تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الكلمة من أجل إعطاء هذا الحدث اللمسة الموحية ، التي قد لا يثيرها المعنى الكامن في كلمة (أَسْرى) ، لأن التلميح ـ في بعض الحالات ـ لا يغني عن التصريح.

* * *

واحة السلام

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الذي جعله حرما آمنا يأوي إليه الناس من دون خوف ، ويلجأ إليه الحيوان من دون ذعر. إنه المنطقة التي جعلها الله واحة للسلام في تلك الصحراء المقفرة المليئة بكل ألوان الخطر القادم من أجواء الغزو والسلب والاعتداء.

إنه المسجد الذي ينفتح فيه الإنسان على السلام ، من خلال الروحانية الفياضة بالمعاني الإنسانية الحميمة ، المتصلة بالله في ما يريد له أن يتعمق في وعيه من الرحمة والمحبة والشعور بالمسؤولية الكبيرة عن الحياة التي لا يجوز الاعتداء عليها ، إلا من أجل حمايتها ، أو حماية الحق الذي يعطيها سرّ الحيويّة والإشراق والامتداد ، وهكذا كانت حرمته انفتاحا على الحياة في رحاب السلام ، لا انغلاقا على القيود التي ترهق معنى الحرية في الإنسان. وبذلك تولد الحرمات في الأرض لتمنحها رحابة الأفق الممتد إلى حركة الحياة من حولها ، لا لتدفعها إلى زاوية محدودة ضيّقة.

* * *

٢١

مسجد الأنبياء

(إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الذي هو الأبعد بالنسبة إلى المسجد الحرام ، وهو بيت المقدس الذي عاش الأنبياء فيه عبادة لله ، ورسالة للناس ، وحركة للحياة الروحية في أجواء التوحيد التي انطلقت من خلال رسالات الله ، التي حملها الأنبياء من أجل أن يكون توحيد الله في العقيدة أساسا لتوحيده في العبادة ، ولتوحيد الحياة من خلاله على منهج واحد للفكر والعاطفة والحياة. وهكذا اكتسب هذا المسجد من النفحات الروحية التي عاشها الأنبياء فيه ، ومن التسبيحات الخاشعة لله التي انطلقت من قلوبهم ، ومن الابتهالات الحميمة الوديعة التي كانت ترتفع من عيونهم المليئة بالدمع الحارّ الذي يتفايض بالمحبة لله والخشية منه ، ومن حركة الرسالة في خطواتهم المتحدّية للشرك وللكفر وللضلال ، والواقفة أبدا في مواقع ردّ التحدّي بالكلمة تارة ، وبالصبر أخرى وبالمواجهة ثالثة ... وهكذا كان هذا المسجد مصدر وحي للرسل وللناس وللحياة ، كما كان موقع وحي من خلال ما كان يتنزل فيه من وحي الله على رسله ، ومنطلق حركة تدل الناس على الطريق المستقيم.

* * *

ما معنى البركة؟

(الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) في ما كانت البركة تمثله من امتداد وحركة على كل الساحات المحيطة به ، لأن البركة ليست مجرد حالة غيبيّة روحيّة تثير المشاعر القدسيّة في أجواء ضبابيّة حالمة ، بل هي ـ إلى جانب ذلك ـ قوّة

٢٢

حركيّة روحيّة تندفع بالكلمة الطيبة التي تملكها ، وبالطاقة الحيّة التي تحركها ، وبالأفق الرحب الذي تفتحه ، وبالشعور الحميم الذي تثيره ، وبالخطوات الثابتة التي تقودها ، لتكون ـ في جميع ذلك ـ مشروع حياة تثيره ، وبالخطوات الثابتة التي تقودها ، لتكون في جميع ذلك مشروع حياة نافعة مليئة بكل ما يحقق للإنسان سعادته ، وللكون نظامه.

ومن خلال ذلك ، نفهم معنى الشخص المبارك ، فهو ليس الإنسان الحامل للأسرار الخفية التي تدفع الناس إلى لمس ثيابه وجسده أو الطلب إليه أن يضع يده على رؤوسهم ليأخذوا منه البركة ، بل هو الإنسان الذي يعيش الطاقة الروحية التي تحرّك فيه كل إمكاناته لينشرها على الناس والحياة من حوله ، لتنطلق خيرا ورحمة ومحبّة وسلاما ، في نفع شامل غير محدود ، كما ورد في تفسير قوله تعالى : ـ في حديث عيسى عليه‌السلام عن نفسه ـ (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) [مريم : ٣١] فقد جاء في التفسير أن معناه : وجعلني نفاعا للناس من خلال ما توحي به البركة من امتداد للطاقة في حياة الناس.

وهكذا نفهم معنى الأرض المباركة ، في ما تعطيه من خيرات على مستوى الثمرات المادية التي تنتجها أو على مستوى الثمرات الروحية التي توحي بها على خط الرسالات والرسل الذين تحتويهم في كل زمان ... وبذلك نفهم سرّ التعبير في قوله تعالى : (بارَكْنا حَوْلَهُ) بدلا من «باركناه» ، فقد يكون السرّ في ذلك هو الإيحاء بأن البركة لا تتجمّد في المسجد وتبقى فيه ، ليأتي الناس إليه للحصول على البركة من أرضه وجدرانه ، بل تنطلق منه من خلال ما تمثله رسالته من المسؤولية النابضة بالروح ، والمتحركة مع الواقع ، لتمتد إلى كل مكان ، فتتحول البركة من نبع يتحرك داخل الأرض إلى نهر جار ينساب في كل عقل وفي كل روح ، ويصل إلى كل أرض فيها للإنسان وجود ، ليملأها بالخير والمحبة والحياة. ومن الطبيعي لهذه البركة المحيطة بالمسجد أن تكون منطلقة منه ، مما يعني ذلك أن التعبير يختزن في داخله معنى البركة في المسجد لما يوحيه من معنى البركة في ما حوله ، والله العالم.

* * *

٢٣

عمق الوعي في امتداد الآيات

(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) في ما عاشه من أجواء الإسراء الدالّة على عظمة القدرة وروعة النعمة ، وما رآه من مواقع الرسالات الأولى ، وما كشف الله عن عينيه من آفاق الغيب ـ كما ترويه تفاصيل القصة ـ وهكذا كان هذا الحدث الكبير نافذة للمعرفة ، تطلّ به على كثير من حركة الكون في ما غاب عنه من أمره ، وعلى حركة الغيب في ما انفتح له من سرّه ، وعلى حركة التاريخ في ما كشف الله له منه ، كما لو كان شيئا حاضرا لديه مما عاينه ورآه.

وربما نستوحي من ذلك أن الله يريد لرسله أن تتكامل لهم المعرفة في آفاق آيات الله ، من خلال ما يملكون الحصول عليه بشكل مباشر ، وما يحصلون عليه بالقدرة الغيبيّة بشكل غير مباشر ، لأن ذلك هو سبيل التكامل في شخصية من يريد أن يقوم بعملية تغيير العالم في الفكر والحياة ، مما يفرض عليه أن يملك وعي المعرفة في أوسع آفاقها لتقوم به الحجة على الناس من موقع المعرفة التي تقهر الجهل ، كما تقوم به من موقع المعجزة التي تصدم التحدي ، فينفتح عقل الإنسان على الحقيقة من خلال الرسالة.

وربما نستوحي من ذلك ، أن هذه المهمة لا تنحصر في شخصية الرسول في خصوصيته الذاتية التي تتميز بميزة الوحي ، بل هي خصوصية الرسالة التي تتصل بهداية الناس ، مما يوحي للدعاة إلى الله ، أن ينفتحوا على المعرفة في أوسع مجالاتها ، في ما يحتاجونه في قضايا التبليغ وحركة التغيير ، مما يجعل من الداعية إنسانا في مركز القيادة على مستوى وعي الفكرة وانطلاق الحركة ، ليستطيع التأثير في مجتمعة من مركز القوّة والانفتاح. وهذا يفرض عليهم الاطلاع على آيات الله في الكون ليزدادوا معرفة به ، نتيجة ما يشاهدونه وما

٢٤

يسمعونه وما يقرءونه ويفكرون به ، ليحققوا عطاء المعرفة من خلال سعة العلم ، وعمق الفكرة ، وحيوية التجربة.

* * *

إحاطة شاملة

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في ما يسمع من السرّ وأخفى من وساوس الصدور وهمسات الشعور ، وما يراه من مخلوقاته الخفية في ظلمات البر والبحر ، وفي آفاق الفضاء ، مما لا تراه العيون ، ولا تلتقي به الحواسّ. وهذا تعبير عن إحاطته بالأشياء على سبيل الكناية بما يمثله السمع أو البصر من وسيلة المعرفة ، باعتبارهما المصدر الأصيل لأكثر المعلومات. فإذا كان الله هو المحيط بالأشياء ، فإنه الذي يملك تسهيل الإحاطة بها لعبده من خلال القدرة المطلقة عليها من جميع الجهات.

وربما كان التأكيد على هاتين الصفتين باعتبار أنه قد سمع من عبده ما عبّر به من إخلاصه وتوحيده له ، ورأى من خشوعه وخضوعه وعبادته وإطاعته ما جعله يمنحه من لطفه ورعايته ، ليريه من آياته الكبرى كمظهر من مظاهر التكريم ، والله العالم.

* * *

٢٥

الآيتان

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٣)

* * *

معاني المفردات

(وَكِيلاً) : كفيلا.

* * *

الحلقة الأخيرة في سلسلة النبوّات

وإذا كان الله قد أكرم عبده محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإسراء ليريه من آياته ، ويسهّل له سبيل أداء الرسالة ، ويفتح له كل وسائل الهداية ، من أجل أن يهدي الناس إلى رسالة الله ، فإن محمّدا لم يكن بدعا من الرسل ، بل كان يمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة النبوّات التي يقف موسى في طليعتها ، لما كان يمثله من جيل جديد من الرسل في الحركة والفاعلية والامتداد والشمول وكمال الرسالة في الفكرة وفي التفاصيل ... وهذا ما جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعيش آفاق

٢٦

موسى عليه‌السلام في ما كان يعيشه من آفاق الرسالات في أجواء المسجد الأقصى ، وهذا ما جعل المناسبة ممّا يلتقي فيها الحديث عن الإسراء بالحديث عن موسى وكتابه وشعبه.

* * *

موسى هدى لبني إسرائيل

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وهو التوراة التي أنزلها الله عليه ليبلغها للناس ، وليدفعهم إلى السير على هداها من خلال ما تشتمل عليه من أسس العقيدة ، ومفاهيم الحياة ، وتفاصيل الشريعة ، وربما كان التعبير بالكتاب ـ كما يذكر صاحب الميزان ـ للإيحاء بالمعنى الذي قد يطلق عليه في كلامه تعالى ، وهو «مجموع الشرائع المكتوبة على الناس ، القاضية بينهم في ما اختلفوا فيه من الاعتقاد والعمل ، ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية والعملية التي عليهم أن يأخذوها ويتلبّسوا بها» (١).

ولكننا لا نعتقد أن مثل هذا الإطلاق ، يصل بالتعبير إلى مستوى المصطلح الذي يختزن خصوصية المعنى في داخله ، بل قد يكون مجرد تعبير عادي ، في ما تعنيه الكلمة من الوحي الذي جمعه الله في كتاب يقرأه الناس ويكتبونه ، وليس وحيا يعونه ويسمعونه فقط. والله العالم.

(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) لينفتحوا ـ من خلاله ـ على آفاق المعرفة ، ويتخلصوا من كهوف الجهل وظلماته ، ولينطلقوا إلى ساحة الحرية بعد أن عاشوا أجواء الاستعباد ، وليعبدوا الله وحده ، ويبتعدوا عن عبادة مخلوقاته كما أراد لهم الشيطان ، ويسلكوا سبيل الهدى في ما يتحركون نحوه من أهداف وغايات ، وما يتخذونه من وسائل ، ومقدّمات وما يمارسونه من أفعال ، وما

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٣٥.

٢٧

يرتبطون به من علاقات ، وما يعتنقونه من عقائد وأفكار.

وقد يسأل البعض عن هذه الخصوصية في جعل الكتاب هدى لبني إسرائيل في حين نعرف أنه هدى للناس جميعا ، ولهذا كان موسى من أولي العزم ، الذي كانت رسالته لا تقتصر على جماعة دون جماعة ، ولا تنحصر في مكان معيّن ، أو زمان معيّن؟

والجواب عن ذلك ، أن الحديث عن بني إسرائيل قد يكون على أساس أنهم قاعدة الانطلاق في حركة الرسالة ، فهم الجماعة الأولى التي جاء موسى عليه‌السلام ليخلصها من ظلم فرعون ، كمقدمة لتخليص الناس الآخرين من ظلمه وظلم أمثاله على أساس الشريعة. وتلك هي السنّة الطبيعية لكلّ نبيّ أو مصلح ، في ما يحمله من رسالة الوحي أو الإصلاح ، فإنه يتحرك من قاعدة محدودة ، وهي قاعدة قومه أو محيطه ، لينطلق منها إلى الآخرين.

* * *

حركة الاستقامة

(أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) والوكيل هو الذي يكفل إصلاح الشؤون العامة أو الخاصة لموكله ، ويعمل على تدبير أموره وقضاء حوائجه ، ونحو ذلك مما يمكن استعارته أو الكناية به عن الربّ الذي يتولى مهمّة الإنسان في كل شؤونه وقضاياه ، وبذلك تكون هذه الفقرة تعبيرا عن النهي عن اتخاذ غير الله ربّا ، كبديل عن الله أو كشريك له ، وهذا هو معنى التوحيد الذي يؤكّد الإيمان بالله الواحد على مستوى العقيدة والعمل بتوحيد العبادة والطاعة ، وعلى مستوى الخط بتوحيد الشريعة والمنهج العملي الشامل في الحياة. وبذلك تكون الكلمة عنوانا لكل ما أوحاه الله لرسله من التفاصيل. وهذا ما حدثنا القرآن عنه في الشعار الذي كان يطرحه الأنبياء كعنوان لدعواتهم للناس ،

٢٨

أن يعبدوا الله ولا يعبدوا غيره ، وفي الخط الذي سار عليه عباده الذين جعل لهم الدار الآخرة ، في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] ، حيث اكتفى في ذلك بالإعلان عن توحيد الربوبية لله ، والانطلاق في الحركة على أساس الاستقامة على هذا الخط.

* * *

عبد شكور

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) وهم الجيل الثاني للبشرية ، الذين باركهم الله وأنقذهم من الطوفان ، لأنهم آمنوا برسالة نوح وأخلصوا لله ، وتمردوا على قومهم ، ليبدأوا المسيرة الجديدة على أساس الإيمان بالله والسير على هداه ، ولتتبعهم ذريتهم في ذلك ، من خلال وحي الله ورسالته ... وهكذا كان هذا الجيل الذي عاش مع موسى من قومه ، من ذرية أولئك الذين أراد الله هدايتهم بوحيه مع موسى ، كما أراد الله هداية أولئك بنوح عليه‌السلام (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فهو أخلص لله العبودية ، التي تمثلت في هذا الثبات على الموقف ، والاستمرار في مواجهة الصراع مع القوى الكافرة في هذا الزمن الطويل الذي شارف على الألف سنة من دون تأفف أو تذمّر ، حتى استنفد كل الوسائل التي يملكها في حركة الدعوة ، ليرضى الله عنه في ذلك ، وليؤكد له عبوديته الخالصة في كل المواقف والمواقع. وهذا هو المظهر الحيّ للشكر الذي تؤكد الرسالات عليه ، من خلال الارتباط بالله والسير على مرضاته ، لأن الله يريد للناس أن يشكروه بالطاعة ، باستعمال ما أنعم به عليهم مما يخدم الحياة والإنسان ، لا بالكلمة المجرّدة والعاطفة الساذجة.

* * *

٢٩

الآيات

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

* * *

معاني المفردات

(وَقَضَيْنا) : أي أعلمنا وأوحينا.

(وَلَتَعْلُنَ) : العلو لغة الارتفاع ، وهو في الآية كناية عن الطغيان

٣٠

بالظلم والتعدي ، يستفاد ذلك من عطفه على الإفساد عطف تفسير. وهو شبيه بقوله تعالى في حديثه عن فرعون : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) [القصص : ٤].

(أُولِي بَأْسٍ) : البأس والبأساء : الشدة والمكروه.

(فَجاسُوا) : الجوس : التخلل في الديار. يقال : تركت فلانا يجوس بني فلان ، ويجوسهم ويدوسهم أي يطأهم. قال أبو عبيد : كل موضع خالطته ووطأته فقد حسته وجسته. قال : وقيل : الجوس طلب الشيء باستقصاء (١).

(الْكَرَّةَ) : الرجعة.

(نَفِيراً) : النفير : العدد من الرجال.

(وَلِيُتَبِّرُوا) : والتتبير : من التبار وهو بمعنى الهلاك والدمار.

(لِيَسُوؤُا) : من المساءة ، يقال أساء زيد فلانا إذا أحزنه.

(حَصِيراً) : حابسا.

* * *

بنو إسرائيل وسنن التاريخ

وكان من حديث الله لبني إسرائيل ـ في ما أوحاه إلى موسى في الكتاب ـ أنه أجرى الحياة على سنّة اجتماعية ، تخضع لها كل المجتمعات في عملية العلو والسقوط ، وفي حركة التقدم والتأخر. فالاستغراق في الفساد ، والامتداد

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي ، الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٦ ، ص : ٥١٥.

٣١

في العلو على الناس ، والاستكبار عليهم ، كل ذلك يولّد مشاكل وسلبيات كثيرة لهؤلاء المفسدين والمستكبرين ، وذلك لما تنتجه من آلام للناس ، وتدمير لأوضاعهم ، واهتزاز لمواقعهم ، كما تنتج ـ في مقابل ذلك ـ ألوانا متنوعة من الفساد الذاتي الذي يضعف مواقعهم الاستكبارية ، فيستسلمون لحالة استرخاء ولهو واستسلام للراحة والدّعة ، ويخضعون للأجواء التي توحي لهم بالأمن والسلام ، بينما تتحفّز القوى الأخرى المضادّة للاستفادة من ذلك الواقع كله في ظلم المستكبرين وتململ المستضعفين ، فتأتيهم الهزيمة من حيث لا يشعرون ، فلا يستطيعون دفاعا ، ولا يملكون ثباتا في أيّ موقف أمام الثورة الهائجة التي تدمر كل شيء من حولهم وتقضي عليهم.

* * *

التدخل الإلهي وقانون السببية

وتلك هي سنّة الله في الحياة ، في ما أودعه في الكون من سننه في قوة الأمم وضعفها وحياتها وموتها ، ولم يميز الله المؤمنين عن بقية خلقه في هذا القانون الاجتماعي الكوني ، بل أراد لهم أن يسيروا كما يسير الناس ، ليحصلوا على النتائج السلبية بسبب ما يتحركون فيه من فساد ، أو على النتائج الإيجابية بسبب ما يمارسونه من صلاح ، وبذلك لا يكون تدخّل الله في المسألة بشكل مباشر ، بل يكون تدخلا بطريقة غير مباشرة ، من خلال ما أودعه في الحياة من قانون السببية الذي يربط بين المسبّب والسبب ، والنتائج ومقدماتها ... ولكن الله ينسب كل شيء إلى نفسه ، للإيحاء بأنه السبب الأعمق وراء كل سبب ، والقوّة المهيمنة على كل ظاهرة ، ولتأكيد جانب التوحيد في مواجهة عقلية الشرك ، التي قد تنسب الكثير من الظواهر إلى غير الله ، مما يشرك به الناس في

٣٢

عبادته ، على أساس النظرة السطحية التي تنسب بعض الأشياء إلى مقارناتها ، أو إلى الجهات المتصلة بها بشكل مباشر.

وقد أخبر الله بني إسرائيل ، بما سيحدث لهم في مستقبل أمرهم من بلاء وتدمير ، بسبب ما يصدر عنهم من علوّ واستكبار ، وجعل ذلك خطا عمليا مستمرا مع الحياة ضمن القانون الإلهي التكويني الذي يربط الظاهرة السلبية أو الإيجابية بأسبابها الكونية. وهذا ما نحاول أن نثيره في معرض تفسير الآيات الآتية.

* * *

بنو إسرائيل والإفساد في الأرض

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي عهدنا إليهم وأعلمناهم بشكل حاسم لا شك فيه ، مما نحيط به علما من حوادث المستقبل المتصلة بحياتهم ، والمتحركة من خلال الأسباب الطبيعية الموجودة في الواقع الزمني المقبل. (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي لتفسدن حياة الناس بالكذب والنفاق والغش والخداع والظلم والكبرياء والبغي بغير الحق ، على مستوى الاجتماع والاقتصاد والفكر والعقيدة والسياسة والسلوك ... (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) من خلال الشعور المعقّد بالتفوق على الناس المرتكز على أسطورة شعب الله المختار التي تغذي لديهم الشعور بالاستكبار والعلوّ الذاتي على الآخرين ، الأمر الذي يؤسس لاستضعاف كل من عداهم وإهدار كراماتهم ، وتدمير أوضاعهم على جميع المستويات.

إنها نبوءة المستقبل التي توحي إليهم بأنهم سينحرفون عن تعاليم الكتاب ، الذي يريد لهم أن يتخذوا مفاهيمه وشريعته قاعدة لبناء الحياة على أسس ثابتة لا على أسس مهتزة ، ومنهجا لإصلاحها لا لإفسادها ، ولكنها

٣٣

شهوات اللحم والدم التي تبتعد بالناس عن خط التوازن في النظرة إلى الأشياء ، ثم هناك انفعالات الفكرة الشوهاء التي تثير فيهم الغرور ، وتدفعهم إلى العصبية ، وتقودهم إلى العدوان ... وهكذا عاشوا لعنة المستقبل الذي سيصنعون شروره بأيديهم ، وسيسقطون في هزائمه بتصرفاتهم. وسينتظرون أن تحل بهم اللعنة مرتين ، لأن الفساد الأكبر سيتكرر بهذا المستوى.

* * *

عقاب الدنيا والاخرة

وبدأت التفاصيل (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) فتمردوا على الله ، وتجبروا على العباد ، وبغوا في الأرض بغير حق ، وأكثروا فيها الفساد ، وضجت البلاد منهم (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) يملكون القوة والسلطة والمنعة ، (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) وتخللوا فيها واستباحوها ، فقتلوا من قتلوا منهم ، ونهبوا ما نهبوا منها ، ودمروها تدميرا ... (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) لا بد له من أن يتحقق بأسبابه الكونية ، وبإرادة الله الذي جعل الأمور مرهونة بأوقاتها والأشياء مرتبطة بأسبابها.

وليس في نسبة الفعل إلى الله ، بالرغم من تحققه بالأسباب الطبيعية ، أيّ مساس بعدالته ورحمته ، لأنه بمثابة جزاء لهم على ما فعلوه من إفساد واستعلاء واستكبار ، ولا مانع من أن يعاقبهم الله في الدنيا بيد خلقه ، كما يعاقبهم في الآخرة بواسطة ملائكته ، وكلا الأمرين عدل.

وقد ذكر بعضهم أن المستفاد من قوله تعالى : (عِباداً لَنا) أن هؤلاء المهاجمين كانوا من عباد الله المؤمنين ، وذلك بلحاظ نسبتهم إليه. ولكننا نعرف أن الكفّار هم عباد الله ، كما هم المؤمنون كذلك ، وإن لم يقوموا بما تفرضه عليهم العبودية من فروض الطاعة والالتزام.

٣٤

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) فهزمتموهم كما هزموكم ، ودمرتموهم واستبحتم ديارهم ونهبتم أموالهم ، كما فعلوا معكم في ما رزقكم الله من نعمه العظيمة ، وأغدق عليكم رحمته من جديد. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) لأنكم رجعتم إلى الله ، وأحسنتم سياسة الناس ، وحملتم مسئولية الحياة كما يريدها الله من عباده ، وذلك هو خط الحياة في سنة الله للناس في ما يحسنون أو يسيئون.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) لأن نتائج أفعال الخير أو الشر تعود للإنسان الفاعل. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وأفسدتم الحياة من جديد ، واستكبرتم على العباد ، واستعليتم على الناس بغير حق ، فستقعون مجددا في التجربة المرّة ، ويهاجمكم الأقوياء الآخرون الذين يملكون البأس الشديد ، (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) ليطبعوها بطابع الحزن والمرارة ، ويسموها بسمة الذل والمهانة من خلال سيطرتهم عليكم ، (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، والمراد به ـ في ما يظهر ـ المسجد الأقصى ، الذي هاجمه أعداؤهم مرتين واستباحوا حرمته ، وأخرجوهم منه ، ودمّروا كل أوضاعهم ، وقد نستوحي من هذا التعبير أن المهاجمين أولا ، هم المهاجمون ثانيا ، (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) وهو ما يوحي بالدمار الشامل الذي لا يبقى معه شيء.

* * *

أبواب الرحمة الإلهية

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد ذلك التشريد والتنكيل والهلاك ، إذا رجعتم إليه ، وعملتم بكتابه ، وسرتم على الصراط المستقيم ، مما يعيد إليكم عزكم ومجدكم وامتدادكم في الأرض ، لأن الله لن يسلب من أمّة رحمته إذا أخذت بأسبابها بعد أن كانت قد ابتعدت عنها ، فهو جعل أبواب رحمته لمن أراد أن

٣٥

يدخلها ، ولكن ذلك لا يعني ـ في أيّ حال ـ أن الله يسمح للعبد أن يستغل ذلك في السير مع خط الضلال من جديد ، أملا في أجواء الرحمة. (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) لأن الإفساد الجديد لن ينتج إلا دمارا جديدا لا ينتهي في الدنيا ، ولكنه ينتهي إلى الآخرة (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) تحصرهم فلا يفلت منهم أحد.

* * *

حادثتان مدمرتان

وقد يتحدث المفسرون عن الجانب التاريخي للواقع التطبيقي لما أشار إليه القرآن من حالتي الإفساد اللّتين عاشهما بنو إسرائيل ، وحالتي التدمير اللتين حلّتا بهم ، فيذكرون أن هناك أكثر من حالة هجوم عليهم في تاريخهم السحيق ، ولكن هناك حادثتين بارزتين ، كانتا مدمّرتين لوجودهم وكيانهم ، وإحداهما الهجوم الذي قام به الملك البابلي «نبوخذ نصر» ـ قبل الميلاد بستة قرون ـ «وكان ملكا ذا قوّة وشوكة من جبابرة عهده ، وكان يحمي بني إسرائيل فعصوه وتمردوا عليه ، فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها ، وحاصر بلادهم ، ثم فتحها عنوة ، فخرّب البلاد ، وهدم المسجد الأقصى ، وأحرق التوراة وكتب الأنبياء ، وأباد النفوس بالقتل العام ، ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة من النساء والذراري وضعفاء الرجال ، فأسرهم وسيّرهم معه إلى بابل ، فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام ، ولا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة نبوخذ نصر وبعده زمانا طويلا ، حتى قصد كسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل وفتحها ، وتلطّف على الأسرى من بني إسرائيل ، وأذن لهم في الرّجوع إلى الأرض المقدسة ، وأعانهم على تعمير الهيكل ـ المسجد الأقصى ـ وتجديد الأبنية ، وأجاز لعزراء أحد كهنتهم أن يكتب لهم التوراة ، وذلك في نيف وخمسين

٣٦

وأربعمائة سنة قبل الميلاد.

والذي يظهر من تاريخ اليهود أن المبعوث أولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر وبقي خرابا سبعين سنة ، والمبعوث ثانيا هو قيصر الروم إسبيانوس سيّر إليهم وزيره طوطوز فخرّب البيت وأذلّ القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا» (١).

ولا يستبعد صاحب الميزان ـ في تفسيره ـ «أن تكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات» ولكنه يناقش الأمر بالقول : «إن فيها ـ (في الآيات) ـ إشعارا بأن المبعوث إلى بني إسرائيل في المرة الأولى والثانية قوم بأعيانهم ...» ثم يرفض ذلك على أساس أنه مجرد «إشعار من غير دلالة ظاهرة» (٢).

وربما كان هذا الاستبعاد الذي أشار إليه صاحب الميزان ، هو الذي دعا بعض المتأخرين إلى القول ، بأنها تحمل في داخلها الإيحاء بأن الآيات قد تتحدث عن معركة بين المسلمين واليهود في العصر الحاضر ينتصر فيها المسلمون عليهم ، ثم يعود اليهود إلى النصر ، ثم إلى الهزيمة التي تدمرهم تدميرا. وهذا هو الجو الذي يتحرك فيه الصراع الدامي بين العرب والمسلمين وبين إسرائيل.

ولكن مثل هذه الأمور لا تحمل في داخلها شاهدا على التحديد ، مما يجعل المسألة خاضعة للاستنتاج الذاتي ، لا للشواهد العلمية. وقد درجنا في هذا التفسير على عدم الاهتمام بتفصيل ما أجمله القرآن ، لأن ذلك لا يمثل مشكلة كبيرة في ما هو المهمّ من إثارة القرآن للفكرة التي يريد منها إعطاء

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٤٤.

(٢) (م. ن) ، ج : ١٣ ، ص : ٤٤ ـ ٤٥.

٣٧

النموذج ، وتقديم الدرس ، بعيدا عن خصوصيات القصة في تفاصيلها الدقيقة في أرض الواقع ، ولذلك فإننا نكتفي بالإشارة إلى الموضوع من دون الدخول في مناقشات التفصيل.

* * *

كيف نستوحي الآية؟

إن المسألة ليست مسألة خصوصية بني إسرائيل بل هي مسألة الفساد في الأرض الذي ينتج المشكلة للمفسدين ، من خلال الفئات التي تعاني من ضغط الفساد على واقعها ، وتأثيره على حياتها ، فيدفعها ذلك إلى استجماع القوة من مواقع الضعف لتهجم على الذين صنعوا لها الذل والألم والعذاب ، لتدمّر وجودهم بكل قسوة وقوّة ، أو من خلال الفئات التي تترصّد عوامل الضعف لتنال من مواقع القوّة للأقوياء. وقد تبدأ عملية التآكل الذاتي عند ما يستسلم فيه هؤلاء إلى اللذات والشهوات ، ويكفّون عن تنمية عوامل النموّ والقوّة ، فتجد الفئات المتربّصة بهم الفرصة الذهبية التي تتيح لها التغلّب عليهم ، وهزيمتهم بكل سهولة.

وهذا ما عاشه المسلمون في أكثر من موقع من مواقع تاريخهم عند ما هزموا في الأندلس ، أو عند ما هزمهم التتار ، أو عند ما هزمهم اليهود في فلسطين ... وهكذا تتحرك كل عوامل الضعف التي تفقد معها الشعوب والأمم الرغبة في الموت ، وتسترخي فيها لحبّ الحياة ، لتسقط كل إمكانات القوّة لدى الكبار بأيدي الصغار ، وتلك هي سنّة الله في خلقه وفي الحياة.

* * *

٣٨

الآيتان

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(أَجْراً) : ثوابا.

(أَعْتَدْنا) : أعددنا

* * *

اتباع القرآن وسلامة المصير

وتنتقل الآيات من الحديث عن كتاب موسى ، وما فيه من إنذار لبني إسرائيل إذا انحرفوا عن تعاليمه ، وما فيه من خير وبشارة لهم إذا انسجموا مع

٣٩

آياته واهتدوا به ... إلى الحديث عن هذا القرآن الذي أنزله الله على رسوله ـ خاتم الأنبياء ـ ليكون خلاصة الرسالات السماوية في المبادئ العظيمة التي تتحرك فيها القيم الروحية الإنسانية ، في ما يمكن أن يكون زادا للحياة كلها في عقائدها ومفاهيمها وشريعتها ومناهجها الخاصة في الفكر والحركة والسلوك ، مما يحمل في داخله الإيجابيات الكبيرة على مستوى سلامة المصير للسائرين عليه ، كما يحتوي السلبيات المصيرية للمنحرفين عنه. وذلك هو شأن كتب الله المنزّلة على عباده ، فهي الهدى لمن اهتدى بها ، وهي الحجة على من ابتعد عنها في الخط الفاصل بين الجنة والنار.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي للملّة ، أو للطريقة ، أو للشريعة ، أو للحياة التي هي أكثر اتصالا بخط الاستقامة والتوازن بين خصائص الإنسان وعناصر الحياة ، فلا يطغى جانب على آخر ، فتتوازن الدنيا والآخرة والمادة والروح ، في حركة مشاريع الإنسان وخطواته وعلاقاته ، فلا يفكر بالدنيا بعيدا عن الآخرة ، ولا يعيش أجواء الروح ، في انفصال عن أجواء المادة ، بل تتروّح المادة في وعيه ، وتتجسّد الروح في خطواته ، وتلتقي الدنيا بالآخرة في جميع الأفعال التي تتحرك من مسئوليته في الحياة أمام الله ... وهكذا يتحرك الإنسان في الحياة الفردية بالطريقة التي لا تسيء إلى الحياة الاجتماعية ، في الوقت الذي لا يلغي فيه المجتمع شخصية الفرد وحريته في نطاق الذات ، وبذلك كان الإسلام دينا واقعيا لا يبتعد بالإنسان عن الحياة عند ما يريد أن يربطه بالله ، بل يؤكد له صلته بالله بمقدار تأكد صلته بالناس وبالحياة ، باعتبار أن ذلك هو موضع رضا الله.

* * *

لا بد من فهم الإسلام بطريقة متوازنة

وفي ضوء ذلك ، لا بد للمسلم من أن يفهم الإسلام بطريقة متوازنة

٤٠