تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

سورة الكهف بين الاسم والمضمون

وهذه سورة مميّزة بما اشتملت عليه من قصص ذات صفة عجائبية ، وهي تنسج من ألوان الغيب العديدة ما يجعل القصص محاطة بغموض حسيّ كبير ، كما تحمل من الإيحاءات المتنوعة ما يبرز بوضوح حركة الفكرة التوحيدية سواء على مستوى العقيدة أو على مستوى الحياة ، أو على خط التربية الروحية والعملية للإنسان ، في ما يريد الله أن يثيره من خلال النظرة ، أو من خلال أحداث القصة.

ولا شك أن قصة أهل الكهف تثير الغرابة في حوادثها ، لخروجها عن المألوف ، فقصة هؤلاء تمثل عودة الروح والحياة لهؤلاء القوم الذين فرّوا بدينهم من الضلال ، واستفاقوا من جديد بقدرة الله بعد زمن طويل ، ليكونوا عبرة لجيل آخر ، وآية لأجيال أخرى. ولعل تسمية السورة بالكهف تحمل لونا من ألوان الإثارة للتفكير في أجواء الغيب ، ليتأكد للمؤمن ما يريده القرآن من تعميق الإيمان بالغيب في وجدانه الروحي.

وتبقى للسورة حركتها في التأكيد على عقيدة التوحيد القائمة على نفي الولد ، ومواجهة التصور المنحرف الذي يريد أن يسبغ خصوصيات البشر على الله ، من خلال بعض الانطباعات الساذجة التي تحاول أن تستغرق في استيحاء

٢٦١

العظمة لبعض المخلوقات الغامضة ، كالجن والملائكة ، أو لبعض الأشخاص الذين يحملون في حياتهم بعضا من خصوصيات المعجزة تبرر بنظرهم وجود ارتباط عضوي في علاقتهم بالله ، نتيجة ما يتوهمونه من أسرار الألوهية الكامنة في ذواتهم.

ثم تتحرك اللمسات واللمحات المتنوّعة في حركة إيحائية وتوجيه مباشر ، من أجل أن يكون العمل الصالح هو الوجه البارز للإيمان الكامن في الذات عند ما يتحول إلى تجسيد عمليّ في صعيد الواقع ، انطلاقا من الخط القرآني الذي لا يحترم الفكرة إلا إذا تحوّلت إلى واقع في حياة الإنسان ، ولا يقبل الإيمان إلا إذا اقترن بالعمل الصالح ، لأن الجانب الوجداني في الذات لا بد من أن يطلّ على الجانب الواقعي من الحياة ، لئلا تبقى قضية الفكرة أو الإيمان مجرد حالة تجريدية لدى الإنسان ، فتترك تأثيرها على الجانب التصوري الذهني بعيدا عن الجانب الحركي في نموّ الحياة وتطوّرها.

ويبقى للأسلوب القرآني في التبشير والإنذار الذي يلامس الروح الإنسانية المتحركة في خطّي الرغبة والرهبة ، دوره في حركة الفكر الذي يواجه المسائل من مواقع المسؤولية والجدية ، ويدفع الواقع في اتجاه النتائج الإيجابية أو السلبية المتصلة بالعمل في خط الرسالات.

وتبقى النماذج الإنسانية القوية في مواجهة الواقع الضاغط ، وفي انطلاقة الفكر ، وفي حركة القدرة ، وفي قوة الإرادة ... هي الوجوه المتنوّعة التي تطل من السورة في حركة القصص الثلاث ، لتوحي للإنسان في كل زمان ومكان بالفكرة التي تحتوي نقاط الضعف الإنساني لتحوّلها إلى حركة في اتجاه إثارة نقاط القوّة ، في ما يريد الله أن يثيره منها في حركة الوجدان ، وفي ثبات الموقف العملي للإنسان في اتجاه التسامي والتطور والارتفاع.

* * *

٢٦٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨)

* * *

معاني المفردات

(عِوَجاً) : العوج : العطف من حال الانتصاب ، والعوج ـ بالفتح ـ يقال في ما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب ونحوه ، والعوج ـ بالكسر ـ يقال

٢٦٣

في ما يدرك بالفكر والبصيرة.

(قَيِّماً) : مستقيما.

(بَأْساً) : عذابا.

(باخِعٌ) : قاتل ، مهلك.

(ماكِثِينَ) : خالدين.

(صَعِيداً) : الصعيد : ظهر الأرض.

(جُرُزاً) : أرضا لا نبات فيها.

* * *

الوعي الروحي للذات الإلهية

وتبدأ السورة بحمد الله ، لتوحي للإنسان بالوقوف أمام الكتاب في مضمونه الفكري والروحي ، وفي إيحاءاته التربوية ، باعتبار أنه مصدر للثناء على الله ، لما يمثله ذلك من شؤون العظمة والنعمة لله ، ليتعلم الإنسان بأن يكتشف في كل شيء مما يحيط به أو مما ينزل عليه ، وجها من وجوه الوعي الروحي لله في مجال التصور للذات الإلهية. وتتحرك هذه الآيات للتأكيد على ذلك ، في تفصيل سريع للمضمون الحركي للكتاب في أجواء التبشير والإنذار ، وفي احتواء المشاعر السلبية للنبي ، في مواجهته للمشاكل الواقعية ، وإفرازاتها النفسية عند ما يشاهد البعد عن الإيمان كظاهرة تتحدّى رسالته في مجتمعة الذي كان يصرّ على المكابرة والعناد.

* * *

٢٦٤

الحمد المطلق لله تعالى

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) والحمد يعني الثناء. هذه الكلمة توحي بالحمد المطلق في وعي عميق للجانب الذي ينطلق فيه الثناء. (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) الكامل الشامل لمصالح الإنسان التي يحتاجها من فكر وعمل ومنهج للحياة في ما أجمله من ذلك ، أو في ما فصّله ، في الخط المستقيم الذي لا التواء فيه ولا انحراف. (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي لم يجعله ملتبسا لا يفهم ومعوجّا لا يستقيم.

* * *

امتداد القرآن في حياة الإنسان

وهذا التأكيد على الجانب السلبي في التعبير عن الاستقامة في كتاب الله ينطلق من دراسة الفكر ، الذي يثيره القرآن بوضوح وبساطة تجعله قريبا من الوجدان ، في الوقت الذي لا يكون فيه بعيدا عن العمق ، لأنّ عمقه لا يعيش في أجواء التكلف للفكرة والتعقيد في حركتها ، بل ينطلق من امتداده في الجانب العميق من حياة الإنسان ، ومن دراسة التشريع الذي يواجه حاجات الإنسان من موقع الفطرة السلمية ومن طبيعة الواقع الذي يتحرك فيه ، مما يجعله يتحرك في خط التوازن الذي لا يغفل أيّ جانب من جوانبه ، فلا يميل فيه جانب على جانب ، بل تلتقي فيه الجوانب كلها في خط التكامل الإنسانيّ. وهكذا ينطلق المنهج القرآني في أجواء العقل والتجربة ، ليستفيد من الملاحظة الفكرية إلى جانب الملاحظة الحسية ، في استلهام الفكرة التي تحكم حياته الفكرية والعملية. وهذا ما يجب أن يستلهمه القارئ الواعي للقرآن ، لئلا يقع

٢٦٥

في الخطأ الذي ينحرف به عن خط الاستقامة ، عند ما يستغرق في الفهم الذاتي الذي يخضع لكثير من الرواسب أو الانطباعات اللّاشعورية التي تبتعد به عن التوازن في النظرة ، أو الاستقامة في الفكرة.

* * *

منطلق الإسلام مصالح الناس

(قَيِّماً) على الإنسان ، في ما يريد أن يرعى به مصالحه الفردية والاجتماعية في الدنيا والآخرة ، ويمنعه من اختيار الجانب السيّئ الذي يرهق حياته ومصيره ، لأنه لا يملك ـ في المفهوم القرآني ـ نفسه ، فلا حرية له للإضرار بها ، لأن الله الذي خلقه هو الذي يملك منه ما لا يملكه من نفسه. وهذا هو الذي يجعل للإسلام ـ في قرآنه ـ القيمومة المطلقة على حركة الإنسان في حياته ، ويضغط عليه في سبيل التطبيق الدقيق لآياته ، لأن الإسلام لم ينطلق من حالة مزاجيّة عبثيّة ، بل انطلق من مصالح الإنسان في ما يأمر به ، ومن المفاسد التي تربك حياته في ما ينهى عنه ، ولذلك فلا مجال له لاختيار فكر آخر غير فكره ، أو شريعة مغايرة لشريعته ، فإن ذلك يمثل الانحراف الخطير عن موقع العبودية لله ، وعن أساس المصلحة العليا للإنسان وللحياة التي يعيشها في كل مجالاته.

* * *

المؤمنون والنعيم الخالد

(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) وهو عقاب شديد من عند الله في يوم

٢٦٦

القيامة ، ينذر به الكافرين به وبرسله وبكتبه ، والمنحرفين عن دينه القويم في العقيدة والعمل ... (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) فيقرنون الفكر بالطاعة لكي يصلح أمرهم وحياتهم من خلال الشريعة الحقة. (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) حين يدخلهم الله جنته ، ليعيشوا النعيم الخالد والرضوان الإلهي فيها. وهذا هو الأجر الحسن الذي ينتظره المؤمنون العاملون ، في تطلعاتهم المستقبلية ، وفي أشواقهم الروحية. (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) فهو النعيم الخالد الذي لا خروج منه ولا فناء له. وذلك هو الفرح الأبدي الذي يعيشه المؤمنون في أشواقهم وتطلعاتهم في الدنيا ، وفي عيشهم في الآخرة.

* * *

الانعكاسات السلبية للشريك في حياة الإنسان

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) في إنذار خاصّ يضغط على حالة الانحراف التصوري في العقيدة ، في نسبة الولد إلى الله ، سواء في ذلك ما كانوا يقولونه عن الملائكة إنهم بنات الله ، وعن الجن في تعبير مماثل ، وعن السيد المسيح إنه ابن الله ، كما يقولون عن عزير مثل ذلك. وقد كرر الإنذار وخصّصه ، للإيحاء بخطورة هذه الفكرة على مجرى الحياة العملية للإنسان ، في انفعاله الوجداني ببعض المخلوقات ، وادّعاء صلتها بالله بطريقة تبتعد عن صفاء التوحيد ، وتسيء إلى عظمة الله التي تفرض تنزيهه عن مشابهة المخلوقين ، وذلك ممّا لا يتناسب مع كماله وجلاله ـ وتؤدي بالإنسان إلى الخضوع للمخلوق بنسبة قريبة من خضوعه للخالق ، فيتألّه في نفسه ، وينعكس ذلك على مجرى حياته ، وعلى حركة الخرافة في عمق ذاته ، وسيطرة الجهل على قناعاته.

* * *

٢٦٧

تفاهة أدلة عقيدة الشريك

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) لأنهم لا يملكون أيّة أدلّة أو براهين على هذه العقيدة ، بل ينطلقون من انطباعات ساذجة ، متخلّفة ، ناشئة من الاستغراق في الجوانب البارزة للخصائص غير العادية أو غير المألوفة لهذه المخلوقات ، التي يمنحونها هذه الصفة من دون التفات إلى أن الله قد يمنح بعض عباده قدرات لا يمنحها لغيرهم ، لأن هناك دورا محدّدا يفرض ذلك ، أو لأن طبيعة الموقع الذي يتحرك فيه هذا المخلوق يتوقف على ذلك. فالله الذي أعطى القدرة المألوفة ، هو الذي يعطي القدرة غير المألوفة ، بالإضافة إلى أن الألفة لا تمنح الشيء الحالة الذاتية الطبيعية ، ليكون المقابل لها حالة خارقة خارجة عن الطبيعة ، فلو دققنا في عمق هذه الحالة أو تلك ، لرأينا سرّ الإبداع والعظمة مشتركا بينهما ، في نوعية الخصائص التي يتميز بها هذا عن ذاك ، ولكن الألفة تخفف عظمة الأشياء في الوجدان.

وهذا ما يفرض علينا ، وفي المنهج التربويّ للتصور ، عدم الاستغراق في الظواهر المثيرة أو إعطائها قداسة غير حقيقية ، من خلال مشاعر الانبهار التي يخضع فيها الإنسان لإحساس غير طبيعيّ في استيحاء العظمة الخارقة من بعض الظواهر ، لأن الجهل بعمق السرّ الحقيقي للحالة أو للظاهرة ، لا يعني أن نقفز إلى وضع التقديس لنجعله الوجه البارز للمسألة أو العمق الطبيعي لها ، من دون أساس للاستغراق في دائرة التهاويل الغامضة المسيطرة على الفكر والشعور.

* * *

٢٦٨

لا بد للمنطق التقديسي من موازين دقيقة

وربما كان علينا أن نعطي الأشياء حجمها الطبيعي في الدائرة الإنسانية عند ما تتصل المسألة بتعظيم إنسان مّا ، إذ لا بد من أن ندخل في عملية تقييم دقيقة للمنطق التقديسي من خلال الخصائص المميزة ، لنعرف ـ جيّدا ـ هل هي متصلة بالذات في جوانب العظمة في عالم الأسرار ، أو هي متصلة بالدور في مواقع الحركة للرسالة أو للرسول أو للوليّ ... وبذلك نبتعد عن التضخيم الذي يقودنا إلى الغلو في الشخصية إذ نمنحها ما ليس فيها ، وبالتالي إلى الانحراف في العقيدة والعمل.

ولعلنا إذا درسنا الكثير من التصورات الفكرية في العقيدة للأشخاص وللأحداث ، لرأينا أننا في تقويمنا لها نحمّلها أكثر مما تتحمل ، وأننا لا نملك الكثير من الأسس العلمية ، أو المصادر الموثوقة لكثير من هذه التصورات والانطباعات ، تماما كهؤلاء الذين بلغ انحرافهم في الجانب الشعوري الغامض المتعلق بالأشخاص والأشياء إلى الموقع الذي جعلوهم فيه أبناء لله من دون أساس علميّ ثابت.

* * *

مصير الإنسان مرتبط بصوابيّة تصوراته لله تعالى

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) لأنها الكلمة التي تسيء إلى موقع الله في الوجدان ، وموقعه في ذاته ، وتنحرف بالإنسان عن التوازن في فهم مسألة الألوهية. وهذا ما يعطي الكلمة الخطورة السلبية ، لأنها تتعلق بالعقيدة في الله

٢٦٩

الذي هو مصدر الوجود ، ولا شك أن التصور الصحيح أو الخاطئ يقود المسيرة الإنسانية إلى النتائج الإيجابية أو السلبية الكبيرة على صعيد المصير في الدنيا والآخرة.

* * *

لا أساس للشريك بالله تعالى

(إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ، لأنهم لا يملكون أساسا لاعتبار هذا القول صورة عن الحقيقة ، ولكننا نملك الدليل على أنه يجانبها ويبتعد عنها ، مما يجعله في موقع الكذب ، لا في موقع الصدق ، من خلال المعرفة بالله في استغنائه عن الولد ، الأمر الذي يرمي هذه الكلمة في دائرة العبث واللّامعنى أو يطابقها بالشيء الذي ليس له موضوع أو أساس.

* * *

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسرته على الكفار

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يعيش الألم والحسرة أمام بعد المشركين وإعراضهم عن القرآن وعن الدعوة إلى الله ، وهذه المواقف تمثل خطوات المشركين العملية على صعيد خط الرسالة ، تماما كما هي الآثار التي تتركها أقدامهم على الطريق في حالة السّير. وربما تؤدي به هذه المشاعر السلبية الضاغطة إلى الهلاك ، عند ما تتعاظم أو تتحول إلى عقدة وتساؤل دائم عن السبب في هذا الموقف المضاد ، وعن

٢٧٠

الضعف الذي يحيط بشخصه وبالساحة أمام قوة هؤلاء ، وعن أشياء كثيرة قد تطوف في نفسه وتضغط على وجدانه ... (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) والمراد به القرآن الذي أنزله الله عليه ، فتمتلئ روحه بالأسى والأسف لأنهم لم يستجيبوا لدعوة الإيمان به.

* * *

حسرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مظهر لكماله الإنساني

ونتساءل : هل هذا تعبير عن حالة حقيقية في مشاعر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل يتناسب الوضع الشعوري مع العصمة لديه؟ ونجيب بأن هذه المشاعر لا تمثل حالة نقص ، بل نجد فيها حالة كمال إنسانيّ ، ذلك أنها تصدر عن حسّ إنسانيّ رهيف ناتج عن الشعور بالمسؤولية أمام الآخرين أيّا كانوا ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعي نفسه رسولا للعالمين ، وبالتالي منقذا لهم ، ولهذا فبقدر ما يجد نفسه معنيّا بالذين يتبعونه ، يجد نفسه معنيّا بالذين لم يتبعوه أمثال الجاحدين والكافرين ، لأن هؤلاء بحكم ما هم عليه ، يستحقون الإشفاق أكثر من غيرهم ، لأنهم سيسقطون في مهالك الكفر والطغيان لا محالة ، فليست هناك عقدة ذاتية ، بل هي حالة إنسانية رسالية ، في المستوى الرفيع لروحية الإنسان تجاه الآخرين.

ثم ما الذي يمنع الرسول من الخضوع للحالات البشرية التي يعيشها كل الناس في مواقع الضعف البشري ، تماما ، كما يمرض ويتألم ويموت ، لأن المشكلة فيه ليست هي نقاط الضعف الذاتية ، بل المشكلة هي تأثيرها على مستوى الشخصية الرسالية في حركته في الحياة ، في آفاق الوجدان أو الواقع. ولا مانع من أن يتأثر الإنسان ـ الرسول ، كما يتأثر غيره ، بجحود الآخرين

٢٧١

برسالته ، ويفرح بإقبالهم عليها ، لا سيّما إذا كانت الرسالة لمصلحتهم ، مما يجعل هذا الانفعال متصلا بالذات من جهة ، وبالجانب الإنساني من حياة الناس من جهة أخرى.

وقد جاء القرآن الكريم في كثير من آياته ، ليوضّح للنبي طبيعة هذا الجحود وظروفه وأسبابه الطبيعية ، مما يجعله يشعر بأن المسألة لا تستحق هذا القدر الكبير من الاهتمام النفسي ، أو الشعور بالخطورة على مستوى حياة الناس أو الرسالة.

وإذا كان الخطاب موجها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن الامتناع عن التأثر بهذا الموقف السلبيّ ، من قبل الكافرين ، موجّه إلى كل داعية لله وللإسلام ، بأن يعيش هذا الجوّ ، لئلا يقوده الانفعال السلبي إلى الوقوع في الإحباط واليأس والسقوط ... فإن هذا قد يكون ممتنعا في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تمنعه عصمته من ذلك ، ولكنه ليس ممتنعا في الآخرين من الدعاة إلى الله ، الذين قد يسقطون تحت تأثير ضعفهم ، فيفقدون التوازن الفكري والعملي في مواجهة الحالات السلبية في الواقع.

* * *

النعم وفلسفة البلاء الإلهي

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) وذلك بما أنعمنا على الناس من جاه ومال وأولاد ، وأعطيناهم من امتيازات ، يستمتعون بها ، ويتنافسون فيها ، وقد يتقاتلون في سبيل الحصول عليها كما يتعقّدون في مواجهة قضايا الحق والباطل والخير والشرّ من خلال تأثيرها على مصالحهم وأوضاعهم في خدمة هذه الشهوات والامتيازات ... إنا جعلنا ذلك كله لهم ، من خلال ما أودعناه

٢٧٢

في الأرض من ذلك ، ولكن لا لأنه يمثل رسالة الحياة وهدفها ومعناها في واقع الإنسان ، بل من أجل أن يكون موقعا للتجربة والحركة في اتجاه تأكيد الإرادة ، على أساس اختيار القرار الأفضل لمصلحة الالتزام من قاعدة الحرية الإنسانية في مواقع الصراع ، لينطلق التسابق بين الناس من أجل تحديد الأحسن في عملية إثارة للطموح في الاتجاه الصحيح.

* * *

وجوب عدم الاستسلام للدنيا

(لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وذلك في ساحة تجربة الحياة التي تتنوّع فيها المغريات ، وتختلف فيها الشهوات ، وتتكاثر فيها الأطماع ، مما يعيش الإنسان معه حالة التحدي الصارخ الذي يواجه إيمانه ويهز موقفه ، فإذا انطلق ليتحرك في الاتجاه الأفضل الذي يتمرّد فيه على الشهوة الحرام ، والمال الحرام ، والجاه الحرام ... ويستبدل ذلك بالطاقة التي تخدم الحياة والإنسان في خط الله ، فإنه يكون ممن يعيش التفاضل في العمل تجاه الآخرين ، أمّا إذا سقط في التجربة ، فإنه يسقط في المصير. ومهما كان الوضع العملي للإنسان ، في نتائجه السلبية أو الإيجابية ، فإن هذه الحياة الحلوة الرخيّة ، التي تشتمل على الزينة المادية والمعنوية التي يستمتع بها الناس ، لن تبقى في هذه الأرض ، فستعود أرضا لا تنبت شيئا ، كأنها تأكل النبات أكلا ، فلا تعطي الحياة شيئا ، ولن تحقّق للإنسان أيّة متعة.

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي أرضا لا نبات فيها ، وهو كناية عن فقدان حركة الحياة فيها ، باعتبار أن النبات يمثل الحياة النامية الحلوة التي تمد الإنسان بالقوّة عند ما تمدّه بالغذاء ، وتمنح الوجود جمالا ، من خلال

٢٧٣

ما تثيره فيه من الخضرة الطافرة الحلوة.

وهذه هي الصورة التي يريد القرآن أن يؤكدها في وعي الإنسان ، فلا يستسلم لزينة الحياة الدنيا ، فيعتبرها شيئا خالدا يستريح له ، ويطمئن إليه ، ويتحرك معه كهدف يسعى إليه ... بل عليه أن يعتبرها مجرد زينة طارئة ، كحالة عابرة ، ليستغرق في داخلها في نطاق الفكرة التي يستوحيها ، والدرس الذي يأخذه ، والعمل الذي يعمله ... ليبقى له ذلك منها ، كرصيد للدار الآخرة ، عند ما تتحول الحياة إلى شيء لا أثر فيه لأيّة حركة ولأيّة حياة.

* * *

٢٧٤

الآيات

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(الْكَهْفِ) : المغارة الواسعة المحفورة في الجبل ، فإذا صغر فهو غار أو مغارة.

(وَالرَّقِيمِ) : أصله من الرقم وهو الكتابة ، والمراد به هنا اللّوح الذي كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف.

(أَوَى) : التجأ.

(الْفِتْيَةُ) : جمع فتى من الفتوة والشباب.

٢٧٥

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) : أنمناهم نومة عميقة لا تنبههم معها الأصوات.

(أَمَداً) : غاية.

(نَبَأَهُمْ) : خبرهم.

* * *

مناسبة النزول

وربما تذكر بعض الأحاديث المأثورة أنها كانت مورد سؤال من قريش لرسول الله ، في ما تعلّموه من أحبار اليهود. فقد نقل صاحب الميزان عن تفسير القمّي حديثا مرفوعا إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان سبب نزول سورة الكهف أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران : النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا : اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوه عن مسألة واحدة ، فإن ادعى علمها فهو كاذب.

قالوا : وما هذه المسائل؟ قالوا : سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا ، كم بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ وكم كان عددهم؟ وأي شيء كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصتهم؟ وسلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو؟ وكيف تبعه؟ وما كان قصته معه؟ وسلوه عن طائف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو؟ وكيف كان قصته؟ ثم أملوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث وقالوا لهم : إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق ، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه.

٢٧٦

قالوا : فما المسألة الرابعة؟ قالوا : سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادعى علمها فهو كاذب ، فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.

فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق وإن لم يخبرنا علمنا أنه كاذب فقال أبو طالب : سلوه عما بدا لكم ، فسألوه عن الثلاث المسائل.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غدا أخبركم ولم يستثن ، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما اغتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به ، وفرحت قريش واستهزءوا وآذوا ، وحزن أبو طالب.

فلما كان بعد أربعين يوما ، نزل عليه سورة الكهف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرائيل لقد أبطأت ، فقال : إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله ، فأنزل الله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ثم قصّ قصّتهم (١).

* * *

بين قصّة أهل الكهف والغيب الإلهي

وهذا نموذج للناس الذين انطلقوا إلى الحياة من موقع الرسالة ، التي تؤكد نفسها بالممارسة والعمل ، في مواجهة الناس الذين اختنقوا في داخلها وتجمّدوا في دائرتها ، فلم يتحركوا بعيدا عنها. ولكن ميزة هؤلاء المؤمنين أن الله قد أدخل في قصتهم عنصر الغيب ، الذي يبعث على الدهشة ويدعو إلى الاستغراب ، فقد أنامهم الله مدة طويلة ، ثم أحياهم من جديد لحكمة خفيّة ، من خلال ما يريده من إثارة الأمور الخارقة للعادة في الحياة.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٢٧٧

وقد تكون القصة صادفت تعجّبا واستغرابا لدى الناس آنذاك ، لأنهم إذا كانوا يستبعدون أن ينكرون عودة الناس إلى الحياة بعد الموت في يوم القيامة ، فكيف يتقبلون عودة بعضهم إلى الحياة في الدنيا بعد أن شبعوا موتا مدة ثلاثة قرون أو تزيد؟! وهذا ما جعل القرآن الكريم ـ في هذه الآيات ـ يستنكر اعتبارها أمرا عجيبا يدعو إلى الاستنكار ، لأن العجب إنما يكون في فعل الإنسان لما هو غير عاديّ أو مألوف ، أمّا ما يكون من آيات الله ، فإن المسألة لا تدعو إلى أيّ استغراب ، لأن الكون كله ، في مظاهره الكونية أو الإنسانية أو الحيوانية ، مظهر لقدرة الله التي لا يعجزها أو يقف أمامها أيّ شيء.

وهذا ما أراد القرآن أن يعمّقه في وعي الناس من خلال القصة ، وما توحي به من فكرة البعث ، كنموذج حيّ مصغّر للفكرة ، بالإضافة إلى الدروس الأخرى التي تريد للدعاة إلى الله أن يتمثلوها في وجدانهم الثقافي وحركتهم العملية في خط الدعوة والجهاد.

* * *

أصحاب الكهف والرّقيم

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) هل تظن أن هناك عجبا في قصة هؤلاء ، التي كانت آية من آيات الله ، فهل يعجب أحد من آياته؟!

والظاهر أن هؤلاء جماعة واحدة ، وإن ذكروا باسمين ، فهم أصحاب الكهف لدخولهم فيه وحدوث ما حدث لهم في داخله ، وهم أصحاب الرقيم ، لأن قصتهم ـ كما يقال ـ كانت مكتوبة في لوح منصوب هناك ، أو في خزانة الملوك. وهناك وجوه أخرى ، يقول بعضها إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه

٢٧٨

الكهف ، أو الوادي الذي فيه الجبل ، أو البلد الذي خرجوا منه.

وقيل إنهم جماعتان ، فصّل الله قصة جماعة ، ولم يفصّل قصة الأخرى ، ولكن هذا بعيد عن طبيعة الجوّ وحركة القصة في القرآن ، لأن إهمال قصة أصحاب الرقيم ، بعد التعرض لذكرهم ، يبتعد عن جانب البلاغة في القرآن ، لأن طريقة التفاهم بين الناس في أبسط مواقعها لا تسمح بأن يهمل الإنسان الحديث عن شيء أو شخص أو جماعة ... بعد أن يكون قد ذكرها بالاسم في بداية الكلام ، لأن ذكر ذلك يثير الاهتمام بالمعرفة ، ويدعو المتكلم إلى الاستجابة إلى ذلك.

* * *

الفرار من الظلم والاضطهاد

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) واستقرّوا فيه. ولكن لماذا جاءوا إليه؟ هل أرادوا الخلوة للعبادة أو للتأمّل أو للعزلة عن الناس ـ كما يفعل النسّاك في العصور السابقة في ما يحدّثنا به التاريخ عن الكثيرين منهم ـ أم أنهم أرادوا الفرار بأنفسهم من اضطهاد الظلمة أو الكفرة الذين يضغطون على حرية المؤمنين والمستضعفين؟

إن الآية لا تصرّح بشيء من ذلك ، ولكن الروايات تؤكد موضوع الفرار من الاضطهاد. فقد جاء في تفسير القمي ـ كما نقل عنه صاحب الميزان ـ عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، قال : إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات ، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام ، فمن لم يجبه قتله ، وكان هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون الله عزوجل ، ووكل الملك بباب المدينة ، ولم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام ، فخرج هؤلاء بعلّة الصيد ،

٢٧٩

وذلك أنهم مروا براع في طريقهم ، فدعوه إلى أمرهم فلم يجيبهم ، وكان مع الرّاعي كلب ، فأجابهم الكلب وخرج معهم.

قال عليه‌السلام : فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هربا من دين ذلك الملك ، فلما أمسوا ، دخلوا إلى ذلك الكهف والكلب معهم ، فألقى الله عليهم النعاس (١).

وقد تكاثرت الروايات في الحديث عن خصوصياتهم وخصوصية الملك الذي كانوا في زمانه ، وكيفية خروجهم ، وما إلى ذلك من أمور لا دخل لها بالفكرة القرآنية في نطاقها العام. ولكن الروايات تتفق على فكرة الخروج على أساس التخلّص من ظلم الظلم الكافر ، الذي يريد أن يفرض على الناس وعليهم عبادة الأصنام ، بالقهر والتعسّف. ولم يكن بهم قدرة على المواجهة أو العيش في ظل هذا الجوّ الضاغط ، لأنهم لا يجدون مبررا للخضوع له ، ليكونوا بانسجامهم مع الكفر مصدر ضلال للناس ، فكانت خطتهم الهرب والخروج إلى منطقة خفيّة يبتعدون بها عن مواطن الضغط الشديد ، ليستطيعوا التخطيط بهدوء للمرحلة المقبلة. وقد يكون اختيارهم لهذا الكهف ، الذي يبدو أنه لم يكن بعيدا عن البلد ، ليكونوا قريبين إلى الناس هناك ، فلعلهم يأتون إليهم أفرادا ، أو لعلّهم يذهبون في الليل خفية عن الأعين ليجتمعوا بهم ، ليتابعوا الدعوة إلى الإيمان ، لأنهم لا يريدون الهروب من المسؤولية. وربما كانوا حائرين في أمرهم ، لا يعرفون السبيل إلى الامتداد في خط الدعوة ، ولا يملكون الخطة التي يواجهون بها المرحلة ، فأرادوا أن يأخذوا بعضا من الوقت للتفكير وللابتهال الخاشع إلى الله ليلهمهم الصواب ، في ما يريدون الانطلاق فيه.

قد يكون هذا كله ، أو بعضه ، هو ما كانوا يعيشونه عند ما اندفعوا إلى

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٢٧٦.

٢٨٠