تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الكثيرة المترتبة على ذلك. قلها ، لتؤكدها في وعي الناس وضميرهم ، من موقع الوضوح في الفكرة ، والعمق في الإحساس ، والقوّة في الانتماء ... لئلا يضيع الناس عن الحق ، في ضباب الكلمات ، وتهاويل الأقنعة الملوّنة ، وخيّرهم بين الإيمان والكفر ، لا لتساوي بين الموقفين في النتائج ، على أساس الحرية الفكرية التي تؤكد على الشكل في الممارسة ، بعيدا عن الالتزام بالمضمون ، تماما كالكثيرين الذين يقدّسون الحرية ويحترمون نتائجها ، على أساس أنها التجسيد العملي لمبدأ الحرية ، الذي لا يلتزم موقفا معيّنا ، بل يلتزم المضمون الذي يتحرك في دائرته.

* * *

مفهوم الإسلام للحرية

إن الإسلام يطرح الحرية ، كموقف إنساني طبيعيّ ، في مواجهته لمسائل الفكر ومواقع العقيدة ، لأن عملية فرض القناعات ليست واردة في الطبيعة التكوينية للإنسان ، فإن الفكر لا يمكنه الاستسلام لضغط القوّة ، لتفرض عليه قناعاته ، بل هو خاضع لضغط الحجة والدليل والبرهان ، باعتبار أنها التي تحتوي حركته.

ولكن الحرية لا بد من أن تتحرك من مواقع المسؤولية ، التي تثير لدى الإنسان مسألة المصير كعنصر ضاغط على أجواء اللامبالاة التي يعيشها من خلال الروحية اللاهية العابثة الخاضعة لحالة الاسترخاء ، لتضغط عليه كي يواجه المسألة بجدّية ، فيتأمل ويفكّر ويبحث ويحاور ويحدّد قناعته في نهاية المطاف على أساس ذلك كله ، فإنّ هناك فرقا بين الموقف الذي لا تشعر بالمسؤولية في تقريره ، وبين الموقف الذي تشعر فيه بأنّ النتائج قد تسيء إلى مصيرك.

٣٢١

(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) إذا انطلق تفكيره في الخط المستقيم الذي لا بد من أن يقوده إلى الحق الذي لا ريب فيه ، لأنه ينسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة. (وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) إذا استسلم لهواه ، وخضع لضغط تقاليده وعاداته المتخلّفة ، وشهواته المنحرفة ، ومزاجه المريض ، وتفكيره المعقّد. إنّ للإنسان الحرية في الاختيار بعد وضوح الحق أمامه ، وعليه أن يتحمل مسئولية اختياره في جميع النتائج السلبية والإيجابية التي تنتظره. وإذا كان الإسلام يقرر سلبية اختيار الكفر على المصير ، فلأنه لا يراه منطلقا من حالة فكرية ليبرر للإنسان موقفه فيها ، بل يراه منطلقا من حالة مزاجية ، لا ترتاح للفكر ، ولا تتحمل متاعبه ، وبذلك تتنكر لكل نتائجه. ولهذا كانت النار مأوى الكافرين ، لأن موقفهم ينطلق من حالة جحود وتمرّد لا حالة اقتناع وإذعان ، فوسائل الإيمان متوفرة للذين يأخذون بها من أقرب طريق.

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) كناية عن إحاطة النار بهم من جميع الجهات ، كما تحيط الخيمة بظلالها كل من هو في داخلها. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من شدة العطش ، أو من شدة الحريق الذي يحيط بهم فيطالبون بالماء لإطفاء حرارته (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) ، وهو خثارة الزيت ، وهو شديد الاشتعال (يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي متكأ ، وذلك كناية عن المصير السيّئ.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) واختاروا الإيمان من موقع فكرهم ، وحوّلوه إلى موقف وممارسة من خلال جدّيتهم في حركة المسؤولية ، (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) اتخذ لنفسه الموقف الصحيح المتوازن في العمل الأحسن المرتكز على الفكر الأفضل. وبذلك كان يمثل العامل الكادح في الحياة المسؤولة ، الذي كان كدحه لربّه في المستوى الذي يستحق عليه الأجر العظيم منه ، وهو ما يحفظه الله له في حساب الثواب والرضوان في يوم

٣٢٢

القيامة.

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) وكلمة عدن تعني الإقامة ، وبذلك كانت كلمة (جَنَّاتُ عَدْنٍ) تعني جنات الخلود على سبيل الكناية. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وهذا متمثل بالزينة الظاهرة التي تمنح الإنسان جمالا فوق جمال (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ) وهو نوع من الحرير الرقيق (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو الحرير الغليظ ، (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) ـ جمع أريكة ـ وهو السرير. (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً).

* * *

٣٢٣

الآيات

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤)

* * *

٣٢٤

معاني المفردات

(جَنَّتَيْنِ) : بستانين.

(وَحَفَفْناهُما) : أحطناهما.

(يُحاوِرُهُ) المحاورة : مراجعة الكلام في المخاطبة.

(نَفَراً) : أنصارا وأعوانا.

(تَبِيدَ) : تفنى.

(قائِمَةً) : كائنة.

(حُسْباناً) : أصل الحسبان السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد ...

وأصل الباب الحساب ، وإنما يقال لما يرمى به حسبان لأنه يكثر كثرة الحساب. والمراد بها هنا الآفة المهلكة.

(صَعِيداً) : أرضا لا نبات فيها.

(زَلَقاً) : أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها. وأصل الزلق ما تزلق عليه الأقدام ولا تثبت.

(غَوْراً) : ما ذهب وغار في الأرض.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) : كناية عن الهلاك.

(يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : كناية عن الندم.

(خاوِيَةٌ) : خالية ، فارغة ، هاوية.

(عُرُوشِها) : العروش جمع عرش وهو السّقف. والمراد به هنا الكروم

٣٢٥

التي سقطت على الأرض.

(عُقْباً) : عاقبة.

* * *

الإيمان هو الثروة الحقيقية

وينطلق القرآن في الاتجاه المتمثل في رفض اعتبار الثروة المالية قيمة حياتية كبيرة بعيدا عن الإيمان ومسئوليته ، وفيصوّر لنا صورة رجلين ، يملك أحدهما الثروة والجاه والولد ، بينما لا يملك الآخر ما يملكه صاحبه ، ولكنه يملك الإيمان بالله ، والإحساس بعظمته وبفضه على الإنسان في كل شيء ، مما يجعله يحسّ بنعم الله عليه في كل مظهر من مظاهر وجوده ، ويعرف ـ إلى جانب ذلك ـ قيمة الحياة ودورها ووظيفتها في مسئولية الإنسان ، فلا يستسلم لنعيمها ، ولا يضعف أمام شقائها ، لأنه يعلم أن ذلك كله بيد الله ، الذي اقتضت حكمته أن يزول ذلك كله ، فلا يبقى للإنسان منه إلا النتائج العملية لما قام به من دور في الحياة.

وبهذا يتجسّد لنا الفارق الكبير بين العقليتين والاتجاهين في فهم الحياة ، من خلال الحوار الذي أداره القرآن الكريم بين الرجلين ، لنستوحي منه الفكرة التي تحكم الموقف في حساب القيم والمعاني الكبيرة في الإسلام.

إنها الصورة الرائعة التي يجسّدها لنا القرآن في أسلوبه الرائع. فنحن نرى ـ في الصورة ـ أن صاحب الجنتين قد بدأ الحوار مع صاحبه من موقع الإحساس بالقوة والفوقية والامتياز ، بسبب ما يملك من كثرة المال والأتباع ، فكان خطابه ـ معه ـ ينطلق من محاولته لإخضاعه نفسيا ، بمواجهته بواقع

٣٢٦

الفارق الكبير بينهما ، وتميزه عنه.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) من هذا المجتمع المتنوع المتناقض ، الذي يحمل في داخله الكثير من العقليات المختلفة في مسألة وعي القيم المادية والروحية في الحياة ، فهناك الذين يعتبرون المادة كل شيء ، فهي الأساس في المستوى الكبير والصغير في قيمة الإنسان ، وهي العمق الذي تكمن فيه المشاعر الإنسانية التي تحكم العلاقات ، وهناك الذين يعتبرون القيمة الروحية الأساس في احتواء العلاقات الإنسانية ، والتحكم في حركة الواقع ، والارتفاع به إلى المستوى الأعلى في الحياة عند ما ترتفع في وجدان الإنسان ، أو تنخفض به إلى المستوى المنحدر فيها ، مما يؤثر سلبا على مشاعره. وهكذا يتقابل هذان الرجلان ، أمام التناقض في المشاعر والمواقف في ما يتمثل به واقع كل منهما في طبيعة العيش. وقد أراد الله أن يصور لنا هذين الرجلين اللذين (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) ، حيث تتهدل العناقيد كمثل اللآلئ في أعالي الكروم ، (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) يحيط بهما فيعطيهما جمالا وشموخا وارتفاعا ، (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) تخضرّ به الأرض وتزهو وتزدهر وتنتج الكثير مما يغذي الروح والجسد والبصر ... (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) فقد أعطت كل نتاجها الشهي ، ولم تنقص منه أيّ شيء (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) يسقي الكروم والنخيل والخضرة المتنقلة في كل مكان ، فيمنحها الحياة والنمو والازدهار. ثم نلاحظ استسلام صاحب الجنتين لحالة الرخاء والنعيم اللذين يتمتع بهما ، واعتقاده استمرار ذلك كله في شعور طارئ بالخلود ، وثقة كبيرة بالمستقبل كله في الدنيا والآخرة ، لو كان هناك آخرة ـ كما يوحي تفكيره ـ انطلاقا من إحساسه بضخامة شخصيته ، على أساس أن حالته المالية والاجتماعية تفرض علوّ شأنه ، ورفعة منزلته ، وكرامته لدى الله. ولهذا ، فإنه مطمئن إلى وضعه كل الاطمئنان.

* * *

٣٢٧

تفكير من يركن إلى دنياه

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) فلديّ المال الكثير الذي لا تملك إلا القليل منه ، ولديّ الأتباع الكثيرون ، بينما لا تجد إلا القليلين منهم معك ، فكيف تقف أمامي ، كما لو كنت في المستوى الواحد الذي أقف عليه؟ (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) لأن أفكاره خيالية لا ترتكز على أساس من الواقع ، وخطواته العملية لا تنطلق في الطريق المستقيم ، ولا تلتقي بالإيمان بالله من قريب أو من بعيد. ومضى يسير في مشيته الزاهية بالكبر والخيلاء ، وهو يعيش أحلام الخلود في ذاته وفي ملكه ، كما لو لم يكن هناك موت. (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) فهذه الخضرة التي تزهو بالحياة بكل جنباتها ، وهذه الينابيع المتدفقة في ساحاتها ، وهذه الأشجار الشامخة في أجوائها ... هي المظهر الحيّ على قوّة الحياة في داخلها ، مما يجعل فكرة فنائها فكرة لا تملك أيّة واقعية وأيّ احتمال.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) فلا مسئولية خارج نطاق الحياة. وإذا كانت المسألة ـ كما يقولون ـ تحمل بعض الجدية ، فإن مركزي يخوّلني الحصول على موقع مميز ، تكون الآخرة فيه هي صورة الدنيا التي أتقلّب فيها على فراش النعيم ، وأتحرك فيها في مواقع المجد. (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) لأن الآخرة تمثل المستوى الأعلى للنعيم الذي يمنحه الله للإنسان بدلا عن نعيم الدنيا.

وهكذا كانت صورة هذا الإنسان الذي يستريح للواقع الحاضر ، فلا يفكر في مفاجات المستقبل ، ولا يتعمّق في العناصر التي تحكم هذا الواقع وتحدد دوره وحجمه وامتداده. أما صاحبه المؤمن الفقير ، فتتجسّد لنا صورته الوديعة القوية في موقفه الساخر من ذلك كله ، فهو لا يعتبر الثراء قيمة كبيرة ترتفع

٣٢٨

بصاحبه في حساب القيم ، ولا يرى فيه ضمانة قويّة للمستقبل تبعث على الاطمئنان به والاستسلام له ، لأن كل شيء في الدنيا معرّض للزوال بين لحظة وأخرى ، بينما الله هو الثابت الوحيد ، منه نأخذ القوة ، لأنه مصدر القوة في الوجود وفي معطياته ، وهو أساس الثقة بالمستقبل ، كما كان أساس الثقة بالماضي.

ونراه يقف ـ في حوارة مع صاحبه ـ في موقع الإنسان الرسالّي الذي يستنكر على هذا الغني المزهوّ بغناه ، كفره باليوم الآخر ونسيانه لله ، ويبدأ في تذكيره بنعم الله عليه ، وحاجته إليه في كل شيء ، ليبقى مشدودا إليه في حال الإحساس بالقوّة ، كما يشعر بالارتباط به في حال الإحساس بالضعف ، لأن القوّة به ، يهبها لمن يشاء ، ويسلبها ممن يشاء.

* * *

موقف المؤمن الرسالي من الركون إلى الدنيا

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ثم كما لو كانت الحياة قد وجدت صدفة ، وتحركت من اللاشيء ، وليس لها خالق ومدبّر. كيف تتكلم بهذه الطريقة التي تجعلك تستغرق في ذاتك وفي مالك ، من دون أن تتحسس مسئوليتك أمام الله؟ كيف وجدت؟ ألم تكن ترابا ، ثم تحوّلت إلى نطفة ، ثم امتدت عملية النموّ حتى تحولت إلى مخلوق سويّ ، ثم صرت رجلا؟! فمن الذي خلقك ، هل خلقت نفسك أم خلقك أحد؟ هل هناك غير الله الذي خلقنا وكلّفنا تحمّل مسئولية الحياة؟ ولكنك استسلمت لنزواتك بعد أن رأيت الإيمان يحملك المسؤولية في

٣٢٩

حياتك ، ورأيت في المسؤولية عبئا ثقيلا على شهواتك وأطماعك ، فكفرت لا عن قناعة ، بل عن عقدة تتحرك من موقع نزوة.

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) فقد وعيت حقيقة الألوهية ، وأدركت حقيقة التوحيد من خلالها ، ورأيت أن التوحيد يتحرك في خط العقيدة بالإيمان بالإله الواحد ، وفي خط العمل بعبادة الله الواحد. وهكذا وقف ليدخل معه في الحديث عن العقيدة ، ليؤكد موقفه بقوة وصدق وحسم ... وامتد الحديث بعد ذلك إلى أجواء المال والولد.

أما كثرة المال وكثرة الولد ، التي تقابلها قلة المال وقلة الولد لدى هذا المؤمن ، فليست شيئا ، ما دام الله هو الذي يعطي ، وما دام المؤمن يشعر بالارتباط به ، فما المانع من أن يعطيه الله خيرا من جنته ، وما الذي يمنح الغني الأمان ، بأن لا يرسل الله على هذا كله حسبانا من السماء ، فتصبح الأرض مقفرة بعد اخضرار ، أو ظمأى بعد ارتواء.

* * *

الحياة خاضعة لمشيئة الله

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فلم تستغرق في داخل ذاتك ، ولم تستسلم إلى قوتك وإلى الأسباب المحيطة بك ، بل عشت مع الله في شعور عميق بالحاجة المطلقة إليه في كل تفاصيل وجودك ، كما كنت محتاجا إليه في أصل وجودك ، فتعرف أن الحياة كلها خاضعة لمشيئته ، وأن كل قوة مستمدة من قوته ، وبذلك تنفتح على جنتك انفتاح الحذر الذي لا يعرف ماذا يحدث لها لأنه لا يعلم مشيئة الله فيها ، فلا يثق بما تحمله من أحلام ، لأن الغيب قد يحمل لها الكثير من الأوضاع التي قد تقلبها رأسا على عقب.

* * *

٣٣٠

المقارنة بين الإيمان والمادة

وهنا يلتفت إليه ، ليدخل في عملية المقارنة التي أثارها هذا الغني المترف بين ما يملكه من مال وولد ، وبين ما يملكه هذا العبد المؤمن الفقير ، ليثير أمامه الفكرة الإيمانية التي توحي للمؤمن بأن يكون بما عند الله أوثق منه بما عنده ، ما دامت المسألة في خط العطاء وخط المنع متصلة بالله. (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) فليست هذه هي مشكلتي التي أعيش السقوط أمامها أو الضياع فيها ، لأن هناك نافذة واسعة في روحي وفي عمق إحساسي بالقدرة المطلقة لله والمتصلة برحمته الشاملة ، تطلّ بي على المستقبل في انفتاحه على الأمل الكبير المنطلق من الله.

(فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) فيعطيني كما أعطاك ، بل ربما يعطيني أكثر مما أعطاك ، وقد يسلبك كل ما لديك عقابا على هذا الغرور الأهوج وهذه الكبرياء الطاغية في التعاطي مع الآخرين. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) وهو كناية عن الحدث الذي يسبب هلاك الأرض وزوال كل ما فيها من خضرة وريعان (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أي أرضا ملساء مقفرة لا شجر فيها ولا نبات ، (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) ذاهبا في باطن الأرض ، (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) لأنه غاب في أعماقها فلا يعثر عليه أحد.

* * *

عاقبة المغرور بدنياه

وتكتمل الصورة بالمشهد الأخير للقصة ، فنشاهد أمامنا هذا الإنسان ،

٣٣١

وقد أحيط بثمره ، يقلب كفيه على ما أنفق فيها من ثروته ويقول : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً).

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) من كل جهة ، فلم يبق هناك أيّ أثر للحياة فيه ، بل أصابه الهلاك والفناء من كل جانب ، وأحس أمام ذلك بالضياع والسقوط ، فقد فقد كل شيء لأنه صرف كل ثروته في هذه الأرض ، لتكون الضمانة له في مستقبل حياته ، وها هو الآن يواجه مصيرها المحتوم ، فنتمثله حائرا ضائعا لا يملك أيّ شيء (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) من مال ، (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) وذلك كناية عن كمال الخراب ـ كما قيل ـ فإن البيوت الخربة المتهدّمة تسقط أولا عروشها ـ أي سقوفها ـ على الأرض ، ثم تسقط جدرانه على عروشها الساقطة ـ والخويّ السقوط ـ ويشعر في هذا الجو بالحسرة الكبيرة على موقفه المتمرّد على ربه ، إذ إنّه أشرك به في العقيدة والعبادة.

(وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) ولم أبتعد عنه في ما أراده لي من الخير في خط الإيمان ، وفي حركة الطاعة التي لا تتحرك بالإنسان وبالحياة إلّا إلى الحق والخير والصفاء والطهارة.

* * *

الإيمان بالله هو الحقيقة الثابتة

ويتجسّد ـ في نهاية المطاف ـ الدرس الرائع ، حيث نجد الإنسان الطاغي المتجبّر ، المزهوّ بذاته وبثرائه ، عاريا من كل شيء أمام الحقيقة الكبيرة التي تملأ الكون كله ، فلا نرى هناك إلا الذي يمنح ويأخذ ، ويعطي ويمنع ، فله الولاية الحق على كل شيء ، ولهذا فإن الإيمان به ، واللجوء إليه ، والاستسلام

٣٣٢

لأوامره ونواهيه ... هو الخط الصحيح الذي ينتهي إلى الثواب الأفضل ، والعاقبة الأفضل.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) من كل هؤلاء الذين كانوا يحيطون به ، ويتزلفون إليه ، ويضخّمون له شخصيته ، ويرفعون له مقامه ، ويعرضون أنفسهم للدفاع عنه ، وينصرونه في مقابل أعدائه ، لأنهم إذا استطاعوا نصرته على الآخرين ، فهل يملكون أن ينصروه من الله الذي هو المهيمن على كل شيء بقدرته؟! (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ممتنعا عن عقاب الله لو أراد أن ينتصر لنفسه.

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) فهو المالك لكل شيء من الأرض والإنسان والحياة ، فهو الذي يملك الأمر كله والتدبير كله ، وهو الحق الثابت الذي لا ثبوت ولا وجود إلا له ... (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) لمن أطاعه وعبده وآمن به ، (وَخَيْرٌ عُقْباً) لمن اعتمد عليه ، فيجد لديه العاقبة الحسنة والأجر الجزيل.

* * *

كيف نستوحي القصة؟

ويبقى لنا الأسلوب التربويّ الذي يحوّل المثل إلى قصّة للصغار والكبار ، ويحوّل القصة إلى صور حيّة معبرة ، في اللوحة الفنية ، وفي العمل المسرحيّ الرائع ، ليشترك المثل والقصة والصورة والمسرحية في توجيه الإنسان إلى الحقيقة الكونية الخالدة ، التي لا يبقى فيها إلا وجه الله.

ولا يقتصر الأمر على السير في أحداث القصة ، بل تمتد التجربة الإسلامية إلى استحداث أمثلة جديدة ، وحوار جديد يتسع للفكرة في أكثر من

٣٣٣

جانب من جوانب الفقر والغنى مقارنا بالإيمان والكفر ، كأسلوب من أساليب تزاوج الإيمان مع الحياة ، في حركته الصاعدة أبدا نحو القمة ، والممتدة أبدا في رحاب الله.

* * *

٣٣٤

الآيتان

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦)

* * *

معاني المفردات

(هَشِيماً) : نباتا يابسا متكسّرا.

(تَذْرُوهُ) : تنثره وتفرّقه.

* * *

الحياة الدنيا كماء أنزل من السماء

ويبقى تقديم الأمثال في طريقة عرض الفكرة أسلوبا قرآنيا ، من أجل توضيح الصورة ، وتحويلها في وعي الإنسان إلى حالة حسية وجدانية ، وذلك

٣٣٥

من خلال تحريك الحسّ في أجواء المعنى ، لتتحرك تفاصيل الفكرة مع حركة تفاصيل الصورة في الواقع.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) التي يريد للإنسان أن يعيشها في عمق وعيه ، من موقع التأمّل المركّز في طبيعتها الزائلة الفانية ، فهي تنطلق على الخط الذي يتصاعد بالقوة والنضارة والجمال ، ثم يهبط نحو الضعف والذبول والزوال ، حتى لا يبقى منها شيء ، وتفنى الصورة في الجسد ، ويفنى الجسد في التراب ... وبذلك لا يبقى من الإنسان إلا الاسم الذي يتردد على الشفاه ، والذكرى التي تخطر على البال. وهذا ما يريد القرآن للإنسان أن يتمثّله في وجدانه ، عند ما تقفز الصورة الحلوة المغرية في دائرة عينيه ، لتسلب لبّه ، ولتثير حسّه ، ولتوحي له بكل إحساس لذيذ ، ولتدفع به نوازع الحسّ اللاهي إلى الغفلة العميقة التي تبعده عن الله ، وتنسيه نفسه ، وتحرفه عن قضية المصير.

وهكذا يريد الله للمثل أن يجسّد لهم الفكرة الواقعية الكامنة خلف ظواهر الدنيا ، من خلال الصورة الظاهرة المتحرّكة في الواقع الحسي.

(كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) في ما تحتويه من البذور المتنوعة المتناثرة في داخلها وخارجها ، فتتحرك فيها الحياة ، ويهتز فيها النموّ ، وتتنوع فيها الألوان ، وتمتد فيها الأغصان ، وتمتلئ بالأوراق وتتدلى منها الثمار الشهية ... وتدخل الأرض في موسم عرس جديد للورود والرياحين والأشجار ، والزرع الأخضر الممتد في ساحاتها بمختلف أنواع العشب والنبات ... ولكن الحياة مهما امتدّت ، واخضرّت ، وتحركت ، واهتزت ، وأنتجت ، وأعطت النموّ والحيوية والجمال للأرض ، فإن لها أمدا معينا وأجلا محدودا ، تجفّ فيه الحيويّة ، وينتهي موسم الورود ، وتتهاوى على الأرض ، وتتفتت فتتحول إلى ما يشبه الفتات الترابي ... (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) مكسّرا متقطعا ، (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) وتعبث به ، فتوزعه هنا وهناك ، وتذهب به

٣٣٦

تارة ، وتجيء به أخرى. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) فهو الذي يخلق الحياة ، ويمنحها قوّة الامتداد ، وتنوّع الشكل ، ومواقع الحركة ... ثم يدخلها بطريقة متنوعة في عالم الفناء ، من أجل التحضير لموسم حياة جديد. وكما هو النبات تختلف فيه الحياة في النمو من فصل إلى فصل ، كذلك الإنسان في حركة الحياة من بعد الموت الذي يعقب الحياة. وتلك هي قصة الدنيا في الإنسان ، من خلال ما يطل عليه منها من مظاهر الحركة والنموّ والبهجة والنضارة والزهو والشباب ، وما يثيره في داخله من مشاعر الفرح والأمل والقوّة ، وما يغذيه في داخله من الغرائز والشهوات والميول ... إنها تتوهّج وتزهو وتجعله يعيش ما يشبه الأحلام الوردية ، ثم تبدأ بالضعف والتراجع والانحسار ، وتتحول المشاعر الحلوة إلى مشاعر مرّة يواجه فيها الإنسان الحزن واليأس والهزيمة ، وتنتهي إلى أن تتفتت في يديه ، وتتكسّر في حياته قطعة قطعة ، ثم يتهاوى معها إلى حيث يتحوّل إلى هشيم تتقاذفه رياح الفناء ، ويعود إلى التراب ، لتذروه الرياح العاصفة من جديد في الفراغ.

* * *

زينة الحياة الدنيا

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) من خلال ما يدخل على الإنسان منها من بهجة وأنس ، وما يستمتعه من شهوة وعاطفة وحركة وجمال .. وما يحقق منها من منفعة وقوّة وامتداد في شؤون الحياة ... فالمال يمثّل ـ في حياته ـ العنصر القويّ الذي يفتح له أكثر الساحات ، ويجمع حوله الكثير من الأعوان ، ويحقق له أحلى المشتهيات ، ويرفعه إلى الدرجة العليا في الموقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، ويمنحه حرية الحركة في ما يريده لنفسه من طيبات

٣٣٧

الحياة الدنيا ومن أحلام المستقبل المتجددة أبدا.

أما البنون ، فهم الذين يمثلون له القوّة العددية ، التي تجعله موجودا في كل واحد منهم ، فيعطيه ذلك قوّة جديدة ، والشعور بامتداد حياته فيهم ، فيحس بأنه يحيا في كل واحد منهم حياة جديدة بعد الموت ... إنهم يهبونه الامتداد العاطفي الروحي الذي يشعر فيه بالسلوى والأنس واللهو به في طفولتهم ، بحيث يسترجع ـ من خلالهم ـ طفولته ، بما يأخذ من أسباب اللهو واللعب معهم بحب وعاطفة ... ويحس بالفخر والزهر والرفعة عند ما يحيطون به في شبابهم وكهولتهم ، حيث يرى أنهم يمثلون مجدا يضاف إلى مجده ، وزهوا يقوّي عنصر الزهو الذاتي في شخصيته عند ما يتحولون إلى شخصيات فاعلة قويّة في مجتمعاتهم ، لأنهم ينتسبون إليه ويعود كل عنصر طيب منهم إليه ... وهكذا يعيش الإنسان مع ماله وولده الزينة المادية والعاطفية والروحية والمعنوية ، ولكن ماذا بعد ذلك؟

سيذهب المال عنه قبل أن يفارق الدنيا أو بعد ذلك ، وسيفارقه البنون أو يفارقهم ، أو يتركونه أو يتركهم ، ويبقى وحده ، ويدفن في القبر وحده ، ويحشر يوم القيامة وحده ، تماما كأيّة زينة للجسد ، مما يتزيّن به الناس لبعضهم البعض ، حيث تزول عن الإنسان أمام أيّ حدث طارئ في الحياة.

* * *

الباقيات الصّالحات

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) من أعماله الخيّرة الصالحة التي قام بها في حياته مما يصلح أمور البلاد والعباد ، ومن كلماته الصادقة النافعة التي تكلم بها ، ليعلّم جاهلا ، أو ليهدي ضالّا ، أو لينصر مظلوما ، أو ليقوّي ضعيفا ، أو ليحلّ مشكلة ، أو ليؤيّد حقا ، أو ليهدم باطلا ، أو ليركّز عدلا ، أو ليدفع ظلما ...

٣٣٨

وغير ذلك مما يمتد أثره في حياة الناس ، في حياته وبعد مماته ؛ (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) لأن الله جعل ثواب الإنسان لما يبذله من جهد في سبيل الحق والعدل والخير والحياة ، مما ينسجم مع أوامره ونواهيه ويتحرك في خط رضاه. أمّا المال ، فلا قيمة له عند الله في ذاته وفي جمعه إلا إذا تحرك في مواقع الخير ، وكان إنفاقه في سبيل الله. وأما البنون ، فإن قيمتهم عند الله هي في الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل أن يكونوا مؤمنين صالحين ، يصلحون أنفسهم بالطاعة ، ويصلحون الناس بالعلم والهداية وحركة الخير ... وبذلك يكون المال والبنون ـ في حركة الجهد العملي للإنسان من أجل خدمة الحياة في خط الله ـ جزءا من الباقيات الصالحات ، فتكون كبقية أعماله وأقواله خير ثوابا (وَخَيْرٌ أَمَلاً) في ما يأمله الإنسان من رحمة الله ومن عفوه ورضوانه التي يحصل منها على سلامة المصير في الدنيا والآخرة ، بينما لا يأمل من زينة الدنيا المجرّدة شيئا لمستقبله الأخروي ، ولا يجد أمامه هناك أيّ ثواب.

وهذا ما ينبغي للإنسان أن يعيشه في تحريك تفكيره نحو التعمّق في الدنيا ، ليميّز بين مفرداتها الفانية ، وبين مفرداتها الباقية ، ليكون كل جهده لما يبقى ، ولا تكون حياته لما يفنى ويزول ويتلاشى مع الظلام.

* * *

٣٣٩

الآيات

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

* * *

معاني المفردات

(نُغادِرْ) : نترك.

(الْكِتابُ) : صحيفة الأعمال.

(مُشْفِقِينَ) : خائفين.

(يا وَيْلَتَنا) : الويل : الهلاك.

* * *

٣٤٠