تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ، وخلاصتها أن الهدى والضلال خطّان فكريّان عمليان يتصلان بالإنسان في النتائج الجيّدة التي يمثلها الهدى ، أو في النتائج السيّئة التي يمثلها الضلال ، لأن الهدى يربطه بمواقع الخير في الدنيا والآخرة ، بينما يؤدّي به الضلال إلى مواقع الشر ، أو إلى الابتعاد عن مواقع الخير على الأقل ، الأمر الذي يوجب وصول النفع والضرر إليه. أما الله ـ سبحانه ـ فإنه لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه ، ولذلك ، فإن من المفروض أن يفكر الإنسان في المسألة بطريقة ذاتية تحسب حساب الربح والخسارة في الحياة من مواقع الذات ، كما يفكر بطريقة مبدئية منطقية ، الأمر الذي يعمق حسّ المسؤولية لديه من أكثر من جانب.

* * *

بين التقاليد الجاهلية والمفهوم الإسلامي

الحقيقة الثانية : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقد جاءت كلمة «وزر» في هذه الفقرة على سبيل الكناية عن الخطيئة التي يمارسها الإنسان ، أو الخطأ الذي يقوم به ، ولا يحمل غيره مسئولية ذلك أيّا كانت صفته أو طبيعة العلاقة التي تربطه به من قرابة وزوجيّة وغيرهما ، من دون فرق بين مجازاته في الدنيا ، أو في الآخرة.

وقد نستوحي من ذلك ، انسحاب المبدأ إلى الجانب المعنوي من العلاقات الخاصة والعامة ، كما في مسألة الشرف التي قد يراها البعض ، ممن يتحركون في أجواء الجاهلية العائلية أو القبلية ، خاضعة في الجانب السلبيّ لانحراف فرد من العائلة أو القبيلة ، فإذا أخطأت امرأة مثلا بعلاقة غير شرعية

٦١

كالزنى ، فإن أهلها وعائلتها يعتبرون ذلك عارا عليهم ، فيبادرون إلى غسل العار يقتلها ، على أساس أنه لا يغسل إلا بالدم ، وقد يتحوّل هذا المفهوم إلى حالة وحشية ، تضغط على المشاعر بطريقة همجية تؤدي إلى وأد البنات ، لأنهم يخافون من العار إذا امتد العمر بالبنت فبلغت سن الشباب ، ووقعت أسيرة لدى الأعداء ، فيسيء ذلك إلى شرفهم كما يدّعون. وقد تنفجر هذه العقدة في المبادرة إلى قتل الفتاة أو المرأة ، لمجرّد اتهامها بالزنى ، وإن لم يثبت ذلك بطريقة شرعية.

إلا أن هذا المفهوم الإسلامي المرتكز على خط العدالة ، يؤكّد لنا خطأ هذا السلوك ، ويقرّر فردية الشرف ، فللمرأة شرفها الشخصي الذي يتعلق بها ولا يمتد إلى غيرها سلبا أو إيجابا ، وللرجل شرفه الشخصي كذلك ، على أساس طبيعة السلوك الذاتي الصادر عنهما ، ولا علاقة لأحد بالآخر في هذا المجال ، ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة ، بينما نرى المفهوم الجاهلي يفرق بينهما ، فيعتبر انحراف المرأة موجبا للعار على الأهل ، ولا يرى انحراف الرجل كذلك ، لأنه قد يرى في الزنى الذي يمارسه الرجل مظهرا للقوة لا للضعف ، لأنه العنصر الفاعل الإيجابي في هذه العملية ، أمّا المرأة فتمثل الجانب السلبي الذي يعبّر عن مظهر ضعف وانسحاق للشخصية.

وقد نجد من الضروريّ التأكيد على هذه المسألة في التربية الخلقية للإنسان المسلم ، بحيث تتحوّل الحالة الأخلاقية لديه إلى حالة شعورية وفكرية ، فلا يتأثر بما حوله من التقاليد الجاهلية في سلوكه العملي ، بل يكون الحكم الشرعي هو الأساس في بناء عاداته وتقاليده الخاصة والعامة ، حتى لا يعيش الازدواجية بين ما تفرضه الشريعة من مسئوليات ، وبين ما تفرضه التقاليد من عادات وانفعالات ، وقد يخضع لضغط التقاليد أكثر مما يخضع لتأثير الشريعة.

* * *

٦٢

فكرة للتأمل

وقد يثأر في هذا المجال الحديث المأثور الذي يقول : «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم» (١) .. والكلمة المأثورة عن الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة : «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم. وعلى كل داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، وإثم الرضا به» (٢). فقد يرى فيه البعض انحرافا عن المفهوم الذي نستوحيه من الآية في فردية المسؤولية ، لأن اعتبار الراضي بالظلم أو بالعمل المنحرف شريكا للظالم والمنحرف ، يعني تحمل البريء ذنب المجرم.

ولكن التأمل البسيط في المسألة لا يوحي بذلك ، فإن الرضا عبارة عن مشاركة ولو على المستوى النفسي في عملية الظلم ، والإسلام يريد اقتلاع الظلم من جذوره الفكرية والشعورية ، مما يجعل من الرضا بالظلم جريمة معنوية داخليّة ، تشوّه روحية الراضي ، وتعده ليكون مشروع ظالم مستقبلي ، من خلال ما يمثله الرضا من اعتبار الظلم لديه حالة طبيعية لا تثير في فكره أية حالة سلبيّة مضادة ، بل تثير حالة شعورية إيجابية ، الأمر الذي يجعله يمارس الظلم لدى أوّل فرصة للقوّة تمكنه من الظلم ، كما أنها تحقق للظالم حماية معنوية تحرس له ظلمه ، إذ إنها تحيطه بالمشاعر الحميمة التي تقوي نفسيته وتدعم موقفه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة حيث قال : «إنما يجمع الناس الرضا والسخط. وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد ، فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا» (٣).

__________________

(١) الكليني ، الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٣٣٣ ، رواية : ١٦.

(٢) ابن أبي طالب ، الإمام علي (ع) ، نهج البلاغة ، ضبط نصّه : د. صبحي الصالح ، دار الكتاب اللبناني ، ط : ٢ ، ١٩٨٢ م ، قصار الحكم : ١٥٤ ، ص : ٤٩٩.

(٣) (م. ن) ، خطبة : ٢٠١ ، ص : ٣١٩.

٦٣

ويقتصر جزاء هؤلاء على العقوبة الإلهية في الآخرة أو في الدنيا وذلك بما ينزله الله من العذاب عليهم ، أو على الرفض المعنوي لهم من قبل الناس ، فيذمّونهم على ذلك ، ولا يمتد إلى معاملتهم بما يعمل به الظالم من عقوبات جزائية أو جنائية ، فلا يقتل الراضي بالقتل كما يقتل القاتل ، ولا يرجم أو يجلد الراضي بالزنى كما يحدث للزاني. وهكذا نجد أن الجانب القانوني للمسألة على مستوى الشريعة ينسجم مع خط الآية ، فلا يحاسب الإنسان من ناحية قانونية على أفكاره ومشاعره المنحرفة في ما يتصل بالتعاطف مع الانحراف نفسيا من دون أن يشارك فيه ، بل يكفي في ذلك الذم المعنوي والإنكار النفسي والفكري.

* * *

انسجام السياسة الإسلامية مع الأخلاق

وفي هذا الجوّ ، نريد أن نثير بعض الأوضاع التي دخلت إلى ساحة السلوك العملي للإنسان المسلم ، في حركة الواقع السياسي ، مما ينحرف عن خط العدالة الذي تقرره هذه الآية. فقد شاع في عصرنا الحاضر خطف إنسان بريء وحجز حريته ، لأن شخصا من طائفة المخطوف الدينية أو من حزبه السياسي ، قد خطف شخصا من طائفة هذا الخاطف ، كما شاع خطف طائرة تابعة لبلد معين ، وحجز ركابها ، وتهديدهم بالقتل ، أو قتلهم في بعض الحالات ، لمجرد أن هذا البلد الذي يملك الطائرة يحتجز بعض أصحاب الخاطف أو محازبيه ، أو لأن ذلك يمثل عنصر ضغط على وضع سياسيّ معين ، أو الإعلان عن حالة سياسية أو إنسانية خاصة أو عامّة. وقد أصبح هذا الواقع أسلوبا متبعا في العمل السياسي ، وأداة من أدوات الضغط ، حتى أنه اعتبر

٦٤

طابعا مميزا ـ في بعض المجالات ـ للعمل الإسلامي ، من خلال ما يثيره الاعلام المضاد من حركة الإرهاب الديني كما يسميه في هذا الاتجاه.

بيد أننا نثير هذه المسألة ـ في أجواء هذا المفهوم الإسلامي للعدالة الذي تثيره الآية ـ لنؤكد على ضرورة انسجام الأسلوب السياسي للعمل الإسلامي الحركي ، مع الخط الأخلاقي للإسلام.

وقد يرى البعض أن مثل هذا الأسلوب يحمل كثيرا من الإيجابيات الواقعية للتحرك الإسلامي ضد الظلم والاستكبار والكفر ، في خط المواجهة ، للتخلص من الضغوط القاسية الصعبة التي يقوم بها الظالمون والكافرون والمستكبرون ضد المستضعفين من المسلمين أو من غيرهم من الشعوب المضطهدة ، لأن المسلمين لا يملكون القوّة التي يملكها أولئك ، فيضطرون إلى مواجهتهم بما يملكون من عناصر القوّة التي تمثل عناصر ضعف لدى الآخرين ، وبذلك يمكن إخضاع المسألة إلى القاعدة الأصولية العقلية ، التي تؤكد تقديم المصلحة الأهم على المفسدة التي لا تبلغ درجة الأهمية ، فتؤدي إلى تجميد الحكم الشرعي التحريمي لمصلحة الحكم الشرعي المرخّص ، كما ورد في جواز قتل الأسرى المسلمين الذين يتترّس الكفار بهم في الحرب لمنع المسلمين من النصر ، أو في جواز الدخول إلى الأرض المغصوبة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق. وعلى ضوء ذلك ، فإن المسألة تأخذ بعدها الشرعي الذي لا يجعل منها عملا منحرفا عن خط الشريعة.

إننا قد لا ننكر وجود بعض الإيجابيات في هذه الأمور ، ولكننا نواجه كثيرا من السلبيات في مقابل ذلك ، مما قد يترك انطباعا سلبيا على مستوى الدعوة الإسلامية ، إذ إنّه يؤدّي إلى تشوية صورة الإسلام لدى الآخرين ، أو إلى ردود فعل مضادة على المسلمين في مجال آخر. ولذلك فلا بد من الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات ، وعدم اللجوء إلى هذا الأسلوب إلا في

٦٥

الحالات الصعبة جدا التي لا مجال فيها للتخلص من الاضطهاد السياسي إلا بهذه الطريقة ، مما يفرض الاحتياط التام والاقتصار على مواطن الضرورة القصوى التي تحمل الأهمية الكبرى التي يصغر أمامها كل شيء ، حتى لا يتحول الأمر إلى ما يشبه الأسلوب السياسي العملي للمسلمين.

* * *

العذاب بعد إقامة الحجة

الحقيقة الثالثة : وتمثلها الفقرة الآتية : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وخلاصتها أن الله لا يعذب أحدا من الناس إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم بإرسال الرسل الذين يبلغونهم رسالات الله (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] وهذه قاعدة عامة يؤكدها الحكم العقلي الفطري في القاعدة المعروفة «قبح العقاب بلا بيان». وقد لاحظ البعض أن الآية تتحدث عن حالة تاريخية في ما كان ينزله الله من عذاب دنيويّ على الكافرين به وبرسله ، ولا تتحدث عن طبيعة المسألة على سبيل القاعدة الكلية ، ولكننا نلاحظ على ذلك أن أسلوب هذه الآية يوحي بأن هذا الأمر مما لا يليق بالله أن يفعله ، لأنه لا ينسجم مع عدالته ورحمته ، مما يجعل المسألة منطلقة على سبيل القاعدة.

وقد ذكر الأصوليون ، بأن بعث الرسول كناية عن إقامة الحجة في ما تتوقف فيه المعرفة على إرسال الرسول. أما بخصوص ما يستقل به العقل ويتمكن من الوصول إليه بوسائله الخاصة من خلال أدوات المعرفة الحسية أو غيرها ، فإن الله يعتبر العقل حجة على الإنسان. وقد ورد في بعض الأحاديث المأثورة أن العقل هو «الرسول الباطني» وأنه «رسول من داخل ، كما أن

٦٦

الرسول عقل من خارج».

وعلى هذا الأساس ، فإن الذين يتمكنون من البحث والتفتيش عن الحق ، ويعرفون اختلاف الناس فيه ، لا يكونون معذورين إذا امتنعوا عن الفحص والتعلم وأصروا على العناد في هذا الموقف ، لأن قيام الحجة لا يتوقف على الوصول الفعلي ، بل يكفي فيه إمكانية الوصول بحيث لو بحث الإنسان عن الحق لوصل إليه ، لأن الحقيقة الإلهية في متناول يديه. أما الذين لا يستطيعون تحصيل المعرفة لأنهم لا يملكون وسائلها ، أو لم يلتفتوا إليها لأنهم لم يسمعوا بأيّ مضمون من مضامين الرسالة ، كما في الذين يعيشون في مجاهل الدنيا ، أما هؤلاء فهم معذورون في عدم الإيمان بالحق بتفاصيله في ما لا يستقل العقل به ، أمّا ما يستقل به العقل ، كالإيمان بالله أو بتوحيده ، فلا بد من تحصيل المعرفة به ، بتوجيه التفكير إليه ، وعدم مواجهته بطريقة اللامبالاة الفكرية.

* * *

٦٧

الآية

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(مُتْرَفِيها) : المترف : المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه.

(فَدَمَّرْناها) : أهلكناها

* * *

شروط النجاح والهلاك

في هذه الآية حديث عن قانون اجتماعي من القوانين التي ركز الله الحياة عليها ، وهي تكشف أسباب هلاك الأمم ، وتدمير المجتمعات. فقد جعل الله للحياة قاعدة تتحرك من خلالها ، فالنجاح يتحقق إذا انطلقت الحركة من قاعدة الحق والعدل والخير ، حيث تسود النظرة المتوازنة وعنصر الانضباط في علاقة

٦٨

القاعدة المؤمنة بالقيادة الصالحة ، فلا مجال للهوى أو العبث أو البغي أو الفساد ، بل هناك النظام الذي يحكم القيادة في قيادتها للأمة ، ويحكم الأمة في التزامها بتعليمات القيادة. وبذلك تتوازن الحركة ويستقر الواقع ، وتتطلع الحياة إلى مستقبل قويّ زاهر. أمّا إذا انطلقت الحركة من قاعدة الباطل والظلم والشرّ ، التي تلتقي بفقدان التوازن في النظر إلى الأشياء ، وانعدام الانضباط في طبيعة العلاقات ، فهناك الحكم الذي يخضع للمزاج ، والحركة التي تنطلق وفق الهوى ، والحياة التي يعبث بها الفساد ، ويسيطر عليها البغي والعدوان ، فإذا اجتمعت هذه الشروط ، كان مستقبل الناس الهلاك والدمار.

* * *

المترفون غايتهم الاستمتاع

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) فالإرادة الإلهية تتعلق بالأشياء على أساس قانون السببية الذي أقام الله الكون عليه ، فإذا توفرت أسباب الهلاك لهذه القرية أو تلك ، من خلال الظروف المحيطة بها ، والأعمال التي تحدث فيها ، والعلاقات السيّئة التي تحكمها ، فلا بد من أن يحصل المسبّب وهو الهلاك كنتيجة حتميّة للقانون الكوني ، (مُتْرَفِيها) والمترفون هم الذين يعيشون حياة الترف المتمثّلة في إرواء ظمأ الحس من اللذة ، وإشباع جوع الغريزة من الاستمتاع ، والأكل والشرب ، وتحويل الطاقات كلها نحو الحصول على الجاه والوصول إلى مواقع الفساد ، بحيث يعتبر ذلك كله القيمة المثلى التي تسقط أمامها كل القيم ، فلا قيمة لغيرها ، ولا حركة للعلاقات الإنسانية إلا من خلالها. وهؤلاء المترفون هم الذين ينشرون الفساد ، لأنهم لا يطيقون الحياة مع الصلاح والمصلحين ، ولا ينسجمون مع أفكارهم وأوضاعهم ، ولا يستجيبون إلا لشهواتهم

٦٩

وأطماعهم ، بل قد يقفون ضدهم في عملية صراع عنيف ، ولذلك فإن المترفين يعملون على إخضاع الحياة لعناصر اللهو والعبث والفجور وتهيئة الأجواء الملائمة لطريقتهم في الحياة ، ويثيرون الفساد في كل المجالات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، بحيث يتحول الواقع إلى ما يشبه الفوضى في ميزان القيم ، كنتيجة لانحراف الموازين عن خط الحق والاستقامة والإصلاح ، بحيث يصبح المعروف منكرا ، والمنكر معروفا.

* * *

فهم أمر الله للمترفين

ولكن كيف نفهم أمر الله للمترفين؟

هناك تفسيران في هذا الصدد : الأول : أن المقصود بالأمر التكليف التشريعي ، فيكون المعنى أمرنا بالطاعة ، فلم يمتثلوا بل فسقوا ، كما يقال : أمرت فلانا فعصاني ، وبذلك لا يكون في الآية أيّ إشكال من هذه الجهة ، لأنها تكون منسجمة مع الموازين الفكرية الإسلامية.

الثاني : أن متعلق الأمر هو الفسق ، فيكون المعنى : أمرناهم بالفسق ففسقوا فيها ، كما يقال : أمرته فأكل ، وهنا يأتي الإشكال : كيف ينسجم هذا مع الخط السليم للعقيدة ، فكيف يأمر الله بالفسق كما جاء في قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)؟ [الأعراف : ٢٨].

وقد ذكر في الجواب عن ذلك ، أن الأمر بالفسق ليس أمرا تشريعيا ، بل المقصود به الأمر التكويني الذي يرادف الإرادة التكوينية التي تتعلق بأفعال

٧٠

العباد بشكل غير مباشر ، وذلك بتهيئة الأسباب الواقعيّة التي لا يستطيع المترفون الفسق بدونها ، من القوة البدنية والفكرية والمال والسلاح والجاه والشهوات ، ولكن ذلك لا يجعل من الفسق أمرا حتميا ، لأن بإمكانهم أن يسخّروها في الطاعة والخير ، وفق ما أراد الله لهم بالالتزام بالتشريع. فإذا استعملوها في طريق الفسق ، كان الفعل مرتبطا بالله من ناحية أنه السبب الأعمق الذي ترتبط به الأعمال ، وأنه الذي ربط بين السبب والمسبب ، غير أن الإنسان هو الذي يحرك السبب نحو المسبّب ، فيكون هو العنصر المباشر الذي يتحمل المسؤولية ، لأن الله جعل له الحرية بين الفعل وعدمه. وهذا أسلوب قرآنيٌّ ، أشرنا إليه في كل مورد أسند فيه الفعل الصادر من الإنسان مباشرة إلى الله.

ولعل التفسير الثاني هو الأقرب إلى ظاهر الآية ، كما نلاحظ ذلك في دراسة هذا التعبير من خلال التعبيرات المماثلة التي حذف فيها متعلق الأمر للدلالة عليه بالفعل المسبوق بالفاء ، الذي يوحي بانفعال الفاعل بتحقيق الأمر المتوجه إليه ، بينما نجد التفسير الأول بعيدا عن الفهم العرفي ، بالإضافة إلى إنه لا وجه لاختصاص المترفين بتوجيه التكليف إليهم وعصيانهم له ؛ والله العالم.

(فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) الإلهي الذي تفرضه سننه الكونية ، (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) وأهلكناها بكل مظاهر الهلاك الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي ، جزاء لها على ذلك كله.

وخلاصة الفكرة ، التي تريد أن توحي بها الآية ، أن الله لا يريد إهلاك أيّة قرية إلا بعد أن يتحرك فيها المترفون الذين يستغلون النعم التي أغدقها الله عليهم في الفساد والإفساد اللّذين يؤدّيان إلى الدمار الشامل.

* * *

٧١

الآية

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧)

* * *

معاني المفردات

(الْقُرُونِ) : الأحقاب الماضية.

* * *

تجاهل العبر

وتلك هي سنّة الله التاريخية التي مرّت القرون وتتابعت ، وهي تفرض نفسها على حركة التاريخ في حياة البشر ، الذين يستغرقون في الشهوات ،

٧٢

ويخلدون إلى الأرض ، ويبتعدون عن الله وعن رسله ، في ما أوحى به إليهم من رسالاته. فقد أهلكهم الله بأكثر من وسيلة وبأكثر من مظهر. (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) من الذين عاشوا (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) ممن أرادهم الله أن يبدءوا الجيل الجديد للبشرية الذي يخلف قوم نوح ، الذين كفروا وطغوا وتجبروا ، فأغرقهم الله وأهلكهم بالطوفان ، ولكن هؤلاء الذين جاؤوا من بعدهم ، لم يعتبروا ولم يستفيدوا من تاريخ أولئك الذين دمرتهم ذنوبهم بإرادة الله ، الذي يعلم كل شيء مما يفعله الناس في سرّهم وعلانيتهم. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) لأنه ـ وحده ـ المطلع على الحياة كلها ، فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

* * *

٧٣

الآيات

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢)

* * *

معاني المفردات

(الْعاجِلَةَ) : الدنيا.

(يَصْلاها) : يدخلها ، أو بمعنى يحترق بنارها.

(مَذْمُوماً) : ملوما.

(مَدْحُوراً) : الدحر : الإبعاد.

(مَخْذُولاً) : أي ليس له من ينصره.

* * *

٧٤

مصير الإنسان رهن إرادته

وهذا حديث عن تأكيد ارتباط مصير الإنسان بإرادته في مضمونها وحركتها وفي الواقع ، بحيث يحدد الله له النتائج السلبية أو الإيجابية في الدنيا والأخرى من خلال طبيعتها ، مما يجعل من مسألة الحرية في الاختيار للإنسان ، مسألة تتصل بالمعنى العميق لوجوده.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) والظاهر أن المراد بها الدنيا التي تختنق داخلها كل أفكاره وتطلعاته ومشاعره ، ولا يفهم للسعادة معنى إلا ما يتصوره من نعيم السعادة الدنيوية ، فلا يفكر ولا يتطلع إلا إلى الطمأنينة وراحة العيش. وهكذا نجده ينظر من هذا المنظار إلى القضايا والغايات والأهداف ويعالج المشاكل والحلول في واقع هذه الحياة ، فليست هناك بنظره مشاكل مستقبلية تتجاوز حدود هذه الدنيا من قريب أو من بعيد ، فهي البداية وهي النهاية. ولعل التعبير القرآني الوارد في آية أخرى ، يقدم نموذجا عن ذلك : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف : ١٧٦] بما تمثله كلمة الإخلاد إلى الأرض وما تعنيه من الالتصاق بها ، والاستسلام لطبيعتها والاستغراق في داخلها ، والتحديق في أبعادها ، بحيث لا ينظر إلى أيّ أفق آخر بعيدا عنها فهي القيمة وهي المثال في ميزان طموحات الشخصية وخصائصها. إن الإنسان الذي يعيش هذه الروح الغارقة في وحول الأرض لن يخيب أمله في ما يريد ، بل سيحقق الله له ما يريده منها تبعا لمشيئته وحكمته ، وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) فلن يعطيه الله كل ما يريده ، بل سيختار له ما يتفق مع طبائع الأشياء وأسبابها دون أن يتجاوز سننه الكونية لمجرد تحقيق رغباته ، وقد لا يحقق الله ذلك لكل امرئ ، لأن خصائص الواقع الذي يحيط به لا تسمح بذلك.

وقد يتساءل البعض تعليقا على ذلك : إذا كانت القضية متعلقة بالأسباب

٧٥

الطبيعية الكامنة في حركة الأشياء ، فكيف نفهم نسبة الله التعجيل إلى فعله لبعض الناس دون البعض الآخر؟ ونجيب على ذلك بما أجبنا عنه في أمثاله ، بأن إرادة الله للأشياء ، لا تعني ـ دائما ـ مباشرته لها ، بل يتحقق ذلك من خلال سننه. ثم لماذا نفكر دائما باستبعاد علاقته ـ تعالى ـ بالسنن الكونية التي يتحرك ـ من خلالها ـ كل شيء في الكون ما دام الله قد أقام الحياة كلها عليها؟

(ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) ... وهذا هو جزاء الذي ينكر الله ورسالاته ورسله واليوم الآخر ، أو لا يعمل في هذا الخط ، بل ينحرف عنه إلى أجواء التمرّد والعصيان ، فقد أقام الله عليه الحجة في ذلك كله ، فلا عذر له في ما عمله من شرّ أو انتسب إليه من باطل ، لهذا سيحترق في نار جهنم وهو مذموم لسوء فعله ، ومطرود لانحراف إيمانه.

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وهو الذي فهم الحياة الدنيا فهما عميقا خاصا ، ينطلق من فهمه لمسألة الإيمان الذي يرى في الدنيا مزرعة الآخرة ، فليس المطلوب منه أن يترك طيباتها وشهواتها ولذائذها أو يبتعد عن قضاياها ، بل المطلوب منه أن لا يستغرق فيها من خلال هواه ، ولكن ينطلق فيها من خلال خوفه مقام ربّه ، وملاحظته العلاقة بين الممارسة العملية في الدنيا وبين النتائج السلبية والإيجابية في الآخرة ، ليظل في عملية اتصال دائم وثيق بالخط المتوازن من خلال ما يوحي به العقل ويتحرك به المنطق ، مما يجعل من الآخرة ، التي يتمثل فيها رضوان الله ونعيم الجنة ، هدفا لكل أعمال الدنيا ، لتكون دنيا الإنسان الحسية ، آخرة بمعنى انطلاقها من رضوان الله. ولكن المسألة ليست إرادة تعيش في الأعماق ، بل هي الإرادة التي تدفع نحو العمل ، وتقود إلى الهدف ، لتعيش الحركة الفاعلة المتصلة بالخط الذي يربط الدنيا بالآخرة ، حيث يتركز الإيمان في عمق الشخصية ، لأن السعي إلى الآخرة من خلال طبيعة العمل الصالح الذي ينسجم مع الخط الإيماني ، هو الذي يحقق الغاية التي حددها الله ، إذ لا بد من أن يكون الساعي إلى الآخرة مؤمنا ،

٧٦

لأن المسألة في المفهوم القرآني هي أن يكون الخط العملي منطلقا من الخط الروحي والخط الفكري الإيماني ، ليكون له جذوره الضاربة في أعماق النفس الإنسانية.

* * *

رحمة شاملة

(فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) فإن الله يشكر للمؤمن الذي يريد الحصول على رضاه في الدنيا والآخرة ، ويعمل في سبيل ذلك بكل ما يملكه من جهد وطاقة وإيمان ، ويعطيه من فضله ما يريد دون تحديد ، لأن الجزاء هنا يلتقي بالعمل ، فلا ينقص حجمه عنه ، بل قد يزيد عليه ، إذ يمنح الله الإنسان فضلا يضاعف له فيه الثواب العظيم.

(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) الذي يمنح عباده العطاء الجزيل الذي يريدونه من شؤون الدنيا والآخرة ، وذلك رحمة منه تشمل المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ، بعيدا عن موضوع الاستحقاق المؤسّس على قاعدة العمل ، لأن رحمته تنطلق من قاعدة التفضّل التي تحركت الحياة كلها من خلالها ، تماما كما هي الشمس تطلع على البر والفاجر ، وكما هو المطر يهطل على الأرض الخصبة والأرض الجديبة ، وكما هو الينبوع يتدفّق من طبيعة العطاء في ذاته. إنه العطاء الإلهي الذي يتدفق وينهمر ويمتدّ بالرحمة على أساس الحكمة ، ناهيك عن أن الله سبحانه وتعالى يربي عباده بالرحمة في نعمه ، كما يربيهم بالنقمة في عذابه.

(وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) في طبيعته ، وفي مواقعه لدى الحياة والإنسان.

* * *

٧٧

كيف نفهم تفضيل الله للناس ، بعضهم على بعض؟

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الرزق من خلال الخصائص التي أودعها الله فيهم ، وميّزهم بها من قدرة في الفكر والقوّة والحركة والظروف المحيطة بهم ، فإن الحياة لا يمكن أن تنمو وتتنوّع وتتطوّر إلا باختلاف مواقع الإنسان وتنوّع درجاته ، لتتكامل في خصائص القوة التي تتوزّع على الأشياء والأشخاص ، فيعطي هذا من قوّته للآخر ، وتتفاعل خصائص هذا بخصائص ذاك. ومن هنا نستطيع أن نقرر الفكرة التي تقول : إن التفضيل في الدرجات في الحياة لا ينطلق من تفضيل في القيمة ، ليعيش الإنسان الذي يملك الدرجة العليا الإحساس بأن ذلك تكريم من الله له ، ويعيش الإنسان الذي يقف في الدرجة السفلى الإحساس بأن ذلك تحقير من الله له ، فإن هذا الشعور لدى هذا أو ذاك ليس دقيقا ، فقد يكون صاحب الدرجة السفلى في الرزق أقرب إلى الله من صاحب الدرجة العليا ، بل ينطلق التفضيل من الحكمة الإلهية في توزيع حاجات الحياة على الناس والمواقع والأشياء وفق الخصائص الذاتية التي تتميز بها الموجودات. وبذلك يكون حال الإنسان المتميز في النعم التي يغدقها الله عليه ، كحال الأرض المتميّزة بالخصب ، والشجرة الحافلة بالشهيّ من الثمر. ولو أنّ الله أعطى الناس ما يستحقونه ، لاختل نظام الحياة التي لا يمكن أن تجتمع حاجاتها وخصوصياتها في موقع واحد أو في مواقع محدودة ، لأن المطلق لا يمكن أن يتحقق في المحدود.

وخلاصة الفكرة ، أن التفاضل في درجات الحياة لا يعني إعطاء الامتيازات لأفراد معينين أو جماعات معينة ، بل يعني توزيع الخصائص تبعا لحاجات الحياة ، فهي تابعة لحاجة الواقع ، لا لقيمة الذات. وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة التي تعلل التفاضل في الدرجات في بعض مواقعه بقوله

٧٨

تعالى : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢].

* * *

للآخرة أكبر درجات

(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) لأنها تتميز عن الدنيا بالأجواء الواسعة الممتدّة بما يشبه المطلق الذي جاء في بعض الحديث عن ملامحه في القرآن (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] وفي الحديث المأثور عن الجنة أن فيها «بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١) ... إنها الموقع الإلهي الذي يتجلى فيه تكريم الله للإنسان المؤمن العامل ، جزاء على إخلاصه في إيمانه وعمله ، عند ما ينفذ الله وعده للمؤمنين الصالحين بالثواب العظيم.

وإذا كان الأمر يتعلق بتكريم للإنسان ، فإن من الطبيعي أن تختلف درجات التكريم تبعا لاختلاف درجات الإيمان والعمل ، لأن (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] مما يوحي بأن الخير هناك تابع لحجم العمل في الكمية والنوعية هنا. وهذا هو الذي تختلف فيه درجات الآخرة عن درجات الدنيا في مقياس التفضيل ، فإن التفضيل في الدنيا تابع لحاجات الحياة في عملية توزيع الأرزاق والخصائص على الأشخاص والأشياء ، بينما هو في الآخرة تابع لعمل الإنسان المؤمن الذي يستمد قوّته من الرحمة الإلهية في روح الإنسان المؤمن وحياته ...

__________________

(١) الطوسي ، أبو جعفر ، محمد بن الحسن ، تهذيب الأحكام ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٦ ، ص : ٢١ ، باب : ٧ ، رواية : ٧.

٧٩

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) في تصوّرك للألوهية الخالقة القادرة المنعمة الراحمة ، وفي تصوراتك العقيدية والفكرية ، لأنك لن تجد غيره خالقا قادرا منعما رحيما ، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه بقدرته ، وأفاض عليه كل النعم برحمته ، فكل شيء في الوجود مخلوق له ، فكيف يكون شريكا له؟ ولا تجعل معه إلها آخر في العبادة والطاعة ، فإنه ـ وحده ـ المستحق للعبادة من خلال العبودية الذاتية المطلقة التي يعيش فيها الخلق أمامه. وهكذا يكون التوحيد في العقيدة والعبادة ، منسجما مع الطبيعة الإنسانية في نداء الفطرة الصادر من الأعماق. ودليلا للعمل في الحياة ، فلا تترك السير على هداه (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) لأنك ابتعدت عن مواقع الرحمة ومنابع النعمة ، فتعيش مذموما ، لأنّك أوقعت نفسك في الضياع والضلال ، ولأنك فقدت الصلة القوية بالله ، عند ما انحرفت عن خط الاستقامة في العقيدة والعمل ، ففقدت النصير الذي بيده النصر كله وله القوة كلها ، ولن تجد من دونه وليا ولا نصيرا ، فتعيش مخذولا عاجزا ذليلا.

* * *

٨٠