تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

تواجه المسؤولية من جميع الجهات ، لئلا تنحرف به النظرة الخاضعة للجانب الواحد عن النفاذ إلى القاعدة الّتي تحكم الخط الشامل للشريعة ، كما يفعل بعض المؤمنين الذين يفهمون الإسلام من خلال نصوص الزهد دون مقارنتها بنصوص المسؤولية عن حركة الحياة من حوله ، ونصوص الرخصة في الطيبات ، مما يجعل من الزهد أداة لخدمة الحركة لا وسيلة لتجميدها ، أو الذين يدرسون أحاديث استحباب العزلة عن الناس ، بعيدا عن الأحاديث التي تؤكد وجوب هداية الناس ورعاية أمورهم وقضاء حوائجهم أو استحبابها ، مما يجعل من العزلة حالة استثنائية تتحرك في نطاق الحاجة إلى التأمّل والانفصال عن المجتمع في وقت ما ، لحماية روحيته من الانحراف ، وتصوراته من الخطأ ، وخطواته من الزلل.

* * *

القرآن والدعوة إلى اعتبار العقل أساس المعرفة

وقد نلاحظ هذا الخط الأقوم في القرآن ، في ما دعا إليه من اعتبار العقل أساسا للمعرفة في العقيدة وحركة الحياة ، من حيث هو رسول داخليّ ، ورأى فيه الحجة على الإنسان وللإنسان ، في كل خطوات المسؤولية ، وأكد عليه كأساس للوعي الفكري والروحي لديه.

ثم نلاحظ الدعوة إلى العلم كمنطلق للإيمان والحركة والحياة ، فالقرآن أكّد على أن مشكلة الانحراف في حياة الإنسان تكمن في الجهل ، واعتبر أنّ العلم هو القيمة التي تميز الناس عن بعضهم البعض ، ورفض التسوية بين من يعلمون ومن لا يعلمون ، وأراد للإنسان أن يقرأ كل ما ينمّي فيه طاقة المعرفة ، أو يفتح آفاقه على الجوانب الخفيّة للكون ، وأن يكتب كل ما يستفيده في ذلك

٤١

ليحفظه للأجيال ، في أوّل سورة أنزلها الله على رسوله.

وهكذا أراد للحياة أن تقوى وتشتد وتتركز ، في دائرة التطور الإنساني ، والتقدّم الحياتي على أساس العقل والمعرفة ، ليكون ذلك بمثابة القاعدة التي تكفل استمرارها من موقع القوّة والثبات ، وتكفل للإنسان النموّ المتحرك في أكثر من اتجاه ، مما يلتقي مع الخط الذي يخضع للتقويم والتصحيح في كل مرحلة ينحرف فيها عن الاتجاه المستقيم ، بينما يتأكد الانحراف ويتعمّق ويتحوّل إلى عقيدة راسخة ، إذا انطلقت الحياة في أجواء الجهل والخرافة ، فلا يستقيم لها طريق ، ولا يتحقق لها هدف.

وقد نلتقي بالخط الذي هو أقوم ، في النظرة الشاملة للإنسان في تأكيده للعنصر الإنساني ، وابتعاده عن كل العوامل الطارئة التي لا تلتقي بالعناصر الذاتية في كيانه ، فلم يجعل للنسب أو للعرق أو للّغة أو للأرض أيّة ميزة في حساب القيمة ، بل رأى في تنوع الخصائص أساسا للتنوع في النتائج العملية في حركة الإنسان ، ودعاه إلى اعتبار القيمة ـ كل القيمة ـ في حركة خصائصه الإنسانية في اتجاه الالتزام بالخط المستقيم المرتكز على طاعة الله ، التي هي الخير كل الخير في القول والفعل وحركة العلاقات والتطلعات الروحية للإنسان ، وهذا ما يعبر عنه بالتقوى ، التي تعني الانضباط في خط العقيدة والشريعة ، وبذلك لم تكن خصائص الوجود هي التي تحدّد للإنسان قيمته ، بل هي حركة هذا الوجود في النتائج الكبيرة للحياة.

* * *

العدالة وحاكميتها على الواقع الإنساني

ونلتقي بالخط الأقوم في حركة العلاقات الإنسانية على مستوى الحكم

٤٢

والقاعدة ، في تأكيده على العدالة في جميع المجالات من دون تفريق بين الناس ، في ما يختلفون فيه من علاقات العداوة والصداقة ، والقرب والبعد ، والغنى والفقر ، والكفر والإيمان ... وارتفع بالمبدأ إلى المستوى الذي اعتبره فيه هدفا أسمى لإرسال الرسل وإنزال الكتب ، ممّا يجعل من الشرائع كلها في وحي الله ، وسيلة من وسائل التربية الإنسانية على مبدأ العدل روحا وشعورا وفكرا وحركة حياة ، بحيث يكون المقياس في ارتفاع درجة الإيمان لدى المؤمن ، بالمقدار الذي ترتفع درجة العدل عنده ، ولم يترك المسألة مجرّد حالة أخلاقية فكرية أو شعورية ، بل عمل على التخطيط التشريعي لتحويلها إلى مفردات شرعية تحكم الواقع الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة ، مما يؤكد الخط على أساس الثبات من حيث المبدأ والحركة على مستوى الواقع.

* * *

الخط الأقوم وجانبا العزة والحرية

وقد نلاحظ حركة الخط الأقوم في التأكيد على جانبي العزة والحرية في حياة الإنسان أمام الكون كله من جهة ، وأمام بقية أفراد الإنسان من جهة أخرى ، وذلك من خلال إذعانه بعبوديته لله سبحانه ، ليكون انسحاقه أمام الله أساسا للانطلاق في قوّته من موقع ارتباطه بقوّة الله دون غيره ، مما يجعل منه منطلقا للقوّة أمام الآخرين الذين هم عباد أمثاله ، مهما ملكوا من القوّة والسلطة. وربما كانت قيمة هذا التوجه ، أنه يوحي للإنسان بالعمق الذي تختزنه إنسانيته على مستوى حرية الإرادة وانطلاقة الفكر ، حيث لا يعيش الشعور بالانسحاق الداخلي أمام أيّة إرادة بشرية أخرى ، ولا يواجه الحدود الضيقة للفكر الذي قد تفرضه سلطة معينة عليه ، لأنه يجد في إنسانيته الغنى

٤٣

الذاتي الذي يتفاعل مع إنسانية الآخرين دون الخضوع لها ، لأنه لا يجد نقصا في موقعها الحياتي ، فهي مع الآخرين على حد سواء.

وهكذا تتحرك هذه التربية القرآنية في وعي الذات ، ليبقى الإنسان في حقيقته عبدا لله ، يعيش الإحساس بالضعف أمامه ، ليستمد القوّة منه في كل لحظة ، من خلال انشداد الحاجة المطلقة إلى الغنى المطلق ، ويعيش حرّا أمام الآخرين ، في شعور دائم بالامتلاء الروحي من خلال استقلاله الذاتي عنه ، فكرا وطاقة وحركة حياة.

ثم تنطلق هذه التربية في اتجاه آخر يتصل بقضية الحرية السياسية في واقع الإنسان ، لتكون هذه القيمة الإنسانية أساسا لحركة متجددة شاملة على مستوى الجهاد العنيف الدائم ضد كل قوى الاستكبار في الحياة ، بحيث يتحسس الإنسان انحرافه عن خط الحرية والعزة والكرامة ، كما يتحسس حالة الخطيئة في أعماله الخاصة. وهذا ما عبر عنه الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في تفسيره لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] حيث قال معلّقا على ذلك : «إن الله عزوجل فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلا» (١). مما يوحي بأن مسألة العزة ليست مسألة شخصية ، بل هي مسألة روحية عامة لا يملك الإنسان حرية التصرف فيها.

وعلى ضوء ما تقدم ، فإننا نستوحي أن الإسلام يمثل ، في عمق تكوينه الفكري والتشريعي ، الدين الذي يحمل قضية الحرية كقاعدة لحركة الإنسان في الحياة في مواجهة قوى الاستعباد والاستكبار ، ويرى في مسألة الجهاد نتيجة طبيعية لذلك ، بحيث يتم التفاعل بين ماهية القاعدة ، وماهية قضية الحرية في المستوى السياسي والعسكري ، فيبطل الرأي القائل بأن الدين يمثل العنصر

__________________

(١) الكليني ، الكافي ، ج : ٥ ، ص : ٦٣ ، رواية : ١.

٤٤

التخديري للإنسان ويوحي له بالاستسلام للأمر الواقع ، مهما كانت طبيعته منافية لمصلحة الحياة في حركة الإنسان الواقعية.

* * *

واقعية التشريع

وقد يتمثل الجانب الأقوم في النظرة الواقعية إلى حدود التشريع في حياة الناس حيث لم يفرض عليهم أيّ حرج في التكاليف ، بل جاء بالشريعة السهلة السمحة القائمة على اليسر ، ولم يكلّف الناس ما لا يطيقون ، ورفع عنهم ما لا يعلمون وما أكرهوا عليه أو اضطروا إليه ، ورفع أحكام الضرر عنهم من خلال القاعدة الشاملة «لا ضرر ولا ضرار» ، وأحاط الإنسان بقيود عملية جعلت التكليف يتحرك بطريقة واقعية ، لا تجمّد حركة الإنسان ، ولا تطلقها في ساحة الفوضى ، مما جعل القيم السلبية تقف بهذه الحركة عند حدود المصلحة الإنسانية العامة ، كما جعل للقيم الإيجابية مثل ذلك ، فقد يصبح الكذب حلالا إذا كان وسيلة للخير الإنساني ، وقد يحرم الصدق إذا ابتعد عن مصلحة الحياة ، وهو ما لا مجال لتفصيله الآن ، لأننا نريد التأكيد على الجانب الواقعي للشريعة الذي يبتعد بها عن الجانب المثالي ، لأن المثالية في هذا الإطار تغيب الواقع الإنساني الحقيقي وتجعل الشريعة غير صالحة للتطبيق.

* * *

لمن البشارة الروحية ولمن العذاب الأليم؟

(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) فيؤدون لله حقه من خلال ما

٤٥

ألهمهم من الإيمان به وبتوحيده كحقيقة تفرض نفسها على الفكر والوجدان والشعور ، فيقومون بالعبادات التي فرضها عليهم لتعميق الجانب الروحي في ذواتهم ، وللإيحاء الدائم بالحضور الإلهي في حركة الحياة من حولهم ؛ يجسدون هذا الإيمان واقعا حيّا في كلماتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم ومشاريعهم العملية ، ليكون ذلك كله منسجما مع الخط التشريعي الإلهي الذي جاءت به الرسالات وبشر به الأنبياء كنظام كامل للإنسان وللحياة. وبذلك يكونون مخلصين لله من خلال انفتاحهم عليه والتزامهم بأوامره ونواهيه ، ولأنفسهم بتوجيهها إلى ما يحقق لها سعادة الدنيا والآخرة ، وللناس وللحياة وذلك بالتزامهم الضوابط والحدود وبذلهم الطاقات وتفجيرهم ينابيع الخير وتحريكهم مواقع الحق والعدالة والإيمان.

وهكذا استحقوا البشارة الروحية ، المنطلقة من جهدهم ومعاناتهم مما يكافئ به الله عباده المحسنين (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) لأن الله لم يرد للإنسان أن يتجرد من غريزة حب الذات القائمة على أساس الأخذ والعطاء ، ولكنه أراد له أن لا يتجمّد في تفكيره بالثمن أو بالعوض عند حدود الدنيا في الجانب المادي منها ، بل يمتد إلى أبعد من ذلك في الجانب الروحي من قيم الحياة ، الذي يملأ قلبه بالرضا والطمأنينة والسرور ، ويلتفت إلى آفاق الآخرة ليحصل على نعيمها السابح في رضوان الله ، وهكذا أجمل الله لهم الأجر في البشارة ، فلم يفصل لهم طبيعته ، ولكنه أطلق لهم التصور في أن يعيشوا الشعور في دائرة حجمه ، فالله سيمنحهم الأجر الكبير الذي يمتد إلى نعيمه ورضوانه ورحمته التي وسعت السّموات والأرض.

أمّا الذين لا يؤمنون بالآخرة ، لأنهم لا يعيشون مسئولية الإيمان ، فينطلقون في أجواء اللامبالاة إزاء قضية العقيدة أو مسألة الالتزام ، ولا يجدون مشكلة في أيّ جانب فكريّ أو عمليّ ، ليناقشوه ويتحاوروا فيه ، ليلتزموه أو يرفضوه ، بل كل همّهم ينحصر في إشباع جوع الحس وإرواء ظمأ الشهوة

٤٦

وتلبية حاجات الهوى ، وهذا ما جعلهم يبتعدون عن الإيمان بالله حتى فقدوه ، وعن الالتزام بالوحي حتى تمردوا عليه ، فأساءوا إلى أنفسهم بما جلبوه لها من متاعب ومشاكل ، وما أبعدوه عنها من منافع ومكاسب ، وما أوقعوها فيه من مهالك ومزالق ، وأساؤوا إلى الناس لأنهم ظلموهم وأضلوهم في حياتهم وأثاروا في حياتهم أجواء الكفر والضلال والانحراف ، وحرّكوا فيها خطوات التمرّد والظلم والطغيان ، فهم مشدودون إلى الأرض لا يتطلعون لحظة إلى السماء ، ومرتبطون بالدنيا لا يفكرون بالآخرة ، وملتزمون بالمادة لا يعيشون قيم الروح. وهكذا ضلوّا وأضلّوا بعد أن قامت عليهم الحجة من الله ، من خلال ما أعطاهم من عقل ، وما رزقهم من حواس ، وما وهبهم من وسائل الحركة ، وما أحاطهم به من أجواء العناية ، فلم يكفروا عن عجز ، ولم يضلوا عن جهل.

أما هؤلاء فلهم بشارة من نوع آخر (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لأن المقدمات تفرض نتائجها ، ولأن العمل يفرض الجزاء. وهذا هو جزاء الذين لا يعيشون مسئولية العمل ، فينحرفون به إلى غير ما يريده الله للإنسان وللحياة.

* * *

٤٧

الآية

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١)

* * *

مخاطر الاستغراق في عالم الحس

وهذه حقيقة إنسانية في التكوين الأولي للإنسان ، أو في الواقع العملي في وجوده ، وذلك لارتباطه بالجانب الحسي للحياة وتطلّعه إلى الصورة الظاهرة فيها ، مما يجعله ينحرف نحوها دون حساب وتقدير ، تماما كما هو القفز من موقع إلى آخر دون التدقيق في الهوّة التي تفصل بين الموقعين ، وتفرض عليه سلوك خط السلامة في طريق السير ، واكتشاف سبل جديدة ، مما يحتاج إلى وقت طويل ، أو إلى تأمّل عميق. وهكذا كان الإنسان يواجه دعوات الحق ، وأهداف الخير في رسالات الأنبياء الذين كانوا يطرحون للناس نظام الحياة المرتكز على الوحي الإلهي ، ويطلبون منهم الانسجام مع هذا الخط في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ، ويحذّرونهم من الانحراف عنه ،

٤٨

ويبشرونهم بالسعادة في الدنيا وبالجنة في الآخرة إذا أحسنوا الالتزام به ، وينذرونهم بالشقاء في الحياة وبالنار في الآخرة إذا أساؤوا السير على هداه.

ولكن الناس لا يدققون في فكر الدعوة ، ولا يتأمّلون في النتائج الإيجابية والسلبية في ما يتحرك به التبشير والإنذار ، ولا يتروّون في تحديد موقفهم من حركة الرسالة ودعوات الرسل ، بل ينطلقون مع السطح الظاهر للأشياء ، والنتائج المباشرة للواقع ، وتلحّ عليهم الدعوة إلى التفكير وعدم المبادرة إلى السرعة في الإنكار ، ويظلون مشدودين إلى أوضاعهم الحسية ، فيستعجلون العذاب الذي ينذرهم به الأنبياء ، ليتخلصوا من الإحراج ، أو ليتخففوا من الإلحاح ، أو ليسخروا منهم ، لأنهم لا يعتقدون بجدّية الموضوع ، فيطلبون أن ينزل الله بهم العذاب ، كما قد يطلبون في الحالات الطبيعية أن تنزل عليهم السعادة ويهطل عليهم الخير وتفيض عليهم النعمة. إنهم يستعجلون ذاك كما يستعجلون هذا ، لأنهم لا يفهمون معنى ارتباط المسببات بأسبابها ، وعلاقة النتائج بمقدماتها ، وأن لكل شيء أجلا لا يعدوه ، وأن الله عند ما يعد الناس بالخير أو يتوعدهم بالعذاب ، فإنه لا يستعجل الأمر قبل أوانه ، بل يؤخره إلى أجل مسمّى وفقا لما قدره للأشياء من أسباب وآجال تبعا لحكمته الثابتة التي لا تهتز ولا تتزلزل. ولو عرف الإنسان كيف يفكر ليعرف النتائج السلبية والإيجابية لخطواته العملية في الحياة ، لاستطاع أن يدرك الهول العظيم لما يلاقيه من العذاب الذي لو التقى به ، لودّ أن يكون بينه وبينه بعد المشرقين.

وهذا ما يمنعه من السير على الطريقة التي هي أقوم ، ومن الانفتاح على البشارة والابتعاد عن أجواء الإنذار.

* * *

٤٩

شروط واقعية لتجنب السلبيات

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) ويطلبه في واقع أمره ، تخلّصا من حالات الترقب والانتظار والتفكير ، التي تربطه بالمستقبل الذي قد يأتي بعد وقت طويل ، وبذلك يقع في كثير من الخسائر والهزائم والمشاكل ، لأنه لم ينتظر الشروط الواقعية التي تنقذه منها أو من سلبيتها ، أو تبدّلها إلى حالات أفضل. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) كما يدعو بالخير في شوق ولهفة واستعجال ليحصل على لذته ومنفعته في أقرب وقت. ولكن الإنسان لا يعي ما معنى استعجال العذاب الذي يدمّر مصيره ، ويحطّم كل معنى للحياة فيه ، ولذلك يظل سادرا في غيّه ، فيرى أنه لا يمثل الحقيقة لأنه اعتاد على أن يكون مقياسها السرعة في الوجود بشكل مباشر.

* * *

بين العجلة ومنطق الواقع

(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) تلك هي طبيعته التي يتحرك من خلالها ، وهي الأساس للكثير من أخطائه وانحرافاته ومشاكله التي يتخبّط فيها ، ولكن ذلك لا يعني أنها الطبيعة الثابتة المتصلة بالتكوين الذاتي لوجوده ، بحيث يكون التخلص منها تخلّصا من جزء من ذاته ، بل هي الطبيعة المتحركة الناشئة من ارتباطه بعالم الحسّ في حركة حياته ، فيمكن لها أن تهتز وتتراجع إذا أخذ الإنسان بأسباب الفكر ، وتعامل مع الحياة بمنطق الواقع ، ودرسها من خلال سنن الله في الكون التي تفرض الانتظار سنة في بعض الأمور ، وعدة سنين في

٥٠

بعض آخر ، كما قد تفرض الانتظار مدة الحياة في ما يأتي في نهايتها أو بعدها.

وعلى ضوء ذلك ، لا بد من المعاناة والصبر وبذل الجهد من أجل الحصول على الشخصية العاقلة المنفتحة المتأنّية في انتظارها للقضايا الملحة ، المتأمّلة في دراسة شروطها الواقعية ، على نهج الأمور الكونية الخاضعة لأكثر من مرحلة سابقة على الوجود ، في عملية الوجود الفعلي لظواهرها.

* * *

٥١

الآية

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢)

* * *

معاني المفردات

(مُبْصِرَةً) : مضيئة ومنيرة.

(لِتَبْتَغُوا) : لتطلبوا.

* * *

الفضل الإلهي

أنها الحياة الخاضعة للحكمة في نظامها الكوني ، ففي كل ظاهرة سرّ ،

٥٢

وفي كل حركة حكمة. فالخلق ليس عبثا ، بل هناك قواعد تحكم كل شيء وتنظّمه وتفصّله وتجعل كل الأمور مشدودة إليه ، مما يوحي للإنسان بأنه يعيش في كون يتحرك ويقف بحساب ، ويجد فيه كل المنافع والغايات التي توجهه إلى وجهته التي أراد الله أن يبلغها. وهكذا كان الليل والنهار آيتين من آيات الله التي تحمل ـ في مضمونها وحركتها ـ أبلغ الدلالة على وجود الله وقدرته وحكمته ، فهما ينقصان ويزيدان ويتعادلان ضمن معادلة كونية في حركة الأرض ونظام الشمس ، فلا ينحرفان عن خط التوازن قيد شعرة ، بل يلتزمان ـ في حركتهما الكونية ـ الخط الدقيق الذي يسير باتزان وحكمة ودقّة ، لينظم للكائنات وجودها ، وليؤمّن للإنسان الكائن الحي المتحرك شروط حياته في انطلاقة الشروق في الأرض ، حيث يفتح النور كل عيونه ، وليعطي لكل موجود عينا مبصرة تحدّق بما حولها ومن حولها ، ليجد موارد رزقه ومصادره في الأرض التي تظهر له كل كنوزها ، ليكتشفها في ما تخبئه في أعماقها من معادن وثروات وينابيع ، أو ليزرعها من البذور التي تنمو وتخضرّ وتستطيل وتمتد ، فتمنحه الغذاء المتنوع ـ من الخضرة والفاكهة والحبوب ـ الذي يمده بحيوية الحياة في داخله ، ويتحرك بما يفيده في المجالات المختلفة المتنوعة ، سواء في عملية التواصل والتبادل بين أفراده ، أو في طريقة السيطرة التي يمارسها على ما خلقه الله من الحيوان في آفاق الفضاء ، أو في أعماق البحار ، أو في أغوار الكهوف ، أو على سطوح الأرض وفي سهولها وجبالها ، مما ينتفع بلحمه أو بجلده ، أو بلبنه ، أو بصوفه وشعره ووبره ، أو مما ينتفع بركوبه أو بحمله الأثقال عنه أو غير ذلك من الخصائص التي أودعها الله فيه من دواء أو غيره. وهكذا يجد في هذا النهار المبصر ، العين الإلهية التي تفجر النور في الكون ، وتكشف عن عينيه كل غشاوات الظلام الذي يمنع الرؤية. وهذا هو الفضل الإلهي في حركة الرزق وحماية الوجود وتنوّع الحياة.

* * *

٥٣

الإغفاءة الهادئة

وإذا جاء الليل ، فإنه يأتي بالظلام الذي تغيب فيه الأشياء عن النظر ، وتنعدم فيه كل مظاهر التمايز بينها ، فليس هناك إلا هذا السواد الذي يلف الكون كله ، حتى لتحس أنه قطعة واحدة ، لا تحمل أيّ شيء يوحي بالتنوّع ، لولا بعض الأجسام الضخمة التي تفرض ضخامتها على مواقع الإحساس ، عند ما تصطدم بها بطريقة وبأخرى. ويهدأ الكون ، لأن الحركة التي يمنحها النور للموجودات قد هدأت ، وآن للإنسان أن يستريح مع الكون ، ويأخذ لنفسه إغفاءة هادئة من أجل أن يكتسب قوّة جديدة ليوم عمل جديد ... وهكذا جعل الله الليل لباسا والنوم سباتا ، كما جعل النهار نشورا.

* * *

آيتان للتفكر

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) كما هي الظواهر الكونية الأخرى التي يريد الله أن يجعلها منطلقا للتفكير به ، والإيمان بوجوده نتيجة ما يكتشفه الإنسان فيها من أسرار العظمة ودلائل الحكمة ، فيخشع للعظمة القادرة الحكيمة ، ويتوازن في حركته أمامها ، لتستقيم للكون حكمته بخضوع الإنسان العملي لله ، كما استقامت في خضوع الموجودات الكونية ، بحركة قوانينها لخالقها العليّ القدير.

(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وما يمثله من السواد الحالك المنتشر على سطح هذا الكون ، تماما كما هو السواد على الورق المتأتي مما يكتب عليه من

٥٤

حروف ، ويجيء النور ليمحو كل ذلك السواد ، لترجع صفحات الكون بيضاء نقيّة لامعة. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) من خلال ما يمثله البصر من حركة النور في الأحداق ، فكأن النهار هو الذي يبصر ، في ما يحتضنه من حركة الشروق التي تمنح العيون معنى الإبصار بما تزيله من غشاوات الليل التي تمنع الرؤية. (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) بما يفتحه الله لكم ـ من خلال النهار ـ من أبواب الرزق في مختلف مجالات الحياة ، وذلك هو فضل الله الذي يمنحه لعباده من تهيئة الأسباب الطبيعية لامتداد الحياة واستمرارها في ما تحتاجه من غذاء وشراب وكساء وما إلى ذلك من الشؤون العامة والخاصة.

* * *

التكامل بين الكون والإنسان

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) وهذه حكمة أخرى يستفيدها الناس من نظام الليل والنهار ، فإن كل واحد منهما يمثل فاصلا زمنيا يحدد للإنسان حجم الزمن ، ويجعل له نوعا من التمايز العددي ، الذي يمكن أن تتعدد فيه السنون وغيرها من الأزمنة والأوقات ، وبذلك يمكن للناس أن ينظموا حساباتهم في حركة العمر والمواعيد والأوضاع المختلفة في كل شؤون الحياة. وهكذا ينطلق هذا النظام الكوني لينظّم للناس طريقتهم في الحياة وليحصلوا على منافع كبيرة وخير عظيم. وتلك هي قصة التكامل بين الكون والإنسان ، في ما يريد الله أن يسخّره له من خصائص الوجود التي تنمي له وجوده وتبني له حياته ، وما يريد الله منه إلا أن ينسجم في حركته مع حكمة الله في الكون لئلا يفسد نظامه بعبثه وانحرافه وتمرده.

٥٥

(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) فلم يجعل الله أيّ شيء غامضا أمام الإنسان ، في ما يريد الله أن يقيم الحجة به عليه أو أن يعرفه بوسائله التي أعطاها له ، ولم يترك في الوجود شيئا إلا وأعطاه خصائصه وملامحه المميزة التي يتميز بها عن بقية الأشياء ، لتتحقق لكل الأشياء نتائجها الإيجابية أو السلبية من خلال ذلك. وقد أعطى الله للأشياء صفة الوضوح في أوضاعها الكونية ، سواء على مستوى الإنسان أو على مستوى الكون ، وحث على اكتشاف الأسرار العميقة في الكون ، أو المسؤوليات العامة في الشريعة ، لأن التفصيل يتمثل في طبيعة الأشياء في حركة الوجود والتشريع ، بحيث لو أراد الإنسان أن يعرفها لما وجد هناك مانعاً يمنعه من ذلك ، في مقابل الإجمال الذي يتمرد على كل وسائل المعرفة.

وتأتي هذه الآية في سياق الحديث عن الإنسان الذي يريد الله أن يهديه إلى الحياة الأقوم من خلال المنهج الأقوم ، ومن خلال ما سخره له من وسائل الهداية وأسباب الحركة وأجواء التوازن الكوني والعملي.

* * *

٥٦

الآيتان

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(طائِرَهُ) : أي عمله الذي طار عنه من خير وشر.

(مَنْشُوراً) : نشر الكتاب بسطه.

(حَسِيباً) : رقيبا.

* * *

مصير الإنسان موكل إليه

ويتحرك المنهج الأقوم حين يؤكّد القرآن على المسؤولية الفردية التي

٥٧

يتحملها الإنسان أمام الله ، فهو مسئول عن عمله ، لأن الله قد أودع عناصر المسؤولية في خلقه من خلال ما خلق من العقل والإرادة وأدوات الحس التي يدرك بها الأشياء ، وفي وحيه من خلال ما هداه الله إليه في ما يريد له أن يؤمن به من الحق الذي يهدي إليه العقل من خلال الفكر ، وما يريد له أن يقوم به من مسئوليات عملية يدركها بعقله أو سمعه أو بما يعرفه من وحي الله ، وبذلك يتحمل المسؤولية من خلال الإرادة التي توحي له بالحركة ، وبالوسائل التي يتمكن بواسطتها من الحفاظ على هذه الأمانة.

وقد نجد في هذه المسؤولية نوعا من أنواع التكريم الإلهي للإنسان ، لأنه أوكل إليه أمر تقرير مصيره الدنيوي والأخروي بنفسه ، وبذلك كانت إرادة الله أن يدير الكون ، ويدير نفسه من خلال نفسه في خط المسؤولية ، مما يوحي بالتقييم الكبير لدوره المتحرك الفاعل المسؤول. وهذا ما تريد الآية أن تثيره في وعي الإنسان ووجدانه ، في طبيعة علاقة المسؤولية بمصيره وفي الموقف الأخروي الحاسم الذي يواجه فيه النتائج الإيجابية أو السلبية بنفسه ، فيحكم لنفسه أو عليها ، من موقع التقرير الدقيق الذي يسجل كل الأشياء الصغيرة والكبيرة من قوله وفعله ، ليقرأه بكل وضوح وإذعان.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ، والطائر هو التعبير الكنائي عن المصير الشقي ، أو المصير السعيد ، تبعا لما كان يتشاءم به الناس أو يتفاءلون به من أنواع الطيور التي يعتبرونها طيور نحس أو طيور سعد ، فكأن الله يريد أن يوحي للإنسان بأن مصيره لا يأتيه من خارج ذاته أو هو مرتبط بالحظ الذي يحمل له السعادة أو الشقاء دون أن يكون له دخل في ذلك ، بل هو متصل بحركة وجوده ، من خلال عمله ، وبذلك فإنه معلّق في عنقه ، وهذا ما يوحي به التعبير من معنى المسؤولية اللازم له ، باعتبار أن العنق لا يفارق الإنسان ما دام حيّا بخلاف الأعضاء الأخرى.

* * *

٥٨

الكتاب المنشور

(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) فقد أحصى الله عليه كل ما فكر فيه أو قاله أو عمله من أمور الحق والباطل والخير والشرّ ، من خلال علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة ، ومن خلال ملائكته الحفظة ، وأودع ذلك كله في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وسيقدّم له هذا الكتاب منشورا لا يحتاج في قراءته إلى أيّ جهد من تقليب الصفحات ، وسيطلب منه أن يقرأه ، ليسترجع ـ من خلاله ـ كل ذكرياته ، في كل مفردات حياته في الدنيا.

(اقْرَأْ كِتابَكَ) ... وستتأكد وتشاهد في ما يفتحه أمامك من آفاق الماضي السحيق كل صفحات حياتك ، وستعرف ـ بعد ذلك ـ كيف تحاسب نفسك وكيف تحاكمها لتصدر الحكم لها أو عليها. لذلك لن تحتاج إلى حسيب أو حاكم ، فأنت الحسيب وأنت الحاكم وأنت المحكوم ، لأن المسألة قد بلغت من الوضوح حدا لا تحتاج فيه إلى شهود ، ولا تتجمد فيه أمام شبهة أو إشكال. (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) فانظر كيف تواجه الموقف غدا ، من خلال ما تتحرك به اليوم من أعمال الخير أو الشر ، أو مواقف الحق أو الباطل.

* * *

٥٩

الآية

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

* * *

معاني المفردات

(تَزِرُ) الوزر : هو الحمل الذي يثقل الإنسان.

* * *

تعميق حس المسؤولية

في هذه الآية ثلاث حقائق قرآنية تتصل بخط المسؤولية في حياة الإنسان :

الحقيقة الأولى : وهي التي تقررها الفقرة الآتية : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي

٦٠