيخ في الاستبصار والمبسوط والخلاف ، والديلمي ، والحلّي (١) ، قائلاً بأنّه مذهب جميع أصحابنا ، وعليه عامّة المتأخرين ومتأخريهم ، وفي جملة من عبائرهم نفي الخلاف عنه ، أو دعوى الإجماع عليه.

خلافاً للشيخ في النهاية والتقي وابن زهرة (٢) فخصوا القضاء بهما في الديون خاصّة ، وادّعى الأخير عليه إجماع الإمامية.

ولا ريب في وهنه إن أراد بالدين معناه الأخص ؛ إذ لم يذهب إليه عدا الناقل ونادر. مع رجوع الشيخ عنه في كتبه الثلاثة مدعياً عليه في الخلاف الإجماع (٣) ، ومع ذلك معارض بإجماع الحلّي والشيخ نفسه في الخلاف وغيره المتقدم المعتضد بما ذكرناه من عبائر الأكثرين ، وأنّه عليه عامّة المتأخّرين.

فلا إشكال في التعميم ، سيّما مع ما يظهر من الفاضل في المختلف (٤) من نفي الخلاف فيه ، حيث حمل الدين في كلام النهاية على المال مطلقاً ، بل ادّعى الإجماع فيه في محل آخر (٥) ، وهو ظاهر في ورود الدين بالمعنى العام الشامل له ، بل يظهر من مجمع البحرين (٦) وروده‌

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٧٢٦ ، الإستبصار ٣ : ٣٥ ، المبسوط ٨ : ١٨٩ ، الخلاف ٦ : ٢٧٤ ، الديلمي في المراسم : ٢٣٣ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٤٠.

(٢) النهاية : ٣٣٤ ، الكافي في الفقه : ٤٣٨ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٣) الخلاف ٦ : ٢٧٤.

(٤) المختلف : ٧٢٥.

(٥) المختلف : ٧١٦.

(٦) مجمع البحرين ٦ : ٢٥٢.

١٢٤

لمطلق الحقوق ، وعليه فيمكن حمل عبارة من عدا النهاية عليه أيضاً ، فيرتفع الخلاف.

ولعله لهذا لم يشر إلى الخلاف هنا أحد من الأصحاب.

ويدلُّ على العموم مضافاً إلى إطلاق كثير من النصوص خصوص كثير من النصوص ، ففي الصحيح في الفقيه : « لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد ، إذا علم منه خير ، مع يمين الخصم في حقوق الناس ، فأمّا ما كان من حقوق الله تعالى ورؤية الهلال فلا » (١).

وقريب منه النصوص الدالّة على قضائه عليه‌السلام بهما في الحقوق (٢) ، لكن بلفظ الحق المفرد ، وهو يشمل الدين وغيره من الأموال.

والصحيح المتضمن لتخطئة علي عليه‌السلام شريحاً في عدم قضائه بالشاهد واليمين في دعواه لدرع طلحة مشهور ، وهو طويل ، وقال في آخره : « فغضب عليّ عليه‌السلام ، وقال : خذوها » أي الدرع « فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات » (٣) وجعل عليه‌السلام منها عدم اعتباره الشاهد واليمين ، فقال : « ثمّ أتيتك بالحسن ، فقلت : هذا واحد ، ولا أقضي بشهادة رجل واحد ، حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة واحد ويمين ».

وما يقال في تضعيف دلالته من أنّه عليه‌السلام إنّما أنكر عليه قوله : ولا أقضي بشهادة واحد ، حيث أطلق ذلك في كل موضع ، فأراد عليه‌السلام أن ينبّهه على خطائه وأنّ هذا ليس بعام في سائر الحقوق ؛ لأنّ فيها ما يقضى‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٣ / ١٠٤ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ / ٧٤٦ ، الإستبصار ٣ : ٣٣ / ١١٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١٢.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٦٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٥ / ٥ ، الفقيه ٣ : ٦٣ / ٢١٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ / ٧٤٧ ، الإستبصار ٣ : ٣٤ / ١١٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٦.

١٢٥

فيه بشهادة واحد مع يمين صاحب الحق وهو الدين ، فكان ينبغي أن يستثنيه ولا يطلق القول إطلاقاً فلعله بعيد عن ظاهر سياق الرواية.

ولا تعارضها النصوص الدالة على كون متعلّق قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمير عليه‌السلام هو خصوص الدين ، كالصحيح : « كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجيز في الدين شهادة رجل واحد ، ويمين صاحب الدين ، ولا يجيز في الهلال إلاّ شاهدي عدل » (١) ونحوه آخر في قضاء عليّ عليه‌السلام (٢).

والموثق : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وذلك في الدين » (٣).

ونحوه الخبر : « قضى عليه‌السلام بشهادة رجل واحد ، مع يمين الطالب في الدين » (٤).

لضعف دلالة الصحيحين منها على عدم قضائه فيما عدا الدين. وما دل عليه منها ما بين قاصر أو ضعيف سنداً ؛ ومع ذلك فلا دلالة فيهما إلاّ على أنّ قضاءه عليه‌السلام بذلك كان في الدين ولم يقض به في غيره ، وهو أعم من عدم جواز القضاء به فيه ، فقد يجوز ولكن لم يتفق له عليه‌السلام ، فتأمّل.

ومع ذلك فهما كالصحيحين قاصران عن المقاومة لما قدمناه من‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٦ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ / ٧٤٠ ، الإستبصار ٣ : ٣٢ / ١٠٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٥ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٧٥ / ٧٤٩ ، الإستبصار ٣ : ٣٣ / ١١١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١١.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٥ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ / ٧٤٢ ، الإستبصار ٣ : ٣٢ / ١٠٩ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٥.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٧٣ / ٧٥٤ ، الإستبصار ٣ : ٣٢ / ١١٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١٠.

١٢٦

الأدلة من الإجماعات المنقولة ، والنصوص الكثيرة المعتضدة بالشهرة العظيمة التي هي الآن إجماع في الحقيقة ، فلتطرح هذه الروايات على تقدير وضوح دلالتها ، أو تحمل على ما حمل عليه عبارة النهاية ومن ضارعه كما فعله جماعة (١).

ومما ذكرنا ظهر المستند في حكم أصل المسألة ، مضافاً إلى دعوى الإجماع منّا عليه في الجملة في المسالك وغيره (٢) ، ونفى عنه الخلاف كذلك جماعة (٣) ، والنصوص به زيادة على ما قدمناه مستفيضة كادت تبلغ مع ما مضى التواتر ، بل لعلها متواترة ، هذا.

مضافاً إلى فحوى المعتبرة ، منها الصحيح : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين ، يحلف بالله تعالى أنّ حقّه لحقّ » (٤).

والموثق (٥) بل الصحيح (٦) وغيره (٧) : « إذا شهد لطالب الحق امرأتان ويمينه جائز » وبمضمونها أفتى أكثر الأصحاب ، وهو الأصح.

__________________

(١) انظر مجمع الفائدة ١٢ : ٤٣٥ ، والكفاية : ٢٧٢.

(٢) المسالك ٢ : ٣٧٥ ، مجمع الفائدة ١٢ : ٤٣٠ ، ٤٣٣ ، روضة المتقين ٦ : ١٥٠ ، مرآة العقول ٢٤ : ٢٢٩.

(٣) منهم الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٦٤ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٧٢.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨٦ / ٧ ، الفقيه ٣ : ٣٣ / ١٠٦ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ / ٧٣٩ ، الإستبصار ٣ : ٣٢ / ١٠٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٥ ح ٣.

(٥) الفقيه ٣ : ٣٣ / ١٠٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٥ ح ١.

(٦) في « ح » و « س » زيادة : كما في الروضة.

(٧) الكافي ٧ : ٣٨٦ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ / ٧٣٨ ، الإستبصار ٣ : ٣١ / ١٠٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٥ ح ٤.

١٢٧

خلافاً للحلّي (١) والماتن ، كما سيأتي مع التحقيق في المسألة في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.

( ولا يقبل ) الشاهد واليمين ولا يقضى بهما ( في غيره ) أي غير ما ذكر من المال وما يقصد منه ( مثل الهلال ، والحدود ، والطلاق ) المجرد عن المال ، ( والقصاص ) بلا خلاف ؛ للأصل ، مع اختصاص ما مرّ من الفتوى والنص بقبولهما في المال ، مع تصريح جملة من الثاني بالمنع عن قبولهما في الأوّلين ، وبعض منه وإن دل على قبولهما في مطلق حقوق الناس الشامل لنحو القصاص ، سيّما إذا قوبلت فيه بحقوق الله تعالى ، إلاّ أنّ ظاهر الأصحاب الإطباق على تقييده بالمال.

ويشهد له أخبار اختصاص قضائهما صلّى الله عليهما وآلهما بهما في الديون خاصّة بعد حملها عليه ، فلا إشكال في عدم جواز القضاء بهما فيما عداه ، وإن كان يظهر من الكفاية (٢) نوع تردّد له فيه لولا الإجماع.

وفي قبولهما في النكاح والخلع والعتق بأقسامه والوقف خلاف ، فبين :

مانع عنه فيما عدا الأخير ، كالشيخ في المبسوط والحلّي في السرائر (٣).

ومانع عنه في الأوّل ، كالديلمي والحلبي وفخر الدين وشيخنا الشهيد الثاني في الروضة (٤) ، مدّعياً هو كسابقه أنّه الأشهر بين الطائفة ، قالا : لأنّ‌

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٣٨.

(٢) الكفاية : ٢٧٢.

(٣) المبسوط ٨ : ١٨٩ ، السرائر ٢ : ١٤٢.

(٤) المراسم : ٢٣٣ ، الكافي في الفقه : ٤٣٩ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٣٤٨ ، الروضة ٣ : ١٠٢.

١٢٨

المقصود الذاتي منه الإحصان ، وإقامة السنّة ، وكفّ النفس عن الحرام ، والنسل ، وأمّا المهر والنفقة فإنّهما تابعان.

ومفصِّل فيه بين دعوى المرأة فالقبول ؛ لتضمنها المهر والنفقة ، ودعوى الرجل فالمنع ؛ للأصل ، كشيخنا في المسالك وبعض من تبعه (١) ، وفاقاً للفاضل في القواعد والتحرير (٢) ، وفي الروضة أنّ القائل بالقبول مطلقاً غير معلوم (٣).

ومتوقّف فيه ، كالماتن في الشرائع والشهيد في الدروس (٤).

ومانع عنه في الثاني ، كالفاضل في الإرشاد والتحرير والقواعد والشهيد في الدروس واللمعة (٥) ، ونسبه في الروضة إلى الأكثر (٦) ، واختار فيها وفي المسالك التفصيل فيه بين دعوى المرأة فالمنع ؛ لما مرّ ، ودعوى الرجل فالقبول ، قال : فإنّ دعواه يتضمن المال وإن انضمّ إليه أمر آخر ، فينبغي القطع بثبوت المال كما لو اشتملت الدعوى على الأمرين في غيره كالسرقة ، فإنّهم قطعوا بثبوت المال ، وهذا قويّ ، وجزم به في الدروس (٧).

ومانع عنه في الثالث ، وهو المشهور كما في المسالك والروضة قال : لتضمنه إثبات الحرية وهي ليست بمال (٨).

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٧٦ ؛ وانظر المفاتيح ٣ : ٢٦٤.

(٢) القواعد ٢ : ٢١٣ ، التحرير ٢ : ١٩٢.

(٣) الروضة ٣ : ١٠٢.

(٤) الشرائع ٤ : ١٣٦ ، الدروس ٢ : ٩٧.

(٥) الإرشاد ٢ : ١٦٢ ، التحرير ٢ : ١٩٢ ، القواعد ٢ : ٢١٣ ، الدروس ٢ : ٩٧ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٩٩.

(٦) الروضة ٣ : ٩٩.

(٧) الروضة ٣ : ١٠٠ ، المسالك ٢ : ٣٧٦ ، الدروس ٢ : ٩٨.

(٨) المسالك ٢ : ٣٧٦ ، الروضة ٣ : ١٠٠.

١٢٩

وقيل : يثبت بهما ؛ لتضمنه المال من حيث إنّ العبد مال للمولى ، فهو يدّعي زوال الماليّة (١).

وظاهر اللمعة عدم الخلاف في المنع عن القبول في التدبير والكتابة والاستيلاد ، وبذلك صرح في الروضة فقال : وظاهره عدم الخلاف فيها ، مع أنّ البحث آت فيها ، وفي الدروس ما يدل على أنّها بحكم العتق ، لكن لم يصرحوا بالخلاف فلذا أفردها (٢). انتهى.

واختلف كلام الفاضل في التحرير والقواعد ، ففي كتاب العتق والتدبير قطع بثبوتهما بهما من غير نقل خلاف (٣) ، وفي هذا الباب منه قطع بعدم ثبوتهما بهما كذلك (٤) ، وتوقف في الدروس مقتصراً على نقل القولين (٥).

ومانع عنه في الرابع ، إمّا مطلقاً كالشيخ في الخلاف (٦) ، أو مع عدم انحصار الموقوف عليه كالشهيدين في الدروس والمسالك وغيرهما (٧) ، وقاض بهما مطلقاً كالشيخ في المبسوط ، والحلّي في السرائر ، والحلبي ، والفاضل في القواعد ، وغيرهم (٨).

ومبنى الخلاف عندهم على أنّه هل ينتقل ملك الوقف إلى الموقوف‌

__________________

(١) انظر القواعد ٢ : ١٠١ ، والتحرير ٢ : ٧٨.

(٢) الروضة ٣ : ١٠٠ ، الدروس ٢ : ٩٧.

(٣) التحرير ٢ : ٨٢ ، القواعد ٢ : ١٠١.

(٤) التحرير ٢ : ١٩٢ ، القواعد ٢ : ٢١٣.

(٥) الدروس ٢ : ٩٧.

(٦) الخلاف ٦ : ٢٨٠.

(٧) الدروس ٢ : ٩٧ ، المسالك ٢ : ٣٧٧ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٣٤٤.

(٨) المبسوط ٨ : ١٩٠ ، السرائر ٢ : ١٤٢ ، الكافي في الفقه : ٤٣٨ ، القواعد ٢ : ٢١٣ ؛ وانظر الشرائع ٤ : ١٣٧.

١٣٠

عليه ، أم إلى الله عزّ وجلّ ، أمّا الأوّل مع الانحصار ، والثاني مع عدمه ، أو يبقى على ملك الواقف؟ أقوال ، والأكثر على الأوّل ، بل جعله الأوّلان مقتضى المذهب ، ونسبه الأخيران إلينا ، معلّلين مختارهم هنا بذلك ، فقالا : لأنّه عندنا ينتقل إلى الموقوف عليه.

وظاهرهم كما ترى دعوى الإجماع عليه ، ويفهم أيضاً من ابن زهرة في الغنية في كتاب الوقف (١) ، بل ادّعى على خروجه عن ملك الواقف إجماع الإماميّة كالشيخ في الخلاف (٢) ، وهذا هو الأظهر للإجماعات المنقولة حد الاستفاضة.

مضافاً إلى ما استدلوا عليه زيادة على ذلك من أنّه مال لا بدّ له من مالك ، واختصاص الموقوف عليه به دون غيره دليل على أنّه المالك. وكذا جميع أحكام الملك ، والامتناع عن نقله لا يخرجـ [ ـه ] عن ملكيته كأُمّ الولد والأموال المرهونة.

وأنّه قد يجوز بيعه في بعض الأحوال عند علمائنا ، وإنّما يجوز لو كان ملكاً له.

وأنّه يضمن باليد والقيمة. فلا ريب في جواز القضاء بهما في هذا.

ويبقى الكلام في الجواز فيما تقدمه ، وثبوته فيه مطلقاً غير بعيد ؛ لإطلاق جملة من النصوص المتقدمة وعموم بعضها بثبوت حقوق الناس بهما (٣) ، وهو يشمل ما نحن فيه جدّاً ، ويقتصر في تخصيصه بالمال على الإجماع المفيد له ، وليس في محل البحث ؛ لمكان الخلاف ، وإلى هذا‌

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٣.

(٢) الخلاف ٣ : ٥٣٩.

(٣) راجع ص ١٢٥.

١٣١

يميل في الكفاية (١).

وفيه نظر ؛ لظهور الإجماع من تتبع الفتاوي ودعواه في كلامهم على التخصيص المزبور كلّيّاً ، ولا ينافيه الخلاف هنا بعد ظهور كلمات القاضي بهما في محله في أنّ الباعث له على ذلك إنّما هو دعواه كون المتعلق مالاً ولو مآلاً ، وهو صريح في عدم الخروج عن مقتضى التخصيص المجمع عليه ، بل التزام به منه ، وحينئذٍ فلا بدّ من تحقيق معنى تعلق الدعوى بالمال الموجب لقبول القضاء بهما ، هل هو التعلق المقصود بالذات من الدعوى ، أو مطلق التعلق ولو بالاستتباع.

والذي يقتضيه النظر في كلماتهم أنّ المراد به إنّما هو الأوّل ، ولذا لم يثبتوا بهما النسب والرجعة بلا خلاف أجده ، بل عليه الوفاق في المسالك (٢) ، مع أنّهما يستتبعان المال من النفقة ونحوها بلا شبهة.

وحينئذٍ فالأقوى في النكاح عدم القبول مطلقاً ؛ لما مضى في كلام شيخنا الشهيد الثاني (٣) ، مضافاً إلى الأصل المعتضد بالشهرة. وكذا في الخلع لكن على التفصيل المتقدم في كلامه (٤) ، لما ذكره.

ولي في الثالث : توقف ، ولكنّ الأصل يقتضي العدم ، مع كونه أشهر.

( ويشترط ) تقدم ( شهادة الشاهد ) الواحد وإقامتها ( أوّلاً و ) كذا ( تعديله ) قبل اليمين ، ثم الإتيان بها.

( ولو ) عكس فـ ( بدأ باليمين ) قبل الشهادة أو التعديل ( وقعت لاغية ، ويفتقر إلى إعادتها بعد الإقامة ) للشهادة ، كما هنا وفي الشرائع‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٨٥.

(٢) المسالك ٢ : ٣٧٦.

(٣) راجع ص : ١٢٩.

(٤) راجع ص : ١٢٩.

١٣٢

والسرائر والتحرير والقواعد واللمعتين والدروس والمسالك (١) ، وعلّل الحكم فيه بأنّ وظيفة المدّعى بالأصالة إنّما هو البيّنة ، واليمين تتميم لها بالنص ، ثم حكى الخلاف فيه عن بعض العامة ، وهو ظاهر في عدم الخلاف فيه بيننا ، ولذا نسبه في المفاتيح إلينا (٢) ، فلو تمّ إجماعاً ، وإلاّ فللنّظر فيه مجال ، وفاقاً للكفاية (٣) ؛ لضعف التعليل ، وإطلاق النصوص وكثير من الفتاوي.

وإن أمكن الذبّ عنه بعدم العبرة به في أمثال ما نحن فيه ، أوّلاً : بوروده لبيان حكم آخر غير ما نحن فيه.

وثانيا : بتبادر التقديم منه ، سيّما مع اشتماله على التقديم الذكري ، وحينئذ فالوقوف مع الأصل يقتضي المصير إلى ما ذكروه ؛ أخذاً بالمتيقن ؛ والتفاتاً إلى ظهور الإجماع مما مرّ من العبائر ، ومن حال الحلّي وطريقته حيث لم يستند في فتاويه إلاّ على الإجماع ونحوه من الأُصول القطعية.

( ولا يحلف مع عدم العلم ) بما يحلف عليه ، لأنّ الحلف من شرطه الجزم به ، وهو يتوقف على العلم بكونه حقاً له على وجه يتميّز عن غيره وإن لم يعلمه مفصّلاً ، فلا يجوز له الحلف بقول الشاهد ، ولا بما يجده مكتوباً بخطّه ، أو خطّ مورثه ، وإن أمن التزوير ما لم يحصل العلم.

( ولا يثبت مال غيره ) فلو ادّعى غريم الميت مالاً له على آخر مع شاهد فإن حلف الوارث ثبت ، وإن امتنع لم يحلف الغريم ، ولا يجبر‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٩٢ ، السرائر ٢ : ١٤١ ، التحرير ٢ : ١٩٣ ، القواعد ٢ : ٢١٣ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٠٢ ، الدروس ٢ : ٩٨ ، المسالك ٢ : ٣٧٦.

(٢) المفاتيح ٣ : ٢٦٤.

(٣) الكفاية : ٢٧٢.

١٣٣

الوارث عليه ، وكذا لو ادّعى المرتهن رهناً وأقام شاهداً واحداً أنّه للراهن لم يحلف ؛ لأنّ يمينه لإثبات مال الغير ، فلم يجز ، بلا خلاف فيه وفي السابق ، بل ظاهر المسالك وغيره (١) كونه مجمعاً عليه بيننا.

والأصل فيه بعده الأصل ، مع عدم ما يدل على ثبوت الحق بيمين غير المستحق عدا إطلاق بعض النصوص ، وفي شموله لنحو محل البحث نظر ؛ لنظير ما مرّ قريباً من التبادر وغيره ، فتدبّر. فلا وجه للتأمّل فيه كما اتفق لبعض من تأخّر (٢).

وهنا‌ ( مسألتان : الاولى : لا ) يجوز أن ( يحكم الحاكم بإخبار حاكم آخر ) أي لا يمضي ولا ينفذ حكمه في واقعة إذا أنهاه إليه بإخباره ( ولا بالبيّنة ) (٣) ( بثبوت الحكم ) المزبور ( عند غيره ) وهو الحاكم الآخر.

ولو اكتفى بالضمير وأسقط المضاف كان أخصر وأوضح.

ولا بكتابة إليه مطلقاً ، إجماعاً في الثلاثة لو كان المحكوم به شيئاً من حقوق الله سبحانه ؛ لبنائها على التخفيف ؛ ولزوم درئها بالشبهة ؛ وعدم ثبوتها بالإقرار ولو في الجملة.

وكذا لو كان من حقوق الناس في الإنهاء بالكتابة ، بلا خلاف أجده إلاّ من الإسكافي (٤) ، فأوجب الإنفاذ بها على الحاكم الثاني.

وهو شاذّ ، بل على خلافه الإجماع في كثير من الكتب كالسرائر والتحرير والمختلف والقواعد وغيرها من كتب الأصحاب (٥) ، وهو الحجة‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٧٧ ؛ وانظر الكفاية : ٢٧٣.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٠٣.

(٣) في المطبوع من المختصر : ٢٨٣ : بقيام البيّنة.

(٤) حكاه عنه في المختلف : ٧٠٦.

(٥) السرائر ٢ : ١٧٦ ، التحرير ٢ : ١٨٨ ، المختلف : ٧٠٦ ، القواعد ٢ : ٢١٦ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٣٤٧ ، والمفاتيح ٣ : ٢٦٩.

١٣٤

على ضعفه. ولا يقدح فيها خروجه ؛ لمعلومية نسبه.

مضافاً إلى الخبرين : « أنّ عليّاً عليه‌السلام كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حدّ ولا غيره حتى وليت بنو أُمية ، فأجازوا بالبيّنات » (١).

وضعفهما منجبر بالشهرة العظيمة ، والإجماعات المحكية ، والأدلة القاطعة من الكتاب والسنّة المانعة عن العمل بالمظنّة ، بناءً على أنّ الكتابة لا تورث العلم ؛ لاحتمالها التزوير فيها ، أو عبث الكاتب بها وعدم قصده ما فيها.

فلا ريب في ضعف ما اختاره ، وإن مال إليه بعض متأخّري متأخّري الطائفة ، قائلاً : إنّه قد يحصل الظن المتاخم للعلم أقوى من الذي حصل من الشاهدين ، بل العلم بالأمن من التزوير ، وانّه كتب قصداً لا غير ، فإذا ثبت بأيّ وجه كان مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم بأنّ القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا يجب إنفاذه وإجراؤه من غير توقف ، ويكون ذلك مقصود ابن الجنيد. ويمكن أن لا ينازعه أحد ، ويكون مقصود النافي المنع في غير تلك الصور ، بل الصورة التي لم تكن مأمونة من التزوير ، وعلى تقديره لم يكن معلوماً كونه مكتوباً قصداً ، ولهذا يجوز العمل بالمكاتبة في الرواية ، وأخذ المسألة والعلم والحديث من الكتاب الصحيح عند الشيخ المعتمد ، كما جوّزوه في الأُصول لنقل الحديث (٢). انتهى.

وفيه نظر ؛ لأنّ ذلك فرع قيام دليل قاطع على جواز العمل بالظن‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٠٠ / ٨٤٠ ، ٨٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٨ ح ١ وذيله.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢٠٩.

١٣٥

مطلقا ، ولم نجده في نحو محل البحث مما يتعلق بموضوعات الأحكام التي لم تتوقف عليها مطلقاً ، ولو كان الظن للعلم متاخماً.

ومجرد كون الظن بالكتابة أقوى من الظن الحاصل من شهادة الشاهدين لا يوجب قطعيته ولا حجّيته إلاّ على تقدير أن يكون حجّيتها من حيث إفادتها المظنّة ، وهو ممنوع ، بل كلمة القائلين بحجّيتها وسماعها هنا مطبقة على أنّها من جهة الأدلة الأربعة التي سيأتي ذكرها ، وهي أدلة قاطعة ، أو ظنّية ظنّاً مخصوصاً مجمعاً عليه ، ومثلها لم يقم على اعتبار ظنّ الكتابة ، بعد إمكان دفع الضرورة التي هي الأصل في تلك الأدلة بالإشهاد على الحكم ، وإقامة البيّنة وإنفاذ الحاكم الثاني الحكم بها.

وبالجملة : لو كان السبب لاعتبار شهادة الشاهدين هو إفادتها المظنّة أمكن ما ذكره ، أمّا لو كان قضاء الضرورة وغيره مما هو كالدليل القاطع فلا وجه له ، ولا لقياس الكتابة بالشهادة ، ولا بالاكتفاء بالرواية المكاتبة وأخذ المسألة ونحوهما مما ذكره ؛ لأنّ مستند الاكتفاء بهذه الأُمور المعدودة في نحو الأحكام الشرعية إنّما هو من حيث قضاء الضرورة ، وانسداد باب العلم بها بالكلية ، وعدم إمكان تحصيلها إلاّ بالمظنّة ، وأنّ عدم اعتبارها حينئذ يوجب إمّا الخروج عن التكليف ، أو التكليف بما لا يطاق ، وهما ممتنعان قطعاً ، عقلاً وشرعاً.

وهذا السبب يختص بها دون نحو ما نحن فيه مما لم ينسد فيه باب العلم ويمكن تحصيله ، فيجب فيه تحصيل القطع ، فإن حصل ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل ، وهذا طريق قطعي لا ينكر ، مسلّم عند الكل حتى هذا القائل.

ويضعف قياس الكتابة هنا بها في الرواية زيادة على ذلك أنّه لو صح لزم اعتبارها هنا مطلقاً ولو لم يفد الظنّ الأقوى ، بل ولو أفاد ظنّاً ما كفى‌

١٣٦

للاكتفاء به في الرواية المكاتبة عند القائل بحجّيتها إن لم يحصل لها معارض أقوى ، فما ذكره من التقييد بالظنّ الأقوى أو المتاخم لا وجه له أصلاً ، بل ينبغي أن يطلق اعتبار الكتابة ، كما هو ظاهر الإسكافي (١) والأصحاب (٢) الرادّين عليه في المسألة ، هذا.

وفي كلامه مناقشات أُخر يطول الكلام بذكرها ، وإنّما المهم ممّا يرد عليه هو ما ذكرنا.

وكذا في الإنهاء بالبيّنة بمجردها من غير أن يشهدها الحاكم الأوّل على حكمه في الواقعة ، بلا خلاف أجده من الأصحاب كافة.

نعم احتمل الإنفاذ بها مطلقاً البعض المتقدم إليه الإشارة (٣) ، معلّلاً بما يرجع حاصله إلى عدم تعقل مدخلية للإشهاد في اعتبارها ، مع كونه داخلاً في عموم الأدلة الآتية التي عمدتها قضاء الضرورة ومسيس الحاجة إلى الإنفاذ بالبيّنة.

وهو حسن لولا عدم الخلاف في عدم الإنفاذ بها هنا ، مع احتمال أن يمنع الدخول في العموم ، بناءً على أنّ مسيس الحاجة إنّما يبيح الاكتفاء بالشي‌ء لو لم يتصور اندفاعها إلاّ به ، وهي تندفع بالبيّنة التي أشهدها الحاكم ، فلا وجه للاكتفاء بغيرها ، بل الأصل الناهي عن العمل بالظنّ مع عدم مخرج عنه في محل البحث يقتضي المصير إلى ما ذكروه ، ومحصله وجوب استناد الحكم إلى القطع إلاّ حيثما لا يمكن مع مسيس الحاجة إليه ، فيجب تحصيل الأقرب إليه ، وليس إلاّ المتفق عليه ، وإلى هذا الأصل يشير كلام كثير في هذا البحث ، ولا ريب في قوته ومتانته.

__________________

(١ و ٢) راجع ص ١٣٤.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢١١ ٢١٢.

١٣٧

وأمّا عدم الإنفاذ بإخبار الحاكم ، فمحل خلاف بين الأصحاب ، فبين :

مختار له ، كظاهر إطلاق المتن ونص الخلاف (١).

ومختار للإنفاذ ، كالفاضل في القواعد والإرشاد ، والشهيدين في الدروس والمسالك (٢).

ومتردّد فيه ، كالماتن في الشرائع والفاضل في التحرير (٣) ، ينشأ :

من الأصل المتقدم المعبر عنه في كلامهم بأنّه حكم من الثاني بغير علم وقد نهى الله تعالى عنه ، خرج منه ما دل عليه دليل من خارج ، فيبقى الباقي على الأصل.

وممّا سيأتي إن شاء الله تعالى من جوازه مع الشهادة على حكمه فمع مشافهته أولى.

وفيه نظر ؛ إذ المشافهة الموجبة للأولوية إنّما هي مشافهة حكمه الذي هو متعلق الشهادة ، لا مشافهة إخباره به ، فإن الأولوية هنا غير واضحة. ولعله إلى هذا يشير كلام بعض الأجلة حيث قال في منعها : فإنّ الغرض من الشهود إثبات حكم الحاكم لا إقراره به ، وليس إثباته بقول الحاكم أقوى من إثباته بشاهدين عدلين ؛ إذ هما عدلان وهو عدل واحد ، وقول العدلين حجة دون الواحد (٤). انتهى.

ولكنه خلاف الإنصاف.

وكل من منع هنا يلزمه المنع عن الإنفاذ بالبيّنة التي أشهدها الحاكم‌

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٥٩٥.

(٢) القواعد ٢ : ٢١٧ ، الإرشاد ٢ : ١٦٥ ، الدروس ٢ : ٩٢ ، المسالك ٢ : ٣٨٠.

(٣) الشرائع ٤ : ٩٦ ، التحرير ٢ : ١٨٨.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٢١١.

١٣٨

مع عدم حضورها مجلس الحكم والدعوى بطريق أولى.

وفي قبولها على القول الآخر إشكال ، لكنه ظاهر كل من قال به ممّن مرّ ، ونسبه في المسالك إلى الأكثر (١) بعد أن اختاره بأدلة ، منها : أنّ الأدلة الآتية الدالة على تسويغ أصل هذا الإنفاذ آتية في هذه الصورة.

وفيه مناقشة تقدم إلى وجهها الإشارة ، مع أنّه لو شملت الأدلة الآتية هذه الصورة لشملت صورة ما إذا لم يشهد الحاكم البيّنة ، كما احتمله البعض المتقدم إليه الإشارة (٢) ، فما هو الجواب عن هذا فهو الجواب عمّا ذكره ، فتأمّل.

وكيف كان الاحتياط في المقامين يقتضي المصير إلى العدم ، سيّما في الثاني ؛ عملاً بالأصل ؛ واقتصاراً على المتيقن.

( نعم لو حكم ) الحاكم الأوّل ( بين الخصوم وأثبت الحكم وأشهد على نفسه ) وحكمه شاهدين عادلين حضرا الدعوى وسمعاها وإقامة شهادة الشاهدين على المدّعى وحكم الحاكم ( وشهد ) ال ( شاهدان بحكمه عند آخر وجب على ) الحاكم ( المشهود عنده إنفاذ ذلك الحكم ) على الأظهر الأشهر ، بل عليه عامّة من تأخّر ، وبه صرح جمع (٣) معربين عن دعوى إجماعهم عليه ، وهو الحجة.

مضافاً إلى ما ذكروه من مسيس الحاجة في إثبات الحقوق مع تباعد الغرماء ، وتعذّر نقل الشهود من البلاد المتباعدة ، أو تعسّرها ، وعدم مساعدة شهود الفرع أيضاً على النقل ، والشهادة الثالثة غير مسموعة ، وأمّا‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٨١.

(٢) راجع ص ١٣٧.

(٣) منهم الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٢٦١.

١٣٩

الشهادة على الحكم فهي بمنزلة الثانية ، فتكون مسموعة.

وأنّها لو لم تشرع لبطلت الحجج مع تطاول المدّة ، ولأدّى إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة ، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر.

وأنّ الغريمين لو تصادقا أنّ حاكماً حكم عليهما ألزمهما الحاكم ما حكم به الأوّل إجماعاً في الظاهر المصرح به في بعض العبائر (١) ، فكذا إذا قامت البيّنة ؛ لأنّها تثبت ما لو أقرّ الغريم به لزم ، هذا.

مع أنّ القائل بالمنع هنا غير معروف ، وإن حكاه الأصحاب في كتبهم ، ويظهر من المختلف أنّه جماعة ، لكنه قال : وربما منع من ذلك جماعة من علمائنا (٢).

وفيه نوع إيماء إلى عدم قطعه بمخالفتهم ، وحجتهم مع ذلك غير واضحة عدا الأصل المخصص بما مرّ من الأدلة.

وما يستفاد من الماتن في الشرائع وغيره (٣) من فتوى الأصحاب بأنّه لا يجوز كتاب قاضٍ إلى قاضٍ ولا العمل به ، والخبرين المتقدمين (٤) ، فضعفهما ظاهر ؛ لاختصاصها بغير محل النزاع ، وهو المنع من كتاب قاضٍ إلى قاضٍ وإجازة العمل به ، ونحن نقول به.

نعم ربما كان في ذيل الخبرين ما يعرب عن المنع عن كتاب قاضٍ إلى قاضٍ مطلقاً ولو كان مع البيّنة ، لكن ضعفهما سنداً ، وعدم جابر لهما هنا ، مع عدم مقاومتهما لشي‌ء من الأدلة التي قدمناها ، يضعف الاستناد إليهما ، سيّما مع عدم صراحة دلالتهما ، بل ولا ظهورهما في المنع عن‌

__________________

(١) كما في التنقيح الرائع ٤ : ٢٦١.

(٢) المختلف : ٧٠٦.

(٣) الشرائع ٤ : ٩٧ ؛ وانظر المفاتيح ٣ : ٢٦٩.

(٤) في ص ١٣٥.

١٤٠