تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الإيمان مصدر كل قوة

وهذا حديث عن حركة الرسالات في التاريخ ، من أجل أن يأخذ المسلمون منه الدرس ، ويعرفوا أن القوّة المهيمنة لا تمثل الحالة الضاغطة التي تشل قدرة المستضعفين عن الحركة ، وتجمّد مواقفهم عن الرفض ، وتسقط مواقعهم عن الامتداد ... بل يمكن لهم أن يأخذوا من قوّة الموقف الإيماني قوّة جديدة تفرض نفسها على الأقوياء ، مستندين إلى الإيحاء الدائم بأن الله مع الذين آمنوا ، وأن القوّة ليست مطلقة للذين يملكونها ، ففي داخل كلّ واحد منهم مواقع للضعف ، وأن الضعف ليس مطلقا للذين يعيشونه ، ففي ساحة كلّ واحد منهم موقع للقوة ... فلا بد من التماسك أمام حالات الاهتزاز النفسي ، ليملك المؤمن نفسه ، وليكتشف التوازن بين مواقع الضعف ومواقع القوة في دائرته ودائرة الآخرين ، ليعرف كيف يؤكد المواقف على هذا الأساس ، ويتعرف ـ من خلال ذلك ـ على آفاق رعاية الله له في الحياة.

* * *

الله تعالى يحقق التوازن بين فرعون وموسى

وهذا ما نتمثله في هذه الآيات التي يختصر الله فيها قصة موسى عليه‌السلام في كلمات قليلة ، توضّح لنا كيف واجه موسى عليه‌السلام قوّة فرعون ، وكيف حرّك الله له في ساحته الآيات التي هزمت نفسيته ، وكيف تعامل معها في الضغط على فرعون.

٢٤١

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) والظاهر أن المقصود بها هي ما أشار إليه في آيات أخرى ، من العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفدع ، والدم ، والسنين ، ونقص الثمرات ، وبذلك هيّأ الله سبحانه وتعالى الإطار الموضوعي والتربة الخصبة لحركة موسى عليه‌السلام الرسالية على صعيد تبديل المناخ الانهزامي السلبي الذي كان يفرضه فرعون على بني إسرائيل ، وذلك من خلال ما تحمله هذه الآيات من إشارات وآمال على مستوى التدخل الإلهي لإنقاذهم مما هم فيه. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ) موسى ، فأثارهم فيهم روحا جديدة من القوّة التي توحي بالثقة العميقة بعد أن عاشورا الانسحاق النفسي الذي أفقدهم حركة الإرادة الرافضة أمام جبروت فرعون ، حتى اعتبروا الضعف الكامن فيهم قضاء وقدرا ، لا يملكون مواجهته بوسائلهم الخاصة ، وكان لا بد من الصدمة التي تتمثل بالمعجزة الخارقة التي تؤكد لهم (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ، وأن الجبار لا يملك قدرة مطلقة ، بل إن قوّته مستعارة من ضعف الآخرين ، أمّا قدرة الله ، فهي القوة التي لا تقف عند حدّ ، وعلى المؤمنين أن يعتمدوا عليها ، ليواجهوا التجربة من موقع الانفتاح.

فاسألهم عن تجربتهم التي عاشوها من خلال ما تستنطقهم في أخبارهم عند ما جاءهم موسى عليه‌السلام بالبينات وواجه فرعون (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) فلم يكن يفهم كيف يمكن للروح أن تستيقظ من موقع المعرفة لتأخذ لنفسها القوّة ، ولم يستطع أن يستوعب ما هو معنى التحدي في الرساليّ الذي يحمل الرسالة لتكون قوّة للإنسان في الفكر والروح والحياة ، وكيف يمكن للإنسان الذي يتصل بالله أن يعيش الحرية الرافضة لكل ألوان العبودية ، لأنه لم يعش تجربة سابقة في هذا المجال ، فالناس الذين يعيشون معه ، هم ممن يتزلّفون إليه ليحصلوا على أطماعهم منه ، أو ممن يخافون منه فيتساقطون أمام جبروته ... ولم يكن ليفكّر بأن هناك وجها آخر للحياة ، يطلّ على عالم جديد من الفكر والحرية والإيمان ... كان السحر هو الذي يفسر الظواهر غير

٢٤٢

المألوفة ، لأنه الأسلوب الذي يصوّر للإنسان الأشياء التي تبهر الأبصار ، وتأخذ العقول ، وتتحوّل إلى حالة معقّدة في حياته بحيث يتصرف بطريقة غير مألوفة ، وبذلك يكون السحر هو التفسير الذي يملكونه ، لمواجهة مسار الأنبياء الذين يتحركون بشكل غير معروف ، من خلال ما يقولون وما يفعلون ، ولهذا كان ردّ الفعل لدى فرعون أنه اعتبره خاضعا لعملية سحر قام بها بعض السحرة ضده ، فأصبح يتحرك بطريقة غير معقولة ، ويتكلم كلاما غريبا لا ينسجم مع طبيعة الواقع.

ولكن موسى عليه‌السلام كان يعيش الثبات في الموقف والانفتاح في آفاق الرسالة ، فلم ينفعل ولم يسقط أمام التحدي الفرعوني ، الذي يتعاطى كما لو كان مريضا بالصرع الناشئ من السحر.

* * *

ليس للسحر أي عمق واقعي

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) من الآيات البينات التي توحي بالقوّة الخارقة التي لا يملكها أيّ ساحر ، لأن السحر لا يمثل أيّ عمق في الواقع ، بل يمثّل تغيير الشكل ، ويبعث الاهتزاز في حركة الصورة في وعي البصر ... بينما تتحرك هذه الآيات لتصنع واقعا جديدا في بعض مظاهر حياة الناس ، مما يدلّ على أنّ هذه الأمور ليست من صنع البشر ، بل لم ينزلها (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لتكون (بَصائِرَ) تفتح عيون الناس ، الذين يكفرون بالله وبرسله ، على الحقيقة التي يرتكز عليها الإيمان ، ليفكروا في المسألة من جانب آخر غير الجانب الذي تعودوا أن يوجهوا التفكير نحوه ... وهذه هي مهمة الآيات التي ينزلها الله ، فهي ليست عرضا للقوّة لينبهر الناس بها في حالة انفعالية ، بل هي

٢٤٣

تحريك للفكرة ليقتنع الناس بالحق من خلالها ، وليكتشفوا ما لا يستطيعون اكتشافه إلا من خلالها ، بفعل الضغوط التي يواجهونها في حركة العقيدة في حياتهم.

وهكذا أثار موسى عليه‌السلام أمام فرعون الحقيقة حول السر الذي يختفي وراء هذه الآيات ، ليفكر بذلك في اتجاه جديد. ثم انطلق ليردّ التحدّي الذي مارسه فرعون ضدّه في مجال التجريح الشخصي ، فإذا كان يظنه مسحورا لأنه دعا إلى الإيمان بالله ، فإن موسى عليه‌السلام يوجّه إليه الإنذار بالحقيقة المرعبة الحاسمة التي تنتظره ، وهي الهلاك : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً). والثبور هو الهلاك ، وقد عبّر بالظن محاكاة لأسلوبه في التعبير ، فالمسألة لدى موسى عليه‌السلام هي مسألة يقين بالمصير الذي ينتظر هذا الطاغية. وربما أراد موسى من هذه الكلمة شيئا آخر غير ردّ الفعل لمسألة التحدي ، وهو إثارة الاهتمام لديه بالقضايا التي أثارها معه في موضوع الإيمان بالله ، والابتعاد عن السلوك الطغياني ، وذلك من خلال إثارة مسألة الهلاك أمامه في نطاق الجسد والروح ، ليعود إلى نفسه في فترة التأمل الذاتي ، أو في حالة الخوف النفسي ، في ما يمكن أن ينتظره من المصير المظلم في الدنيا والآخرة ، ولكن فرعون لم يرجع إلى نفسه ، ولم يركن إلى ربه ، فتعاظمت نفسه لديه ، وأخذته العزة بالإثم. وربّما كانت كلمة موسى عليه‌السلام عنصرا مثيرا مضادا في طبيعة المواجهة. ولذا بادر ، كما يبادر الكثيرون من الطغاة ، إلى التصرف بطريقة طاغية استفزازية ، ليخنق هذه الانتفاضة الجديدة لحركة الحرية المنبثقة عن روح البسالة ، وليسحق الروح التي بدأت تثير في الساحة الكثير من حالات التململ الذي يقود إلى التغيير على أساس الإيمان بالله ، الذي يقود النبي موسى عليه‌السلام حركته تحت لوائه.

* * *

٢٤٤

بين إسقاط الطاغوت وإقامة العدل

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فيزعجهم في رزقهم وفي أنفسهم وفي كرامتهم ، ليعيد إحكام تأثير سطوته عليهم. وحدثت أحداث كثيرة ، وكان الاضطهاد الكبير الذي تعاظم حتى لم يعد محتملا عند المستضعفين ، وكان موسى عليه‌السلام يخطط للانتقال إلى مواقع جديدة للقوة ، حيث يتخفف فيها المؤمنون من الضغوط القاسية الصعبة. وجاء عقاب الله بطريقة غير عادية ـ كما حدثنا به القرآن في أكثر من آية ـ (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) ولم يبق منهم أحد. وبدأت المواقع الجديدة تفسح المجال للمستضعفين ، ليأخذوا دورهم في الحياة من جديد ، ليخوضوا غمار الحرية في حركتهم الرسالية ، وليعرفوا أن القضية ليست في سقوط الطاغوت ، بل هي في معرفة كيفية إقامة العدل في الساحة التي دمرها الظلم ، وعدم التحوّل في مواقع السلطة إلى طاغوت جديد.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) وأطيعوا الله ورسوله في ما يأمركم به وينهاكم عنه ، مما يقربكم إلى الحق ، ويبعدكم عن الباطل ... (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) في يوم القيامة ، وجاءت ساعة الحساب التي يثاب فيها المحسن على إحسانه ، ويعاقب فيها المسيء على إساءته ، (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي مجموعا ملفوفا بعضكم إلى بعض ، لتواجهوا ما كنتم تختلفون فيه ، فيفصل الله بينكم في ذلك كله.

وهناك احتمال آخر ، في تفسير كلمة (وَعْدُ الْآخِرَةِ) وذلك بأن يكون المراد به «ما ذكره الله ـ سبحانه ـ في أول السورة في ما قضى إلى بني إسرائيل بقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ

٢٤٥

مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) وإن لم يذكره جمهور المفسرين ، فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره ، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها ، حتى إذا جاء وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والأسر والجلاء ... جمعناكم منها ، وجئنا بكم لفيفا ، وذلك إسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل (١).

ولكننا نلاحظ على ذلك ، أن مجرد وحدة الكلمة في الموردين لا يعني اتفاق المعنى ، لأن الكلمة تأخذ مضمونها من خلال السياق الذي يحيط بها ، ولهذا فإن السياق هنا ، يرتكز على مسألة فريق فرعون وفريق موسى ، اللذين اختلفا في الدنيا ولم يصلوا إلى نتيجة حاسمة في موقع متوازن تتعادل فيه القوى ، ويتحرك فيها الحوار على هذا الأساس ، فيريد الله أن يجمعهم في الآخرة ليفصل بينهم في ما كانوا فيه يختلفون.

وبذلك فإن التفسير الذي جاء به جمهور المفسرين هو الأقرب إلى ظاهر الآية ؛ والله العالم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٢١٥ ـ ٢١٦.

٢٤٦

الآيات

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩)

* * *

معاني المفردات

(فَرَقْناهُ) : فصلناه.

(عَلى مُكْثٍ) : بتمهّل وتأنّ.

(يَخِرُّونَ) : يسقطون.

* * *

٢٤٧

القرآن قاعدة الهدى والحق

ويعود الحديث عن القرآن ، باعتباره الكتاب الذي أراده الله أن يكون قاعدة للهدى ، وأساسا لحركة الحق في الفكر والحياة ، لينطلق الإنسان في مسيرته من موقع الثبات القائم على الوحي المنفتح على الكون كله في جميع أوضاعه ، وعلى العقيدة كلها في جميع تفاصيلها ، وعلى الإنسان كله في جميع أفراده وامتداده في حركة الزمن ، فهو الحقيقة الثابتة التي لا مجال للشك فيها ، ولا موضع للزيادة والنقصان في آياتها.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) فقد أراده الله أن يكون مصدرا للحقيقة في حياة الإنسان ، من خلال ما يمثله من فكر ومنهج وتشريع ، ليركز الوعي على أساس ثابت قويّ لا يهتز ولا يزول ، فليس هناك عبث ولا لغو باطل في أيّ موقع من مواقعه ، لأنّ الله هو الحق ، ولا يمكن أن يصدر منه إلّا الحق الذي تلتقي فيه الوسيلة بالهدف ، والنظرية بالتطبيق في انسجام كامل.

(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) وذلك من خلال ما يبلّغه الرسول من آياته بكل صدق وأمانة ، فلا يضيف إليه منه أيّة كلمة مهما كانت ، لأن دوره هو دور المبلّغ الذي لا يملك الحق في أيّ تغيير بالنص الموحى به من الله سبحانه وهكذا نزل بالحق في ما كان يريد أن يؤكده من مبادئ وأفكار ، أو يحققه من مواقف ومواقع وأوضاع. وقد أراد الله للقرآن أن يثبّت الحق في الحياة وفي الإنسان ، وكان لله ما أراد في حركة القرآن في خط التبليغ والحركة والواقع.

وإذا كان القرآن قد أكّد على الحق ، كأساس للخط الذي يتحرك فيه الإنسان من خلال المضمون الفكري والتشريعي والعملي ، فلا بد لنا من أن نستوحي ذلك في كل أوضاعنا العامة والخاصة على مستوى الكلمات

٢٤٨

والمشاريع والعلاقات والخلفيات النفسية لذلك كله ، فلا مجال للباطل في شخصية الإنسان المسلم الذي يعتبر القرآن دستورا له ، وعنوانا لحركته في الحياة ، مما يفرض العمل على التوازن في التخطيط التربوي على صعيد صنع الشخصية الإنسانية.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) لتبلّغ الناس كيف تكون البشارة بالجنة للعاملين في خط الطاعة لله ، وكيف يكون الإنذار بالنار للسائرين في خط معصيته ، وليس لك أن تغيّر أو تبدّل ما أرسلت به من كتاب.

* * *

المغزى من إنزال القرآن تدريجيا

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) أي فصلناه ، ونزلناه آية آية وسورة سورة ... (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي على مهل وتؤدة ، ليتفهموا الفكرة بشكل تدريجيّ عند ما ينزل القرآن ليرسم الخطوط العامة ويحرّك التفاصيل من خلالها في نطاق المشكلة الطارئة التي تعتبر كنموذج لمشاكل مماثلة ، أو في نطاق السؤال الذي يلتقي بأكثر من علامة استفهام مماثلة ، أو ليشجّع حركة في آفاق الجهاد ، أو ليقوّي ضعفا في ساحات الصراع ، أو ليثير جوّا نفسيا معينا في مجالات التحدي ، أو ليؤكد موقفا أو يثبته في حالات الاهتزاز ، أو ليعالج قضية بارزة من قضايا الفكر ، أو ليفسح المجال لتشريعات متنوّعة في حركة الواقع الإنساني ، أو ليضع المنهج للفكر والأسلوب والحركة ... وهكذا أراد الله للقرآن أن ينزل ليرافق حركة الرسالة في خط الدعوة والجهاد ، ليواكب كل مراحلها ، وليسدّد خطواتها ، ويحلّ لها المشاكل المتحركة على أكثر من صعيد ، على مستوى النظرية والتطبيق ... ليوحي بالحركة ـ النموذج ، إلى جانب الفكرة ـ الخط ، مما يجعله يمثل حركيّة الإسلام في امتداد التجربة ،

٢٤٩

وبهذا الأسلوب استطاع أن يربّي جيل الإسلام الأوّل الذي احتواه القرآن بآياته ، حتى عمّق في داخله أخلاقية الرسالة ، وقوّة الإيمان ، وفاعلية الحركة ، لأن الإنسان لم يكن منفصلا في حياته عنه ، بل كان يلاحق خطواته أينما كان ، ويفرض نفسه على ذهنه ، فلا يستطيع الهروب منه أو الوقوف موقف اللامبالاة أمامه ، لأن الواقع الذي عالجه كان يتمثل في صميم حياته.

ولو نزل القرآن دفعة لما كان له هذا التأثير التربوي ، بل ربّما أهمل الكثيرون من الناس قراءته نتيجة ضغط أشغالهم ، أو وجود بعض الصوارف الخاصة التي تمنعهم من ذلك ، كما يحدث للكثيرين من الناس الآن. وهذا ما ينبغي لنا أن نتمثله في حركة الدعوة ، أو في خط الجهاد ، أو في ساحة الصراع ... فنثير القرآن في كل موقع مناسب وفي كل حالة ملائمة ، لنجعل المسيرة منطبعة بطابعه ، ومتحركة بحركته ، في سبيل الوصول إلى الشخصية القرآنية المنطلقة من مفاهيم القرآن وتشريعاته.

وهكذا أراد الله للنبي أن يقرأه على الناس بتأنّ ومهل ، ليتفهموه بهدوء ، ويعيشوه بعمق ، ويبتعدوا بذلك عن طابع السرعة والانفعال. (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي أنزلناه على مهل ، وهذا هو معنى التنزيل في كتب اللغة ، وبذلك تكون الجملة توضيحا لما سبق.

* * *

تأثير القرآن وامتداد الزمن

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فلن يتوقف الأمر عليكم ليتحدّد موقع القرآن

٢٥٠

تبعا لموقفكم منه ، من خلال ما قد تتخيلونه من أن الإيمان به يمنحه كل القوّة ، وأن الكفر به يضعفه ويسقطه عن التأثير والاعتبار. فقد يكون هناك قوم آخرون غيركم ، ممن يعيشون في هذه المرحلة ، أو ممن يأتون بعدها ، وهم الذين يملكون العلم عن دليل وبرهان ، ويعرفون سرّ الإعجاز فيه ، وسموّ العظمة في أسلوبه ومضمونه ، فيفهمونه جيدا ، ويخضعون له لإيمانهم العميق به ، لأن العلم المنفتح هو الذي يفتح للإنسان أبواب الإيمان بالله وبرسالاته وبرسله.

(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزوله ، سواء كانوا ممن أوتوا الكتاب ، وهم أهل الكتاب المؤمنون الواعون ، أو كانوا من غيرهم ، وهم الحنيفيون الذين ساروا على الخط المستقيم في التوحيد وتمردوا على خط الشرك. (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) القرآن في آياته التي تجسد عظمة الله ، (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) في تعبير صارخ عن الخضوع المطلق لله والانسحاق أمامه ، باعتبار أن السجود أعلى مظاهر الخضوع ، ويمكن أن يكون ذكر الأذقان ، باعتبار أن الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند السجود ، أو يكون المراد بها الوجوه على نحو المجاز تعبيرا عن الكل بالجزء ، وهؤلاء الذين يسجدون لله بهذه الروح الخاشعة الذليلة ينطلقون معرفتهم بالله الذي يطلّ بهم على عظمته وأسرار قوّته.

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) في إحساس عميق بعظمة الله ، وانفعال بها ، وتسبيح خاشع يثيرها في انفتاح الروح على الله.

(إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا) وهو إدخال عبادة المتّقين الذين أخلصوا له في الفكر والعمل الجنّة (لَمَفْعُولاً) ثابتا في مواقع الصدق ، فلا بد له من أن يتحقق في موعده فلا يتخلّف عنه.

* * *

٢٥١

الإيمان حركة شعورية وتعبدية أيضا

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) في تعبير متحرك ناطق عن الروح الخاضعة ، بالسجود في مظهر ، وبالدمع في مظهر آخر ، ليشترك الكيان كله في التعبير عن موقف الإنسان من الله في خط العبوديّة الذي يتحرك في حالة تصاعديّة تبعا للحالة الروحية المتنامية ؛ (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) وتذلّلا على أساس أن التعبير عن المشاعر القلبية كلما ازداد إلحاحا ، كلما ازداد تأثيرا في نموّ الحالة النفسية ، لأن الممارسة تزيد في النمو الداخلي للروح وللضمير.

ونلاحظ ، في التأكيد على جانب التعبير عن الإيمان بالله ، بالهويّ إلى الأرض بالسجود ، وبالاندفاع في البكاء في حالة نفسية من الإجهاش الروحي أمام الله ... بأن حركة الإيمان ليست مجرد حالة تجريدية في الذهن ، بل هي ، إلى جانب ذلك ، حركة في الشعور وفي التعبير ، وزيادة في تعميق الذل الإنساني في عبودية الإنسان لله ، لتكون المعرفة معنى في النفس وشعورا في القلب وحركة في الإيمان وفي الواقع.

* * *

٢٥٢

الآيتان

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١)

* * *

معاني المفردات

(تَجْهَرْ) : ترفع صوتك.

* * *

مناسبة النزول

ولعل هذا الاستيحاء من الآية كان منطلقا مما رواه في الدر المنثور ، عن ابن عباس أنه قال : «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ذات يوم ، فدعا الله فقال في دعائه : يا الله ، يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ، ينهانا

٢٥٣

عن أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين. فأنزل الله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية»(١).

فإن نلاحظ على ذلك ، أن هذا التوجيه لا يظهر من الآية ، فإن الظاهر منها هو التأكيد على عدم الاقتصار على أيّ اسم من أسماء الله في الدعاء ، لأنها ـ بأجمعها ـ تشير إليه ، وليست في معرض الحديث عن تعدد الآلهة في العبادة ووحدتها. وقد يكون من البعيد أن الوثنيين يتوجهون إلى الأسماء حتى لو كان مظاهرها الأبناء من الملائكة والجن ، فإن التدبّر في حديث القرآن عن هؤلاء يوحي بأنهم يعبدون الأوثان أو الملائكة أو الجن ، باعتبار قربهم إلى الله ، بطريقة أو بأخرى ، لا باعتبار أنهم مظهر الأسماء أو ما يقرب من ذلك ؛ والله العالم.

* * *

أسماء الله ليست توقيفية

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) أو أيّة كلمة من أسماء الله تريدون أن تدعو الله بها. (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فإن العبرة بالمضمون الذي تدل عليه الكلمة ، في ما تدل عليه من ذات الله ، فلا مشكلة لأنه هو الذي يعطي الاسم حسنه وقداسته ، مما يجعل أيّ اسم من أسمائه اسما حسنا.

وقد نستوحي من هذه الفقرة من الآية أن أسماء الله ليست توقيفية ، فللإنسان أن يدعوه بأي اسم يعبر به عمّا يتناسب مع جلاله وكماله ، فليست هناك حالة رسمية على مستوى المصطلح. وهذا ما نلاحظه في كل الأسماء

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٥ ، ص : ٣٤٨.

٢٥٤

التي وردت في القرآن في التعبير عنه بصفاته ، كالحليم والكريم والجبّار والمتكبّر والغني والعليم والقادر والقوي والقاهر وأمثالها ، مما لا تجد فيه أيّة خصوصية إلا دلالتها على مضمون الصفة التي يراد دعوة الله بها ، من خلال ما يريد الإنسان إثارته أمام الله من خلالها.

وقد يكون الحديث عن كلمة الرحمن بالخصوص ، لأن العرب كانوا لا يألفون هذه الكلمة في حديثهم عن الله ، كما يظهر من الآية الكريمة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان : ٦٠].

وربما استوحى بعض المفسرين من الآية تأكيدها على توحيد الذات وتوحيد العبادة ، في مقابل ما يراه الوثنيون من توحيد الذات وتشريك العبادة ، وذلك لأنهم يعتبرون تعدد الأسماء في دعوة الله مظهرا لتعدد العبادة ، لأنها هي التي يتوجه إليها الناس ، أما الذات الإلهية المقدسة ، فهي أرفع من أن يتمكن الناس من التوجه إليها. وجاءت الآية لتكشف وجه الخطأ في رأيهم ، بأن هذه الأسماء مهما تنوّعت ، فإنها تكشف عن الذات المقدّسة ولا تمثل شيئا مستقلا في نفسه.

* * *

اعتدال الصوت في الصلاة

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) أي لا ترفع صوتك بالصلاة فتبالغ به ، ولا تخفض صوتك به حتى لا يسمعك أحد أو لا تسمع نفسك ، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) واجعله معتدلا متوسطا بينهما ، لأن جوّ الصلاة يفرض التوازن في طريقة التلفظ بكلمات القرآن أو الدعاء أو التسبيح ، فإن ذلك يساهم في استيعاب المضمون بطريقة هادئة روحيّة ، لا تجعل الكلمة تغيب في الهمس ،

٢٥٥

ولا تصرخ في الجهر ، بل تتحرك في وعي السمع بما يضمن نفاذها إلى القلب ، وانسيابها في الروح.

وقد اختلف الرأي في أن الحكم يشمل كل صلاة ، باعتبار أن ما يراد بكلمة (بِصَلاتِكَ) الاستغراق ، أي كل صلاة ، فيكون حكما لكل صلاة ، أو أن الحكم يتعلق بالمجموع من حيث المجموع ، أي أن لا يجهر بجميع الصلوات ولا يخافت بها ، بل يجهر في بعض ويخافت في بعض ، ولكن الظاهر هو الأوّل ، لأن الآية في معرض الحديث عن طبيعة الجو الصلاتي ، لا عن أفرادها ، وذلك من خلال الطريقة التي يقرأ بها المصلي ، مما لا يتناسب مع التفريق بين صلاة وأخرى.

وإذا كانت بعض المذاهب الإسلامية تفرض الإخفات في القراءة في الظهرين والجهر فيها في الصبح والعشاءين ، فلا بد من الالتزام معها بالتخصيص بحالة القراءة أو بتوجيه ذلك بأسلوب آخر. وذلك متروك للبحث الفقهي.

تربية النفس بالتوجه الى الله

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) وهذه هي الكلمة التي يريد الله للإنسان أن يقولها في كل زمان ومكان ، ليعمّق في وعيه الفكري الإحساس الوجداني بالله في مظاهر عظمته ومواقع نعمته ، فيتوجه إليه بالحمد والثناء ، من الموقع المنفتح على آفاق العظمة لديه ليزداد إيمانا في كل كلمة حمد ، ويتعمّق توحيديا في كل التزام بنفي الولد عنه ورفض الشريك له ، في العقيدة والعبادة ، ليقف الإنسان أمام الله الواحد ، فلا يتوجه إلى غيره ، ولا

٢٥٦

يخضع لسواه. إنه التوجيه التربوي الذي يريد أن يؤكد العقيدة في داخل النفس ، أمام أيّة حالة اهتزاز أو ارتباك ، فلا يكفي أن تظل خاطرة في الضمير ، بل لا بد من أن تكون حركة في التعبير.

* * *

كلما عظم الله في النفس صغر الآخرون

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) في الوعي الداخلي الذي يدخل دائما في مقارنة بين عظمة الله وبين الآخرين ، ليشعر بأن الله أكبر من كل شيء ، وأقوى من كل وجود ، لأنه هو الذي يعطي الأشياء حجمها وقوتها ، وهو المهيمن على ذلك كله. وكلما عظم الله في النفس ، صغر الآخرون في الذهن ، فينعكس ذلك على الفكر والحركة والعمل.

* * *

٢٥٧
٢٥٨

سورة الكهف

مكيّة

وآياتها مائة وعشرة

٢٥٩
٢٦٠