تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

هل ينسي النبي؟

وإذا أردنا أن نتجاوز هذه الملاحظة ، فإننا لا نجد هناك أيّ دليل عقلي أو نقليّ يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الصغيرة ، لأن ذلك لا يسيء إلى نبوّته من قريب أو من بعيد ، ولكن ربما نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن النبي إذا كان لا ينسى أمر التبليغ ـ كما هو المتفق عليه بين المسلمين ـ فلا بد من أن يكون ذلك من خلال ملكة ذاتية تمنعه من النسيان ، بحيث تجعل وجدانه واعيا للأشياء ، فلا تغيب عنه عند ما ينفصل عنها ، مما يجعل المسألة غير قابلة للتجزئة ، كما هي القضايا المتصلة بالملكات النفسية.

وقد يثير البعض أمام هذه الملاحظة ، أن مسألة التبليغ قد تكون موضعا لتدبير إلهيّ غير عادي ، من أجل حفظ الرسالة من الضياع أو التحريف ، بحيث يعطي وجدانه الرسالي إشراقة قوية ، تختلف عن وعيه للأشياء الأخرى ؛ والله العالم.

* * *

٣٦١

الآيات

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠)

* * *

معاني المفردات

(خُبْراً) : معرفة.

(ذِكْراً) : بيانا.

* * *

٣٦٢

العبد الصالح هو الخضر

والتقيا بهذا العبد الصالح ، الذي لم يرد له ذكر في القرآن إلا في هذه القصة. وتتحدث الروايات عنه أنه الخضر ، وفي حديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في ما رواه محمد بن عمارة عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام «أن الخضر كان نبيا مرسلا ، بعثه الله تبارك وتعالى إلى قومه ، فدعاهم إلى توحيده والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه» (١) ... وقد تذكر بعض الأحاديث أنه حيّ لم يمت بعد ، وليس هناك دليل قطعي يثبت ذلك ، كما أنه ليس هناك دليل عقليّ يمنع من ذلك من خلال قدرة الله المطلقة على ذلك وعلى أكثر منه.

ولا نجد هناك كبير فائدة في تحقيق الأمر في شخصيته وفي خصوصيته ، لأن ذلك لا يتصل بأيّ جانب في العقيدة والحياة. (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) ربما كانت هي النبوّة ، وربما كانت شيئا آخر مما يرحم به عباده ، ويختص بعضهم بميزة خاصة في موقعه وفي ملكاته. (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) مما لم يؤته الله لغيره من عمق الإحاطة بخفايا الأمور وتأويل الأشياء ، وهذا ما كان الآخرون ـ ومنهم موسى النبيعليه‌السلام ـ بحاجة إلى الاطلاع عليه ، مما أراده الله أن يسعى إليه في اللقاء بهذا العالم الصالح.

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) لأسترشد به في مهمّاتي التي كلفني الله بها ، لأنني بحاجة إلى الاستزادة من العلم ، باتباع الذين يملكون ما لا أملكه منه.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٥ ، ج : ١٣ ، ص : ٤٣٥ ، باب : ١٠ ، رواية : ٤.

٣٦٣

ما مدى علم النبي؟

وهذا حديث عن مدى علم النبي في سعته وشموله ، فهل من الضروري أن يملك علم كل شيء ، أو أن المسألة تقتصر على ما أراد الله له أن يعلمه في ما يختص بتبليغ رسالته وما تحتاجه من معرفة التفاصيل؟ فقد ذهب البعض إلى ضرورة إحاطة النبي بعلم كل شيء ، بما في ذلك مفردات العلوم الطبيعية ، والقضايا الجزئية ، لأن النبي يمثل الشخص الذي يجب على كل الناس أن يطيعوه ويقتدوا به ، فلا بد من أن يكون أعلم الجميع ، لأن العقل لا يجوّز إمامة الجاهل للعالم ، ولو في الموارد الخاصة.

ولكن هناك رأيا آخر ، يقول : إن العقل لا يفرض ، في مسألة القيادة والإمامة والطاعة ، إلا أن يكون الشخص الذي يتحمل هذه المسؤوليات محيطا بالجوانب المتصلة بمسؤولياته ، في ما لا يحيط به الناس إلا من خلاله ، أما الجوانب الأخرى من جزئيات حياتهم العامة ، أو من مفردات علوم الحياة والإنسان ، أو من خفايا الأمور البعيدة عن عالم المسؤولية ، أما هذه الجوانب ، فلا دليل على ضرورة إحاطته بها ، ولا يمنع العقل أن يكون لشخص حق الطاعة ـ في بعض الأمور التي يحيط بها ـ على الناس الذين يملكون إحاطة في أشياء أخرى لا يحيط بها ولا تتعلق بحركة المسؤولية.

وربما كانت هذه القصة دليلا على صحة هذا الرأي الذي نميل إليه ، كما يميل إليه بعض العلماء القدامى ، لأنه يلتقي بالجو القرآني الذي يتحدث عن الأنبياء بطريقة معينة بعيدة عما اعتاده الناس في نظرتهم إليهم من خلال الأسرار الخفيّة والكمال القريب من المطلق.

* * *

٣٦٤

بين الاستغراق في اللحظة واستيعاب المستقبل

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لأن تعاملي مع الأشياء يختلف عن تعاملك وتعامل الآخرين معها ، لأني أنظر إلى أبعاد القضايا في العمق على مستوى حركة الزمن في المستقبل ، بينما تنظرون إليها من خلال اللحظة الزمنية الحاضرة ، والسطح الظاهر منها. وبهذا كانت نظرتي إلى الأمور من خلال نهاياتها ، أما نظرتكم إليها ، فمن خلال بداياتها. وهذا هو سرّ المسافة بين النظرة الشاملة الكلية للحياة ، وبين النظرة المحدودة الجزئية لها من خلال ما تمثله المسافة بين البداية والنهاية. ولهذا فمن الصعب أن يصبر الفريق الذي ينظر إلى القضايا من مسافة قريبة على الفريق الذي ينظر إليها من مسافة بعيدة.

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) مما قد ترى فيه انحرافا عن الموازين ، التي تزن بها الأمور على أساس ما تراه قاعدة للشرعية أو ما تتصوره منسجما مع طبيعة الواقع الذي تخضع في تقييمك له لرؤية معينة ، الأمر الذي يجعلك تنتفض وتحتج وتستثير فضولك لتطرح السؤال تلو الآخر لتتعرف على طبيعة المسألة ، أو لتسجل عليها نقطة احتجاج. وهذا أمر لا غرابة فيه ، لأن الإنسان الذي ركّب تكوينه على أساس غريزة الفضول ، في ما أراده الله من إثارة قلق المعرفة في ذاته كسبيل من سبل الحصول عليها ، أو الذي يملك قاعدة معينة للتفكير قد تختلف عن غيره ، لا بد له من أن يعبّر عن موقفه بطريقة متوتّرة لا تملك الصبر على ما يواجهه من علامات الاستفهام ، أو على ما يراه من مظاهر الانحراف ... ولكن موسى عليه‌السلام يصرّ على الحصول على شرف مرافقته ، لأن الله يريد له ذلك ، فهو مأمور باتباعه.

٣٦٥

(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) في ما يصبر عليه طالب المعرفة ويتحمله من الجهد النفسي والعملي في سبيل الحصول عليها. إنه العزم الذي يتحرك في إرادتي التي لا أضمن امتدادها في خط الالتزام العملي إلا بمشيئة الله ، في ما يقدّره من أسباب ، وما يخلقه من ظروف ، وما يثيره في حياتي من أفكار ومشاعر ، قد تغيّر العزم ، وتسقط الالتزام ... إن القضية هي أنّي أعدك بالصبر ، فسأكون صابرا ، أتحمل كل النوازع الذاتية الصعبة ، (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) كما هو دور التلميذ مع أستاذه الذي يثق بكفاءته وحسن تقديره للأمور ، وإخلاصه في سبيل رفع مستواه.

ولكن العبد الصالح يريد أن يحدّد المسألة في دائرة الأسلوب العملي للمعرفة ، فهو لا يريد أن يبادر تلميذه بالمعرفة ، ولا يريد له أن يبادره بالسؤال ، بل يريد له أن يتأمل ، ويثير الفكرة في داخله ، ويحاول أن يتعمق في القضايا من خلال المعاناة الفكرية التي تمنحه قوّة عقلية متقدّمة ، كما يريد له أن يحصل على ملكة الصبر في مواجهة المشاكل الفكرية المعقّدة ، فلا يستعجل الوصول إليها قبل توفّر عناصر النضوج لديه ، كي لا يتحول إلى إنسان سطحيّ في تفكيره.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) مما لم تعرف وجهه ، ولم تحط بخفاياه ، (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) وأبدأ حواري معك ، عند ما تحين اللحظة المناسبة ، التي أرى فيها المصلحة للحديث عن الموضوع معك. وهذا هو شرطي الوحيد الذي أضعه أمامك ، للموافقة على مصاحبتي في هذا الطريق.

* * *

٣٦٦

الآيات

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣)

* * *

معاني المفردات

(إِمْراً) : داهية عظيمة.

(تُرْهِقْنِي) : تحمّلني.

* * *

درس موسى الأول

وابتدأت التجربة ، وبدأ الدرس الأول ... (فَانْطَلَقا) في الطريق من

٣٦٧

أجل البحث عن موقع الفكرة على الطبيعة وفي الواقع ، لأن الدرس لم يكن درسا نظريا ، ليجلسا على الأرض ، وليتحدثا عن القضايا المطروحة في الساحة الفكرية والعملية ، وليحلّلا تفاصيلها ويدرسا المواقف الحاسمة على أساس ذلك ، بل كان درسا عمليا يتحرك فيه هذا العالم الصالح في الساحة الواقعية ، التي قد يوحي الحدث فيها بشيء ، ولكن العمق الداخلي له يوحي بشيء آخر ، ليترك الفكرة تتفاعل في داخل موسى عليه‌السلام ، من خلال حالة الاندهاش التي يثيرها الموقف ، فتحفر في عقله ووجدانه وشعوره ، ليصل إلى النتيجة بنفسه ، أو من خلال توجيه العالم له ، بعد أن تترك الفكرة آثارها في عمق شخصيته. ولهذا انطلقا في رحلة البحث عن المعرفة. وربما تحدثا بحديث عابر ، وربما كانا يسيران صامتين يفكر أحدهما ـ وهو موسى عليه‌السلام ـ في المجهول الذي يقبل عليه ، ويفكر الآخر ـ وهو العالم ـ في التجربة التي يريد أن يحركها في الدرس الأول. (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) التي مرّت عليهما ، أو ذهبا إلى موقعها في الشاطئ ، واستقر بهما المقام فيها ، (خَرَقَها) وأحدث فيها ثغرة قد ينفذ الماء منها ، وفزع موسى عليه‌السلام من هذا العمل الذي يشبه الجريمة ، وتوترت أعصابه لأن ذلك قد يؤدي إلى غرق السفينة عند ما ينفذ الماء من هذه الثغرة فيغرقان ، في من يغرق من أهلها من دون أيّ مبرّر شرعي ، فاحتجّ على ذلك بشدّة ، (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها)؟ كيف تفعل ذلك أو كيف تبرّره؟ (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي داهية عظيمة.

وردّ عليه العبد الصالح بهدوء ، ليذكره بوعده بأن يظلّ صامتا مهما رأى من فعله ، ومهما أثار ذلك الدهشة في داخله ... حتى يفسر له هو العمل. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لأن طريقتي في العمل تختلف عن طريقتك ، فلا تستطيع أن تفهم طبيعة أعمالي ، إذا أردت أن تقيسها بما تتخذه لنفسك من مقياس. وانتبه موسى عليه‌السلام لنفسه ، فكيف يستعجل الحكم عليه ، وكيف يخالف ما عاهده عليه من الالتزام بالصمت أمام كل شيء يصدر منه؟!

٣٦٨

وبدأ في الاعتذار له عما بدر منه (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) من عهدي لك ـ وهذا موقف ثان للنسيان يعيشه موسى عليه‌السلام في ذاته ـ لأن النسيان حالة اضطرارية لا يملك الإنسان معها عنصر الاختيار. (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تكلفني موقفا عسيرا على أساس ذلك. وقبل منه عذره.

* * *

٣٦٩

الآيات

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨)

* * *

معاني المفردات

(اسْتَطْعَما) : طلبا الطعام.

(يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) : أشرف على السقوط.

(فَأَقامَهُ) : سوّاه.

٣٧٠

(بِتَأْوِيلِ) : بتفسير.

* * *

درس موسى الثاني

وبدأ الدرس الثاني ، ولكن الموقف كان أكثر إثارة للدهشة والإنكار ، لأنه كان يجسّد الجريمة بطريقة طبيعية. (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) من دون أيّ ذنب جناه ، ومن دون أيّة مشكلة حادثة بينهما وبين هذا الغلام. وبذلك كانت المسألة لا تحمل أيّ تبرير من أيّة جهة كانت ، لأن مبررات القتل واضحة في مواردها الشرعية التي ليست موجودة في هذه الحادثة ، ولذلك وقف موسى ليحتج بشدّة على هذه الجريمة البشعة ، (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي طاهرة (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي من دون أن يقتل نفسا محترمة؟ (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) ينكره الشرع والناس والوجدان.

وقد أثار المفسرون الحديث حول ما إذا كان هذا الغلام غير بالغ ، باعتبار ما تفسره كلمة الغلام ، ولكنّ بعضا آخر يرى الكلمة تتسع للبالغ كما تتسع لغيره ، ويرى في اعتراض موسى عليه‌السلام بقوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) أن القتل ـ لو حصل من الغلام ـ لأوجب القصاص ، وهو مختصّ بالبالغ.

وأجابه العبد الصالح بهدوء ليذكره من جديد بعهده بالصمت ، (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ولماذا لم تستفد من التجربة الأولى التي عرفت فيها خطأ موقفك في اهتزاز مشاعرك أمام الحدث الذي لم تفهمه ، ولم تفكر بأن من الممكن أن يكون له وجه آخر ، لا سيما وأنك لا تجد في ملامحي شخصية الإنسان الشرير الذي يريد أن يؤذي الناس ويوقعهم في ضرر كبير؟

٣٧١

وأحس موسى عليه‌السلام بالحرج الشديد لمخالفته ، له للمرة الثانية ونكثه بالعهد ؛ (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) لأني لن أكون أهلا لمرافقتك ، باعتبار أن مسلكي يمثل عدم الانضباط أمام الكلمة المسؤولة التي التزمت بها أمامك. (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) فقد أعذرت إليّ في ما قدمته لي من شرط ، وما حذّرتني منه من ضعف. ووافق العبد الصالح على الاستمرار معه ، وبدأ الدرس الثالث ، ليواجها تجربة جديدة.

* * *

درس موسى الثالث

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) ، فقد كانا جائعين ، (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) لأنهم كانوا من البخلاء الذين لا يستقبلون الضيف ولا يكرّمونه. وحانت منهما التفاتة (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) وينهدم ، إذ كان مشرفا على السقوط والانهدام ، فبادر العبد الصالح إلى القيام بجهد كبير لتثبيته وإقامته. ولم يعجب هذا العمل موسى عليه‌السلام ، لأنه ـ في غمرة إحساسه بالجوع وابتعاد أهل القرية عن الموقف الإنساني معهما ـ يرى أنّ من الممكن الاستفادة من هذه الفرصة لطلب الأجرة من أصحاب البيت ، للحصول على الغذاء بسبب ذلك. (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) فلا يذهب جهدك هباء ـ بدون عوض ـ لأنهم لا يستحقون الإكرام ، إن كنت تستهدف الخير المحض من خلال ذلك.

ونفد صبر العبد الصالح ، ولم يستطع موسى عليه‌السلام أن يقدم اعتذاره ويطلب الاستمرار معه ، لأنه قد أخذ على نفسه عهدا جديدا بعدم مصاحبة العبد الصالح إذا عاد إلى سيرته الأولى في الاعتراض عليه ، وها هو يعود إلى

٣٧٢

الإخلال بكلمته من جديد. (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) فلم تستطع أن تكون التلميذ الملتزم بأصول التجربة لسلوك طريق المعرفة ، (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) لتعرف ـ جيدا ـ أن كثيرا من الأمور الظاهرة بشكل معيّن ، قد يكون لها شكل آخر ومعنى آخر ، يمكن أن يغيّر الانطباع عنها بطريقة حاسمة.

* * *

٣٧٣

الآيات

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

* * *

معاني المفردات

(زَكاةً) : طهارة.

(وَأَقْرَبَ رُحْماً) : أشدّ وصلا للقرابة والرحم.

(يَبْلُغا أَشُدَّهُما) : يكبرا ويعقلا.

* * *

٣٧٤

تبرير العبد الصالح خرقه للسفينة

وبدأت الإجابات على علامات الاستفهام التي ارتسمت في ذهن النبي موسى عليه‌السلام ، ومضى العبد الصالح العالم يفسر أفعاله.

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ويتعيشون منها ، فهي التي تحفظ لهم كرامتهم ، وتعينهم على القيام بمسؤولياتهم في إدارة شؤونهم العامة والخاصة ، (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وأفتح فيها ثغرة تمنع الطامعين بمصادرتها ، لقلّة الرغبة في السفينة المعيبة ، لأحفظها لهم. (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صحيحة (غَصْباً) ، فما فعلته لم يكن عدوانا على الراكبين فيها والعاملين عليها ، بل صيانة لحقوق أصحابها ، مع ملاحظة أن الثغرة لم تعرّضها للخطر ، ولم تغرق الراكبين فيها ، ولهذا نزلنا منها ، كما نزل الآخرون على خير وسلامة ، فأيّة مشكلة في هذا قد تنافي العقل والعدل والشريعة؟

* * *

توضيح سبب قتل الغلام

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) من الذين يمثلون الإيمان الفاعل المتحرك الذي يريد الله له أن يتجسد في الواقع بقوّة وصلابة وامتداد ، ولذلك كانت إرادته في أن يجنّبهما التجربة القاسية التي يتعرض لها الأبوان في الصراع بين العاطفة والواجب ، عند ما يكون لهما ولد منحرف يعيش في دائرة الكفر والضلال. (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) وذلك باستخدام موقعه العاطفي في سبيل إغوائهما للسير في خط الكفر والطغيان ، أو يكون المراد ـ كما يذهب.

٣٧٥

إليه البعض ـ أن يضغط عليهما ، ويسيء معاملتهما ، ويحاصرهما في نشاطهما الروحي ، وذلك من خلال طغيانه وكفره اللذين لا يراعي معهما أيّة قرابة وأيّة عاطفة. (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) أي طهارة في ما تمثله من الخير والصلاح والإيمان ، (وَأَقْرَبَ رُحْماً) بمعنى أشدّ وصلا للقرابة وللرحم فلا يرهقهما بشيء.

وهكذا نجد عملية هذا القتل ، مرتكزة على حجّة إيمانية تتصل بالتوازن بين مفسدة مهمّة وأخرى أهم ، فكانت الغلبة للأهم. وإذا كان هذا الأمر غير مألوف في طبيعة الممارسة ، باعتبار أن قتل إنسان مّا ، لتجنيب إنسان آخر الضلال بسببه ، ليس أمرا منسجما مع طبيعة الجزاء على مستوى حركة الصراع ، فإن المسألة قد تكون ناشئة لاستحقاق هذا الإنسان القتل بكفره وطغيانه ، ولكن ذلك لم يكن في مستوى الأولوية السريعة ، لو لا النتائج المستقبلية السلبية المترتبة عليه. وعلى كل حال ، فإن ذلك لم يكن تصرفا ذاتيا من العبد الصالح ، بل هو أمر إلهيّ أوحى به الله إليه بطريقة خاصة ، كما ستأتي الإشارة إليه بعد ذلك في الآية التالية.

* * *

سبب إصلاح الجدار

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) مما أوجب رعاية الله لهما في غياب أبيهما الذي اختاره الله إليه ، (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) ليعيشا حياة طبيعية كريمة ، فلا يضيع كنزهما تحت تأثير سقوط الجدار الذي يكشف عن موقع الكنز فيتناهبه الناس ، ولذلك فلم تكن المسألة خدمة لأهل القرية الذين لا يعيشون قيمة

٣٧٦

العطاء ولا يستحقون الكرامة من الآخرين ، بل رعاية لهذين اليتيمين جزاء لصلاح أبيهما.

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ليكون حالة ذاتية تخضع للنوازع الخاصة ، بل هو أمر الله ـ سبحانه ـ الذي أراد له أن يقوم بما قام به ، في حال مصاحبته لموسى عليه‌السلام ، ليعلّمه من خلال التجربة كيف يصبر على مواجهة الأشياء التي قد تجد لها تفسيرا في العمق غير ما يلوح على السطح. وكيف يعيش التواضع للعدم ، فلا يكون موقع النبوة ، بما يمثله من مستوى روحيّ عظيم ، مانعا له من أن يسعى للانفتاح على علم جديد ، وللتواضع لأهله.

(ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) لأنك واجهت الأمور في ظواهرها ، ولم تواجهها في مواقعها الخلفية العميقة.

* * *

كيف نفهم القصة ونستوحيها؟

يلفت نظرنا في هذه القصة عدة نقاط :

١ ـ الأسلوب الوديع الذي يعبّر عن روح التواضع للعلم والعلماء ، من دون نظر إلى طبيعة المركز الاجتماعي أو الديني الذي يقف فيه العالم والمتعلم ، فنحن نجد الأدب الرسالي في هذه الكلمات الهادئة المتعطشة للعلم التي خاطب بها موسى عليه‌السلام هذا العبد الصالح : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).

٢ ـ الأسلوب الواقعي الذي يعبّر عن الروح العملية التي يعيشها العالم تجاه المتعلمين ، بعيدا عن أيّة مجاملة تفرضها الأوضاع الاجتماعية ، أو أيّ

٣٧٧

أسلوب من أساليب اللف والدوران التي تحاول خداع الآخرين ، لتجعل منهم أرقاما تضاف إلى أرقام الأتباع الموجودين الذين يشاركون في تضخيم شخصية الأستاذ ، من دون ملاحظة لاستفادتهم منه أو قابليتهم للتعلّم والانتفاع بعلمه.

فقد لا حظ هذا العبد الصالح أنه يختلف عن الآخرين في طبيعة معرفته بالواقع ، فهم يلتقون بالجانب الظاهر منه بينما يعتبر نفسه مطلعا على الجوانب التي تختفي وراء الصور الظاهرية المألوفة للأشياء ، مما يجعلهم يرفضون أو لا يتحملون طريقته في العمل وأسلوبه في معالجة هذا الواقع ، وسوف لن يتقبلوها في نهاية المطاف. وبذلك تفقد الصحبة فائدتها ، وتتحول إلى مزيد من المجادلات والمخاصمات التي لن تكون في مصلحة أحد ، ولا في مصلحة الحقيقة على أي حال.

وعلى ضوء هذا ، أوضح له طبيعة سلوكه الذي يتعارض مع المألوف ، وأعلن له ـ مقدّما ـ أنه ـ أي موسى عليه‌السلام لن يستطيع معه صبرا ، لأن الإنسان لا يملك الصبر على ما لم يحط بمعرفته ، فلم يكن من موسى عليه‌السلام إلا أن وعده بالصبر والطاعة المطلقة ... وكانت تعليمات العبد الصالح أن لا يسأله موسى عليه‌السلام عن كل شيء يشاهده ويثير استغرابه ، أو يرسم علامات الاستفهام في ذهنه ، مهما كان الشيء مثيرا أو غريبا ... وينتظر حتى يبدأه ـ هو ـ بالحديث عنه وعن كل شيء شاهده ورآه.

وبهذا كانت العلاقة المتبادلة بينهما علاقة صحبة ترتكز على السعي نحو المعرفة في إطار من الانضباط والواقعية.

٣ ـ إن القضايا التي قام بها هذا العبد الصالح ، كانت تتحدى صبر موسى عليه‌السلام بما أثارته من خروج عن الخط الشرعي ، كما في قضية قتل الغلام ، وخرق السفينة ، لما في الأول من اعتداء على الأموال وتعريض الآخرين للخطر من دون حق ، ولما في الثاني من اعتداء على الحياة بدون ذنب

٣٧٨

وكما في حادثة تثبيت الجدار وما أظهرته من إهمال لمبدأ استغلال الطاقة التي يملكها الإنسان ، من أجل حماية نفسه من الجوع ، لا سيما مع الأشخاص الذين لا يعيشون القيم في حياتهم العامة ... ولهذا كانت احتجاجات موسى عليه‌السلام تتلاحق وتشتد في كل حالة من هذه الحالات ، حتى كانت الحالة الأخيرة التي سبقها التعهّد الأخير بالصبر من قبل موسى عليه‌السلام ، وإعطاء صاحبه الحرية في أن يفارقه ، إذا استمر في إثارة السؤال وفي نفاد الصبر.

وهكذا كان ، ولم يستطع موسى عليه‌السلام الصبر في الحالة الأخيرة ، وبدأ العبد الصالح ، بعد أن نفّذ تهديده بالفراق ، يشرح لموسى عليه‌السلام كل شيء ، ويوضح له طبيعة الأعمال التي أثارت استنكاره ، وكيف كانت مرتبطة بأمر الله ، لا برأيه الشخصي. وليس من شأن هذا البحث ، أن ندخل في الحديث حول تقييم هذه الأعمال ، من حيث انسجامها مع الخطوط المألوفة للشريعة ، أو اختلافها عنها ، وخضوعها لحالة استثنائية اقتضتها طبيعة تلك الحالات الخاصة ... فإن لذلك بحثا آخر ، لا مجال له الآن.

بل كل ما نريده ، هو الاستفادة من الجو الذي عشناه في هذا الحوار ، بتقرير فكرتين أساسيتين ، تدخلان في نطاق عمل الداعية إلى الله والعامل في سبيل رسالته ...

أ ـ إن على الداعية أن يعيش الانضباط والصبر والصمت في الحياة العملية التي تتحرك في اتجاه ممارسته المسؤولية ، إذا كانت الجهة التي يتبعها أو يتعاون معها في مستوى الثقة الفكرية والدينية والعملية التي تبرّر له أمر الاعتماد عليها ، والسير معها ، فلا يسارع إلى الاعتراض في ما يوجّه إليه من أوامر ، وما يشاهده من أعمال تخالف ما هو مألوف لديه ، لأن ذلك قد يوجب الارتباك في العمل ، والخلل في انضباط الصفوف ... بل يؤخّر ذلك إلى

٣٧٩

الظرف المناسب ، والمكان المناسب ، حيث يكون ، من الممكن ، من وجهة عملية ، القيام بما يريده من إثارة السؤال والجواب.

ب ـ إن على المؤمنين أن يتقبلوا بالصبر والتسليم ما يلقى إليهم من أحكام الله ، مما لا يتفق مع الأفكار التي يألفونها ، لأن الله ـ سبحانه ـ أعلم بجهات الصلاح والفساد ، فإذا حدثت لديهم شبهة في أي أمر من ذلك ، فليتهموا أفكارهم ـ في البداية ـ وليحاولوا البحث ـ بعد ذلك ـ عن طبيعة الحكم وحيثيته ، ليصلوا إليه ، في نهاية المطاف.

* * *

٣٨٠