تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

المكانة عند الله ، ولذلك فإن الله يوكل إليه المهمّات المرتبطة بالغيب وبالوحي ، بمفرده ، أو مع الملائكة ، في الدنيا أو في الآخرة ، وقد تتحدث بعض الأحاديث عنه ، بأنه جبرائيل ، أو أنه خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل. وأمّا ما ورد من الحديث عن الروح الذي أوحى به الله إليه ، أو تنزل الملائكة به ، فقد يكون المراد به الوحي الذي نزل على الرسول ، في القرآن أو في غيره ، باعتبار أنه يمثل الروح الذي يمد الحياة بالقوّة ، والإنسان بالنور الإلهي في حركة الوجود من حوله.

* * *

التّساؤل عن معنى الرّوح

أما هذه الآية التي نحن بصددها (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فقد يمكن أن يكون السؤال فيها عما تردد من الحديث عن الروح في أكثر من آية ، مما جاء بشكل مبهم لا تحديد فيه ، الأمر الذي أثار علامة استفهام لدى الناس. وربّما كانت المسألة معرفة ما يراد من هذه الكلمة في جميع مواقع استعمالها ، لأنها لا تمثل لديهم أيّة صورة تفصيلية ، باعتبارها من الكلمات الغامضة لديهم. وبهذا كان الجواب أنها من أمر الله الذي لا يملك معرفته إلا هو ، لأنه من الأمور البعيدة عن عالم الحواس الذي يمكن أن يطل الإنسان ـ من خلاله ـ على مفردات المعرفة الحسية ، ولكنه لا يملك أيّة وسيلة للإحاطة بالأمور التجريدية.

وقد يكون من البعيد أن يكون المراد بالروح هنا القرآن ـ كما جاء في بعض التفاسير ـ لأنه ليس أمرا غامضا لديهم حتى يسألوا عنه ، كما أن إطلاقه عليه كان على سبيل الاستعارة ، لا الحقيقة.

وقد ذكر بعضهم أن المراد به الروح الإنساني ، لأنه المتبادر من إطلاق

٢٢١

الكلام ، ولهذا كان الجواب بالنهي عن التوغل في فهم حقيقته ، لأنه مما استأثر الله بعلمه. وقد يكون هذا الوجه قريبا ، باعتبار أنه الأقرب إلى أفكارهم بحسب مضمون الكلمة عندهم ، ولا يلتفت إلى قول من قال ، بأن التبادر ممنوع في كلام الله تعالى ، لأنّ المسألة ، هنا ، هي مسألة سؤالهم عن الكلمة في ما يدور الحديث عنها ، وما يتصورونه منها ، فهي من كلامهم لا من كلام الله. وقد جاءت الآية لتنقل حديثهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإذا كان الكلام من الله ، بقطع النظر عن هذه الملاحظة ، فإن كلامه ككلام غيره ، في ما يتبادر منه ، لأنه يجري كلامه على حسب ما لدى الناس من مصطلحات وإطلاقات ، لأنه يخاطب عباده بما يفهمون.

ولكن هناك ملاحظتين أمام هذا الوجه :

الأولى : أن الظاهر هو أن المسؤول عنه ، هو الكلمة ، في مواقعها في القرآن ، ولم يرد ـ فيه ـ استعمالها بمعنى الروح الإنساني.

الثانية : أن المسلمين ، أو العرب ، في صدر الدعوة ، لم ينقل عنهم أنهم كانوا يتعمّقون في فهم المعاني ، بحسب بعدها الفلسفي ، لتتحرك علامات الاستفهام لديهم من موقع الغموض الذي يلفّها ، فإنهم إذا أطلقوا كلمة الروح ، فإنما يطلقونها باعتبار ما تعبّر عنه من معنى الحياة أو الذات أو ما يقارب ذلك ، لا باعتبار المعنى المقابل للمادّة ، ليكون السؤال عن هذه الطبيعة التجريدية الخفية التي تكون سرّ الحياة.

ولكن لا مانع من أن يكون السؤال منطلقا بلحاظ سرّ الحياة الذي لا يملكون الوضوح في معرفته ، لا بلحاظ المعنى المقابل للمادة ، بالنظرة الفلسفية. ويؤيد ذلك ما جاء

في بحار الأنوار عن أبي بصير عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما‌السلام قال : سألته عن قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : التي في الدواب والناس ، قلت : وما هي؟ قال : هي من

٢٢٢

الملكوت ، من القدرة». (١)

وقد حاول صاحب تفسير الميزان أن يجعل الجواب (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) تفسيرا لكلمة الروح. قال : «فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد ، وهو فعله تعالى الخاص به ، الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية ، وهو الوجود الأرفع من نشأة المادة وظرف الزمان ، وأن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت ..» (٢).

ولكن المتبادر من الجواب ، أن الله لم يرد أن يعرفهم طبيعتها باعتبارها من أمره ، لأن ذلك لم يوضّح أيّ شيء عندهم ، في ما هو حقيقة المعنى ، لأن كلمة الإيجاد تمثل مصدر الوجود لا حقيقته ، كما أنه من الأمور المعروفة لديهم ، في ما يعتقدونه من تعلق الإرادة الإلهية بوجود الأشياء ، بشكل مباشر أو غير مباشر. ولهذا فإننا نستقرب أن يكون الجواب واردا لبيان أنها من الأمور التي استأثر الله بها مما لا يستطيعون الإحاطة به ، لأنه ليس من الأمور التي تقع في دائرة الحس ليملكوا الوسائل إلى معرفتها ، لأن التعرف على الأشياء لا يتم إلا بالوسائل التي يملكها الإنسان في فكره ووجدانه. وعلى هذا الأساس ، تنسجم الفقرة التالية مع صدرها (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) كإشارة إلى أنهم لا يملكون الكثير من العلم ، لأن مصادر المعرفة محدودة لديهم ، في ما يتصورونه أو يتعرفون عليه من خلال الحس ؛ والله العالم.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٢٠ ، ج : ٥٨ ، ص : ٢٩ ، باب : ٤٢ ، رواية ١٤.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ٢١٠.

٢٢٣

الآيتان

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (٨٧)

* * *

دور الله تعالى في حركة العلم

وهذا حديث بالإيحاء للنبي ولمن اتبعه ، في شأن هذا القرآن ، الذي أوحى الله به إليه ، ليفتح له من خلاله أبواب العلم ، في ما لا سبيل له إلى العلم بدونه ، أو في ما لا مجال له للوصول إلى نتيجة حاسمة في مضمونه. وأن الله هو الذي يحفظه ويركزه في وعي الإنسان ، ليبقى في ذاكرته ، فيستمد منه الوعي والإيمان والمعرفة ، وذلك تبعا لمشيئته التي أراد بها الرحمة للرسول ولأمته.

٢٢٤

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن ، الذي منحك ومنح الناس معك مقدارا من العلم ، بالأسباب التي يذهب بها العلم من الذاكرة أو من الكتب. (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) يرده إليك وإلى الآخرين ، لأن ما يأخذه الله فلا رادّ له إلا هو ، إذ إنّه هو الذي يملك ما لا يملكه أحد ، ويعطي الملك لمن يشاء في أي شيء ، ويمنعه عمن يشاء في أي موقع.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ينزلها عليك فتحفظ لك ذلك أو تزيده وتنمية ، ليفتح عليك أبواب المعرفة التي تتسع معها ساحات الحياة. (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) من خلال ما أعطاك من العلم ، وما رزقك من القوة الفكرية التي تركّز قواعده ، وتقوّي حركته في تقدّم الإنسان.

وقد يكون هذا الأسلوب في مواجهة وعي الرسول للقرآن ، ملفتا للنظر لما فيه من قوة التأكيد على الدور الإلهي الأساسي في حركة المعرفة وامتدادها ، كما هو في حركة الحياة لدى الرسول والناس ، بحيث لا يطمئن الإنسان لقوته الخاصة المنبثقة عن العناصر الذاتية الكامنة في شخصيته ، كما يغفل فيه عن علاقة الله بامتداد الحياة والعلم والقوة.

إن الأسلوب القرآني يتحرك من أجل تعميق الوعي التوحيدي في شخصية الإنسان ، في كل شيء يحيط به ، فلا يستسلم لمظاهر امتداد القوة لديه ، بعيدا عن التفكير في قدرة الله على إزالتها في كل وقت ، ولا يغفل عن طبيعة القدرة التي أوجدت في داخل الشخصية العوامل التي تساهم في الاستمرار في عملية القوّة الذاتية.

وهذا هو المنهج التربوي الذي ينبغي للعاملين في حقل التربية أن يحركوه ، من خلال ما يستحدثونه من أساليب وما يثيرونه من أفكار.

* * *

٢٢٥

الآيتان

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (٨٩)

* * *

معاني المفردات

(ظَهِيراً) : معينا.

* * *

التحدي القرآني على ساحة المعرفة

ويبقى التحدي القرآني يفرض نفسه على ساحة المعرفة ، ليثبت بذلك أنه كلام الله الذي يتضمن أسرارا في الشكل والمضمون ، بحيث لا يتمكن أحد من

٢٢٦

الإتيان بمثله ، وذلك لما يحتويه من دقائق وأسرار ، وما يتمثل فيه من بلاغة وفنّ ... ولا يقتصر الأمر على الإنس ، بل يتعداه إلى الجن الذين كان العرب يعتقدون أنهم يملكون قدرة خارقة فوق قدرة الإنسان ، فهم يقفون عاجزين أمام هذا التحدي ، فلا يستطيعون لمواجهته سبيلا. واستمر القرآن طيلة هذه القرون ، ولم يأت أحد بمثله يقابله في هذا الجو المتنوّع التأثير على عقول الناس وأرواحهم وشعورهم ... الذين يحسّون فيه بمثل السحر من خلال ما يملك من القوّة المهيمنة على كل كيانهم الفكري والروحي والشعوري.

وذلك هو الدليل على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه ليس كلام البشر ، نبيا كان أو غيره ، وأنه لا يمكن لأحد أن يزيد فيه شيئا مما لم يوح به الله ، لأنه لا يتناسب مع أسلوبه المعجز ، بحيث يبرز الفرق بشكل واضح بين ما هو القرآن ، وما هو التحريف فيه.

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) بكل ما يملكون من طاقات الفكر العلمية والأدبية (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في أسلوبه المعجز ، ومضمونه العميق الواسع المتنوّع ، وإيحاءاته الروحية والعملية ... (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وعضدا وناصرا ، لأن المسألة غير مشروطة بتكامل الطاقات في سبيل تكامل النص في الإبداع الفني ، بل مرتبطة بالسر الخفي الكامن في ذات النص ، مما يعيش الإنسان الإحساس به دون أن يستطيع التعبير عنه ، أو تقليده ، أو محاولة تقديم نموذج مماثل له.

وقد أشرنا إلى رأينا في مسألة «الإعجاز القرآني» أثناء تفسيرنا للآية ٢٣ في سورة البقرة ، فليراجع هناك.

* * *

٢٢٧

أساليب متنوعة في القرآن والهدف واحد

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) التصريف هو التكرير الذي تتنوّع فيه الأساليب والكلمات ، وتلتقي عند هدف واحد في التوعية المنفتحة على آفاق الحق في العقيدة والتشريع وحركة الحياة ، وفي تركيز الإرادة على الصلابة في الموقف ، في عملية الاختيار التي لا تهتز ولا تتزلزل أمام كل الضغوط النفسية المنطلقة من التهاويل والأضاليل والتحديات والمتغيرات المتنوّعة القادمة من كل اتجاه ، من خلال ما يمارسه الكافرون والمضلّلون والمنحرفون من وسائل وأساليب.

لقد جاء القرآن ليواجه حاجة الإنسان إلى التنوّع في انطلاقته في الحياة ، فأراده أن يتحرك من خلال المنهج السائر على خط الفكر والتجربة والمعاناة ، وهداه إلى الآفاق التي يمكن لها أن توسع نظرته ، وإلى المواقع التي يمكن لها أن تغني تجربته ، وإلى المواقف التي يمكن أن تحدد له طريقه وتركّز له هدفه. وهكذا فإن القرآن منطلق فكر ومنهج حركة ، من أجل أن يهتدي الإنسان إلى قيادة نفسه في الاتجاه السليم وإلى قيادة الحياة والآخرين إلى النهج الأقوم ، الذي ينفتح على الله في أكثر من أفق للمعرفة ، وينفتح على المعرفة في أكثر من مجال. ولكن الإنسان ينسى نفسه وينسى ربه ، فينسى موقعه في الكون ، ودوره في حركة المسؤولية وفي استلهام الوحي الإلهي في ما يحتاجه من قضايا المصير ، فيعيش اللامبالاة التي توحي له بالعبث والهروب من مواجهة الواقع المسؤول ، فيكفر بالله ، وتتعاظم ضغوط الغريزة والانحراف في حياته ، المتمثلة في سلوك الأكثرية كما أشار الله إلى ذلك : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) بالله وبالحق المنطلق من مواقع العقل ، الذي يكتشف الحقيقة في صفاء الفطرة والوجدان ، ومن مواقع العقل ، الذي يكتشف الحقيقة في صفاء الفطرة والوجدان ، ومن مواقع الوحي ، الذي يخطط لحركتها في التفاصيل الدقيقة من حياة الإنسان.

* * *

٢٢٨

الأكثرية في النظرة القرآنية

وتلك هي فكرة القرآن عن الأكثرية في المجتمع ، في حديثه المتكرر عن انحرافها عن خط الاستقامة في العقيدة والعمل ، لأنها تتحرك في مجرى التيار الانفعالي الذي ينطلق من تأثير الغريزة ، ومن التعاطي السطحي الذي يغري بالسهولة في مواجهة القضايا الحيوية في حركة الإنسان في الفكر والواقع ، ومن عمق العلاقة بالمنفعة المادية في ما يواجهه من سلوك وتطلّع ، مما يجعلها تستسلم لكثير من النوازع والمشاعر الذاتية الملتهبة المثيرة ، فتسقط في مواقع الانحراف ، بينما تظل الأقلية من الناس ، في مواقع الفكر المنفتح العميق الذي يصبر على مشاكل الفكر ، لتتابع من خلال ذلك الوصول إلى الحلول الملائمة ، كما تبقى في مواقف الإرادة القوية الصلبة التي تتحدى النوازع الذاتية لتنظّم حركتها داخل النفس والحياة ، وتواجه العوامل الخارجية القوية التي تريد أن تهزم في الإنسان قوّة الاندفاع للوقوف مع الرسالة والمبدأ ... وتثبت كذلك في مواقع الحرية والعدالة.

وليس معنى ذلك ، أن هذا هو قضاء الأكثرية وقدرها الذي لا يمكن لها أن تتجاوزه ، بل هو أمر واقع ناشئ من عوامل خارجية وظروف طارئة ، من خلال عدم وجود خطة طويلة لاحتواء الساحة وتوجيهها ، وتحريك العناصر الإيجابية الكامنة في داخلها ، والاستفادة من بعض العوامل الملائمة لحركة الرسالة ... لأن سنّة الله في الحياة قائمة على أن الكون لا يخضع لوجه واحد في حركته ، بل يتغير من حال إلى حال ، تبعا للعوامل الداخلية والخارجية المتنوعة الخاضعة لحركة التغيير.

ولهذا فإن علينا أن لا نستسلم للواقع الذي يتحرك من خلال الضغط

٢٢٩

الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي للأكثرية المنحرفة ، بل لا بد لنا من مواجهته بالدعوة والحركة والموقف ، من أجل الوصول إلى أكثرية جديدة ، قائمة على الأسس الرسالية التي نتبناها في خطنا الفكري ، مهما كانت التحديات كبيرة والظروف قاسية ، لأن الحياة لا تفتح ذراعيها إلا للذين لا يستسلمون للأمر الواقع ، ولا ينسحقون تحت وطأة عوامل الضعف ، ولا يهزمون أمام الأوضاع السلبية ... بل يعملون على تحويل عناصر الضعف إلى عناصر قوّة ، وإلى مواجهة الحالات السلبية بمواقف إيجابية ، وينظرون إلى الحياة نظرة واقعية في تعاملهم مع نقاط القوة والضعف ، من أجل خلق واقع جديد على إنقاض الواقع القديم.

وأخيرا إن القرآن عند ما يعالج مسألة الأكثرية من خلال النظرة السلبية ، فإنه يريد تأكيد المسألة من الناحية الواقعية ، على أساس أنها لا تمثل المقياس الصحيح للحقيقة ، كما يراه الناس في هذه الأيام ، بل ربما كانت تلتقي ـ على العكس من ذلك ـ بنظرة الباطل ، ولكن لا مانع من أن تلتقي بالحق إذا أحسن القائمون على حركة الرسالة السير معها بصدق وعزم وتركيز.

* * *

٢٣٠

الآيات

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٩٦)

* * *

معاني المفردات

(كِسَفاً) : بكسر الكاف جمع كسفة ، وهي القطعة من الشيء.

(قَبِيلاً) : القبيل : الكفيل أو الجماعة.

٢٣١

(زُخْرُفٍ) : زينة.

(تَرْقى) : تصعد.

* * *

الأنبياء والتصور المنحرف عنهم

لعل مشكلة الأنبياء هي في التصور المنحرف لدى الناس الذين كانوا يعيشون معهم عن فكرة النبوة والنبيّ ، فقد كانوا يعتقدون بأن النبوّة حالة غير عادية ، باعتبارها تفويضا إلهيا للنبيّ ، فقد كانوا يعتقدون بأن النبوّة حالة غير خرقة ، لأنه وكيل تفويضا إليها للنبيّ بأن يتحرك في الأرض مع الناس بقدرة خارقة ، لأنه وكيل الله لدى الإنسان ، فيجب أن يتمتع بإمكانات عظيمة يغيّر بها الكون ، ويحكم بها الحياة ، فيعمل كل ما يريد ، أو ما يراد منه ، من تغيير ظاهرة كونية ، أو الإتيان بما يعجز البشر عن مثله.

لذا كانوا يتصوّرون أن النبي لا يمكن أن يكون بشرا ، وكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يملك مثل هذه القدرة المطلقة ، فقد مثل ذلك مشكلة في علاقة الناس به وإيمانهم برسالته ، مما أثار في فكرهم حالة شكّ أو استهزاء. وفي هذا الاتجاه ، كان حوار قريش مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول مسألة الرسالة ، وشروطهم للإيمان بها وبه ، من خلال ما كانوا يسمعونه من معجزة موسى أو عيسى ، وغيرهما من الأنبياء عليهم‌السلام في ما يدهش الفكر ويخطف البصر من خوارق العادة ... وإذا كان القرآن هو المعجزة التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنهم لا يرون في ذلك حالة غير عادية ، لأنها لا تتصل بالظاهرة الكونية ، بل ترتبط بالعنصر الغني للتعبير ، مما يمكن أن يكون قمة في الإبداع لا يبلغها أحد ، ولكنها لا تتلاءم مع معجزات الأنبياء الآخرين ، ولا تغيّر أية

٢٣٢

ظاهرة من ظواهر الحياة حولهم.

ولكنّنا نعلم أن الله قد أرسل رسله كي يفتحوا عقول الناس وقلوبهم على الحق ، من خلال المنهج الفكري الذي يقودهم إلى اكتشافه بالفكر الدائب على البحث ، والوحي المنفتح على تفاصيل الحقيقة ... ولم تكن المعجزة أساسا في ذلك ، بل كانت ردّا للتحدّي الكبير الذي يحاول أن يسقط الدعوة أمام الناس ، كما في مسألة فرعون وموسى وأمثالها. ولذلك لم يستجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحديات الطارئة الذاتية ، لأنها لا تمثل شيئا في حركة الدعوة ، ولا تثير أيّ غبار في وجهته العملية إلا بشكل بسيط.

* * *

عناد كافر متعنّت

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) فيحوّل الصحاري القاحلة الجرداء إلى أرض يتفايض منها الماء (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) بلمسة من يدك ، أو بلفتة من نظرك ، تماما كما هو شأن الأنبياء الذين يحملون بركة النبوة القادرة على أن تحوّل الأرض الجرداء إلى بساتين يهتز فيها الشجر ، وتمتد فيها الخضرة ، وتجري فيها الأنهار ... (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) يمتد الخصب بذلك إلى كل جوانبها (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) بحيث تتناثر النجوم قطعا قطعا علينا ، كما أوحيت إلينا بذلك ، في تهديدك لنا ، إذا لم نؤمن بك ، أو إذا تمردنا عليك ، (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) في مجمع واحد ، لنقابلهم وننظر إليهم عيانا ، لنتحدث إليهم ونناقشهم في ما تدعونا إليه ، لنعرف صدقك في دعوتك ، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي من ذهب ، تصنعه بقدرتك النبوية التي تزعمها لنفسك ، فيكون ذلك شكلا من أشكال الإعجاز عند ما يتحول بيتك هذا ، أو أيّ مكان تسكنه إلى بيت من

٢٣٣

ذهب ، (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) فننظر إليك وأنت تعرج إليها ... (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) حتى لا تسحرنا بطريقة معينة ، فتوحي إلينا بذلك من دون حقيقة. أما إذا جئتنا بالكتاب ولمسناه بأيدينا ، وقرأناه بأعيننا ، فإن ذلك قد يكون دليلا على أننا نواجه حقيقة مادية ، لا حالة تخييلية من فعل ساحر يسحر الأعين.

هذه هي الاقتراحات ، فاختر واحدة منها لنؤمن بك ، وبأنك رسول الله من خلال ما تقدمه لنا من الإعجاز.

* * *

الواقعية في الخصوصية البشرية

ولكن الله يعلّم رسوله بأن هذه الأمور لا تقع في نطاق قدرته ، لأنه بشر لا يملك أن يقوم بأيّ عمل خارق للعادة من خلال قدراته الذاتية ، فهو مجرد رسول يوحى إليه ليبلّغ الناس ما يريد الله له أن يبلّغه في وحيه ، وليس من شأن الرسالة أن تغير الكون في نظامه الكوني ، بل إن دورها أن تغيّره في نظامه الإنساني العملي ... ولذلك ، فلا مجال لأيّ شيء مما تقترحونه (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) وليس عليّ إلا أن أبلغكم رسالات ربي ، وأفتح عقولكم من خلال الحوار الذي يقودكم إلى الحجة على صدق الرسالة.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) في وحي الله على يد رسوله ، (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) في استغراب يوحي بالإنكار أو بالشك ، انطلاقا من التصور الخاطئ الذي يرى الرسالة شيئا من شؤون الملك ، لا من شؤون الإنسان. ولكن الله يعالج المسألة بتصحيح هذا التصور ، فإن الرسالة تفرض الدعوة بالفكر وبالقدوة ، فلا بد من أن يكون الرسول من الناس ، ليكون تجسيده للرسالة في سلوكه أساسا للإيمان بواقعية الفكرة التي يدعو إليها ، من

٢٣٤

خلال خصوصيته البشريّة ، أما إذا كان ملكا ، فإن الناس سيحتجّون بعدم امتلاكهم قدرة الملك على تجسيد أخلاقية الرسالة في الحياة. وربّما كانت المسألة تتجه إلى المقولة التي تؤكد على أن الإنسان لا يتحمل النظر إلى الملك ، (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) لكان من الضروري أن يكون الرسول إليهم منهم ، ليتناسب فكره مع فكرهم ، وقدرته العملية مع قدرتهم. (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) لأن ذلك هو الذي يجعل إمكانات النجاح متوفرة في تجربته الرسالية.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) في ما أدّعيه من رسالة ، وما أبلّغه من وحي ، فهو الذي يشهد لي بذلك ، ولو كنت كاذبا لأظهر ذلك للناس ، (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يعلم ما يضمرون ، ويبصر ما يعملون.

وهكذا كانت هذه الآيات صورة حية للمشكلة الصعبة التي كان يثيرها هؤلاء أمام الأنبياء ، من خلال ما كانوا يؤكدونه من تصور خاطئ عن النبوّة والأنبياء ، بالمستوى الذي يبعث الشك في مصداقيتهم أمام الناس ، ولكنهم ـ أي الأنبياء ـ ينطلقون إلى الدعوة من موقع ثابت يرتكز على العقل والفكر ، ليقود الناس إلى الحقيقة من أقرب طريق.

* * *

٢٣٥

الآيات

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١٠٠)

* * *

معاني المفردات

(خَبَتْ) : الخبو : سكون النّار عن الالتهاب.

(قَتُوراً) : القتر : تقليل النفقة ، وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذمومان.

والقتور المجبول على البخل.

* * *

٢٣٦

الهداية والضلال من الله

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) وهذا هو الذي فتح قلبه للرسالة ، ففكر فيها وواجهها بالجدّية الفكرية التي تعالج الأمور من موقع الفكر المسؤول ، مما يجعله موضعا للطف الإلهي بالتأييد والتسديد والهداية ، لأن السنّة الالهية قد جرت على أساس أن الإنسان إذا سار في طريق الحق ، فإن الله ييسّر له سبل الوصول إليه ، ويفتح له الآفاق الرحبة لذلك ... وبذلك كانت الهداية من الله ، من خلال عناصرها الذاتية في شخصية الإنسان ، ومن خلال ما أعده الله من وسائلها ، وما أمدّه الله به من ألطافه الروحية والفكرية ... (وَمَنْ يُضْلِلْ) ، فيوكلهم إلى أنفسهم ، بعد أن اختاروا طريق الضلال ، فلم يعطوا الفكر حقّه من التأمل والبحث ، بل اتبعوا أهواءهم في ممارسة قضايا العقيدة من دون مسئولية ، فضلّوا عن الطريق وتركهم الله لضلالهم ، (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) ـ أي من دون الله ـ لأن الله هو الذي يملك القوة ، ولا يملكه غيره ، وسيواجهون المصير الأسود المحتوم ، والصورة البشعة التي يتمثلون بها يوم القيامة ، كتجسيد للحالة التي كانوا عليها في الأرض في الامتناع عن استخدام أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم في سبيل المعرفة ، مما جعلها غير ذات موضوع في حركة الشخصية في حياتهم ، (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً) لأن عيونهم لم تنفتح على مظاهر عظمة الله لتقودهم إلى الإيمان بتوحيده. (وَبُكْماً) لأن ألسنتهم لم تتحرك للسؤال عن طبيعة القضايا التي أثارتها الرسالات ، في ما أثارته من مبادئ وتفاصيل ، (وَصُمًّا) لأنهم أغلقوا أسماعهم عن الاستماع إلى آيات الله وكلمات الرسول ، فكأنهم لا يملكون ذلك كله.

* * *

٢٣٧

جزاء الكافرين

(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) فذلك جزاء الذين يرفضون الحق بعد قيام الحجة عليهم من الله ، وذلك هو مثواهم في عذاب مستمر ، (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) فتصاعد اللهب من جديد ، وزادهم ذلك احتراقا على احتراق ، وعذابا على عذاب ... (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) من مواقع التمرد لا من مواقع الشبهة ، فلا عذر لهم في ذلك أمام الله. (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) في منطق لا يرتكز على فكر دقيق ، بل يتحرك من موقع الاستبعاد القائم على أساس النظرة السّطحيّة إلى الأشياء ، ولو فكروا جيدا ، لوصلوا إلى النتيجة الحاسمة التي تفتح عقولهم وأبصارهم على آفاق قدرة الله.

(* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهم يؤمنون بذلك ، ولا يرفضونه ، لأن الذين ينكرون المعاد لا ينكرون وجود الله وخلقه للكون ، بل كل ما هناك أنهم يستبعدون خلق الإنسان من جديد ، فكيف يستبعدون ذلك ، ويغفلون عن أن الله الذي خلق هذه المخلوقات العظيمة ، التي هي أعظم من خلق الإنسان (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) ، ويحدد لهم نظاما في مسألة الحياة والموت؟!

وفي هذه الإشارة إيحاء بأن على الإنسان أن يدخل دائما في عملية مقارنة بين الأشياء ، في ما لم يألفه من الأفكار التي لا يجد لها تجسيدا في الواقع ، مما يقع في دائرة الغيب ، فيحاول أن يدرس أمثاله ممّا هو مألوف له ، ليتعرف إمكان ذلك من إمكان هذا ، لئلا يحبس أفكاره في دائرة المألوف ، فيمنعه ذلك من الإيمان بالحقائق الثابتة عقليا في دائرة الغيب.

* * *

٢٣٨

بخل ذاتيّ معقّد

(وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) يعيشون الحياة في حدوده ، ويبعثون فيه بعد الموت. وتلك هي الحقيقة التي تفرض نفسها على الإنسان من موقع المقارنة بين الأشياء وأمثالها (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعناد (إِلَّا كُفُوراً) ورفضا للحق الثابت. وتبقى مشكلة هذا الإنسان التي تفرض عليه الضلال ، وتقوده إلى الانكماش والاستغراق داخل خصوصياته الذاتية ، بعيدا عن رحابة الحياة. وقد يكون من بين مظاهر المشكلة ، هذا البخل الذي يمنعه من الانفتاح على الآخرين في مواقع العطاء ، فينعكس ذلك على نظرته العامة للحياة وللمسؤولية في حركة الواقع من حوله.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) التي تشتمل على نعم لا تعد ولا تحصى ولا تنفد ، مهما أنفقتم منها ... (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) ومنعتم الناس من الاستفادة منها ، (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) وذلك لما تتميز به طبيعة البخل الذاتي من الخوف المعقّد من نتائج الإنفاق على طبيعة المستقبل ، في الوقت الذي لا يحمل فيه الواقع أيّ أساس للخوف. (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) ضيقا بخيلا ، مبالغا في الإمساك ، فلا ينفتح على خير ، ولا يركن إلى أساس من وعي وانفتاح ، وقد يدفعه ذلك إلى أن يعيش الإمساك في مجالات الفكر والمعرفة والهدى ، فلا يريد أن ينفق على نفسه أو على غيره من العلم الذي بين يديه ، فيساهم في إضلال نفسه وإضلال الآخرين.

* * *

٢٣٩

الآيات

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) (١٠٤)

* * *

معاني المفردات

(مَسْحُوراً) : ساحرا ، أو أعطيت علم السّحر.

(بَصائِرَ) : دلائل يبصر بها الناس.

(مَثْبُوراً) : هالكا.

(يَسْتَفِزَّهُمْ) يخرجهم.

(لَفِيفاً) : التفّ بعضهم ببعض.

* * *

٢٤٠