تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الآيات

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(تَنْهَرْهُما) : تزجرهما بغلظة

(لِلْأَوَّابِينَ) : الأواب : التواب الراجع عن ذنبه.

* * *

٨١

الطاعة لله وحده

وهذا فصل جديد من السورة ، يتحرك في خط المنهج الأقوم في المبادئ الأخلاقية العامة التي يريد الله لها أن تحدد للإنسان القاعدة العملية التي تركز شخصيته على أساس ثابت في علاقته بالله وبنفسه وبالآخرين ، ليواجه الحياة من خلال حدود الله التي أراد لعباده أن لا يتجاوزوها.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) هذا هو الخط الأول الذي يمثل القاعدة العامة التي تتفرع منها كل الخطوط ، وهو توحيد العبادة لله ، من خلال ما تمثله من الخضوع والطاعة والاستسلام لأوامره ونواهيه في كل شيء ، ومن التمرد على كل الإرادات الأخرى التي تحاول أن تثير في داخله روح الخضوع للطغاة والمستكبرين والشهوات والنزوات التي تجري في حياته مجرى الدم في العروق ، وبذلك يواجه الإنسان الأشياء والأعمال والعلاقات من هذا الموقع الذي يضع الحد الفاصل بين طاعة الله ومعصيته ، فيتحرك مع الطاعة لله ، لأنها التجسيد العملي الحيّ للعبادة ، ويتمرّد على معصية الله ، لأنها المظهر الواقعي للانحراف عن العبادة التوحيدية.

* * *

مبادئ التعاملي الأخلاقي مع الوالدين

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وهذا هو الخط العملي الثاني الذي يثير في الإنسان الإحساس به ، عند ما يستشعر الإحساس بالله ، فإذا كان الله هو السبب الأعمق في وجوده ، فإن الوالدين يمثلان السبب المباشر لهذا الوجود ، وإذا

٨٢

كان الله هو الذي أنعم عليه بكل النعم التي جعلت لحياته قوّة واستمرارا ، فإن الوالدين قد عملا بكل ما لديهما من جهد ومعاناة وتضحية في سبيل تحريك عناصر الامتداد في عمق وجوده. وهكذا أراد الله للإنسان أن يعي هذه الحقيقة في علاقته بهما ، ويوحي لنفسه بالسر العميق الكامن وراء ذلك ، والمتجلّي في ما أودعه الله في قلبيهما من الشعور بالعاطفة والرحمة اللتين تتميزان بالعطاء دون مقابل ، فيعانيان الألم والتعب من أجل أن تتكامل حياة ولدهما وتلتذ وترتاح ، بكل روح طيّبة معطاء.

وهكذا أراد له أن يحسن إليهما بالكلمة واللمسة واللفتة والحركة ، وبالاحتضان الروحي الذي يحسان به عميقا ، كاحتضانهما له في طفولته وما ينطوي عليه من عاطفة وحب وحنان.

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) فتقدّم السنّ يؤدّي إلى اختلال المزاج وسوء الخلق ، وضيق الصدر ، ممّا ينعكس على تصرفاتهما التي تتخذ جانبا سلبيا ضد الناس الذين يعيشون معهما ، لا سيما أولادهما الذين يشعرون بالضيق من ذلك ، فيحدث ـ بسببه ـ ردّ فعل سلبيّ تجاههما ، مما يوجب صدور الإساءة منهم إليهما ، لأن القوي عادة يضغط على الضعيف ويؤذيه ويهينه ، وبذلك نفهم أن الكبر ليس له خصوصية في ذاته ، بل الخصوصية له بلحاظ ما يستتبعه من تصرفات تؤدي إلى ردود فعل سلبية من قبل الولد.

(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) في عملية رد فعل للشعور بالضيق النفسي من تصرفاتهما ، كمظهر من مظاهر التعبير عن الأفعال في أقلّ نماذجه ، فإذا لم يجز ذلك ، فلا يجوز ما هو أشد منه ، لأن الأساس هو حرمة الإيذاء ، فيحرم الأقوى في الإيذاء إذا كان الأضعف محرما. وقد جاء في كلمات أهل البيت عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنه قال : «لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين

٨٣

من أفّ لأتى بها» (١). (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تغلظ عليهما بالزجر والصوت الشديد القاسي (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان وتوحي بالانفتاح والاحترام والإعزاز والكرامة والابتسامة المشرقة والنظرة الحنونة.

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وذلك يمثل التواضع والخضوع قولا وفعلا برّا بهما وشفقة عليهما ، كما يخفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه ، فكأنه ـ سبحانه ـ قال : ضم أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير ، وبذلك نفهم كيف لا يريد الله للولد أن يستثير حسّ الكرامة في نفسه تجاه أبويه كما يستثيره تجاه الآخرين ، بل لا بد له من أن يشعر بالذل الناشئ من الشعور بالرحمة لهما ، لا من الشعور بالانسحاق الذاتي والانحطاط الروحي ، كما يخضع الإنسان لمن يحبه حبا له ورحمة به ، فيتحمل منه ما لا يتحمله من غيره ، ويتنازل له عمّا لا يتنازل عنه للآخرين ، ويعيش العفو والتسامح معه إذا أخطأ. إنها الروح الإنسانية التي تنفتح على مواقع الرحمة ، فتهفو وترقّ وتلين وتنساب بالخير والمحبة والسماح ، وتعرف كيف تميز بين مشاعر الرحمة ومشاعر الذل أمام الآخرين ، فتواجه الذين أحسنوا إليها واحتضنوها بالرحمة بالشعور الطاهر الخير نفسه ، لتستمر حركة الإنسانية نحو العطاء ، من خلال مواجهتها بالاعتراف الحيّ بالجميل بالمشاعر التي تحفظ لها كل ما عملته من الخير.

(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) ويتحول هذا الشعور بالرحمة إلى استذكار للتاريخ الشخصي لأبويه معه ، كيف كانا يتعبان ليرتاح ، ويجوعان ليشبع ، ويسهران لينام ، ويتألمان ليلتذّ ، ويضحّيان بكل حياتهما من أجل أن يربيا له جسمه وعقله ، وكيف كانا يحتضنانه بالعطف والحنان ، ويحفظانه من

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٢٩.

٨٤

كل سوء ، ليأخذ القوة من ذلك كله. وتتجسّد كل هذه الذكريات في عقله ووجدانه وشعوره وحسّه ، فتنفتح روحه بالحنان ، وهو يشهد هذا الضعف الذي يرزحان تحته ويعانيان منه ، ويستذكر أنه كان أحد أسباب ذلك ، فيبتهل إلى الله في دعاء خاشع ليرحمهما ويرعاهما ويحفظهما ، لأنهما كانا يعيشان الرحمة له ، ويعانيان الجهد في تربيته ، لأن الله قادر على ما لا يقدر عليه من ذلك ، فرحمته تملك خير الدنيا والآخرة ، بينما لا يملك ـ هو ـ من ذلك شيئا.

* * *

حدود طاعة الوالدين

وهكذا نجد أن الله يريد أن يعمّق الشعور الإنساني في نفس الولد تجاه أبويه بالرحمة والمحبة والإحسان ، ليشعرا بأن هذا الجهد الذي بذلاه لم يذهب سدى ، فهناك نوع من التعويض الروحي قد حصلا عليه. وعلى ضوء ذلك ، فإن الطاعة التي يريدها الإسلام ، في طاعة الولد للوالدين ، هي طاعة الإحسان والشفقة وليست طاعة المسؤولية من خلال طبيعة المضمون الذي تحتويه أوامرهما ونواهيهما ، كما هو الحال في طاعة الله والرسول وأولي الأمر. فلو أمراه بما هو على خلاف المصلحة في دينه أو دنياه ، أو بما فيه المفسدة في ذلك ، فلا يجب عليه إطاعتهما ، ولكن لا بد له من أن يواجه الموقف بكثير من المرونة في الجوّ والأسلوب عند إرادة المعصية.

* * *

٨٥

منهج الاجتهاد في القرآن والسنّة

وقد يستوحي الإنسان من كثير من النصوص ، أن عليه أن يستجيب لهما في الأمور التي يريدانها منه ، حتى إذا كانت على خلاف مزاجه ، أو على خلاف مصلحته ، في ما لا يتضمن ترك واجب أو فعل حرام ، كما كانا يفعلان عند ما كانا يقدّمان مصلحته على مصلحتهما ... وهذاورد في كلمات بعض أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : «وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل ...» (١) ولكن ذلك لا يوحي بالإلزام الشرعي ، بل بما يشبه. الاعتراف بالجميل في أجواء الاستحباب ، انسجاما مع خط الإحسان الذي اعتبره القرآن عنوانا لعلاقة الولد بوالديه. ولهذا رأى الفقهاء في الحديث النبوي المأثور : «أنت ومالك لأبيك» (٢) الذي خاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد صحابته ، تأكيدا لعمق العلاقة ، بالمستوى الذي يعيش فيه الشعور بأن وجوده إذا كان منطلقا في طبيعته من وجود أبيه ، فمن الطبيعي أن يكون كل شيء تابعا له ، فلا ينبغي له أن يشعر بالاستقلال في كل شيء ، كما هو شأن الفرع مع الأصل. على أن ما ورد ليس شريعة قانونية تستعبد الولد وتجعل ماله ملكا شخصيا للوالد ، لأن أجواء الحديث لا توحي بذلك ، كما أن الأسلوب القرآني لا ينسجم معه.

وفي رأينا ، أن منهج الاجتهاد الفقهي يرتكز على أساس اعتبار العنوان الموجود في القرآن في بعض الموضوعات قاعدة للأحكام الشرعية التفصيلية التي تتضمنها السنّة الشريفة ، باعتبار أن السنّة جاءت تفصيلا لما أجمله القرآن وتفريعا لما فصّله ، فهو الذي يعطي الفكرة العامة والعنوان الشامل ، وهي التي

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٧١ ، ص : ٢٦ ، باب : ٢ ، رواية : ٢

(٢) (م. ن) ، ج : ٦ ، ص : ٦٩ ، باب : ٢٣ ، رواية : ٢.

٨٦

تحركه في المفردات الجزئية للحياة. ولذا ، فإن من المفروض دراسة النص القرآني في مدلوله العام ، قبل دراسة السنة في مورده. ونأمل مناقشة هذا المنهج وتفصيله في الدراسات الفقهية الاجتهادية.

* * *

مراقبة الله في النفس والعمل

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) فهو الذي يعرف من خفاياها ما لا يعلمه الناس ، أو ما لا تعلمونه أو لا تلتفتون إليه إلا بعد حين ، ولذلك فلا بد لكم من دراسة كل نبضات قلوبكم ، وخلجات مشاعركم ، ولفتات أعينكم ، وخطرات أفكاركم ... قبل أن تتحول إلى حركة فاعلة في الداخل ، أو إلى جزء من الذات ، في ما تمثله من مواقف روحية وفكرية ، لتستريحوا إلى النتائج الإيجابية التي يرضاها الله ويحبّها ، فإن العمل يبدأ من الداخل ويتحرك من مواقع الفكرة والشعور فيه ، مما يفرض على الإنسان أن يحسب حساب الله في حركة الفكرة في أعماق النفس ، قبل أن يحسب حسابه في حركة العمل في الخارج ، ليطمئن للاستقامة على الخط قبل أن يبدأ في العمل ، ليضمن لنفسه رضوان الله في الآخرة الذي يريده الإنسان في خط الطاعة لله.

(إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) وذلك لما يمثله الصلاح من إخلاص لله في الروح والفكر والشعور ، واستجابة له في الحركة والعمل ، لأنه ليس مجرد مظهر يوحي بالخير ، بل هو قاعدة تشمل الفكر والروح والشعور والحياة ، في النيّة والنبضة واللفتة والكلمة والحركة ... (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) وهم الراجعون إلى الله في ما ينوبهم ، أو المطيعون المحسنون ، أو الذين يتوبون من ذنوبهم فيرجعون إليه بعد ابتعادهم عنه بالمعصية. هؤلاء الذين يخلصون له في

٨٧

العبودية ، وينفتحون عليه في كل شيء ، ويلجأون إليه في جميع المشاكل ، فيغفر لهم ذنوبهم ، ويرضى عنهم ، ويتقبلهم بقبول حسن ، ويدخلهم جنته ، وذلك هو الفوز المبين. وربما كان في الآية نوع من التلميح لما يمكن أن يكون قد صدر من الولد تجاه والديه من إيذاء في القول والفعل فتاب عن ذلك.

* * *

٨٨

الآيات

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(تَبْذِيراً) : إسرافا. قال صاحب مجمع البيان : التبذير : التفريق بالإسراف ، وأصله أن يفرّق كما يفرّق البذر ، إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد ، وما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا وإن كثر (١).

(تُعْرِضَنَ) : الإعراض : صرف الوجه عن الشيء ، وقد يكون عن قلى ، وقد يكون للاشتغال بما هو أولى ، وقد يكون للإذلال.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٣٠.

٨٩

(مَحْسُوراً) : هو المنقطع به لذهاب ما بيده.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الكافي في حديث مرفوع إلى عجلان قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاء سائل ، فقام إلى مكتل فيه تمر ، فملأ يده فناوله ثم جاء آخر فسأله ، فقام فأخذ بيده فناوله ، ثم جاء آخر فسأله ، فقام فأخذ بيده فناوله ، ثم جاء آخر ، فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ، ثم جاء آخر ، فقال : الله رازقنا وإيّاك.

ثم قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلّا أعطاه ، فأرسلت إليه امرأة ابنا لها ، فقالت : انطلق إليه فاسأله ، فإن قال لك : ليس عندنا شيء ، فقل : أعطني قميصك. قال : فأخذ قميصه فرمى به ـ وفي نسخة أخرى : فأعطاه ـ فأدّبه الله تبارك وتعالى على القصد فقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (١) والإحسار : الفاقة.

وجاء فيه أيضا حديث مرفوع إلى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال : علّم الله ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف ينفق ، وذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب ، فكره أن يبيت عنده ، فتصدّق بها ، فأصبح وليس عنده شيء ، وجاءه من يسأله ، فلم يكن عنده ما يعطيه ، فلامه السائل واغتمّ هو ، حيثما لم يكن عنده ما يعطيه ، وكان رحيما رقيقا ، فأدّب الله ـ تعالى ـ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره فقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) يقول : إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك ، فإذا أعطيت جميع

__________________

(١) الكافي ، ج : ٤ ، ص : ٥٥ ، رواية : ٧.

٩٠

ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال (١).

* * *

التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم

في هذه الآيات حديث عن التوازن في تحريك المال وتوجيهه نحو المواقع التي أراد الله للإنسان أن ينفقه فيها ، وتخطيط للأسلوب الأخلاقي الذي يواجه به الإنسان الحالات الصعبة لبعض الناس المحتاجين للعون من دون أن يستطيع القيام بأيّ شيء تجاهها ، ليعيش المشاركة الشعورية حيث لا يملك المشاركة بالمساعدة المالية.

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) في ما فرضه الله له من الحق ، أو ما تقتضيه طبيعة العلاقة الخاصة من حق طبيعي. والمراد بذي القربى ـ على ما يبدو ـ الذي يرتبط بالإنسان برابطة القرابة التي تفرض حقوقا واجبة تجاه بعض الأقرباء كالأبوين والأولاد ، أو حقوقا مستحبة كصلة الرّحم بين الأقرباء. وهناك تفسير آخر ذهب إليه السدي ، وهو أن المراد به قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لما روي عن الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) عليه‌السلام ، أنه قال لرجل من أهل الشام ، حين بعث به عليه‌السلام عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية : أقرأت القرآن؟ قال : نعم. قال : أما قرأت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)؟ قال : وإنكم ذوو القربى الذين أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال : نعم. وهو الذي روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهم‌السلام (٢) (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) من خلال ما فرضه الله لهما من الزكاة وغيرها.

__________________

(١) الكافي ، ج : ٥ ، ص : ٦٥ ، رواية : ١.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٣١.

٩١

وهكذا تؤكد هذه الفقرة على العطاء الذي يحقّق غايتين إنسانيتين في شخصية المعطي ، من حيث انفتاح روحه على مشاكل الآخرين ، وتفاعله معهم ، مما يساهم في تنمية المشاعر الروحية الطاهرة ، وامتداد مسئوليته في حياة الإنسان المحروم ، وفي حياة هؤلاء الذين يرزحون تحت ضغط الحاجات الحياتية ، إذ عند ما يعيشون روح المشاركة الإنسانية من إخوانهم ، يشعرون بالثقة في مواجهة مشاكل الحاجة ، ويحسون بالطمأنينة النفسية أمام كل حالات القلق والخوف من المجهول. وهكذا يركز التشريع الإسلامي قاعدة التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم ، من موقع المفهوم الإسلامي الذي يفرض العطاء كمسؤوليّة ، ويؤكد على الإحسان كحالة روحية إنسانية في أجواء الآخرة بعيدا عن الشعور بالشفقة المذلّة التي ترهق كرامة الإنسان.

* * *

التبذير نهج غير إسلامي

(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) التبذير يمثل نوعا من صرف المال بطريقة غير متوازنة في الكمّ والنوع ، بحيث لا يستفيد منه الإنسان ، على مستوى النتائج ، بشكل طبيعي ، بل قد يؤدي إلى لون من ألوان فقدان التوازن الفكري والعملي في وظيفة المال في الحياة ، التي تتلخّص في تلبية حاجات الإنسان العامة والخاصة بحجمها المحدود ، دون أية زيادة مفرطة ، وبذلك يمثل التبذير المالي حالة مزاجية تنطلق من الهوى النفسي الخاضع لبعض المؤثرات الذاتية المرضية التي تلتقي بالفساد والإفساد بعيدا عن أية مصلحة معقولة للحياة.

ومن خلال هذا التفسير للتبذير ، نعرف أن طبيعته تلتقي بالصرف

٩٢

اللّامسؤول الذي يعني العبث بالمال والانحراف به عن دوره الوظيفي في حياة الإنسان ، فيشمل ـ من حيث الإيحاء ـ إنفاق المال في غير حقه وإن كان قليلا ، ولا يشمل إنفاق جميع ماله في الحق ، لأن خسرانه لماله يتضمن تعويضا مماثلا من خلال ما حصل عليه من منفعة للحق وللإنسان.

وهذا ما يريد الإسلام للإنسان أن يمتنع عنه ، لأنه يؤكد على عدم ذهاب شيء في الحياة بدون مقابل ، وهو ما يمثل مصلحة للحياة.

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لأنهم يلتقون بهم في الأساس الذي يرتكز عليه سلوكهم من اتباع الهوى ورفض العقل ، في ما يحركونه من طاقاتهم ، وما يخضعون له من شهواتهم ، الأمر الذي يبعدهم عن الله ، بابتعادهم عن خط الإيمان به وبتوحيده والاعتراف برسله ورسالاته ، وهذا ما يريدهم الشيطان أن يثيروه كخطّ شامل لكل جوانب الحياة عندهم. (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) فهو يتحرك في مسار التمرد على الله ، وجحود نعمه ، والانحراف بالإنسان عن خط الالتزام العملي بطاعة الله ... وهكذا يريد الله أن يوحي بأن الانحراف العملي في أيّ مورد من الموارد حتّى المالية ، يمثل انحرافا عن خط الإيمان ، وليس مجرد حالة جزئية طارئة ، فهناك في السلوك العملي خطان : خط الله ، وخط الشيطان ، فإذا ابتعد عن خط الله ، ارتبط بخط الشيطان ، الأمر الذي يفرض على الإنسان ، المؤمن التدقيق في خطواته العملية ، ليعرف إلى أيّ الخطين تنتمي من خلال المدلول الإيماني للعمل ، وما يتضمنه من نقاط القوة والضعف.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) بحيث لا تنفق عليهم لأنك لا تملك مالا تستطيع أن تقدمه إليهم ، ولأنك تنتظر رزقا يمكنك من ذلك (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) لينا لطيفا ، تفتح فيه قلوبهم على المستقبل الذي يعدهم بالخير ، وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لما نزلت هذه الآية إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال :

٩٣

يرزقنا الله وإياكم من فضله (١).

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وهذا هو خط التوازن في الإنفاق ، فلا يريد الله للإنسان أن يمنع عطاءه بحيث لا ينفق من ماله شيئا ، كمن تكون يده مقيدة إلى عنقه ، فلا ينزل منها شيء لعدم قدرته على الإعطاء والبذل ، وهذا على سبيل المبالغة في النهي عن البخل والإمساك ، (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) بحيث تعطي كل ما لديك فتكون بمنزلة من بسط يده كل البسط ، ولم يبق له منه شيء ليحتفظ به للمستقبل ، (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) تعيش التأنيب النفسي إذ تلومك نفسك لأنك لم تبق لها بقيّة من مال يحفظ لحياتك عزتها وكرامتها ، (مَحْسُوراً) تواجه الناس من موقع الحاجة التي قد تنتهي بك إلى مشاكل مادية ومعنوية في حركة حياتك مع الناس.

* * *

بين التوازن في الإنفاق ومبدأ الإيثار

وربما يثأر هنا سؤال ، وهو كيف نوفق بين هذا المبدأ الذي لا يسمح للإنسان ببذل كل ما عنده ، وبين الإيثار الذي يتحدث عنه القرآن كقيمة إنسانية روحية؟ والجواب : إن هذا المبدأ يرتكز على أساس التأكيد على التوازن في العطاء ، بحيث يبقى لديه بقيّة يستطيع من خلالها أن ينفع نفسه وينفع الآخرين بتحريكها وتنميتها من جديد ، بينما يرتكز الإيثار على جانب تقديم منفعة الآخرين على منفعة نفسه ، فإذا كان محتاجا إلى شيء ، فإنه يتنازل عنه إذا طلبه منه الناس الذين يحتاجون إليه حتّى ولو كان هذا الشيء هو كل ما عنده ، فلكل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٣٢.

٩٤

مبدأ مجال يختلف عن الآخر في مدلوله ومعناه (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فيبقى العطاء متوازنا بين البسط والإمساك ، لتتوازن الحياة من خلال ذلك تبعا لما يصلح أمر الناس في دنياهم (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) بما يحتاجون إليه ، فيعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء في ذلك ، ولكنه لا يعطي كل العطاء ولا يمنع كل المنع.

* * *

٩٥

الآية

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١)

* * *

معاني المفردات

(خَشْيَةَ) : خوف.

(إِمْلاقٍ) : افتقار.

* * *

مخاوف وهمية

ربما تحدث الجريمة في حياة الإنسان ، انطلاقا من ضعف الإيمان بالله وبقدرته على حل مشكلته المحدودة التي تعيش في حياته ، كمن ينتحر بسبب أزمة خانقة تقوده إلى اليأس ، في الوقت الذي يمكن له أن ينفتح على آفاق

٩٦

الأمل من مواقع الثقة بالله الذي لا يعجزه شيء ، أو كمن يبخل بالمال ويمتنع عن العطاء خوفا من الفقر ، غير ملتفت إلى أن الله الذي أعطاه بالأمس يمكن أن يعطيه اليوم وغدا ، فإن خزائنه لا تنفد ، وعطاءه لا ينقطع. وهكذا يريد الله أن يعمّق في داخل الإنسان الإحساس بحضور الله في حياته ورعايته له في جميع أموره ، في كل وقت. وهذا ما عالجت الآية بعض مفرداته.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فقد تعتقدون أن كثرة الأولاد قد تؤدي بكم إلى الفاقة التي توقعكم في مشاكل كثيرة ، فتسيء إلى عزتكم وكرامتكم ، وتمنعكم من كثير من طيبات الحياة ، ولكن هذا الاعتقاد ليس متناسبا مع عقيدة المؤمن بالله الذي يرزق عباده من فضله ، فهو الذي يتكفل الآباء والأولاد ، لأن الله لم يجعل رزق الأولاد على الآباء من ناحية تكوينية ، بل تكفل برزق الجميع ، فإذا فكر هؤلاء الآباء في مصدر الرزق الذي يأتيهم ليقوموا بتدبير أمورهم ، فعليهم أن يفكروا أنه هو المصدر الذي يمد أولادهم بالرزق. (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) لأننا لم نخلق مخلوقا إلا وتكفلنا برزقه ، فلا يدفعكم الشيطان إلى قتلهم خوفا من الفقر ، انطلاقا من هذه الأفكار التي تبعدكم عن خط الإيمان بالله والثقة بقدرته على كل شيء.

(إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) لأنه لا ينسجم مع احترام إنسانية الولد وضعفه ، من خلال مخاوف وهمية لا تبرر ذلك ، مما يجعل من قتله جريمة لا يغفرها الله. وقد أريد من الخطأ هنا ما يرادف الخطيئة التي يتعمّدها الإنسان من دون مبرّر ، وذلك مقابل الصواب على أساس التفسير الذي ذكره اللغويون للخطأ في بعض معانيه ، وهو أن تريد ما لا يحسن إرادته وفعله ، لا الخطأ الذي يقصد منه ما لا يتعمد الإنسان فعله.

* * *

٩٧

تنظيم النسل والظروف الطارئة

وقد نستوحي من ذلك رفض الإسلام للروحية التي تدفع بعض الناس إلى تحديد النسل ، بالامتناع عن إنجاب الأولاد ببعض الوسائل المانعة من ذلك ، كالعزل ونحوه ، وذلك بتأثير الخوف من أعباء الحياة التي قد تثقل الآباء ، وتقودهم إلى الفاقة ، وتحمّلهم الجهد والعناء ، فقد لا يكون ما يقومون به خطيئة لأنه لا يتضمن قتلا للحياة ، بل يتضمّن منعا لها من أن تتحقق. ولكن الفكرة التي تدفع إلى ذلك ، لا تتفق مع خط الإيمان بالله والثقة به والتوكّل عليه في ما يرجع فيه الأمر إليه ، لكن هذا الفهم لا يعني إغلاقا لمبدأ تنظيم النسل على أساس بعض المبررات الصحية والتربوية والاجتماعية ، لأن الاجتهادات الإنسانية لا تمنعه ، مع مراعاة بعض التحفظات في بعض الوسائل ، كالإجهاض والتعقيم ، بل كل ما نريده ، هو العمل على التوفيق بين الخط الإيماني للإسلام ، في وعي الإنسان المسلم ، وبين الجانب الشعوري الذي يحرك الجانب العملي له ليتوازن الإحساس مع الفكر والإيمان.

وقد نستوحي من ذلك أن الله قد أودع في الأرض الثروات التي تكفي الإنسان في حاجاته الطبيعية ، وهيّأ له الوسائل التي يتمكن من خلالها تحريك هذه الثروات لتوفير تلك الحاجات ، كما أوجد الأوضاع الكونية والاجتماعية التي تحقق التوازن في عدد أفراد الإنسان ، بالمستوى الذي لا تتحول فيه الكثرة إلى حالة جنونيّة تحوّل الحياة إلى مشكلة لا تطاق.

ولكن الإنسان قد يتصرف في مثل هذه الأمور بطريقة سيئة ، في الانتاج والتوزيع ، وفي إدارة شؤون الحياة ، مما يؤدي إلى إهدار كثير من الطاقات وصرفها في غير مصلحة الناس ، كما نلاحظه في الأموال التي تصرف على

٩٨

إنتاج الأسلحة المدمّرة ، وعلى بعض المشاريع العلمية التي قد تؤثر على الحاجات الضرورية للحياة الإنسانية. وبذلك لا تكون المشكلة فقدان الموارد الطبيعية الكافية للإنسان ، بل في توجيهها إلى غير وجهتها الحقيقية.

وربما احتاج الإنسان في ظل الظروف الطارئة إلى نوع من تنظيم النسل لتحقيق بعض الأهداف المرحلية لمصلحة الحياة من حوله ، أو لتأكيد بعض مواضع القوّة للإسلام وللمسلمين ، ولكن ذلك لا يعتبر حالة طبيعيّة شاملة ، بل يبقى في حجم المرحلة من حيث الكمية والنوعية ، تماما كما هي العناوين الثانوية التي تجمد الحكم الشرعي في نطاق الظروف الطارئة التي تتحرك فيها تلك العناوين.

* * *

هل الآية تشير إلى وأد البنات؟

وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل النهي في الآية عن قتل الأولاد ، إشارة إلى وأد البنات الذي كان معروفا في الجزيرة العربية. وهذا ما ذكره الزمخشري في تفسير الكشاف حيث قال : «قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم ، كانوا يئدونهن خشية الفاقة ، وهي الإملاق ، فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم» (١).

ولكننا نلاحظ أن الآيات التي تعرضت لوأد البنات كانت تعالج المسألة من ناحية خوف العار الذي قد يحدث للآباء كنتيجة لوقوع الأنثى في الأسر أثناء حروبهم ، لا من جهة خوف الفاقة ، وهو ما نستوحيه من الآية الشريفة

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم ، محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ٢ ، ص : ٤٤٧.

٩٩

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [النحل : ٥٨ ـ ٥٩] هذا مع ملاحظة أن هذه الآية ذكرت الأولاد بشكل عام ولم تخصص المورد بالأنثى ، مما يدل على أن الآية تتجه اتجاها آخر ، يختلف عن طبيعة التفسير المذكور ، لأن طبيعة خوف الفقر مما يشترك فيه الذكر والأنثى في مسئولية الآباء عن إعالتهم. وربما يقال : إن الذكر لا يمثل مشكلة صعبة بالنسبة إلى الأب ، لأنه يمثل عنصرا إنتاجيا من جهة ، وقوة دفاعية عن العائلة أو القبيلة من جهة أخرى ، بينما لا تملك الأنثى هذه الميزة ، بل هي عنصر سلبيّ من الجهتين. ولكن هذا القول بسلبية العنصر الإنتاجي لدى المرأة غير دقيق ، لأنها كانت تساعد في الإنتاج الزراعي والحيواني ، بالإضافة إلى الخدمات التي توفرها للعائلة ، مما لا يقوم به الرجل ، ولا تتسع ميزانية أيّ أب لتوفيره بالأجرة ، الأمر الذي لا يجعل من الأنثى مشكلة في هذا الجانب ، بل قد يكون وجودها حلا لكثير من المشاكل ، فيتعين أن لا تكون الآية هنا ، قريبة من أجواء وأد البنات ، وهناك ملاحظة أخرى ، وهي أن الآية تعالج المرحلة الزمنية التي يكون فيها الولد عيالا على الأب مما يثقل أوضاعه المادية ، ولا تعالج المسألة في امتدادها المستقبلي عند ما يتحول الولد إلى عنصر إنتاج ، والله العالم.

* * *

١٠٠