تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الحشر والمصير

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) فتزول عن مواقعها ، وتفقد تماسكها ، وتتفتت أحجارها وصخورها ، وتتحوّل إلى تراب خفيف يطير مع الرياح ، وتصير هباء. (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) بجميع جهاتها ونواحيها ، فلا يتوقف النظر أمام حاجز ، ولا يحجبه عنها أيّ ساتر ، بل هو الامتداد المنبسط الذي يحتوي الأفق كله في نظرة واحدة ممتدة. (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) إنه يوم الحشر للحساب الذي تفيق فيه الخلائق كلها من الأولين والآخرين ، وهم شاخصون بأبصارهم وأفكارهم ومشاعرهم إلى الله ، ليواجهوا اللحظة الحاسمة في مسألة المصير.

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) واحدا يمثل التساوي في كل المواقع الذاتية ، فلا تفاضل بنسب ، ولا جاه ، ولا مال ، ولا جمال ، ولا غير ذلك مما كانوا يتفاضلون فيه في الدنيا ويختلفون حوله ، وليس لهم في هذا الموقف إلا العمل ، وبذلك يكتشفون سقوط الامتيازات الدنيوية في عمق القيمة الروحية الإلهية. (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقد دخلتم الدنيا من دون أن تحملوا إليها أشياءها التي تمثل زينتها الخادعة الفانية ، وقد خرجتم منها وأتيتم إلى ربكم من دون أن يكون معكم شيء منها. وتلك هي حقيقة العلاقة التي تربطكم بها ، أو تربطها بكم ، مما يوحي إليكم أنها تمثل معنى الحاجة في الحياة ، ودور الحالة الطارئة التي تتحرك في السطح من حياة الإنسان دون العمق.

(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) وخيّل إليكم ، في استغراقكم في هذه الأمور وانجذابكم إليها ، واستمتاعكم بها ، أنكم خالدون معها ، وأنها خالدة لكم ، وأن الحياة ستمتد بكم إلى ما لا نهاية ، أو أنها ستنتهي إلى اللاشيء ، لأنكم لم تكتشفوا العلاقة الحقيقية بالله من خلال وجودكم في الدنيا ، أو من خلال حركة الحياة في هذا الوجود ، في حاجاتها وأوضاعها ،

٣٤١

وعلاقاتها ، بل أخلدتم إلى الأرض في نظرة تائهة مشدودة إلى التراب ، بعيدة عن الآفاق العليا التي تطل بالفكر على الحقيقة الإلهية التي تشمل الكون كله ، وتحتوي الزمن كله ، وتوحي للإنسان بأن هناك سرّا يكمن خلف الحياة ، وأن الله لم يخلق الناس عبثا ، ولم يعفهم من المسؤولية ، لأن ذلك هو معنى الحكمة في خلقه وفي تشريعه. وها أنتم تواجهون الموعد المحتوم الذي وعدكم به الأنبياء ، وتقفون فيه وجها لوجه أمام الحقيقة الحاسمة التي نسيتم الاستعداد لها من خلال نسيانكم لها في الأساس.

* * *

كتاب الأعمال

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) كتاب الأعمال ، أمام كل واحد منهم فقد دنت ساعة الحساب وإعلان النتائج ، وأراد الله لهم أن يحاسبوا أنفسهم ويحاكموها ، من خلال قراءتهم الدقيقة لما في هذا الكتاب من دقائق الأعمال التي عملوها في الدنيا. وعرفوا طبيعة الموقف ، واستذكروا ، كل ما قاموا به. (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) خائفين من نتائجه على أنفسهم ، لأنهم يعلمون أن العذاب ينتظر المجرمين عقابا على جرائمهم. (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) في ما يشبه الصراخ اليائس من النجاة ، والدهشة المذهولة من دقة التفاصيل الخفيّة (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) فلم يغفل حتى الأشياء الصغيرة التي قد لا يحس بها الإنسان بشكل واع ، بل يقوم بها بطريقة اللاشعور التي تدفعه إلى القيام ببعض الأعمال ، بما يشبه العادة القاهرة ، (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أمامهم لم يغب عنهم منه شيء ، وسيواجهون الحساب من خلاله ، ولن يحاسبوا على أي شيء لم يفعلوه. (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لأنه العادل القويّ الذي لا يحتاج إلى ظلم أحد ، باعتبار الضعيف هو الذي يظلم الآخرين ، لأنه يخاف منهم على نفسه ، فظلمه مظهر ضعف لا مظهر قوة.

* * *

٣٤٢

الآيات

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣)

* * *

معاني المفردات

(فَفَسَقَ) : فخرج إلى حال تضرّع به.

(عَضُداً) : ما بين المرفق إلى الكتف. والمراد به هنا النصير والمعين.

(مَوْبِقاً) : مهلكا.

٣٤٣

(مُواقِعُوها) : واقعون فيها ، داخلوها.

(مَصْرِفاً) : مكانا تنصرفون إليه.

* * *

عقدة ذاتيّة تاريخيّة

... وتبقى قصة إبليس في عقدته الذاتية من آدم ، تتحرك في أكثر من موقع قرآنيّ لتثير أمام الإنسان الآدمي في نسبه ، امتداد هذه العقدة في حياة كل فرد من أفراده ، وفي كل جيل من أجياله ، لأن الخطة الإبليسية كانت تستهدف امتداد آدم في ذريته ، لا شخص آدم وحده. وهكذا جاءت الآية الكريمة لتذكر الإنسان بانحرافه عن خط الحذر المصيريّ ، الذي يفرضه عليه وعيه الدقيق لما يجب أن يفهمه في علاقته بإبليس وذريته من حركة التاريخ الديني في بداية الخليقة ، في علاقة إبليس بأبيه ، وموقفه المتمرد على الله في التنفيس عن عقدته المتحركة في عمق الأنانية المتكبرة ، وما يمكن أن يؤثر ذلك على حركة الإنسان في الحياة تحت تأثير وسوسته وحيله وخديعته.

* * *

سجود الملائكة لآدم إلا إبليس

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) طاعة لله ، وتعظيما له في إبداع هذا المخلوق الفريد من نوعه ، وتحية لآدم في تكريم الله له في وجوده (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) ولم يكن من الملائكة ، ولذلك كان يعيش قابلية الانحراف في

٣٤٤

ذاته ، من خلال العناصر المتنوعة الخاضعة لأكثر من نقطة ضعف ، ومنها عنصره الناريّ الذي كان يجد فيه لونا من ألوان الامتياز عن الآخرين ، ولذلك كانت مسألة خلق آدم وتكريم الله بأمر الملائكة بالسجود له ، صدمة عنيفة موجهة إلى كبريائه ، وتحقيرا للجانب العنصري في شخصيته ، فأبى أن يسجد له. (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) في حالة تمرّد وتحدّ ومواجهة لهذا المخلوق الجديد ، وأعلن عزمه على إضلال ذريته حتى لا يحصلوا على كرامة الله لهم في رضاه عنهم ، ورحمته لهم ، وإدخالهم الجنة التي وعد بها عباده المتقين ، لأنه لا يريد أن يتميزوا عنه وعن ذريته ، فيدخل هو النار بينما يدخلون الجنة. وإذا كان حظه هو هذا الحظ ، وعزمه هو هذا العزم ، فكيف يمكن لأبناء آدم أن يستسلموا له أو يخلصوا لعلاقتهم به ، أو ينفتحوا عليه من موقع الثقة به ... إن ذلك يمثل منتهى الجهل ، وغاية السذاجة ، (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي)؟ تمحضونهم المودّة ، وتعطونهم الثقة ، وتنتمون لأوضاعهم ، وتنفذون خططهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال ما يوحون به إليكم من أفكار وآراء ومشاعر ، (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) لأنهم يضمرون لكم المكر الحاقد الذي يؤدي بكم إلى خسارة الدنيا والآخرة من أكثر من وجه.

* * *

بئس البديل الشيطان

(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) حيث يظلم هؤلاء الذين يتبعون إبليس وذريته أنفسهم ، فيتخذونهم أولياء ، وينكرون ولاية الله الذي خلقهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، ودعاهم إلى السير في طريق الهدى الذي يؤدي إلى الجنة

٣٤٥

التي وعد بها عباده المتقين. وأية معاملة أكثر سوءا من معاملة يستبدل فيها الشيطان بالله؟!

ثم ماذا هناك؟ وماذا يملك هؤلاء الشركاء الذين أطاعوهم وعصوني ، واتّبعوهم وتركوني ، وأحبّوهم وأبغضوني؟ وما خصائصهم الذاتية والنوعية التي يتميزون بها ، ليكونوا أرفع درجة من بقية الناس ، بحيث يمكن لهم أن يحملوا بعضا من أسرار الألوهية في ذلك ، ليرتفعوا إلى درجة الشرك بالله؟! إنهم لا يملكون أي شيء من ذلك ، بل هم مثل الناس الآخرين في ملامحهم الشخصية ، وعناصرهم النوعية.

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلم يكونوا أسبق الخلق ، بحيث شهدوا خلق السموات والأرض دونهم ، ليكون ذلك أساسا للتفكير بأنهم قد شاركوا الله في بعض ذلك ، (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وكيف يمكن أن يشهدوا ذلك وهم في دائرة العدم؟! وذلك جار على سبيل الكناية عن عدم إحاطتهم بالواقع الكوني ، وبالواقع الذاتي لأنفسهم ، لأنه كان أسبق منهم ، فكيف يمكن أن تكون لهم السيطرة عليه ، وهم لم يعرفوا شيئا من أسراره؟! ولعل في التعبير بالإشهاد ، بدل الشهود ، نوعا من الإيحاء بأن الله هو الذي يملك الأمر كله ، فلا يملك أحد شيئا إلا من خلال تمليك الله له ، فإذا لم يقدّر الله لهم بأن يشهدوا ذلك ، فلا يمكن أن يتحقق لهم شيء منه.

(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) وهل يمكن لله سبحانه أن يمنح هؤلاء شرف القرب إليه باتخاذهم شركاء له ، أو مساعدين له ـ لو كان ذلك معقولا في نفسه ـ في الوقت الذي يخططون فيه لتحويل الحياة إلى قاعدة للضلال على مستوى العقيدة والعمل في حركة الإنسان فيها ، ويعملون من أجل تحقيق ذلك من خلال ما يوسوسون به من أفكار الشرّ ، وما يزينونه من أوضاع الضلال ، مما يجعلهم في الموقع المواجه للحركة الهادية الصالحة التي يريد الله للإنسان

٣٤٦

أن يلتزمها ، فإن الله يهدي إلى الحق ، ويقود إلى خط الهدى والصلاح ، فكيف يمكن أن يكون مثل هؤلاء في موقع الشركاء والمعاضدين لله في ملكه من هذه الجهة ، مع أن الفكرة ، في مسألة الشرك ، لا تملك أساسا معقولا في ذاتها ، بل هي من الأفكار المستحيلة في ميزان العقل؟!

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) فليستجيبوا لكم في هذا الموقف الذي تتعرضون فيه للعذاب ، لينقذوكم منه ، أو لينصروكم فيه ، لأن ذلك هو المظهر الطبيعيّ للألوهية في أقل مراتبها التي تفرض السيطرة المطلقة ، أو الكبيرة في موقف الحساب. إنها دعوة التحدّي الصارخ الذي يوحي إلى هؤلاء المخدوعين بهذه الأفكار الضالّة ، بأن المسألة لا تملك أيّ أساس للقوّة على صعيد الفكر والواقع ، ليعيدوا النظر في اعتقادهم بها ، وليتخلصوا من التأثّر بها نهائيا. (فَدَعَوْهُمْ) في أكثر من نداء ، وفي أعمق صرخة ، (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فكيف يملكونه للآخرين ، لا سيما في هذا الموقف الذي (يَوْمَ لا (١) تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) ـ والموبق محل الهلاك ـ وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد به النار أو مواقعها ، التي يهلك فيها الفريقان : المشركون وشركاؤهم. وقد ذكر صاحب تفسير الميزان ، أن ذلك لا ينسجم مع التدبّر في كلامه تعالى : «فإن الآية قد أطلقت الشركاء وفيهم ـ ولعلهم الأكثر ـ الملائكة وبعض الأنبياء والأولياء ، وأرجع إليهم ضمير أولي العقل مرة بعد مرة ، ولا دليل على اختصاصهم بمردة الجن والإنس ، وكون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أول الكلام. فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة ورفعها من بينهم ، وقد كانوا يرون في الدنيا أن بينهم وبين شركائهم رابطة الربوبية ، أو السببية والمسببية ، فكنّى عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة والعلقة من غير أن يهلك الطرفان ، ويومي إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أولا بالنداء حيث قال : (نادُوا شُرَكائِيَ) والنداء إنما

٣٤٧

يكون في البعيد ، فهو دليل على بعد ما بينهما» (١).

وقد نستطيع المناقشة في هذا التفسير أولا ، بأن الآية السابقة قد تصلح قرينة على الاختصاص ، من خلال ما تحدثت به عن إبليس وذريته باعتبارهم شركاء في عقيدة هؤلاء ، وثانيا بأن الآية لا تفرض بأن يكون الشركاء المزعومون في النار ، لأن من الممكن أن يكون هؤلاء في موقع ، وأولئك في موقع آخر ؛ بأن يكون المشركون في النار ، وبذلك فإنها تفصل بينهم وبين الآخرين الذين هم خارجها ، وليس من الضروري أن يكونوا ـ جميعا ـ في النار ، في ما تقتضيه كلمة (بَيْنَهُمْ) ، فقد وردت في آية أخرى في مورد اختلاف الموقع ، في قوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [الحديد : ١٣] والله العالم.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) لأن الجوّ الذي يحيط بموقفهم يوحي بذلك ، ولأن الأعمال التي قاموا بها في الدنيا في نطاق الجريمة ، تؤدي إلى النار ، من خلال ما سمعوه من إنذار الأنبياء والرسل بأن النار هي عاقبة المجرمين ، إلا أن يعفو الله عنهم ، ولم يعف الله عنهم في هذا الموقف ، كما يرون. وإذا كانت جريمتهم هي الشرك فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والظاهر أن المراد بالظن هنا هو الإحساس المتعاظم بالنتيجة الذي يواجه الحقيقة بطريقة ضاغطة ، لا مجال للهروب منها. (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) ينصرفون إليه ويبتعدون به عن النار التي تستقبلهم ليدخلوها بعد قليل.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٣٢٧.

٣٤٨

الآية

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤)

* * *

الجدل الكلاميّ الفارغ

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) وذلك بالأسلوب القرآني المتنوّع الذي يعبر عن الفكرة بأكثر من طريقة ، ويواجه الواقع الإنساني بأكثر من فكرة ، ويحرّك الفكر في أكثر من موقع ... لينفتح على الحقيقة من كل جانب ، فيهتدي بها من خلال استعمال وسائل الهداية التي أودعها الله في شخصيته من السمع والبصر والعقل ... في ما أراد الله له أن يحرّكها بطريقة واعية منفتحة. فليست هناك مشكلة في طبيعة الأسلوب القرآني الذي يطرح الفكرة ، ليكون للإنسان العذر في ضلاله ، بأنه لا

٣٤٩

يملك الوضوح الذي يؤدي به إلى الإيمان ، بل المشكلة في طبيعة العقدة التي يعيشها الإنسان الذي يستسلم لنوازعه الذاتية في التمرّد والانحراف ، لئلا يغيّر عاداته أو أفكاره ، ولئلا يدخل في الأجواء الرسالية التي تثير في داخله الإحساس بالمسؤولية ، وهو ما يمكن أن يتعب جسده ، أو يبعده عن مواقع الراحة واللهو والاسترخاء في حياته ... ولذلك فإنه يلجأ إلى الهروب من مواجهة الحقيقة الواضحة ، بالالتفاف عليها بطريقة الجدل الكلامي الفارغ الذي يثير الغبار في وجهها ، ولكنه لا يستطيع أن يحجبها عن العقول.

(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) في ما تعنيه هذه الكلمة من الدخول في المنازعات والمشاجرات التي تريد أن تملأ الجوّ بالكلام ، وتشغله بالبحث في القضايا الصغيرة الجانبيّة ، ليبتعد الناس عن الارتباط بالمسائل الكبيرة في حركة العقيدة والحياة ، ولينصرفوا عن التفكير فيها بطريقة علمية موضوعية ، عند ما تستهلك الهوامش الفكرية كل جهدهم ، فيأتون إلى المسألة الحاسمة بجهد مثقل بالتعب ، وروح فارغة من القوّة ، وإرادة متعبة من الخلاف ... وهكذا تضيع الحقيقة في غمار الجدل ، ويبتعد الإنسان عن العمق ، فلا يلتقي بحقائق العقيدة إلا من خلال ستار كثيف من المشاعر المتوترة ، والذهنيات المعقّدة ، والكلام الفارغ.

* * *

٣٥٠

الآيات

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩)

* * *

معاني المفردات

(قُبُلاً) : مواجهة ومعاينة.

(لِيُدْحِضُوا) : ليزيلوا.

٣٥١

(أَكِنَّةً) : أغطية.

(يَفْقَهُوهُ) : يفهموه.

(وَقْراً) : ثقلا في السمع.

(مَوْئِلاً) : ملجأ.

* * *

حواجز بين الدعوة والإيمان بها

وتبقى مشاكل الدعوة هي التي تلحّ على الأجواء القرآنية ، لأنها تمثل الحواجز التي تحول بين الناس وبين الإيمان ، من خلال خضوع مجتمع الكفر لبعض الذهنيات المتخلّفة ، أو العقليات المتحجرة ، أو العقد المتنوعة ، أو الخلفيات الفكرية التي تجعل الإنسان يعيش في حصار دائم في دائرة الفكرة ... وهذا ما يريد القرآن في هذه الآيات ، أن يحرّك الحديث حوله مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليثير أمامه الواقع لئلا يشعر بالضعف أمام حالة التمرّد ، وليعتبر المسألة طبيعية في نطاق هذا الواقع.

* * *

العصبية تمنع من الإيمان

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) ويتراجعوا عما هم فيه من الكفر والضلال ، فينفتحوا على آفاق الهدى ، ويرجعوا إلى الله ، ويستغفروه عما أجرموا في حقه في التنكر لعقيدة التوحيد ، أو لخط الرسالة ... (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الذين كانوا يتمرّدون على الله وعلى الرسل ، بالكفر والضلال والعصيان ، لأنهم لا يريدون الإيمان ، ولا يستعدون

٣٥٢

للدخول في حوار مع الرسل ، ولا يركنون إلى فكر يوجههم ، ولا إلى علم يهديهم ، بل ينطلقون في مواقفهم من موقع العصبية الذاتية أو القبلية أو التاريخية التي تربطهم بعقيدة الآباء والأجداد ، أو غير ذلك فيبادرون إلى إطلاق التحدي في وجه النبي ، أن يأتيهم بعذاب الله الذي يهلكهم إن كان من الصادقين. ويحاول النبيّ بكل الوسائل أن يقرّب إليهم الفكرة ، ويحذّرهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، فلا يستجيبون له ، فينزل الله العذاب عليهم ويهلكهم بالصاعقة ، أو بالصيحة ، أو بالزلزال ، أو بالطوفان ، أو بغير ذلك من ألوان العذاب ، فيستأصلهم ، فلا يبقى منهم أحد إلا المؤمنون.

وهذا ما عاشه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض مواقف قومه منه ، فقد أبوا أن يؤمنوا لأنهم لا يلتزمون إرادة الإيمان ، ولا يعيشونها ، ولم يجدوا أمامهم إلا أن يهربوا من دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم إلى الحوار ، وذلك بإطلاق التحدي في وجهه ، أن تأتيهم سنة الأولين ، فيستريح منهم ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) أي مواجهة وعيانا ومقابلة ، بحيث يرونه ويشاهدونه عند إقباله عليهم ، ليؤمنوا بعد ذلك. أما تفسير العلاقات بين طلبهم هذا ، وبين عدم الإيمان ، لتكون سنّة الأوّلين أو إتيان العذاب مانعا لهم عن الإيمان ، فقد يكون معناه ، أنهم كانوا يظنون أو يعتقدون أن المسألة ـ أعني العذاب ـ ليست بهذه الجدية ، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس قادرا على الاستجابة لهم ، لأنهم لا يعتقدون بنبوّته لعدم تقديمه لهم المعاجز التي اقترحوها عليه ، وبذلك يعتبرون الطلب الذي يقدمونه خروجا من مأزق الدعوة النبوية إلى الفكر والتأمل والحوار الذي لا يريدونه ... وبذلك لا يكون هذا مانعا حقيقيا ، ولكنه مانع افتراضيّ باعتبار أنهم يتخذونه حجة على عدم الإيمان ، لأن النبي لم يستجب لهم في ذلك ، مما يعتبرونه دليلا على عدم صدقه بادعاء النبوة ، ولكنهم ليسوا جادين بذلك ، لأن النبي أراد لهم أن يناقشوا الإيمان معه من موقع العقل والفكر ، ليهتدوا على هذا الأساس ، بعيدا عن مسألة المعاجز ، أو التهديد بالعذاب المباشر ،

٣٥٣

لأن أمره بيد الله ، وقد اقتضت حكمته أن لا ينزل العذاب عليهم.

* * *

المرسلون دورهم إنذار الناس

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فذلك هو دورهم الطبيعي في الرسالة ، فليس عليهم إلا أن يبشروا الناس بالنتائج الإيجابية التي يحصلون عليها من الإيمان بالله وبرسله وبكتبه ، وينذروهم بالنتائج السلبية التي يواجهونها من خلال الكفر بالدعوة الرسالية ، على مستوى الدنيا والآخرة ، ويبذلوا كافة الوسائل في سبيل الوصول إلى ذلك ، ويقدّموا أفضل الأساليب في سبيل تقريب الفكرة إلى عقولهم ... وتنتهي مهمتهم عند ما يستكملون كل جهدهم في هذا السبيل. أما استجابة الناس لهم وإيمانهم برسالتهم ، فذلك أمر يعود إلى أكثر من سبب يتصل بالناس من جهة في انفتاحهم على المرسل ، وبالظروف المحيطة بحركة الرسول والرسالة ، كما يتصل بأسلوب النبي في الدعوة ، ولذلك فليس هناك بأس عليه إذا لم يتمّ له ما يريد من الحصول على النتائج الحاسمة فيما إذا كان المانع من قبلهم لا من قبله.

* * *

مجادلة الذين كفروا بالباطل

(وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) الذين يعرفون أنه الحق ، فهم يعلمون كيف كانت نتيجة الزيف والخديعة والمداورة والمناورة ، التي تراد من خلال

٣٥٤

الإرباك والتشويش والتشويه والتضييع ، وإبعاد الموقف عن الجدّية ، وتحويله إلى حالة من اللعب بالألفاظ ... (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ويبطلوه بهذه الأساليب الملتوية الباطلة التي لا تحترم مسئولية الفكرة في الفكر ، ولا إنسانية الحقيقة في الإنسان ، (وَاتَّخَذُوا آياتِي) التي أنزلتها على رسلي (وَما أُنْذِرُوا) به من عذاب في يوم القيامة ، جزاء لكفرهم وضلالهم وطغيانهم (هُزُواً) من خلال ما اعتادوه من مقابلة المواقف الجدّية المسؤولة ، بأساليب السخرية والاستهزاء التي تعطي الجو حالة الميوعة ، لا حالة الصلابة والجدّية والثبات.

* * *

ظلم النفس بالكفر

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) لأنه يظلم نفسه بما يعرّضها له من الضلال والضياع والعقاب والمصير الأسود ، ويظلم غيره بتوجيهه إلى ذلك ... ولعل ظلم النفس بالكفر هو أفظع الظلم ، لأنه يدلّل على عمق سيطرة الظلم ـ كمبدإ ـ على شخصيته ، بحيث لا يوفّر نفسه عن الخضوع له ، فيعرّضها للعذاب الأبدي ، بعد أن قامت حجة الحق عليه ، فأعرض عنها (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الذنوب والجرائم التي تعرضه لغضب الله وعقابه ، فلم يتب إلى الله منها. وهذه هي مشكلة الكافرين في كفرهم ، حيث يغفلون عن النتائج السلبية المترتبة على طريقتهم.

(إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) لأن الغفلة والنسيان يجعلان الإنسان يواجه الأمور بعقل لا ينفتح على الحق ، بل يعيش معه كما لو كان هناك غطاء يحجب عنه الحقيقة ، وبأذن صمّاء كما لو كان هناك ضجيج يمنع الكلمة أن تدخل إلى أعماق السمع.

٣٥٥

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) للهدى أبوابه التي أغلقوها بأنفسهم ، باتباعهم سبيل الغفلة والإعراض عن الحق ، فكيف يهتدي الإنسان بدون عقل مفتوح ، أو أذن سميعة ، أو عين مبصرة؟! وهكذا يختار الإنسان لنفسه الضلال ، باختيار الأسباب التي تقوده إلى ذلك ، فليست الحتمية في الكفر كامنة في شخصيته ليكون مجبورا على ذلك ، بل هي كامنة في إرادته من خلال حركته في الاختيار ، عند ما يعطل إرادته عن التحرك في الاتجاه السليم.

* * *

الله الغفور ذو الرحمة

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) الذي يحتوي الناس كلهم بمغفرته ورحمته ، سواء في ذلك غفرانه للذنوب من الأساس ، وإفاضته النعم عليهم من جميع الجهات ، أو تأخير العقاب عنهم مع استحقاقهم للتعجيل ، وإبقاؤهم في الحياة مع استحقاقهم للهلاك ... فإن ذلك من آثار مغفرته ورحمته. (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) لأن ذلك هو النتيجة الطبيعية للتمرّد على الله ومخالفة أوامره ونواهيه ، (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) جعله الله لعباده في مواجهة نتائج أعمالهم الخيّرة بالرضوان والثواب ، وأعمالهم الشريرة بالغضب والعذاب. (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي ملجأ يلجأون إليه منه ، ليهربوا منه ومن عذابه.

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والضلال والعصيان ، على أساس من الحكمة الإلهية في العقاب وفي تحديد موعده ، (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) ثابتا لا يتأخرون عنه.

* * *

٣٥٦

الآيات

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤)

* * *

معاني المفردات

(لِفَتاهُ) : صاحبه أو خادمه.

(لا أَبْرَحُ) : لا أزال.

(حُقُباً) : دهرا وزمانا.

(سَرَباً) : مسلكا ومذهبا.

٣٥٧

(نَصَباً) : تعبا ووصبا ووهنا.

* * *

ملخّص القصة الغريبة

وهذه قصة غريبة في طبيعتها ، إذ تشتمل على حوادث غير مألوفة ، كرجوع الحوت إلى الحياة ، واتباع موسى النبي المرسل إلى الناس ، عبدا صالحا عالما ، ليتعلم منه ما يملكه من علم بواطن الأشياء التي لم يعلّمها الله لموسى عليه‌السلام ، وصرامة هذا العالم الصالح في حالة الانضباط الذي يجب أن يفرضه موسى على نفسه ، بالصبر وترك السؤال في الأمور التي يحاول فيها إثارة فضوله بأعلى الدرجات ، في ما لا يمكن الصبر عليه ، لا لغرابته ، بل لمخالفته للقوانين المألوفة في شريعة موسى عليه‌السلام. ثم يحسم الأمر مع موسى عليه‌السلام فيصرّ على مفارقته لأنه لم يلتزم بما شرطه عليه من الصبر القاسي ، بعد أن يفسر له ما أبهم عليه من القضايا المثيرة للفضول.

* * *

أسئلة تثار حول القصة

وربما كانت هذه القصة مثيرة لأكثر من سؤال على مستوى التفاصيل العقيدية لما يجب أن تكون شخصية النبي.

فكيف يمكن أن يكون النبي موسى عليه‌السلام محتاجا إلى التعلم من شخص آخر ، مع أن الفكرة المطروحة لدى الكثيرين أن النبي لا بد من أن

٣٥٨

يكون أعلم الناس ، لا سيما في القضايا المتصلة بالجوانب العملية التي تتحرك فيها الرسالة؟

وكيف نفسر نسيان موسى عليه‌السلام للحوت ، أمام الفكرة التي تقول إن النبي معصوم عن الخطأ والنسيان ، حتى في القضايا الحياتية؟

وكيف نواجه مسألة هذا الصبر النبويّ الذي ينفد أمام أيّة حالة غموض ، بعد أن أعطى كلمته للعبد الصالح ، أن يتبعه من دون أيّ سؤال؟

إنها علامات استفهام ترتسم أمام القارئ العادي للقرآن ، من خلال ما يملك من تفاصيل معينة في النظرة الإسلامية للشخصية النبوية. وربما نجيب عن هذه الأمور في تفاصيل تفسير الآية الآتية.

* * *

مع تفاصيل القصة

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) ، أي ملتقاهما. وقد قيل : هو الذي ينتهي إليه بحر الروم من الجانب الشرقي ، وبحر الفرس من الجانب الغربي. وهكذا كان يريد موسى عليه‌السلام أن يصل إلى الموعد الذي يلتقي فيه العبد الصالح في النقطة التي قد توحي بها الآيات ، لأنها المنطقة التي يتمثل فيها سرّ الحياة. (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي أو أظل في هذا السير وقتا طويلا حتى أصل إلى هذه الغاية ، (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) ووصلا إلى الغاية المبتغاة (نَسِيا حُوتَهُما) الذي اصطحباه ليأكلاه ـ كما يبدو ـ أو ليكون علامة على تلك النقطة ، ولكن هل كان ميتا ، أو مشويا؟ ربما يذكر المفسرون ذلك وربما يلاحظ البعض بأن الآية ليست ظاهرة في ذلك ، فإن

٣٥٩

الوارد فيها هو نسيان الحوت من دون أيّة إشارة إلى طبيعة وضعه. ولكن قد تكون الفقرة التالية : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) دليلا على حياته بعد الموت ، لأنها تتحدث عنه كما لو كان يتحرك حركة اختيارية في سلوكه الطريق إلى البحر الذي يدخل إليه ليغيب فيه ، وهذا هو معنى السرب ، كما يستفاد ذلك من الآية التالية : (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) من السمكة التي حملاها معهما ، ولعل ذلك هو الذي جعل المفسرين يقولون إنه كان حوتا مشويا ، لأنه كان معدّا للغداء. (لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي تعبا ، لأن المسافة كانت طويلة ـ على ما يبدو ـ فشعرا بالجوع. ولكن الغلام فاجأه بنسيانه لها في المكان الذي جاوزاه (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) هناك من دون قصد إلى ذلك ، بل كان غفلة سانحة (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) في ما يمثله من السيطرة على وعي الإنسان للأشياء (أَنْ أَذْكُرَهُ) فأحدثك بما حدث له من الأمر العجيب. (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) في ما يمثله رجوعه إلى الحياة من العجب.

(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) ونطلب لأن ذلك كان هو العلامة التي يلتقيان فيها مع العبد الصالح (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) أي آثار أقدامهما (قَصَصاً) في اتباع الأثر لئلا يضلا الطريق. وهكذا رجعا إلى تلك النقطة.

وربما يكون نسيان موسى عليه‌السلام مذكورا للتغليب ، باعتبار أن أمر الحوت متعلق بهما من دون أن تكون هناك حالة نسيان له من قبله ، لأن المسألة متصلة بغلامه الذي كان موكلا بحمل الحوت وحفظه ، مما يجعل قضية الذكر والنسيان قضيته الخاصة ، لا قضية موسى عليه‌السلام الذي لم يكن في موارد التوجه إلى هذه المسألة ليرفض تذكره أو نسيانه لها.

* * *

٣٦٠