تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الكهف واستقروا فيه. وشعروا بالأمن والاطمئنان ، فرفعوا أيديهم إلى الله ، (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) في شعور عميق بالانفتاح على الله في ساعات الشدّة ، التي لا مجال فيها إلا للرحمة الإلهية التي تفتح لهم أبواب الحلّ ، وتنزل عليهم ألطاف الخير ، وتسير بهم في اتجاه النجاة ... وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك ، أنهم تركوا أمرهم إلى الله ، ولم يقترحوا شيئا محددا ، بل كانوا يتطلعون إلى الرحمة المطلقة التي تغمرهم بالفيض الإلهيّ من دون حدود.

(وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) في ما يريدون أن يواجهوه من مواقف أو يسيروا فيه من مسالك ، أو ينطلقوا إليه من غايات ، لأنهم لا يملكون وضوح الرؤية للمستقبل الذي ينتظرهم ، فقد كانوا يعيشون في الساحة التي يعرفونها جيدا ويعرفون كيف يتعاملون معها ، ولكنهم الآن في ساحة مجهولة لا يعرفون أين هي ، وكيف هي ، وما هي الأوضاع المحيطة بها ، الأمر الذي يجعلهم يخافون الضلال في هذا الجو الغامض الموحش الذي لا يعرفون مداه.

* * *

ضرورة الرجوع إلى الله في كل الأوقات

وهذا ما قد يحتاج العاملون في سبيل الله إلى استلهامه في أوقات الشدّة ومواضع الحيرة ، عند ما تضغط عليهم القوى الكافرة والطاغية بضغوطها الوحشية والهمجية ، ويتحيّرون في مفترق الطرق ، فلا يعرفون إلى أين يسيرون.

إن الرجوع إلى الله في طلب الرحمة ، وتهيئة سبيل الرشاد ، يمنح المؤمنين العاملين قدرا كبيرا من الاستقرار الروحي ، والطمأنينة النفسية ، والهدوء الفكري ، والثقة بالمستقبل ... من خلال الثقة بالله ، والاطمئنان إليه ،

٢٨١

والركون إلى ساحته الحصينة ... وبذلك يمكنهم مواصلة الطريق نحو الهدف الكبير ، بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي تحيط بهم من كل جانب.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) قال صاحب الكشاف : أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع ، يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات ، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه ، فحذف المفعول الّذي هو الحجاب ، كما يقال : بنى على امرأته ، يريدون : بنى عليها القبة. (١).

وقال في مجمع البيان : ومعنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم ، وهو من الكلام البالغ في الفصاحة. يقال : ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به ، قال قطرب : هو كقول العرب : ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف ، قال الأسود بن يعفر ـ وكان ضريرا ـ :

ومن الحوادث لا أبا لك أنني

ضربت عليّ الأرض بالأسواد

وقال : هذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ (٢). وهكذا تؤكد الآية المعنى الكنائي ، الذي يعبر عن هذا النوم الثقيل غير الطبيعي ، الذي يشبه الموت لو لا حركة الجسد التي توحي بالحياة ، في ما توحي به الآيات الأخرى.

ومرت السنون ... في عددها القليل أو الكثير ، في ما يختلف الناس فيه.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) من رقدتهم الطويلة ، كما يبعث الإنسان بعد الموت ، (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي ليظهر ـ من خلال ذلك ـ الفريق

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٢ ، ص : ٤٧٣.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٨٣ ـ ٥٨٥.

٢٨٢

الأكثر دقّة في إحصاء السنين التي لبثوها في هذا النوم الطويل. ومن الممكن أن تكون الإشارة إلى الناس الذين اختلفوا في أمرهم ، ومن القريب أن تكون الإشارة إلى أصحاب الكهف الذين وقع الخلاف بينهم في تحديد المدّة. وربما كان المراد من نسبة العلم إلى الله ، كنتيجة لبعثهم من رقدتهم ، إظهار ما يعلمه الله من ذلك ، وقد يكون ذلك من خلال الدراهم التي كانت معهم ، كما يذكره بعض المفسرين.

* * *

السّموّ الرّوحيّ والفكريّ

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) بعيدا عن كل التفاصيل التي يذكرها الناس في حديثهم ، مما يحمل من الأكاذيب والأساطير الشيء الكثير.

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) فاهتدوا إلى طريق الإيمان ، وعاشوه فكرا وروحا ومنهجا للإنسان وللحياة ، فانفتحوا على الله في كل أفكارهم ومشاعرهم ومناهجهم وخطواتهم في الحياة ... فكان الله هو كل شيء عندهم في عمق وجودهم المتحرك (وَزِدْناهُمْ هُدىً) على أساس السنّة الإلهية التي تمدّ المؤمنين بالفيض الروحي الذي يشرق في حياتهم ، فيضيء لهم سواء السبيل ، ويدلهم على مواقع السموّ والرفعة والخير والعدل في الحياة.

وتلك هي السمة البارزة للمؤمنين في كل زمان ومكان ، من خلال ما يعيشونه من السموّ الروحي والفكري من مواقع الإيمان ، ومن النموّ المتزايد في الهدى الكامن في حياتهم من الداخل والخارج.

* * *

٢٨٣

الآيات

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) : قوّينا عزائمهم.

(شَطَطاً) : خروجا ومجاوزة عن الحدّ.

(بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) السلطان البيّن : الحجة الظاهرة.

(اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) : تنحّيتم عنهم.

٢٨٤

(مِرْفَقاً) : المراد بالمرفق هنا كل ما ينتفع به ، مأخوذ من الرّفق واللطف.

* * *

تقوية عزيمة المؤمنين

تشير هذه الآيات إلى الحالة الروحية والمعنوية للفتية في ما كانوا يلتزمونه من إيمان ، وما يطرحونه من فكر أمام المجتمع الكافر الطاغي ، الذي لا يملك فكرا يقنع به المعارضين له ، بل يملك قوّة تضغط على حريات الناس ، وتصادر قرارهم ، وتضطهد واقعهم ... فيضعفون أمامها ، وينسحقون تحت تأثير سلطتها ، فيوافقون على ذلك كله.

ولكن لم يكن هؤلاء المؤمنون في هذا الموقع الضعيف ، بل كانوا في موقع القوة التي استمدوها من الله ، فأعلنوا موقفهم بكل جرأة وصراحة ، وواجهوا الضغط بمسؤولية وواقعية.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي شددنا عليها ، وأوحينا إليهم بالقوّة أمام التحدّي ، فلم تهتز أمام التهديد ، ولم تعش الحيرة والقلق في مواقع الضغط ، بل ثبتت من موقع القناعة المرتكزة على قاعدة الإيمان العميق.

(إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لقد كان قيامهم في مجتمعهم ، أمام الطغاة ، أو أمام خط الكفر والانحراف ، فلم يقعدوا ، أو يسترخوا ، أو يعيشوا الأجواء اللاهية العابثة التي تحاول أن تتخفف من المسؤولية بالأعذار الواهية التي لا تقنع أصحابها فضلا عن غيرهم. لقد كان حسّ المسؤولية عميقا في نفوسهم ، لأنهم يشعرون أن السكوت عن الباطل ، والخوف من إعلان

٢٨٥

الحق أو من ممارسته ، يشجع المنحرفين على الامتداد في خط الانحراف ، ويمنع المؤمنين من الانطلاق بقوّة في خط الإيمان ، ولذا كان القيام يمثل حركة المسؤولية في إيمانهم ، سواء كان قيامهم بين يدي ملك زمانهم دقيانوس الجبار ـ كما يقول بعض المفسرين ـ الذي يحتمل أنهم كانوا في مجلسه ، أو كان قيامهم في مجتمعهم الذي يعبد الأوثان ، ويصدر عنه الأمر بالسير على هذا المنهج ، ويجبر الناس على ذلك ... فكان قيامهم بالإعلان عن رفضهم لكل الواقع الفكري والعبادي الذي يعيشون فيه ، والدعوة إلى الله بدلا من ذلك. وربما كان المقصود ـ وهو الأقرب إلى جو الآية ـ قيامهم لله ونصرة الحق ، من دون نظر إلى المكان ، أو إلى الشخص. (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قالوا هذه الكلمة ، ليؤكدوا الحقيقة الإيمانية التي تضع الإنسان في الدائرة الكونية الواسعة التي تشمل السّموات والأرض وما فيهن وما بينهن ، فهو جزء من هذا العالم الرحب المخلوق لله ، فلا يختص بربّ معين ليعبده من دونه ، أو ليشركه بعبادته. ولذلك لم يكتفوا بالإعلان عن هذه الحقيقة ، بل أعلنوا الرفض لفكرة كل الآلهة المدّعاة ، في شكل بشر ، أو حجر ، أو أيّ شيء آخر ... (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) لأن ذلك لا يمثل أيّ موقع للحق ، بل هو الباطل في أكثر من صورة ، (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) لو قلنا بما يقوله هؤلاء المشركون ، لكنا ـ بذلك ـ نخرج عن الحدّ المعقول للفكر ، ونتجاوز عن الحق ـ وهذا هو معنى الشطط ـ.

* * *

توهّم وجود آلهة غير الله

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) نتيجة ما توهموه من خلال أجواء

٢٨٦

القوة الظاهرة لبعض الأشخاص ، أمام الضعف الذاتي لأنفسهم ، مما أدّى إلى أن يتحرك الوهم لتضخيم الصورة ، بالمستوى الذي يمنحونها الكثير من الخيال والمزيد من الأسرار ، ثم يعبدونها ، وهم ـ بذلك ـ يعبدون خيالاتهم وأوهامهم. وهكذا فإنهم يسبغون صفات الألوهة على أحجار معينة ، يتفنّنون في تلوينها وتحسينها وإتقانها وإبداعها في الصورة ، ثم يتصورون لها عمقا في السرّ ، أو معنى في القوّة. ولكن هل يملكون حجة على ذلك كله ، أو تفسيرا صحيحا لما يقومون به من عبادة؟ إنّ القرآن يؤكد نفي ذلك كله ، فهم لا يملكون أيّ برهان وأيّة حجة ، (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) مما يقدمه العقل من سلطان فكريّ على أيّة حقيقة ، ولكنه الافتراء والكذب الذي يمثل الخطورة الكبرى على حياة الإنسان من خلال ما يمثله من افتراء الكذب على الله. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) لأنه يظلم الحقيقة الإيمانية التي تمثل خلاص الناس كلهم في جميع قضايا المصير في الدنيا والآخرة ، ويظلم الله في حقه في العبودية له ، بالاستسلام له في كل شيء ، والسير مع تعاليمه في خط الصدق الذي لا يهتز ولا ينحرف عن الحق.

* * *

اعتزال كلّ الآلهة المدعاة

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي خرجوا من بين الناس واعتزلوا مجتمعهم ، بعد أن فقدوا كل إمكانية لهدايتهم ، أو الحصول على حريتهم في الدعوة إلى الله ... مما جعل من الاعتزال عنهم ضرورة وقائية ، أو محاولة للوصول إلى موقع آخر ، يسمح لهم بالالتفاف عليهم من جديد. وهكذا اعتزلوهم وما يعبدون من دون الله ، وكل ما يتصل بهم ، إلا الله الذي لا يمكن

٢٨٧

لهم إلّا أن ينفتحوا عليه ، لأنه هو الذي يفتح لهم كل آفاق الخير ، وكل أبواب الفرج. وبذلك كان الاستثناء منقطعا ، لا متصلا ، أي إذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله وما يتعلق بهم ، إلا الله فلم تعتزلوه ... كما جاء عن ابن عباس ، في تفسير الآية ، في ما نقله صاحب مجمع البيان ، قال ابن عباس : وهذا من قول تمليخا ، وهو رئيس أصحاب الكهف ، قال لهم : فإذا فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانبا ـ يعني عبدة الأصنام ـ وفارقتم ما يعبدون ـ أي أصنامهم ـ إلا الله ، فإنكم لن تتركوا عبادته (١). وهناك احتمال آخر ، وهو أن يكون استثناء متصلا ، من الموصول في قوله : (وَما يَعْبُدُونَ) لأنهم كانوا لا ينكرون عبادة الله ، ولكنهم يشركون بعبادته غيره ، وبذلك كان اعتزالهم لما يعبدونه من دون الله ، أمّا الله ، فإنهم لا يعتزلونه ، وربما كان ابن عباس ناظرا إلى ذلك ، وربما كان أقرب إلى أجواء السياق في الآية.

ولكن صاحب تفسير الميزان لا يوافق على هذا الاحتمال ، لأنه «لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام ، وفلسفتهم لا تجيز ذلك» (٢). ولا ندري كيف نوافقه على ذلك ، في الوقت الذي نعرف أن قريشا الوثنية كانت تعبد الأصنام ليقربوها إلى الله زلفى؟!

(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) وينجيكم من القوم الظالمين ، ويفتح لكم أبواب الفرج من عنده ، (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً). والمرفق هو الشيء الذي يرتفقون به ، أي يحصلون على الرفق واللطف واليسر من خلاله.

وهكذا دخلوا إلى الكهف ، وألقى الله عليهم النوم الثقيل ، الذي عزلهم عن كل ما حولهم ومن حولهم في حالة موت ، مع وقف التنفيذ.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٨٧.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٢٥٠.

٢٨٨

الآيتان

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(تَزاوَرُ) : تميل.

(تَقْرِضُهُمْ) : تعدل عنهم.

(فَجْوَةٍ) : متّسع من الأرض.

(أَيْقاظاً) : الأيقاظ : جمع يقظ.

(رُقُودٌ) : الرقود : جمع راقد.

٢٨٩

(بِالْوَصِيدِ) : عتبة البيت أو فناؤه.

* * *

تدبير إلهي معجز

كيف هو موقع الكهف من الشمس؟ وأين محلهم فيه؟ وكيف يتمثلون في وضعهم العجيب في رقادهم؟

هذا ما تمثله الآيتان وتتناولانه ، للإيحاء بالتدبير الإلهي المعجز الذي أبقى الحياة في أجسادهم ، وألقى النوم في أجفانهم طيلة هذه المدة الطويلة للاعتبار بذلك في الانفتاح على الله ـ سبحانه ـ من موقع الإحساس بعظمته ، والخضوع لآياته.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ) لو قدّر لك أن تكون هناك وتطّلع عليهم ، فإن الصورة ستبرز أمام ناظر وكل ناظر إليهم ، (تَزاوَرُ) أي تنحرف (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) ، فيقع نورها عليه ، فيتجدد جوّه من خلال نور الشمس ، (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي تعدل عنهم (ذاتَ الشِّمالِ) ، فيقع شعاعها عليه ، (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في مكان واسع منه ، فقد كان كبيرا وله كوّة ينفذ منها الهواء الطيب ونور الشمس ، فوقاهم الله بذلك من تأثير حرارة الشمس عليهم ، في ما يمكن أن تتأثر أجسادهم بذلك بتغيير ألوانهم أو ما يمكن أن تبلى ثيابهم به ... الأمر الذي يكسبهم حالة مميّزة في راحة الجسد وتجدّد الهواء في حركة الشروق والغروب.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) وعجائبه التي لم يألفها الناس في ما يشاهدونه من مظاهر الوضع الطبيعي لحركة الحياة في الإنسان ، في هذا التدبير المميز الذي استطاع أن يبقيهم أحياء في حالة نوم طويل ، من دون غذاء ولا ماء ، وفي ظل ظروف مميزة عجيبة وفرت للحياة الداخلية في الكهف ظروفا طبيعية تسمح

٢٩٠

بامتداد الحياة. إنها قدرة الله التي لا يعجزها شيء.

* * *

آيات للتفكر

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) من خلال تتطلبه الهداية الإلهية من الأخذ بأسبابها في توجيه الفكر إلى التأمل ، وتقوية الإرادة على الالتزام بالموقف ، ومواجهة القضايا بالمسؤولية والجدّية ، بالإضافة إلى ما يثيره الله ـ سبحانه ـ في روح الإنسان السائر في طريق الهداية من ألطاف روحيّة ، ولمعات فكرية ، تمنحه القوّة والثبات في مواصلة السير على هذا الخط. وهذا ما يريده الله للإنسان ، في انفتاحه على آيات الله التي تثير فيه التساؤل ، وتدفعه إلى البحث ، وتقوده إلى التفكير ، وتوحي له بالقناعات الحاسمة ، لأن هذه المقدمات لا بد من أن توصل إلى النتائج المطلوبة.

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) لأن ضلال الإنسان يخضع للفكر اللامسؤول ، الذي يواجه قضايا الفكر والعقيدة والحياة بطريقة غير جدّية ، ويبقى في أجواء العبث واللهو واللامبالاة ، وبذلك يبتعد الإنسان عن مواقع الهدى في الحياة ، فلا يجد له معينا على السير في الاتجاه الصحيح ، ولا مرشدا يدلّه على طريق الصواب ليضع أقدامه على بدايته ، لأن مسألة الضلال والهدى ، هي مسألة الإنسان في استعداده النفسي والفكري للانفتاح على الحق ، ليبحث فيه ، أو ليستجيب لمن يقوده إليه أو يدله عليه ، لأن عناصر الهدى متوفّرة في كل الساحات ، فمن أخذ بها اهتدى ، ومن لم يأخذ بها ضلّ وربما تركه الله لضلاله.

وقد أشرنا أكثر من مرّة إلى أن نسبة الهدى والضلال إلى الله لا تعني سلبهما عن الإنسان بشكل مباشر ، بل كل ما هناك أنهما يخضعان لقاعدة

٢٩١

السببيّة في الأشياء التي تربط المسببات بأسبابها ، في تدبير الله لحركة الإنسان والحياة ، باعتباره السبب الأعمق لكل الأشياء.

* * *

حالهم في الكهف

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) قيل ، إنهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالأيقاظ.

(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) وذلك بتحريكهم من اليمين إلى الشمال ، ومن الشمال إلى اليمين ، لئلا تأكلهم الأرض ، ولا تبلى ثيابهم ، ولا تبطل قواهم البدنية بالركود والخمول طول المكث.

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي بفناء الكهف ، تماما كما لو كان جالسا في حالة استرخاء وتطلّع وانسجام وحراسة.

(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) لأن طبيعة المنظر العجيب الذي لا عهد للبشر به ، يوحي للناظر بأن هناك أسرارا خفيّة مفزعة تختفي وراء هذا المنظر الغريب ، تماما كما لو كانت هناك أشباح أو أسرار تثير الرغبة في الفرار ، وتدفع إلى الخوف حذرا من النتائج المخيفة ، والمنظر المرعب.

* * *

٢٩٢

الآيات

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢)

* * *

٢٩٣

معاني المفردات

(بِوَرِقِكُمْ) : بدراهمكم المضروبة.

* * *

البعث بعد نوم طويل

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) من نومهم الطويل ، الذي لم يشعروا فيه بالزمن الذي بلغ ثلاثة قرون وتسع سنوات ، تماما كما يبعث الله الناس بعد الموت ، دون أن يحسوا بطبيعة الأجيال التي تفصل بين يوم البعث وبين ساعة الموت ، (لِيَتَساءَلُوا) كما يتحرك مثل هذا السؤال في الدار الآخرة بعد البعث. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنّهم يحسون بالامتلاء بالراحة والاكتفاء من النوم ، وهذا ما يوحي إليهم بأن نومهم قد استمر وقتا يكفي لمنحهم مثل هذه القوّة الجسدية ، كما لم يلاحظوا أيّ تغير في أوضاعهم يوحي بمرور الزمن. ولعل من الواضح أن اللام هنا ـ في «ليتساءلوا» ـ ليست للغاية ، بل للعاقبة ، لأننا لا نفهم أن تكون الغاية من بعثهم هو تساؤلهم ، وكذلك ما تقدم في أن بعثهم ليعلم مدة مكثهم في الكهف ، فلا تنافي بين الموردين.

(قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) في إحساس خفيّ ، بأن هناك وضعا غير عادي في حالتهم ، أو في محاولة للابتعاد عن الجدل في ما لا فائدة منه ، وكأنهم عاشوا الإحساس بالجوع بشكل ضاغط ، لا يمكن لهم أن يتحملوه ، إذ رأوا أنه لا بد من خروج بعضهم لشراء الطعام ، حتى لو أدّى ذلك إلى التعرّض

٢٩٤

للخطر من قبل الكفار ، فقرّوا تكليف أحدهم بهذه المهمة وقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) وهي الدراهم المضروبة ، التي قيل إنها كانت تحمل صورة الملك الذي كان في زمانهم ، وإن اسمه دقيانوس.

(إِلَى الْمَدِينَةِ) وقيل : اسمها طرسوس. (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) ليختار الطعام الشهيّ اللذيذ ، (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي ليظهر اللطف والرفق مع أهل المدينة في علاقته معهم حتى لا يحصل هناك أيّ خلاف يؤدي إلى انكشاف أمرهم ، وبالتالي إلى انكشاف موقعهم (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) في أيّة مناقشة أو سؤال أو دخول في حوار مع الناس ، لأن ذلك يجلب لكم المتاعب ، ويؤدي بكم إلى مواجهة الأخطار على مستوى قضية الإيمان والحياة.

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) فإذا تمكنوا من السيطرة عليكم وهم الذين يملكون وسائل القوّة والبطش والسيطرة ، (يَرْجُمُوكُمْ) ويقتلوكم بأبشع أدوات القتل ـ وهو الرجم بالحجارة ـ إذا أصررتم على البقاء في خط الإيمان ، وامتنعتم عن الخضوع لهم في السير في خط الكفر والضلال الذي يسيرون عليه ، (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) إذا استسلمتم لنوازع الضعف الكامنة في نفوسكم ، وعدتم إلى عبادة الأصنام التي تحررتم منها بعبادة الله ، وتحركتم في خدمة الطغيان الذي رفضتموه وفارقتموه إلى غير رجعة. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) لأن هذا النهج الذي يتحركون فيه ، ويدعونكم إلى الالتقاء معه ، لا يمثل أيّة فرصة للفلاح في الدنيا والآخرة.

* * *

أهل الكهف ... ومبدأ التقيّة

وقد أثار المفسرون في التعليق على هذه الفقرة من الآية سؤالا وهو ، أن أصحاب الكهف ، لو عادوا إلى ملة هؤلاء ، فإنهم لا يعودون إليها في الباطن ،

٢٩٥

بل يعودون إليها في الظاهر ، كالكثيرين من الذين يستعملون سبيل التقية للفرار من الموت ، أو للتخلص من الحرج العظيم. وهذا ما أكده الله في كتابه (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨].

وعلى ضوء ذلك كيف ينفي الفلاح الأبديّ عنهم؟!

والجواب عن ذلك ، أن المسألة المطروحة أمامهم ، هو الالتزام بالخط الإلهي الذي يؤدي إلى الرجم والهلاك ، أو الانحراف عنه وهو الذي يؤدي إلى فقدان الفلاح الأبديّ ، باعتبار أن طبيعة الأمر تدور بين هذين الموقفين ، ولا خيار غير أحدهما : الهدى أو الضلال. ولم تكن مسألة التقية مطروحة لديهم كخيار ثالث ، كما لم تكن مطروحة عندهم في البداية.

إنهم يريدون الموازنة بين الموقفين من ناحية موضوعية ، لا من ناحية ذاتية ؛ والله العالم.

* * *

نموذج حيّ لوعد الله

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) كيف حدث هذا؟ هل انكشف أمرهم من خلال هذا الشخص الذي أرسلوه إلى المدينة ليأتيهم بالطعام؟ ربما تذكر بعض الروايات ، أن أمره انكشف من خلال النقود التي استغربها أهل المدينة ، حتى خيل إليهم أنها جزء من كنز اكتشفه هذا الرجل ، أو لأن هذا الرجل بدا أمامهم غريبا في ملابسه ولغته ، أو لأنه استغرب هذا التغيير فتساءل ، فأثار سؤاله الاستغراب ، فقالوا له : من أنت ، ومن أين جئت؟ فأخبرهم ، فاجتمع الناس عليهم بعد أن قادهم إلى موضع الكهف ، فأماتهم الله بعد أن سألوه ، أو أرجعهم إلى ما كانوا عليه.

٢٩٦

وهكذا عرف الناس أمرهم ، واستذكروا القصص التي كانوا يسمعونها من آبائهم ، (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) هذه صورة حيّة عن تجربة قريبة من أجواء فكرة البعث في الآخرة ، فقد بقي هؤلاء في حالة موت مجمّد ، يحمل بعض ملامح الحياة في حركة الجسد ، وبعض ملامح الموت في فقدان الوعي والانفصال عن كل شيء في الواقع ، ولكنها لا تمثل حالة الغيبوبة للإنسان الحيّ ، ولا حالة السكون في الجماد. وها هم ينتفضون بعد ثلاثة قرون ونيّف ، ليواجهوا الحياة كأقوى ما تكون ، وكأعمق ما تتحرك في الكائن الحيّ. إنه النموذج الحيّ الذي يعطي الفكرة معناها الواقعي ، ويوحي بصدق الإيمان في العقيدة ، فيعلم الناس أن وعد الله ، الذي أوحى به لعباده من خلال رسله ، هو الحق الذي لا ريب فيه ، وأن الساعة التي يقف فيها الناس للحساب أمام الله ، هي الحقيقة التي لا تقبل الجدل ، لأن الله هو الذي وعد ، وهو أصدق الواعدين ، وهو الذي أخبر ، وهو المحيط بكل شيء ، فكيف يشكّ الإنسان في ذلك أو يرتاب؟! وهذا النموذج يجسّد الفكرة في الواقع.

(إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) بعد أن ماتوا ، وبدأ التفكير في مراسيم التكريم التي يريدون القيام بها تجاه هؤلاء المؤمنين ، الذين فروا بدينهم فأكرمهم الله بأن جعلهم مظهرا لقدرته. (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) ليكون مظهرا للعظمة ورمزا للاحترام ، فيكون موقعا مميّزا يقصده الناس للزيارة وللفرجة ، تماما كما هي المعالم السياحية للعظماء في الأمة. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) في ما يسرّون وما يخفون ، فليس لنا منهم إلا هذه الأجواء الاحتفالية التكريمية ، في علاقة الناس بالذين يعيشون الأسرار الخفية في الحياة. وهؤلاء هم الذين لا يرتبطون بالمسألة من موقع الاهتمام بها كظاهرة روحيّة غيبيّة في وحيها للمؤمنين بالرجوع إلى الله والاقتداء بهؤلاء المؤمنين ، بل يرتبطون بها كحالة اجتماعية مثيرة توحي بالغرابة والعظمة.

* * *

٢٩٧

بناء المسجد عليهم للعبرة

(قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) واستطاعوا أن يجعلوا الموقف لصالح قرارهم ، وهم الذين عاشوا معنى الإيمان في شخصية هؤلاء ، وانفتحوا على القيمة الروحية المتمثلة في تاريخ مواجهتهم للسلطات الكافرة في زمانهم وتحدّيهم لمفاهيمها ، وفرارهم أخيرا بدينهم ، حتى لا يفقدوه أمام الضغوط الصعبة ... فأرادوا أن يستلهموا ذلك في عملية تذكّر ، وفي حالة اعتبار ، وفي موقف يقظة ، ليعيشوا مع هذه الروح ومع حركة القيمة ، وفي رحاب ذلك التاريخ ، لئلا تكون مدافن هؤلاء ، مجرّد موقع للسياحة واللهو والزّهو التاريخي للأمة ، بل لتكون نقطة انطلاق لارتباط الحاضر والمستقبل ـ في حركة الإيمان ـ بالماضي الذي يحتضن الإيمان كقوّة في الفكر والروح والموقف ... وهكذا قرروا ماذا يصنعون ، فقالوا : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ليحمل المكان معنى المسجد في استلهام الروح ، من خلال روحيتهم واستذكار الثبات من خلال ثباتهم ، والانفتاح على الله على أساس ما كانوا ينفتحون بحياتهم عليه. وهكذا انطلق تاريخ هؤلاء ليتمثل فيه الناس تاريخ الإيمان ، ومعنى السجود لله والعبادة له.

* * *

جدال تافه

ومرّ التاريخ ، وبدأ الناس يتناقشون في أمور لا فائدة فيها ولا غنى ، بينما كان من المفترض أن يكون نقاشهم في دراسة تجربتهم ، وموقفهم ، وطبيعة الدرس الذي يمكن استفادته للمستقبل ... وهذا هو ما يفعله التخلّف في حياة الناس ، عند ما يتجمدون في مسألة المعرفة على الأمور التافهة التي لا تمثل

٢٩٨

شيئا في مصلحة الإنسان في ما يتصل بحياته العملية ، فيغرقون في الأمور التجريدية ، أو في الخلافات اللفظية ، أو في القضايا الشكلية ، أو في الأعداد التي لا تعني شيئا ، أو في الأسماء أو الأنساب التي لا توحي بشيء ، وغير ذلك مما لا ينفع من علمه ولا يضرّ من جهله. وهذا ما يحدثنا القرآن عنه ، كمظهر من مظاهر التخلّف التي ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها.

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) وسيقولون الكثير مما قد يعلمون منه القليل ، ويجهلون منه الكثير ، ويريد الله لرسوله ، وللمسلمين من خلاله ، أن يختصروا المسألة بكلمة حاسمة تنهي الخلاف : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فلنترك الأمر لله ، في ما يعلمه من خفايا الأشياء التي لا نملك أساسا لمعرفتها ، ولا نجد أيّة فائدة في البحث عنها. (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ممن استطاعوا التعرّف على مصادر التاريخ الموثوقة من وحي أو غير ذلك ، (إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) لا تجادل إلا بطريقة سريعة يفرضها الواقع الذي من حولك ، (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) لأن ذلك لن يحقق لك أيّ شيء في المعرفة الحقيقية النافعة التي يريدها الله للإنسان.

* * *

من وحي القصة

وهكذا تنتهي هذه القصة العجيبة ، ليبقى لنا منها الفكرة الموحية التي تواجه المؤمنين المتمرّدين على عقيدة الانحراف في مجتمعهم ، فيرفضونها ويلتزمون خط الاستقامة من خلال الإيمان بالله ، فيواجهون الاضطهاد من القوى المستكبرة في المجتمع ، ويخافون السّقوط أو الانحراف تحت تأثير الضغوط القاسية التي تلامس نقاط ضعفهم بطريقة وبأخرى ، فيخرجون من

٢٩٩

ساحة التجربة الصعبة ، لينطلقوا إلى موقع آخر يتأملون فيه طبيعة الساحة التي يريدون اكتشافها في مجالات أخرى ، أو يعملون على التشاور حول الوسائل العملية التي يحاولون اتّباعها في سبيل الالتفات من جديد على ساحتهم الطبيعيّة ، لأن البعد عن مواقع التجربة الصعبة الضاغطة قد يوحي للإنسان ببعض الأفكار الجديدة ، التي لا يلتفت إليها في أجواء الضغط والتوتر.

وبذلك نستطيع أن نأخذ منها الفكرة التي تفرض على الإنسان الالتزام بالعقيدة ، مهما كانت الضغوط كبيرة وقاسية ، كما تفرض عليه الهرب من مواقع الضغط الذي يسقط أمامه ، إلى مواقع أكثر حرية وانفتاحا وثباتا ، ولكن لا ليستغرق في ذاته ، بل ليعيش إيمانه ، ويستعدّ لجولة جديدة في ساحة الصراع ، من أجل اكتشاف آفاق جديدة ، في مواقع عمل جديد. وتلك هي العبرة التي نستفيدها في مواقعنا الصعبة التي نواجه فيها التحدّيات من أجهزة الكفر والضلال الرسمية والمخابراتية ، بالمستوى الذي قد يسقط التجربة ، فإن بإمكاننا اللجوء إلى كهف معيّن نختبئ داخله من أجل الحصول على فترة التقاط للأنفاس ، أو مرحلة استعداد للوثوب ، أو فرصة للانطلاق في حركة جديدة.

وقد يخيّل لبعض الناس أن ذلك يمثل لونا من ألوان الهروب ، الذي يمثل الضعف الإنساني بمستوى لا يتناسب مع قوة الإيمان ، في ما يفرضه من ثبات واندفاع وتضحية ، فلا ينسحب من المعركة مهما بلغت الضغوط وكثرت التحديات.

ولكن المسألة ليست بهذه الدرجة من النتائج السلبية في حركة الإيمان في حياة المؤمن ، لأن الله يريد الثبات لعباده ، وذلك لتحقيق قوّة لمواقعهم في الساحة ، ولكن القوّة ليست هي هذا الشكل الانفعالي من الاندفاع ، بل هي هذا اللون من التخطيط الواقعي للأسلوب العملي الذي يرتبط بالموقع المتقدم

٣٠٠