تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الآيات

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) (٨٨)

* * *

معاني المفردات

(ذِكْراً) : خبرا.

(مَكَّنَّا لَهُ) : جعلنا له قوّة وسلطانا.

(حَمِئَةٍ) : الحمأ : طين أسود.

(نُكْراً) : فظيعا.

* * *

٣٨١

من هو ذو القرنين؟

وهذه شخصية جديدة تتميز بالإيمان والقوة والحركة والمسؤولية ... كانت مثارا لأكثر من سؤال لدى القوم المعاصرين للرسول ، وهي شخصية ذي القرنين الذي قد يكون مذكورا في التراث اليهودي ، وقد يكون منقولا لدى مجتمع الدعوة في ما يتناقله الناس من أحاديث الشخصيات التي تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة ، والخرافة بالعلم.

وقد لا نملك التاريخ الدقيق الذي يمكن أن يفصّل لنا خصوصيات هذه الشخصية في موقعها من الزمان والمكان ، أو في طبيعة الملامح الذاتية. وقد أفاضت الأحاديث المأثورة المروية في تحديد اسمه ، وموقعه ، ومدة ملكه ، وفي سرّ هذه التسمية الغريبة التي تجعل له قرنين ، مما لا يكون إلّا للحيوان ، وهل هما من ذهب أم من فضّة؟ وغير ذلك مما لا يخضع لقاعدة أو يؤدي إلى نتيجة.

وقد ورد في بعضها ما يمكن أن نستوحي انسجامه مع الوحي القرآني في تحديد شخصيته ، وذلك في ما رواه صاحب الميزان عن الشيخ الصدوق في «كمال الدين» عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قام ابن الكوّاء إلى عليّ عليه‌السلام وهو على المنبر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن ذي القرنين ، أنبيا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن قرنيه ، أمن ذهب أم من فضة؟ فقال له : لم يكن نبيا ولا ملكا ، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة ، ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه الله ، ونصح لله فنصحه الله ، وإنما سمي ذا القرنين ، لأنه دعا قومه إلى الله عزوجل ، فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ، ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الآخر(١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

٣٨٢

وإذا صحت هذه الرواية ، فإنها تدل على أنه قد عاش الدعوة إلى الله في حياته ، من موقع المعاناة في خط التحدي والتحدي المضاد ، مما جعله عرضة للاضطهاد ، كما هي حال الكثيرين من المصلحين المجاهدين الذين يعيشون الضعف الذاتي والمادي في مجتمعهم ، فيتعرّضون للضرب والاضطهاد من طغاة زمانهم ، ولكنه قد أخذ بأسباب القوة ، حتى أصبح يطوف البلاد من موقع القوة الضاغطة الكبيرة.

ولعل القرآن لا يستهدف من الحديث عنه إلا الجانب الإيحائي الذي يوحي بالعبرة في ما يتمثل في ملامحه من قوة الإيمان ، وقوة الشخصية ، وحركة المسؤولية الحاسمة أمام حالات الانحراف أو الاستقامة وتحريك القوة في معاونة الضعفاء ، والابتعاد عن النوازع المادية في ما يقوم به من جهد تجاههم.

وربما كان هذا هو النهج في القصص القرآني ، الذي لا يفيض في الحديث عن التفاصيل ، فيقتصر على رسم ملامح الصورة عن الأشخاص الذين يتحدث عنهم ، لأنه لا يعتبر القصة ملهاة لإثارة الفضول وإشباعه ، لتكون الأمور الجزئية التفصيلية أساسا في حركة القصة ، بل يراها درسا فكريا أو عمليا ، من خلال ما توحي به الملامح البارزة التي تمثل حركة القضية المطروحة في السير العملي للشخصيات. وقد نحتاج إلى استلهام هذا النهج في كتابة التاريخ ، لأن ما نستفيده للمستقبل من عبرة لا يحتاج إلى سرد الكثير من تفاصيله ، وبذلك نبتعد عن الاستغراق في الملامح الذاتية للشخص العظيم ، نبيا كان أو إماما أو وليا أو زعيما صالحا ، إلا في ما يتصل بالمعنى الرسالي أو القيادي من ذلك.

* * *

٣٨٣

قصة ذي القرنين

وهذا ما نريد أن نلتقيه في حركة القصة القرآنية في قصة ذي القرنين.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) لتكشف لهم غوامض شخصيته وخصوصية تاريخه ، ليتعرفوا عليها من خلال حديثك ، أو ليتعرفوا دقة معلوماتك ، عند ما يقارنون بينها وبين ما يملكونه من معلومات حصلوا عليها من مصادرهم الموثوقة أو غير الموثوقة ، ليكون السؤال اختبارا لما تملكه من المعرفة. (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) يمنحكم الفكرة والعبرة ، بعيدا عن الفضول الذاتي الباحث عن التفاصيل.

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) فأعطيناه من القوة والسلطة والسيطرة ، (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) من الوسائل الفكرية والروحية والمادية ، ومن القوى البشرية المتعاونة معه ، المؤيّدة له ، ومن المواقع المتقدمة في ساحات الصراع الواسعة على مستوى العالم الذي يحيط به.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) وتحرّك من أجل الأخذ بهذه الأسباب التي تمهّد له الوصول إلى أهدافه الكبيرة ، عبر المسافات البعيدة الباحثة عن مشارق الشمس ومغاربها.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) وهو الموقع الذي ينتهي إليه العمران من جهة الغرب في ما يمكن له أن يبلغه لاصطدامه بحاجز مائيّ أو جبليّ أو ما إلى ذلك ... (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وربما كانت كناية عن مصبّ أحد الأنهار ، حيث تكثر الأعشاب ويتجمع حولها طين لزج ـ وهو الحمأ ـ وتوجد البرك كأنها عيون الماء ، فرأى الشمس تغرب من هناك ، ووجدها تغرب في

٣٨٤

عين حمئة ـ كما يقول سيد قطب (١) ـ وربما كانت النقطة عند شاطئ المحيط الأطلسي الذي كان يسمى بحر الظلمات ، ويظن أن اليابسة تنتهي عنده ، فرأى الشمس تغرب فيه.

(وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) استطاع أن يسيطر عليهم بالقوة القاهرة التي كان يملكها ، وأن يحكمها بالمنهج الذي يراه أساسا للحكم ، ولكنه ليس المنهج الذي يتخذ السلطة وسيلة للقهر أو لأخذ المحسن بذنب المسيء ، أو للعمل على خنق حريتهم ومصادرة إنسانيتهم ، كما يفعل الأقوياء. وهكذا واجه الخيار الذي يقف أمامه في موقع الاختيار بين العذاب الذي يسومهم به ، وبين العفو والتسامح والرحمة التي يعاملهم بها. وهذا هو ما يستوحيه من التعاليم الإلهية المنزلة على الرسل الذين عاصرهم ، أو تقدموا عليه ، وذلك كما لو كان يستمع إلى كلام الله بشكل مباشر ، لأن الإنسان الواعي المنفتح على الرسالة يواجه كلام الله الذي يقرأه أو يسمعه ، كما لو كان يستمع إليه من ربه.

(قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) وفي ضوء ذلك ، فليس من الضروري أن يكون هذا القول من الله وحيا إلهيا ، ليكون ذلك دليلا على نبوّته ، ولكن ما معنى هذا الخيار؟ هل أن القوم كانوا منحرفين متمردين يستحقون العذاب جزاء لانحرافهم وتمردهم ، أم ربّما كانوا يرجون العفو والمعاملة الحسنة على أساس جهلهم وتخلّفهم ، مما يمكن أن يكون عذرا لهم ، ليكون ذلك وسيلة من وسائل تراجعهم عن خط الانحراف عند ما يعيشون روح التسامح التي تفتح قلوبهم وعقولهم على الخير القادم من الله؟! ووقف ذو القرنين بين الخيارين ، ولكنه كان يريد أن يواجه المسؤولية من خلال الحكم على الواقع الإنساني الذي عاشه هؤلاء في نتائجه العملية ، فلا بد من دراسة تاريخ حياتهم ، ليعرف ماذا فعلوه من خير أو شرّ ، وما مارسوه من صلاح أو

__________________

(١) قطب ، سيد ، في ظلال القرآن ، دار الشروق ، ١٩٩٤ م. ج : ٤ ، ص : ٢٢٣١.

٣٨٥

فساد ، ليكون ذلك هو الوجه البارز لحركته في حكم المجتمع في نطاق المستقبل في ما يقوم به بشكل مباشر ، وما يمكن أن يقوم به الآخرون من بعده.

ومن جهة ثانية ، فإن هذا هو الخط المتحرك في النهج الذي يجب أن يحكم سلوكهم في حياتهم العامة والخاصة ، ليكون ذلك هو حركة مسئوليتهم في ما يواجهون الله به من ذلك. وهذا ما أكدته الآية الكريمة في ما نقلته عن جواب ذي القرنين.

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) في الدنيا وفق خط الشريعة العادل التي تريد أن تؤكد النظام الكامل في المجتمع في علاقاته بين أفراده ، فتدفع إلى عقاب الظالمين الذين يظلمون أنفسهم بالانحراف عن الخط المستقيم ، ويظلمون غيرهم بالاعتداء على حقوقهم وحرياتهم ، لأن ذلك هو العنصر الرادع الذي يمنعهم في المستقبل عن الامتداد في خط الانحراف والعدوان ، انطلاقا من الحالة الإنسانية الخاضعة لمبدأ الثواب والعقاب. أما في الآخرة ، فإن العذاب ينتظر الظالم لتمرده على الله في ما عصاه في أوامره ونواهيه. (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي منكرا عظيما لا يعرف طبيعته لأنه غير مألوف لديه ، في ما كان يألفه من ألوان العذاب في الدنيا.

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) في ما يمثله ذلك من التكامل بين الحالة الفكرية في العقيدة وبين الحالة العملية في الاستقامة ، على خط الإيمان بالعمل الصالح الذي يمثل المفردات التشريعية في دائرة رضا الله ، (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) أي فله المثوبة الحسنى جزاء عمله وإيمانه ، ونضعه في المركز الكبير في الحياة الاجتماعية ، ليكون ذلك تشجيعا للمحسنين على إحسانهم ، وللآخرين على الأخذ بأسباب ذلك. (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) في ما يعنيه القول من التكليف بالأعمال اليسيرة التي لا تشقّ عليه ، لأن الجهد الذي بذله في الانضباط

٣٨٦

والالتزام بالسير على الخط المستقيم ، يفرض التخفيف عليه. وربما كانت كلمة اليسر كناية عن المعاملة الطيبة التي تجعل للمحسنين موضعا للإكرام والاحترام.

* * *

٣٨٧

الآيات

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨)

* * *

معاني المفردات

(رَدْماً) : حاجزا.

(زُبَرَ) : قطع.

(الصَّدَفَيْنِ) : الجانبين.

٣٨٨

(قِطْراً) : نحاسا أو حديدا أو رصاصا مذابا.

(أَنْ يَظْهَرُوهُ) : أن يعلوه.

* * *

إقامة السّدّ

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) وتحرّك من خلال الوسائل المتوفرة لديه ، في الانطلاق بعيدا في رحلة ثانية نحو الشرق ، فهيّأ كل الأسباب لذلك ، (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) في الجانب الشرقي في الصحراء الممتدة أمامه حيث الأفق الواسع ، (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) فهم يعيشون على الصعيد في العراء من دون أن يكون هناك أيّ ساتر يسترهم من بناء ونحوه.

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) فلم يغب عنا شيء مما كان يتحرك فيه ، أو يقبل عليه ، أو يخطط له من مشاريع وأوضاع ... وربما كان ذلك على سبيل الكناية في إحاطة الله بأموره ، بحيث كانت تحت عنايته ورعايته ورضاه ... أو في تعظيم أمره ، بحيث بلغ من الدقة والسعة ما لا يحيط به إلا الله.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) في اتجاه آخر ، (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) وقد يكون المراد بهما الجبلين ، لأن السد يطلق على الجبل وعلى كل حاجز يسدّ طريق العبور (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) في ما يوحي به ذلك من بساطتهم وسذاجة فهمهم ، بحيث لا يعيشون العمق الفكري في مواجهتهم للمشاكل ، فيحتاجون إلى الشخص الذي يدبّر لهم أمورهم ، ويقودهم إلى الحلول الممكنة التي كانوا يستطيعون الوصول إليها بأنفسهم ، لو كانوا يملكون الوعي الكامل المنطلق من حالة المعاناة الفكرية. وهذا ما واجهوه مع أولئك الذين كانوا يعيشون في الجانب الآخر من المنطقة ، وراء الجبلين ، فقد كان بإمكانهم أن يبحثوا عن الوسيلة التي يستطيعون أن يتخلصوا بها من ضغطهم على واقعهم

٣٨٩

في ما يتحركون به من إفساد البلاد والعباد ، إما بالمواجهة ، أو بالمعاهدة ، أو بغير ذلك من الأمور ، ولكنهم لم يجدوا هناك إلّا إقامة السدّ بينهم ، ليكون ذلك حاجزا طبيعيا يمنعهم من القدوم إليهم ، أو الهجوم عليهم. وهكذا طرحوا المسألة على ذي القرنين بسذاجة وطيبة وبساطة.

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) فهم يغيرون علينا ويعملون فينا سلبا ونهبا وقتلا وتدميرا ... ولا نملك أيّة وسيلة لردّ عدوانهم علينا ، ومواجهة إفسادهم لحياتنا وحياة الناس من حولنا ، (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) أي مالا يكون بمثابة الأجر لك على ما نطلبه منك من عمل ، كما يعطى كل صاحب عمل أجر عمله ، ممّا يحفزه على القيام به والاستمرار فيه ، لأن القليلين من الناس هم الذين يقومون بخدمة غيرهم من دون أجر.

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) فقد أعطاني الله من أسباب القوة من المال والسلطة ، ما هو خير لي من المال الذي تدفعونه لي ، ولذلك فإني أعمل من أجل رضاه وذلك بتقديم الخدمات لكم وللآخرين من عباد الله الذين أستطيع خدمتهم ، فمنه أطلب القوّة والثواب ، ولذلك فإني مستعد للقيام بما تريدونه مني ، ولكن ذلك يحتاج إلى مساعدة منكم بما تملكونه من الإمكانات العملية التي يقدّمها العمال من جهد وقوّة من أجل إتمام العمل. (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) على بنائه وتحضير الوسائل الممكنة لذلك ، من مواد العمل وجهد العمال. (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) فأسدّ الثغرة المفتوحة بين الجبلين ، التي تفسح لهم المجال للنفاذ إلى مواقعكم. (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) وهي قطع الحديد التي تمثل الأساس في قوة السد وإحكامه ، بالإضافة إلى ما يحتاج إليه من الحجارة. (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) من خلال قطع الحديد التي جمعوها له ، ووضعها في الثغرة الواقعة بين الحاجزين ، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلقان ذلك الكوم بينهما ، فصارا في مستوى القمتين ، (قالَ انْفُخُوا) على النار لتسخين الحديد ، (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) من خلال توهجه واحمراره ، (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) وهو

٣٩٠

النحاس المذاب الذي يتخلل الحديد ويختلط به ، فيزيده قوّة وصلابة.

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) بأن يرتفعوا فوقه لعلوّه ، (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) بأن يثقبوه لينفذوا من خلال الثقب لصلابته وقوّته.

* * *

طمأنينة المؤمن

وهكذا تمّ لذي القرنين ما أراده من إغلاق المنافذ التي كان ينفذ منها هذا الجيش البشري ـ يأجوج ومأجوج ـ ليفسدوا البلاد ويهلكوا العباد ، وذلك انسجاما منه مع مسئوليته الإيمانية في ما إراده الله من تقوية الضعيف بقدرته. وهناك شعر بالراحة النفسية والطمأنينة الروحية التي يلمسها المؤمن عند ما يقوم بمسؤوليته أمام ربه ، فيرى رحمة في القوة التي منحها الله له وفي الروحية التي فتح فيها قلبه وعقله على مواقع الخير ، مما يعطي الموقف معنى الإيمان الذي يعيش معه الإنسان ، بعيدا عن كل مشاعر القوة الذاتية والكبرياء الشخصي.

(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) فهو مكنني من الخير وهيّأ لي الظروف وساعدني على مساندة الآخرين لي في ما أريد القيام به في خط المواجهة للمفسدين في الأرض ، وفي مجابهة القوة العدوانية بالقوة العادلة. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) وقامت القيامة ، وزالت الجبال وتحولت إلى هباء ... (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) فلا يبقى منه شيء ، بل يتحول إلى تراب يطير مع الريح (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) لا ريب فيه ، فهو أصدق من وعد ، فلا مبدل لكلماته وهو اللطيف الخبير. وربما كان المراد من الوعد الحق ، الزمن المحدد الذي يختص بهذا السد عند اقتراب الساعة ، كما قد توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى في سورة الأنبياء : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) [الأنبياء : ٩٦ ـ ٩٧]

* * *

٣٩١

الآيات

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢)

* * *

معاني المفردات

(الصُّورِ) : قرن ينفخ فيه.

(نُزُلاً) : ما يهيأ للنزيل ، وهو الضيف.

* * *

الموقف الحاسم

وتلك هي صورة يوم القيامة ، حيث تنطلق الجموع البشرية المحتشدة من

٣٩٢

الأولين والآخرين كالأمواج المتلاطمة التي يزحم بعضها بعضا ، ويعلو بعضها فوق بعض استعدادا للموقف الصعب الحاسم.

(* وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) في وضع مضطرب متنافر بعيد عن النظام. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) الذي يدعوهم إلى التجمع والانتظام في موقف واحد. (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) ووقف الجميع أمام رب العالمين ، وكان الكافرون المتمرّدون في الموقف الخائف الحائر الذي يواجه المصير الرهيب.

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) فعرفوها بكل ساحاتها وزواياها ، وبكلّ لهيبها وعذابها ، وبكلّ طعامها وشرابها ، فوقفوا يحدّقون فيها بذهول ودهشة وارتباك ، ولم يستطيعوا الابتعاد عنها ، كما كانوا يبتعدون في الدنيا عن ذكر الله وعن مواقع طاعته.

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) فلا يبصرون آيات الله ، ولا يقرءونها كما لو كان هناك غطاء يغطي أعينهم ، (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) إذا تليت عليهم ، كما لو كانوا في حالة صمم ... وها هم يواجهون الموقف بالعذاب الشديد ، فما ذا يفعلون الآن؟ وكيف يفكرون؟ هل يعتقدون أن كل ذلك التمرد والكفر والطغيان يمكن أن يمرّ بدون حساب أو يذهب بدون عقاب؟؟ هل القضية بهذه السهولة؟! إنهم لو فكروا بهذه الطريقة ، فإن تفكيرهم يكون تفكيرا خاطئا. (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) يلقون إليهم بالمودة ، ويتوجهون إليهم بالعبادة ، ويخلصون لهم بالطاعة ، ويتركون عبادتي ولا أحاسبهم على ذلك. (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) فهو مصيرهم المحتوم الذي ينتهون إليه لينزلوا فيه أبدا من دون أن يستطيعوا الخروج منه.

* * *

٣٩٣

العبرة من القصة

وهكذا تنتهي قصة ذي القرنين ، مع إيحاءاتها الروحية ، ولمساتها الإيمانية ، لنواجه في شخصيته صفات الإنسان المؤمن ، الذي أخذ بكل أسباب القوة ، وطاف بالبلاد طولا وعرضا ، ولكنه لم ينطلق بقوته ليظلم الناس ، أو ليستعلي عليهم ، أو ليفسد حياتهم ، بل انطلق من أجل مسانده الضعفاء ، وتأكيد الخط الإيماني ، بما يجعل الحياة في قبضة الحكم العادل الذي يجازي المسيء على إساءته ، ويثيب المحسن على إحسانه ، ويقف ـ بعد ذلك ـ أمام الله ليشهده على اعترافه بعبوديته له ، وبحاجته إليه ، وبشعوره بأن كل ما يفعله ويقوم به هو رحمة من الله عليه. وذلك هو النموذج الأمثل الذي يريد الله أن يقدمه للإنسانية ، ليعيش الإنسان معه في عملية اهتداء واقتداء في مواجهة الذين يعيشون القوة بعيدا عن مواقع المسؤولية ، فيفسدون حياة البلاد والعباد ، ويبتعدون عن الله في كل أقوالهم وأعمالهم ، فيستحقون بذلك النار وبئس القرار.

* * *

٣٩٤

الآيات

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (١٠٨)

* * *

معاني المفردات

(حِوَلاً) : تحولا.

* * *

الضياع الفكري والرّوحي

وتستمر الآيات القرآنية للتأكيد على العلاقة بالله في الإيمان به وفي العمل بطاعته ، كقاعدة للنجاح والفلاح والحصول على النتائج الكبيرة الحاسمة

٣٩٥

في الدنيا والآخرة ، فهو الأساس في ذلك كله ، ولكن الناس قد يغفلون عنه ، وقد يبتعدون بأفكارهم عن الخط الواضح في هذا الاتجاه ، فيستسلمون لبعض الأفكار المضلّلة التي قد يرون فيها النجاة من كل خطر ، ثم تفاجئهم الحقيقة في نهاية الطريق بالخطإ الكبير الذي وقعوا فيه ، فإذا بهم على شفير الهاوية التي تنتظرهم لتذهب بهم إلى الهلاك الأبدي ، حيث الحسرة الكبرى والمصير الأسود.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) الذين خسروا بدرجة عالية ، لأنهم أضافوا إلى الخسارة الواقعية على صعيد النتائج العملية السلبية ، خسارة الحلم الكبير الذي استسلموا له ، وعاشوا معه ومع الصورة الحلوة الساحرة زمنا طويلا ، في ما كان يخيّل إليهم من تحركهم في خط المستقبل الواسع الذي تنتظرهم فيه الأحلام السعيدة ، فإذا به يتحول إلى ما يشبه الكابوس الجاثم على صدورهم. (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فتحرّكوا في مواقع التّيه ، وعاشوا في أجواء الضياع الروحي والفكري والعملي ، بعيدا عن الخطوط المستقيمة التي تؤدي إلى ساحات الأمان حيث الفلاح والنجاة والنجاح. وهم ، في ذلك كله ، يطلقون الأفكار في أكثر من اتجاه ، ويخططون للمشاريع على أكثر من صعيد ، ويثيرون المشاعر في أكثر من مجتمع ، فيستسلمون للفكرة الخادعة التي توحي إليهم بأنهم على حق ، في الوقت الذي يتخبطون فيه في الباطل ، وتخيّل إليهم أنهم في مواقع الخير يتحركون ، بينما هم في أو حال الشر يتخبطون ، فيسيئون إلى أنفسهم وإلى من حولهم وإلى الحياة في ذلك كله ... (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ثم تنكشف لهم الحقيقة ، فيسقطون صرعى الخيبة الكبيرة والخسران العظيم والحسرة الكبرى.

وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان في أحد فريقين :

الفريق الأول : الناس الذين يخضعون للتوجيه السيّئ والتخطيط الشرّير ،

٣٩٦

فيحملون الفكر الشيطاني في حركة العقيدة ومنهج الحياة تحت ووطأة أجواء الخديعة والتضليل ، يقدسونه ويعظمونه ويرون فيه الخلاص كل الخلاص ، والنجاح كل النجاح ، لأنهم عاشوا تحت ضغط هذا الفكر وفي دائرة الحصار النفسي التي أحاطت بهم من كل جانب ، فلم تترك لهم نافذة يطلون منها على الاحتمال المضاد والفكر الآخر.

الفريق الثاني : الناس الذين يعرفون الحق ، ولكنهم يتمردون عليه ، ويعملون على أساس الانحراف عنه لأنه لا يتفق مع أطماعهم ، ولا يخضع لشهواتهم ، ولا يحقق لهم امتيازاتهم في الحياة ... ولذلك فهم يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم طريقا آخر ، ويتبنون فكرا آخر يتكلفون فيه الإيحاء لأنفسهم لإقناعها بأنه سبيل النجاة ، لأنه يحقق لهم أمانيهم وأحلامهم في الحياة الرخية السعيدة ، والعيش العزيز الكريم ، ويبقون يلفّون ويدورون حتى تتعمق الفكرة داخل قناعاتهم من موقع الغفلة العميقة عن حركة الحقيقة في داخلها ... وربما كان الكافرون من هذا الفريق ، لأن القرآن لا يجد الكفر ناشئا من حالة شبهة مضادّة ، بل من حالة فكرة متبنّاة من خلال الأهواء والمطامع. وهذا ما أرادت الآية التالية أن تثيره ، كنموذج لهؤلاء الناس الضائعين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا لأنفسهم وللآخرين

* * *

جزاء الذين كفروا : جهنم

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) فلم ينفتحوا على آيات الله في الكون وفي أنفسهم ، ليعرفوا عظمة الله ووحدانيته من خلال ذلك ، ولم يلتفتوا إلى آيات الله في وحيه وفي رسالاته ليعرفوا الحقيقة الناصعة الحاسمة المتمثلة

٣٩٧

فيه ، فكفروا به وبرسله من هذا الموقع ، ولم يفكروا باليوم الآخر الذي حدثهم عنه الأنبياء وجاءت به الكتب المنزلة وقادهم إليه عقلهم الذي يربط بين حركة الوجود في البداية وحركة البعث في النهاية ، وفي عقلانية المسألة من حيث الإمكان ، فكذبوا بلقاء الله في ذلك اليوم ، فابتعدوا عن الاستقامة ، وتخبّطوا في الطريق ، فضلّوا عن مواقع الهدى ، إذ لم تتحرك أعمالهم من قاعدة ، بل انطلقت عشوائيا ، فلم تؤد بهم إلى نتيجة ، وضاعت كلها سدى كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء مما كسبوا ... (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ). وقد ذكر بعض المفسرين ، أن الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سامّ من الكلأ ثم تلقى حتفها. وبذلك يتناسب التعبير مع طبيعة أعمال الكافرين التي تتضخم وتنتفخ ، حتى يخيّل إليك أنها ظاهرة صحة وعافية ، ولكن الواقع يتكشّف في نهاية المطاف ، عن ظاهرة مرضيّة داخلية عميقة توحي بالهلاك والدمار.

(فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) لأنهم لا يملكون أيّة قيمة حقيقة في ما تعنيه القيمة التي تعطي للإنسان وزنه عند الله ، من القاعدة الروحية الإيمانية المنفتحة على الحقيقة ، من موقع الإشراق والوضوح ، لأن الوزن الذي قد يتحرك من حالة الثقل الظاهري ، لا ينطلق من ثقل حقيقيّ في المضمون ، بل من انتفاخ لا يحمل في داخله إلا الهواء ، وذلك لما يمثله الباطل من حالة انعدام في الوزن. ومن هنا ، فإن الله يهملهم ويلقيهم في زاوية مّا ، كأيّة كمّية مهملة لا معنى لها ، وإذا كانت المسألة لا تملك حلّا وسطا ، فإمّا إلى الجنّة وإما إلى النار ، وإذا كانت الجنة لا بد من أن تكون نتيجة ثقل في القيمة وفي العمل ، فلا بد من أن تكون النتيجة لأمثال هؤلاء هي النار.

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا) لأنهم غير معذورين في الكفر ، لعدم رجوعهم فيه إلى حجّة (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) فلم يرجعوا إلى قاعدة للفكر في الرفض ، وإلى خطّ للحوار في الموقف ، بل عاشوا أجواء السخرية

٣٩٨

والاستهزاء بآيات الله ورسله ، انطلاقا من حالتهم النفسية المتمردة القلقة التي تهرب من جهد البحث عن الحقيقة لتستجيب إلى النوازع الذاتية في أجواء الاستهزاء ، موحين لأنفسهم بأنهم في موقع القوة ، في الوقت الذي تهاجمهم فيه كل نقاط الضعف ، ليكون ذلك غطاء للضعف الداخلي الباحث عن حالات الاستعراض الكلامي والعملي.

* * *

جزاء الذين آمنوا : الجنة

ولكن هؤلاء ليسوا كل شيء في الصورة ، فهناك نموذج آخر من الناس عاشوا الجدية الفكرية في ما يواجهونه من قضايا الفكر الإيماني ، والمسؤولية العملية في مشاريع الواقع المتحركة في حياة الإنسان ، وهم المؤمنون الذين يعملون الصالحات. وهؤلاء هم الذين يملكون الوزن الكبير في حساب القيمة ، من خلال المضمون الحقيقي للشخصية الإنسانية على أساس الإيمان والعمل الصالح ، وهم الذين يملكون النتائج الإيجابية في الدار الآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) حيث ينزلون فيها في رياض النعيم ومع رفاق السعادة ، في حالة استرخاء روحيّ حالم يستغرقون معه في أحلامهم السعيدة ، ومشاعرهم الحلوة.

(خالِدِينَ فِيها) لا يذوقون فيها الموت حتى على مستوى الوهم ، لأن مسألة الخلود الأبدي تمثل الأساس في معنى الجنة على مستوى الجزاء الإلهي للمؤمنين العاملين. وربما كان لهذا الخلود في هذه الجنات معنى خاصّ ، وطعم لذيذ ، وحسّ متحرّك متجدد ... لا يشعر فيه الإنسان بالملل الذي قد ينتج عن الاستمرار في جوّ واحد ودائرة محدودة ، ولذلك فإن هؤلاء الذين

٣٩٩

ينزلون في هذه الجنات ، لا يسأمون منها ولا من طعم نعيمها ولون سعادتها ، فلا يعملون للخروج منها ، مهما امتد بهم الزمن. (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) ومتحولا إلى دار أخرى. وتلك هي خصوصية نعيم الجن التي تتميز بها عن نعيم الدنيا ، لأنها تمثل الجوّ الذي يتوازن فيه الشعور الداخلي بالسعادة في الإنسان مع الواقع الطبيعي الذي ينفعل به ويلتقي معه. وهذا ما نستوحيه من الكلمة المأثورة عن الجنة حيث فيها «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١) ، مما يمنع من عملية المقارنة بين الدنيا والآخرة في ذلك ، لأن أجواء الآخرة تختلف في العمق عن أجواء الدنيا ، بالرغم من أن طريقة التعبير عن النعيم في الجنة بالأسلوب الحسي ، قد توحي بالمشابهة ، ولكن المشكلة هي أنك لا تستطيع تقديم الصورة التي تقترب من أجواء المطلق ، إلا بالوسائل التي لا تملك فيها إلا الصورة التي تعيش في ساحة المحدود.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٣ ، ج : ٨ ، ص : ٤٨٩ ، باب : ١٦.

٤٠٠