رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

ولم يكن منكراً يلزمه اليمين ، ولا مقرّاً يلزمه الحق ، فيسكت عن الإنكار لعدم صحته ، وعن الإقرار لإلزامه بالمقرّ به ، مع عدم البيّنة على أدائه.

وما أجاب به عنه من أنّه إن قدر على الإثبات يفعل ، وإلاّ يورّي ، مع أنّه قد أدخل الضرر على نفسه إن كان ترك الإشهاد على الوجه الشرعي في الأداء منظور فيه ، أوّلاً : باحتمال عدم تمكنه من الإثبات بموت الشهود ، ولا من التورية ، إمّا لعدم علمه بشرعيتها ، أو لعدم اهتدائه إلى طريق معرفتها.

وثانياً : بمخالفة الحكم بالنكول بمجرده أو بعد ردّ اليمين إلى المدّعى الأصل ، فلا يجوز إلاّ بعد قيام دليل شرعي ، وليس قيامه بجلي مطلقاً ولو قلنا بأنّ السكوت نكول ، فإنّ كلية الكبرى ممنوعة ؛ إذ لا دليل عليها مطلقاً حتى في صورة النكول بعد الإنكار إلاّ الإجماع ، فإنّه الذي أجاز لنا ثمة الحكم على المنكر بعد إحلاف المدّعى ، ولولاه لتوقفنا فيه بلا شبهة ، وهو مفقود في المسألة كما هو واضح.

سيّما مع إطباق المتأخّرين كافّةً كما عرفته على اختيار القول الأوّل ، فدعواه أنّ جميع أدلة الحكم بالنكول والردّ جار فيه غير واضحة ، بل لعلها ممنوعة.

فإذاً القول الأوّل في غاية القوة ، سيّما مع دعوى جماعة (١) أنّ به رواية ، وظاهرهم كونها نصّاً في حكم المسألة ، وهي وإن لم نظفر بها كما صرح به آخرون (٢) ، إلاّ أنّ غايتها حينئذٍ أن تكون مرسلة ، فتجبر كاحتمال‌

__________________

(١) راجع ص ٩٩.

(٢) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٧٠ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ١٢ : ١٧٠ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦٩ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٤.

١٠١

قصور الدلالة بالشهرة العظيمة المتأخّرة التي كادت تكون إجماعاً ، بل لعلها إجماع في الحقيقة.

مضافاً إلى الاعتضاد بما قدمناه من الرواية النبوية ، وما أشرنا إليه بعدها من النصوص الكثيرة.

( المقصد الثالث ) :

( في ) بيان ( كيفية الاستحلاف ) وما ينعقد به اليمين الموجبة للحق من المدّعى والمسقطة للدعوى من المنكر.

( و ) اعلم أنّه ( لا يستحلف أحد إلاّ بالله ) تعالى وأسمائه الخاصّة به ( ولو كان ) الحالف ( كافراً ) كما في النصوص المستفيضة المتقدمة جملة منها ، وغيرها من الإجماعات المستفيضة في كتاب الأيمان والنذور.

بقي منها ما دلّ على عموم الحكم للكافر بالخصوص ، وهي أيضاً مستفيضة ، ففي الصحيح : « لا يحلف اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير الله تعالى ، إنّ الله تعالى يقول ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (١) » (٢).

وفيه : عن أهل الملل كيف يستحلفون؟ فقال : « لا تحلّفوهم إلاّ بالله تعالى » (٣).

وفي الموثق كالصحيح : هل يصلح لأحد أن يحلف أحداً من اليهود‌

__________________

(١) المائدة : ٤٩.

(٢) الكافي ٧ : ٤٥١ / ٤ ، التهذيب ٨ : ٢٧٨ / ١٠١٣ ، الإستبصار ٤ : ٣٩ / ١٣١ ، الوسائل ٢٣ : ٢٦٥ كتاب الأيمان ب ٣٢ ح ١.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥٠ / ١ ، التهذيب ٨ : ٢٧٩ / ١٠١٦ ، الإستبصار ٤ : ٤٠ / ١٣٤ ، الوسائل ٢٣ : ٢٦٦ كتاب الأيمان ب ٣٢ ح ٣.

١٠٢

والنصارى والمجوس بآلهتهم؟ فقال : « لا يصلح لأحد أن يحلف إلاّ بالله تعالى » (١). إلى غير ذلك من النصوص ، وظاهرها كالفتاوى الاكتفاء في الحلف بلفظ الجلالة مطلقاً.

خلافاً للمبسوط (٢) في المجوسي ، فلم يجوّز في إحلافه الاقتصار على لفظ الجلالة ، نظراً إلى اعتقاده أنّ النور إله ، فيحتمل إرادته إيّاه من الإله المعرّف ، فلا يكون حالفاً بالله تعالى ، وأوجب لذلك أن يضم إليه ما يزيل الاحتمال. كخالق النور والظلمة إماطة لتأويله.

وهو مع كونه اجتهاداً في مقابلة النص المعتبر شاذّ ، كما صرح به بعض الأصحاب (٣) ، ولكن أفتى به الشهيد في الدروس (٤) ، ومال إليه فخر الدين محتجاً بأنّه يجب الجزم بأنّه حلف ، ولا يحصل الجزم بذلك (٥).

وهو أحوط ، وإن كان في تعيينه نظر ؛ لضعف الحجة بأنّ الجزم المعتبر هو العلم بكونه قد أقسم بالله تعالى الذي هو المأمور به شرعاً ، أمّا مطابقة قصده للفظه فليس بشرط في صحة اليمين.

قيل : ومن ثم كانت النيّة نيّة المحلف إذا كان محقاً لا الحالف ، وهو دليل على عدم اعتبار مطابقة القصد للّفظ (٦).

ومقتضى النصوص المتقدمة والإجماعات المنقولة أنّه لا يجوز‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٥١ / ٢ ، التهذيب ٨ : ٢٧٩ / ١٠١٥ ، الإستبصار ٤ : ٣٩ / ١٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٧ كتاب الأيمان ب ٣٢ ح ٥.

(٢) المبسوط ٨ : ٢٠٥.

(٣) وهو الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٦٥.

(٤) الدروس ٢ : ٩٦.

(٥) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٣٥.

(٦) قاله الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٧١.

١٠٣

الإحلاف بغير أسمائه سبحانه ، كالكتب المنزلة ، والرسل المعظمة ، والأماكن المشرفة ، مضافاً إلى خصوص المعتبرة ، ففي الصحيحين : « إنّ لله عزّ وجلّ أن يقسم من خلقه بما يشاء ، وليس لخلقه أن يقسموا إلاّ به » (١).

وقيل بالكراهة (٢).

وعلى التقديرين فلا اعتداد به في إثبات الحق مطلقاً ، عملاً بإطلاق الأدلة المتقدمة.

( ولكن ) ذكر الماتن وقبله الشيخ في النهاية وجماعة (٣) أنّه ( إن رأى الحاكم إحلاف الذميّ ) بل مطلق الكافر كما قيل (٤) ( بما يقتضيه دينه ) كونه ( أردع ) وأكثر منعاً له عن الباطل إلى الحق من الحلف بالله عزّ وجلّ ( جاز ) له إحلافه به ، عملاً برواية السكوني : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام استحلف يهوديّاً بالتوراة التي أُنزلت على موسى عليه‌السلام » (٥).

وهو كما ترى ؛ لقصورها عن المقاومة لما مضى من وجوه شتى ، مع ضعفها في نفسها على المشهور بين أصحابنا (٦) ، وكونها قضية في واقعة لا عموم فيها ، ولذا خصها الشيخ في التهذيب (٧) بالإمام عليه‌السلام كما هو‌

__________________

(١) الأوّل في : الفقيه ٣ : ٢٣٦ / ١١٢٠ ، الوسائل ٢٣ : ٢٥٩ كتاب الأيمان ب ٣٠ ح ١.

والثاني في : الكافي ٧ : ٤٤٩ / ١ ، التهذيب ٨ : ٢٧٧ / ١٠٠٩ ، الوسائل ٢٣ : ٢٥٩ كتاب الأيمان ب ٣٠ ح ٣.

(٢) قال به الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٧١.

(٣) النهاية : ٣٤٧ ؛ وانظر المهذّب ٢ : ٥٨٩ ، والوسيلة : ٢٢٨ ، واللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٩٥.

(٤) انظر المسالك ٢ : ٣٧١.

(٥) الكافي ٧ : ٤٥١ / ٣ ، التهذيب ٨ : ٢٧٩ / ١٠١٩ ، الإستبصار ٤ : ٤٠ / ١٣٥ ، الوسائل ٢٣ : ٢٦٦ كتاب الأيمان ب ٣٢ ح ٤.

(٦) انظر المفاتيح ٣ : ٢٦٥ ، ومرآة العقول ٢٤ : ٣٣٥ والكفاية : ٢٧٠.

(٧) التهذيب ٨ : ٢٧٩.

١٠٤

موردها ، مع احتمال كون الحلف بالتوراة فيها مع ضميمة الحلف بالله تعالى للتأكيد والتشديد ونحوهما.

وأيّدها الشيخ في الاستبصار (١) بالصحيحين في أحدهما : عن الأحكام ، فقال : « في كل دين ما يستحلفون » (٢) كما في نسخة ، أو « يستحلّون » كما في أُخرى.

وفي الثاني : « قضى عليّ عليه‌السلام فيمن استحلف أهل الكتاب يمين صبرٍ : أن يستحلف بكتابه وملّته » (٣).

وفيهما نظر : لجواز أن يكون المراد بالأوّل أنّه يمضى عليهم حكمه إذا حلفوا عند حاكمهم ، كما أنّه يجرى عليهم أحكام عقودهم ، ويلزم عليهم ما ألزموا به أنفسهم.

واحتمال رجوع الضمير في الثاني إلى الموصول ، أو كون ذلك بعد ضمّ اليمين بالله تعالى.

وبالجملة : القول الأوّل أظهر ، ولكن الجمع بينهما أحوط.

( ويستحب ) بلا خلاف ( للحاكم تقديم العظة ) على اليمين لمن توجّهت إليه ، والتخويف من عاقبتها بذكر ما ورد فيها من الآيات والروايات المتضمنة لعقوبة الحلف كاذباً.

( ويجزيه ) أي الحالف ( أن يقول ) في يمينه : ( والله ما له قِبَلي كذا ) بلا خلاف عملاً بالإطلاق.

__________________

(١) الاستبصار ٤ : ٤٠.

(٢) التهذيب ٨ : ٢٧٩ / ١٠١٧ ، الإستبصار ٤ : ٤٠ / ١٣٦ ، الوسائل ٢٣ : ٢٦٧ كتاب الأيمان ب ٣٢ ح ٧.

(٣) التهذيب ٨ : ٢٧٩ / ١٠١٨ ، الإستبصار ٤ : ٤٠ / ١٣٧ ، الوسائل ٢٣ : ٢٦٧ كتاب الأيمان ب ٣٢ ح ٨.

١٠٥

وفي النبوي : « من حلف بالله تعالى فليصدق ، ومن حلف له بالله تعالى فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله » (١).

( ويجوز ) للحاكم بل يستحب كما هو المشهور ( تغليظ اليمين ) عليه ( بالقول ) ك‍ : والله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، الضارّ النافع ، المهلك المدرك ، الذي يعلم من السرّ ما يعلمه من العلانية ، كما في الصحيح المتضمن لإحلاف الأخرس (٢).

( والزمان ) كالجمعة والعيدين وبعد الزوال والعصر ونحو ذلك.

( والمكان ) كالكعبة والحطيم والمقام والمسجد الحرام والحرم والأقصى تحت الصخرة والمساجد في المحراب.

( و ) هو ثابت في الحقوق كلها وإن قلّت استظهاراً ، عدا المال فإنّه ( لا تغليظ ) فيه ( لما دون نصاب القطع ) بلا خلاف في شي‌ء من ذلك.

قيل : لأنّ التغليظ مظنّة رجوع الحالف إلى الحق خوفاً من عقوبة العظيم ، وعلى تقدير جرأته عليه كاذباً مظنّة مؤاخذته ، حيث أقدم على الحلف به مع إحضار عظمته وجلالته وانتقامه في الموضع الشريف والزمان الشريف اللذين هما محل الاحترام (٣).

وفي الخبر المروي في الوسائل عن قرب الإسناد : « أنّ عليّاً عليه‌السلام كان‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٣٨ / ١ ، التهذيب ٨ : ٢٨٣ / ١٠٤٠ ، عقاب الأعمال : ٢٢٨ ، الوسائل ٢٣ : ٢١١ أبواب الأيمان ب ٦ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٦٥ / ٢١٨ ، التهذيب ٦ : ٣١٩ / ٨٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٠٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣٣ ح ١.

(٣) قاله في المسالك ٢ : ٣٧١.

١٠٦

يستحلف اليهود والنصارى في بيعهم وكنائسهم ، والمجوس في بيوت نيرانهم ، ويقول : شددوا عليهم احتياطاً للمسلمين » (١).

وفي المرسل : « لا يحلف أحد عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أقلّ ممّا يجب فيه القطع » (٢).

قالوا : ولو امتنع الحالف من الإجابة إلى التغليظ لم يجبر ، ولم يتحقق بامتناعه نكول (٣) ؛ لما مرّ من أنّ « من حلف له بالله فليرض ».

والظاهر من النص والفتوى اختصاص استحباب التغليظ في حق الحاكم دون الحالف ، بل التخفيف في جانبه أولى ؛ لأنّ اليمين مطلقاً مرغوب عنها ، فكلّما خفّفت كان أولى.

وفي الخبر « إذا ادّعى عليك مال ، ولم يكن له عليك (٤) ، فأراد أن يحلفك ، فإن بلغ مقدار ثلاثين درهماً فأعطه ولا تحلف ، وإن كان أكثر من ذلك فاحلف ، ولا تعطه » (٥).

وفي آخر : حدثني أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج » إلى أن قال : « فقضى لأبي أنّه طلّقها ، فادّعت عليه صداقها ، فجاءت به إلى أمير المدينة تستعديه ، فقال له أمير المدينة : يا علي إمّا أن تحلف ، وإمّا أن تعطيها ، فقال : يا بني! قم فأعطها أربعمائة دينار ، فقلت له : يا أبت! جعلت فداك ، ألست محقاً؟! قال : بلى يا بني! ولكنّي أجللت‌

__________________

(١) قرب الإسناد : ٨٦ / ٢٨٤ ، الوسائل ٢٣ : ٢٦٨ كتاب الأيمان ب ٣٢ ح ١١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣١٠ / ٨٥٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٩ ح ١.

(٣) المسالك ٢ : ٣٧١ ، الكفاية : ٢٧٠ ، المفاتيح ٣ : ٢٦٦.

(٤) في « ح » و « س » زيادة : بيّنة.

(٥) الكافي ٧ : ٤٣٥ / ٦ ، التهذيب ٨ : ٢٨٣ / ١٠٣٧ ، الوسائل ٢٣ : ٢٠١ كتاب الأيمان ب ٣ ح ١.

١٠٧

الله تعالى أن أحلف يمين صبر » (١).

( ويحلف الأخرس بالإشارة ) المفهمة لليمين ، على الأشهر المصرح به في كلام جمع كالمهذب والتنقيح وشرح الشرائع للصيمري والمسالك والكفاية وغيرها من كتب الجماعة (٢) فاختاروه أيضاً ، معلّلين بأنّ الشارع أقام إشارته مقام تلفظه في سائر أُموره.

( وقيل ) كما عن الشيخ في النهاية (٣) : إنّه ( يوضع يده ) مع ذلك ( على اسم الله سبحانه في المصحف ) إن حضر ، وإن لم يحضر فعلى اسمه المطلق.

ومستنده مع شذوذه ومخالفة الأصل وما دلّ على قيام إشارته مطلقاً مقام تلفظه غير واضح.

( وقيل ) كما عن ابن حمزة خاصّة (٤) : إنه ( يكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد إعلامه فإن شرب كان حالفاً ، وإن امتنع أُلزم الحق ).

للصحيح : عن الأخرس ، كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين ولم يكن للمدعي بيّنة؟ فقال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام » لما ادّعي عنده على أخرس من غير بيّنة : « الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للأُمّة جميع ما تحتاج إليه ، ثم قال : ائتوني بمصحف ، فاتي به ، فقال للأخرس ، ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السماء ، وأشار أنّه كتاب الله عزّ وجلّ ، قال : ائتوني‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٣٥ / ٥ ، التهذيب ٨ : ٢٨٣ / ١٠٣٦ ، الوسائل ٢٣ : ٢٠٠ كتاب الأيمان ب ٢ ح ١.

(٢) المهذّب البارع ٤ : ٤٧٨ ، التنقيح ٤ : ٢٥٧ ، غاية المرام ٤ : ٢٣٨ ، المسالك ٢ : ٣٧٢ ، الكفاية : ٢٧٠ ؛ وانظر إيضاح الفوائد ٤ : ٣٣٦ ، ومجمع الفائدة ١٢ : ١٨٥.

(٣) النهاية : ٣٤٧.

(٤) الوسيلة : ٢٢٨.

١٠٨

بوليّه ، فأتي بأخ له وأقعده إلى جنبه ، ثمّ قال : يا قنبر ، عليَّ بدواة وصحيفة ، فأتاه بهما ، ثمّ قال لأخ الأخرس : قل لأخيك هذا بينك وبينه إنّه علي عليه‌السلام ، فتقدم إليه بذلك ، ثمّ كتب أمير المؤمنين عليه‌السلام : والله الذي » إلى آخر ما مرّ في كيفية اليمين المغلظة « إنّ فلان بن فلان المدّعى ليس له قِبَل فلان بن فلان يعني الأخرس حقّ ، ولا طلبة بوجه من الوجوه ، ولا سبب من الأسباب ، ثمّ غسله ، وأمر الأخرس أن يشربه ، فامتنع ، فألزمه الدين » (١).

ونفى عنه البعد الفاضل المقداد في شرح الكتاب ، قال : فإنّ الإشارة لا تنافيه ، بل هذا من أحد جزئيّاتها (٢).

وفيه بعد تسليم كونه أحد جزئيّاتها أنّ ظاهر هذا القول المحكي في العبارة وما ضاهاها من عبائر الجماعة تعيّن إحلافه بعين ما في العبارة ، وما نفى عنه البعد إنّما هو جوازه من حيث كونه أحد أفراد الإشارة لا تعيّنه ، ولعله لا خلاف فيه إن صح الفردية.

نعم ما ذكره من الجواز وعدم التعيّن صريح عبارة ابن حمزة المحكية في كلام جماعة ومنهم فخر الدين في الإيضاح ، فإنّه قال في وسيلته : إذا توجه على الأخرس وضع يده على المصحف ، وعرّفه حكمها ، وحلّفه بالأسماء أي أسماء الله (٣) تعالى ، قال : فإن كتب اليمين على لوح ثم غسلها ، وجمع الماء في شي‌ء وأمره أن يشربه جاز ، فإن شرب فقد حلف ، وإن أبى ألزمه (٤).

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٦٥ / ٢١٨ ، التهذيب ٦ : ٣١٩ / ٨٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٠٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣٣ ح ١.

(٢) التنقيح الرائع ٤ : ٢٥٩.

(٣) في المصدر : وحلّفه بالإيماء إلى أسماء الله.

(٤) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٣٧ ، وهو في الوسيلة : ٢٢٨.

١٠٩

ومنه يظهر فساد نسبة القول بتعيّن ما في العبارة إليه إلاّ أن يكون المراد من النسبة نسبة الجواز لا التعيّن.

وعليه يكون مذهب المشهور عدم جوازه ؛ ولعله لمنع كونه من أفراد الإشارة ، فلا يمكن تجويزه من جهتها ، ولا من جهة الصحيحة ؛ لكونها قضية في واقعة ، فلا تكون عامّة ، واحتمال كون الحلف فيها بشرب المكتوب بعد الحلف بالإشارة ، ويكون ذلك من باب التغليظ كما فعله عليه‌السلام في اليمين المكتوبة.

وبالجملة : الخروج عن الأصل الدال على القول الأوّل المعتضد بعمل الأكثر (١) ، بل عامّة من تأخّر حتى الفاضل المقداد (٢) ؛ لتجويز ما في الرواية زعماً منه كونه أحد أفراد الإشارة ، فيكون ذلك اتفاقاً منه ومنهم على أنّها المعتبر في إحلافه خاصّة مشكل غايته.

والأحوط الجمع بينهما إن رضي الأخرس بإحلافه بما في الرواية ، وإلاّ فالإشارة متعيّنة.

( و ) اعلم أنّه ( لا ) يجوز أن ( يحلف الحاكم أحداً إلاّ في مجلس قضائه ) أي مجلس حضوره مع إذنه ، بلا خلاف ، بل ظاهرهم الإجماع عليه كما يستفاد من كثير ومنهم المقدس الأردبيلي رحمه‌الله في شرح الإرشاد وصاحب الكفاية (٣) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى أصالة عدم لزوم ما يترتب على الحلف من سقوط الحق أو لزومه بمجرده ، فيقتصر فيما خالفها على المتيقن من النص والفتوى ، وليس إلاّ بعد ذلك.

__________________

(١) راجع ص ١٠٧.

(٢) راجع ص ١٠٩.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٨٨ ، الكفاية : ٢٧٠.

١١٠

وأمّا النصوص الدالة على لزومه به ، فلا عموم فيها يمكن التشبث بذيله لإثبات اللزوم بالحلف مطلقاً ، وإنّما غايتها الإطلاق الغير المنصرف إلى الحلف بغير الحكم وإذنه ؛ لكونها منساقة لبيان أحكام أُخر غير ما يراد إثباته من الإطلاق في محل البحث وأمثاله.

مضافاً إلى أنّ الغالب في الحلف في مقام الدعاوي التي هي موردها كونه بحضور الحاكم وإذنه.

وإلى بعض ما ذكرناه وغيره يشير كلام المقدس الأردبيلي رحمه‌الله حيث قال في بيان دليل الحكم : ولعله أنّه من تتمة الحكم ولا حكم لغيره ؛ إذ هو العالم بالكيفية لا غير ، أو الإجماع ، أو تبادر ذلك إلى الفهم من الاستحلاف في الروايات والعبارات (١).

وبالجملة : قد تقرر عندهم عدم جواز الإحلاف لغير الحاكم مطلقاً ( إلاّ ) أن يكون المستحلف ( معذوراً ) عذراً شرعياً ( كالمريض ) والزمن اللذين لا يمكنهما أو يشق عليهما الحضور إلى الحاكم ، والخائف من العدوّ ، ونحو ذلك.

( أو ) كان ( امرأة غير برزة ) أي : مخدّرة ليس من عادتها وشأنها البروز والتردد إلى أنديه الرجال والحكام ، ويكون ذلك نقصاً في حقها ، وعيباً عليها ، أو حائضاً أو نفساء أو مستحاضةً لا تأمن تلوّث المسجد بنجاستها مع كون الحاكم فيه ، أو احتياج إلى التغليظ فيه.

وبالجملة : كل معذور شرعاً يجوز له معه التخلف عن الحلف عند الحاكم ، ويستنيب الحاكم حينئذ من يحلّفه في موضعه ، بلا خلاف.

ولاستلزام الحضور مع ذلك العسر والحرج المنفيين عقلاً وشرعاً ، وليس في شي‌ء من الفتاوى التي وقفت عليها اعتبار مباشرة الحاكم‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٨٨.

١١١

الإحلاف بنفسه ولو بالمسير إليه مطلقاً ولو لم يكن السير إليه نقصاً له ومسقطاً لمحله عند الناس.

واحتمل بعض الأصحاب ذلك إلاّ مع استلزامه النقص على الحاكم (١).

وليس في محله ؛ إذ مع مخالفته لإطلاق الفتاوى يوجب فتح بابه إلقاء الحاكم في ضيق وشدّة منفية في الشريعة ، مع عدم كونه معهوداً في الأعصار السابقة واللاحقة عند أحد من حكّام الخاصّة والعامّة ، وإلاّ لاشتهر اشتهار الشمس واتضح غايته.

( ولا يحلف المنكر ) على نفي ما ادّعي عليه مطلقاً ( إلاّ على القطع ) والجزم به ( ويحلف ) كذلك أيضاً ( على فعل غيره ) إن كان على إثباتٍ ، ولو كان على نفيٍ حلف ( على نفي العلم ) به إن ادّعي عليه ، وإلاّ لم تسمع الدعوى على المعروف بين الأصحاب على الظاهر المصرح به في الكفاية وغيرها (٢).

ولو ادّعي عليه بمال أو غيره وأنكر حلف على البتّ ، إمّا على نفي استحقاق المدّعى لما يدّعيه ، أو على نفي ما يدّعيه إن أراد بالخصوص ، على الأصح كما يأتي.

وإن ادّعي على غيره به ( كما لو ادّعي على الوارث ) العلم بما يدّعيه المدّعى على المورث وطالبه به بعد أن ترك الوفاء في يده ( فأنكره ، أو ادّعى ) على المنكر ( أنّ وكيله قبض أو باع ) ما وكّل فيه وأنكر ، حلف على نفي العلم به ؛ لعدم العلم بالانتفاء.

ولو فرض إمكان العلم بالانتفاء ؛ كما إذا كانت الدعوى متعلقة بزمان‌

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٨٨.

(٢) الكفاية : ٢٧٠ ، وانظر مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٨٩.

١١٢

مخصوص ، أو مكان كذلك ، وهو يعلم كذب المدّعى فيهما ، حلف على البتّ أيضاً.

ووجهه كسائر ما يحلف فيه على البتّ بعد الاتفاق عليه واضح أيضاً ، من حيث إنّ المتبادر من الحلف واليمين على الشي‌ء الوارد في النصوص والفتاوى هو الحلف عليه بتّاً وقطعاً ، سيّما مع تضمن كثير من النصوص الواردة في بيان كيفية الحلف كالصحيح الوارد في إحلاف الأخرس وغيره (١) الحلف على البتّ بأنّ فلاناً ليس له عليَّ حق ، ونحو ذلك ، فلا ريب فيه حيثما كان الحالف عالماً بما حلف عليه نفياً ، أو إثباتاً.

وأمّا لو لم يكن عالماً به كما لو ادّعي عليه بشي‌ء ولم يعلم به مطلقاً ، فهل يحلف على نفي العلم ، أو يردّ اليمين على المدّعى وإلاّ يكون ناكلاً؟ إشكال ...

قيل (٢) : مقتضى ظاهر كلامهم الثاني ، لكن في إثبات ذلك إشكال ؛ إذ لا يبعد الاكتفاء حينئذٍ بالحلف على نفي العلم ، ولا دليل على نفيه ؛ إذ الظاهر أنّه لا يجب عليه إيفاء ما يدّعيه إلاّ مع العلم ، ويمكن على هذا أن يكون عدم العلم بثبوت الحق كافياً في الحلف على عدم الاستحقاق ؛ لأنّ وجوب إيفاء حقه إنّما يكون عند العلم به ، لكن ظاهر عباراتهم خلاف ذلك ، وبعض المتأخرين احتمل قوياً عدم القضاء بالنكول في الصورة المذكورة وإن قيل به في غيره ، بل يجب الردّ حينئذٍ ، واحتمل الاكتفاء في الإسقاط بيمينه على عدم علمه بذلك.

أقول : ما احتمله هو وبعض المتأخّرين (٣) من الاكتفاء حينئذٍ بالحلف‌

__________________

(١) المتقدم في ص ١٠٨.

(٢) قاله في الكفاية : ٢٧٠.

(٣) مجمع الفائدة ١٢ : ١٩١.

١١٣

على نفي العلم محلّ تأمّل ؛ لعدم الدليل عليه ، وعدم الدليل على نفيه غير كاف بعد ملاحظة أنّ الأصل عدم انقطاع الدعوى المسموعة بمثل هذه اليمين ، سيّما وأن تكون مسقطة للبيّنة لو أُقيمت بعدها ، فيقتصر فيما خالفه على المتيقن من النص والفتوى ، وليس إلاّ ما إذا كان اليمين على البتّ لا مطلقاً.

وليس في النصوص والفتاوي الدالة على سقوطها بها ما يدل على السقوط هنا ؛ لما عرفت من أنّ المتبادر من اليمين على الشي‌ء فيها اليمين على البتّ خاصّة ، ومقتضى ذلك عدم الاكتفاء باليمين على نفي العلم ، فينحصر قطع الدعوى وسقوطها في ردّ اليمين على المدّعى ، إن حلف أخذ ، وإن نكل سقطت الدعوى.

وما ذكره من أنّ الظاهر أنّه لا يجب عليه إيفاء ما يدّعيه إلاّ مع العلم ، إلى آخره ، فمسلّم إذا أُريد به فيما بينه وبين الله تعالى ، ولكن لا ينفع في إثبات كفاية الحلف على نفي العلم في مقام الدعوى وإسقاطها ، وإن هو إلاّ عين النزاع جدّاً.

ومنه يظهر الوجه في منع قوله : ويمكن على هذا أن يكون عدم العلم ، إلى آخره ، مضافاً إلى منع كفاية ذلك في الحلف على نفي الاستحقاق المطلق من حيث إنّ المتبادر منه نفي الاستحقاق ولو في نفس الأمر ، ولا يمكنه الحلف عليه ؛ لإمكانه ، وعدم علمه به إنّما يوجّه له الحلف على عدم تكليفه في الظاهر بإيفائه لا الحلف على عدم استحقاقه في الواقع ، وبينهما فرق واضح.

وبالجملة : الاكتفاء بالحلف على نفي العلم في محل البحث وجهه غير واضح ، سيّما مع مخالفته الأصل المتقدم.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ثبوت الحق على المنكر بيمين المدّعى إذا‌

١١٤

كانت بردّ الحاكم خلاف الأصل أيضاً ، فيقتصر فيه على المتيقن من النص والفتوى ، وليس إلاّ ما إذا ردّ المنكر اليمين عليه ، أو ردّها الحاكم مع نكوله عن الردّ من غير دعواه عدم العلم بالحق ، بل دعواه العلم بنفيه ، وليس ما نحن فيه منه قطعاً ، فالمسألة محل إشكال ؛ لتعارض الأصلين.

إلاّ أنّ الظاهر ترجيح عدم الاكتفاء باليمين على نفي العلم ؛ لما ذكره القائل من كونه مقتضى ظاهر كلامهم (١) ، وهو كذلك من حيث حكمهم بعنوان العموم بكون الحلف على المنكر في فعل نفسه على البتّ مطلقاً ، على نفي كان أو إثبات ، ولا يمكن ذلك فيما نحن فيه ، فلا يحلف ، ولا يتصور حينئذٍ قطع الدعوى إلاّ بردّ اليمين على المدّعى ، إمّا من المنكر ، أو الحاكم بعد نكوله عن الردّ ، ولا يمكن ترجيح الاكتفاء بذلك بما ذكروه في تعليل الاكتفاء بالحلف على نفي العلم في الدعوى على الغير من عدم العلم بالانتفاء ؛ لتأتّي ذلك بعينه هنا.

وذلك لأنّ اكتفاءهم بذلك ثمّة إنّما هو من حيث عدم كون المنكر طرفاً لأصل الدعوى على الغير ، بل هو الطرف الآخر لها ، وإنّما المنكر طرف دعوى اخرى معه ، وهي كونه عالماً بالمدعى وثبوته على الغير في الدعوى الاولى ، فحلفه على نفي العلم حقيقة حلف على نفي ما ادّعي عليه على القطع في هذه الدعوى.

فظهر أنّ حلف المنكر على القطع أبداً حتى بالنسبة إلى فعل الغير مطلقاً ؛ لأنّ ما يحلف عليه ليس إلاّ ما هو ينكره ، حقاً كان أو غيره ، وبذلك صرح الفاضل في التحرير (٢).

ويتحصل من هذا أنّ متعلق الحلف ليس إلاّ ما تعلق به الدعوى ،

__________________

(١) راجع ص ١١٣.

(٢) التحرير ٢ : ١٩٢.

١١٥

وهو المتبادر من النصوص أيضاً ، والحلف على نفي العلم فيما نحن فيه ليس حلفاً على ما تعلق به دعوى المدّعى ؛ لأنّ دعواه ثبوت الحق في ذمّته لا علمه به ، ولا تلازم بينهما ، لإمكان أن يدّعي الحق عليه ولا يدّعي العلم عليه معتذراً باحتمال نسيانه ، فحينئذٍ يمينه على نفي العلم لاغية لا ربط لها بما تعلقت به الدعوى بالكلية ، فكيف يمكن أن تكون بها ساقطة؟!

نعم لو ادّعي عليه العلم بالحق حال الدعوى أيضاً اتّجه الاكتفاء بالحلف على نفي العلم ، وسقوط أصل الدعوى بها حينئذٍ ، لتركّبها ، كما ذكروه في الحلف على نفي العلم بفعل الغير ، ولكن الظاهر أنّ مثله في المقامين لا يسقط اعتبار البيّنة لو أُقيمت بعد الدعوى ، عملاً بعموم ما دلّ على اعتبارها ، مع سلامته عن المعارض فيهما ؛ لاختصاص ما دل على سقوط البيّنة باليمين بحكم التبادر وغيره باليمين على نفي الحق لا نفي العلم.

وبالجملة : الظاهر فيما نحن فيه حيث لا يدّعى عليه العلم بالمدّعى عدم الاكتفاء بالحلف على نفي العلم ، بل لا بدّ من ردّ اليمين إلى المدّعى ، ولا مخصص في قطع الدعوى من دونه.

( أمّا المدّعى ولا شاهد له فلا يمين عليه ) كما لا بيّنة على المنكر مطلقاً ، بلا خلاف فيهما نصّاً وفتوى ، فلو أتى كلّ منهما بما هو وظيفة الآخر لم تسمع ، ( إلاّ ) إذا حلف المدّعى ( مع الردّ ) أي ردّ المنكر اليمين إليه فتسمع حينئذٍ اتفاقاً فتوى ونصّاً ، كما مضى.

( أو مع نكول المنكر ) عن الحلف والردّ فتسمع أيضاً ( على قول ) قوي اخترناه ، وعلى القول الآخر الذي يحكم فيه عليه بنكوله تكون يمين المدّعى لاغية من هذا الوجه أيضاً ، أو مع اللوث في دعوى الدم فتسمع بلا خلاف فيه ظاهراً ، ومضى الإشارة إليه سابقاً ، ويأتي تمام الكلام فيه‌

١١٦

مفصلاً في محلّه إن شاء الله تعالى.

( ويحلف ) المدّعى حيثما توجه الحلف إليه ( على الجزم ) والقطع كالمنكر ، بلا خلاف ؛ لما مرّ ، ولا يمين له على نفي العلم مطلقاً ، إلاّ إذا انقلب الدعوى وصار منكراً ، كما لو ادّعى الوارث لمورثه ديناً على أحد وادّعى هو الإبراء مثلاً ، وعلم المدّعى به أيضاً وأنكره ، فيحلف حينئذٍ على نفي العلم كالمنكر أوّلاً حيث يحلف عليه ، وهذا في الحقيقة راجع إليه جدّاً. فيتحصل منه أنّ حلف المدّعى على البتّ أبداً.

( ويكفي ) المنكر ( مع ) إطلاقه ( الإنكار ) كقوله : لا يستحق عندي شيئاً ( الحلف ) على عدم الاستحقاق مطلقاً ، كان المدّعى حقاً معيناً أو مطلقاً أيضاً ، اتفاقاً على الظاهر المصرح به في المسالك وغيره (١) ؛ لأنّ الغرض يحصل به ، ونفي العام يستلزم نفي الخاص ، ومع الجواب بنفي الخاص كقوله : لم أغصب ، أو : لم أشتر ، أو : لم أستأجر ، فكذلك أيضاً إن حلف عليه.

وإن أراد الحلف ( على نفي الاستحقاق ) المطلق ففي إجابته قولان ، أقربهما وأشهرهما : نعم ؛ لدخول الخاص في ضمن نفيه ، وجواز تعلق غرض صحيح بالعدول إلى العام بأن كان قد غصب ، أو استأجر ، أو اشترى ، ولكن برئ من الحق بدفع ، أو إبراء ، فحلفه على نفي الخاص كذب ، والعدول إلى العام مع كونه صدقاً يتضمن الغرض من براءة حقه ، وعلى هذا القول عامّة المتأخّرين ، بل لم ينقل الخلاف فيه إلاّ عن الشيخ (٢) ، حيث ألزم الحلف على وفق الجواب ؛ لأنّه المطابق للدعوى ، وجوابه بنفي الأخصّ يقتضي عدم تلك الاحتمالات الموجبة للعدول إلى‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٧٣ ؛ وانظر الكفاية : ٢٧١ ، والمفاتيح ٣ : ٢٦٧.

(٢) المبسوط ٨ : ٢١١.

١١٧

الأعم ، ولو وقعت لأجاب ابتداء بنفي الاستحقاق.

ويضعف بأنّه مع تسليم قدرته على الحلف على وفق الجواب لا يلزم منه وجوب إجابته ، وإنّما اللازم له الحلف على البراءة من حقه بأيّ لفظ اتفق ، فله العدول إلى نفي الاستحقاق اقتراحاً.

( ولو ادّعى المنكر الإبراء أو الأداء ) أو الإقباض ( انقلب مدّعياً والمدّعي منكراً ، فيكفيه ) أي المدّعى ( اليمين على بقاء الحق ) ولو حلف على نفي ذلك كان آكد ، لكنه غير لازم ، بلا خلاف ظاهر حتى من الشيخ ، مصرح به في بعض العبائر كعبارة المسالك وغيره (١) ، لكن الاولى ليست بصريحة في نفي الخلاف ، نعم ربما كانت ظاهرة فيه حيث لم ينقل الخلاف فيها هنا عن أحد ، ونص فيها على أنّ الشيخ المخالف سابقاً لم يخالف هنا ، ولكن جعل الحلف على نفي ما ادّعاه بخصوصه أحوط.

( ولا تتوجّه ) اليمين ( على الوارث بالدعوى على مورثه إلاّ مع ) شروط ثلاثة : الأوّل : ( دعوى ) المدعي على الوارث ( علمه بموته ) أي المورث ( أو إثباته ) عطف على الدعوى ، فيكون هذا الشرط أحد الأمرين من دعوى علمه بموته ، أو إثبات موته على الوارث المنكر له بالبيّنة ونحوها ولو على إقراره به.

( و ) الثاني : دعوى ( علمه ) أي الوارث ( بالحق ) الذي يدّعيه على مورثه.

وإذا توجه اليمين على الوارث بدعوى علمه بالأمرين فأنكرهما أو أحدهما حلف على نفي العلم بهما أو بأحدهما ؛ لما مضى ، ولو أثبتهما عليه لم تتوجه له اليمين على إنكارهما.

ولا تتوجه اليمين عليه بعد ثبوتهما أيضاً ، إلاّ بعد تحقق الشرط‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٧٣ ؛ الكفاية : ٢٧١.

١١٨

الثالث ( و ) هو دعوى : ( أنّه ) أي الميت ( ترك في يده ) أي الوارث ( مالاً ) يفي بحقه كلاًّ أو بعضاً وأنكره الوارث ، فتتوجه عليه اليمين حينئذٍ ، ويحلف على البتّ لا على نفي العلم ؛ لأنّه حلف على فعل نفسه نفياً ، ولا يتوجه في مثله الحلف على نفي العلم ، كما مضى.

ولو نكل عن الحلف هنا أو في أحد الأمرين اللذين مضيا ردّه على المدّعى ، ولو نكل عن الردّ أيضاً جعل ناكلاً وحكم عليه بمجرده أو بعد ردّ اليمين على المدّعى ، ويؤخذ منه الحق بعد يمينه على اختلاف القولين.

وإنّما لم يؤخذ منه الحق بمجرد ثبوت الأمرين بناءً على عدم الخلاف في أنّ الوارث لا يجب عليه أداء دين المورث من ماله ، بل إن ترك المورث مالاً في يده يفي بالدين أو بعضه وجب عليه الأداء وإلاّ فلا ، سواءً كان عالماً بالدين أم لا.

( و ) اعلم أنّ من شرط سماع الدعوى أن يكون المدّعى مستحقاً لموجبها فـ ( لا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البيّنة ، ولا تتوجه بها يمين على المنكر ) بلا خلاف يعرف فيه في الجملة ، وبه صرّح في الكفاية (١).

والنصوص به مع ذلك مستفيضة ، منها : المرسل كالصحيح بابن أبي عمير المروي في التهذيب في كتاب الحدود في أواسط باب حدّ الفرية منه ، وفي الكافي في الكتاب المزبور أيضاً ، لكن بسند فيه سهل وضعفه سهل ، بل قيل : ثقة (٢) وإرسال ، وهو مجبور بابن أبي نصر المرسِل له ، مضافاً إلى انجبار الأمرين كالإرسال السابق إن أوجب الضعف بالعمل ، وفيه : « اتي أمير المؤمنين عليه‌السلام برجل ، فقال : هذا قذفني ، ولم تكن له‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٧١.

(٢) انظر رجال الطوسي : ٤١٦.

١١٩

بيّنة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، استحلفه ، فقال : لا يمين في حدّ » (١) الخبر.

وفي خبر آخر : « لا يستحلف صاحب الحدّ » (٢).

وفي ثالث مروي في التهذيب في أواخر باب الزيادات من هذا الكتاب : « أنّ رجلاً استعدى عليّاً عليه‌السلام على رجل ، فقال : إنّه افترى عليّ ، فقال للرجل : فعلت ما فعلت؟ فقال : لا ، فقال عليه‌السلام للمستعدي : ألك بيّنة؟ قال : فقال : ما لي بيّنة ، فأحلفه لي ، فقال عليه‌السلام : ما عليه يمين » (٣) هذا.

مضافاً إلى الأصل ، واختصاص ما دلّ من النص والفتوى على أنّ اليمين على من أنكر بالمنكر لما عدا الحدّ من الحقوق المالية ، ونحوها مما يستحقها المدّعى لا الله تعالى.

مع أنّه سبحانه لم يأذن في الدعوى ، بل ظاهره الأمر بالستر والإخفاء ، والكف عن تتبع معايب الناس وكشفها ، وقد ورد تحريم الغيبة (٤) واتفق عليه أيضاً ، وحدّ المدّعى عند عدم الشهود ، والأمر بدرء الحدود بالشبهات كما في المرسل المروي في الفقيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ادرأوا الحدود بالشبهات ، ولا شفاعة ، ولا كفالة ، ولا يمين في حدّ » (٥).

هذا إذا كانت الحدود حقّا محضاً لله تعالى كحدّ الزنا وشرب الخمر ونحوهما.

ولو اشتركت بينه تعالى وبين الآدمي كحدّ القذف ففي سماع الدعوى‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٥٥ / ١ ، التهذيب ١٠ : ٧٩ / ٣١٠ ، الوسائل ٢٨ : ٤٦ أبواب مقدمات الحدود ب ٢٤ ح ١.

(٢) التهذيب ١٠ : ١٥٠ / ٦٠٢ الوسائل ٢٨ : ٤٦ أبواب مقدمات الحدود ب ٢٤ ح ٢.

(٣) التهذيب ٦ : ٣١٤ / ٨٦٨ الوسائل ٢٨ : ٤٦ أبواب مقدمات الحدود ب ٢٤ ح ٣.

(٤) الوسائل ١٢ : ٢٧٨ أبواب أحكام العشرة ب ١٥٢.

(٥) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٠ ، الوسائل ٢٨ : ٤٧ أبواب مقدمات الحدود ب ٢٤ ح ٤.

١٢٠