تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الصلاة منبع للقوّة المتجددة

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ). ويبقى للصلاة دورها الأساس في التعبئة الروحية ، التي تمد الرسول بالإمداد الروحي المنفتح على الله ـ سبحانه ـ في مناجاة حبيبة للروح ، شهيّة للفكر ، عميقة الإحساس في القلب والوجدان. وهذا ما نستوحيه من الكلمة المأثورة عن النبي في ما حبّب إليه من دنيا الناس حيث روي عنه أنه قال : «حبّب إليّ من دنياكم : النساء ، والطيب ، وجعل قرة عيني في الصلاة» (١). وهذا ما يوحي باللذة الروحية التي يعيشها في ذاته ، من خلال هذا اللقاء الروحي بالله ، فتقرّ عينه ، ويرتاح قلبه ، وتصفو روحه ، وتتساقط المشاكل في هذه الأجواء الرحبة ، فلا تتحول إلى عقدة يتأزّم فيها الفكر والشعور ، بل تتحوّل إلى قضيّة تتحرك في خط المسؤولية التي يعيش فيها الإنسان رسالية الفكر ، وتفاؤل الحل ، وامتداد الحياة.

إنها القوة المتجددة المتحركة ، التي يعيش معها الإنسان الحضور الإلهي في روحه وقلبه وفكره وحياته ، فيخضرّ في داخله الأمل ، ويعشب فيه الفكر ، وتتفايض في حياته ينابيع الخير ، وتناسب في مشاعره نبضات المحبة ، وتتحرك في قلبه خفقات الرحمة ، وتلتقي في خطوات حياته مواقع المسؤولية. وهكذا كانت الصلاة وسيلة حيّة من وسائل التنمية الروحية ، والتعبئة الوجدانية ، في أجواء الإنسان في حركة الحياة.

وهذا ما أراد الله إثارته في وعي الرسول ـ بصفته الإنسان المسلم الأول ـ والسائرين في خطاه ، أن يقيم الصلاة في جميع أوقات اليوم ، كي تحتوي

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧٣ ، ص : ٦٤٩ ، باب : ١٩ ، رواية : ٩.

٢٠١

الزمن كله ، فلا يبتعد الإنسان عن الله في وقت ، حتى تأتيه الصلاة لترجعه إليه في وقت آخر ، وبذلك لا يخلو ذهنه من الله في أيّة لحظة ، لأن عمق المسؤولية المتصلة بالله ، تفرض تنمية هذا الحضور الدائم في وعيه ووجدانه ، فتتحرك التوبة لتطوّق المعصية ، وتنطلق الاستقامة لتواجه الانحراف ، ويتفجر النور ليهزم الظلام ... وهكذا حتى يستطيع هذا الإنسان أن يغيّر نفسه ، ويطوّر حياته بين يدي الله.

وهكذا كان الله يريد للإنسان أن يقيم الصلاة عند دلوك الشمس ، المفسّر بالزوال لدى بعض ، أو من لدن زوالها إلى غروبها لدى بعض آخر ، لتحدّد له صلاة الظهر والعصر ... وربما فسّرها ثالث بالغروب. وحاول بعض أن يفلسف المسألة في التفسيرين الأولين بأن أصله من الدلك ، فسمي الزوال دلوكا لأن الناظر إليها يدلك عينيه لشدّة شعاعها ، وفي التفسير الثالث ، أن الغروب سمي دلوكا لأن الناظر يدلك عينيه ليتبينها ، كما ورد في مجمع البيان (١).

ولكن الظاهر هو التفسير الأول ، لأن الثالث ، يعني عدم التعرض لصلاة النهار ، فلا تكون الآية شاملة لأوقات الصلاة كلها.

أمّا غسق الليل ، فهو ظهور ظلام الليل ، أو شدّته ، وهو الذي يتمثل في منتصفه ، وبذلك تكون متعرضة لصلاة المغرب والعشاء التي تمتد إلى ذلك الوقت.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الفجر ، باعتبار أن الصلاة تمثل الجوّ القرآنيّ لما تشتمل عليه من القرآن الذي هو روح الصلاة ، ذلك أن القراءة هي التعبير التفصيلي عن الأجواء الروحية والفكرية والشعورية التي تثيرها الصلاة في نفس المسلم المؤمن ، من خلال سورة الفاتحة ، والسورة الأخرى التي تتلوها ، لا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٥٩.

٢٠٢

سيما سورة التوحيد ، في ما تجسده للإنسان من التصور العقيدي الذي يلتقي بالله في توحيده ، وشمول ربوبيته للعالمين ، وإفاضة رحمته على الناس كلهم ، وسلطته المطلقة على الطرق التي تحتاج إلى الهادي من الداخل أو الخارج. وبهذا ينطلق الخضوع في الرّكوع والخشوع في السجود ، والاستسلام في الموقف وفي كل حركات الصلاة ، ليكون نتيجة لما عاشه الإنسان في القراءة فكرا ووجدانا ، ليمارسه في الركوع تطبيقا وتجسيدا.

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) باعتبار أن وقت الفجر هو الخط الفاصل بين الليل والنهار ، ففيه بعض ملامح الليل في هذا الغبش الضبابيّ المثقل بالظلام وهو يتنفّس النور ، وبعض ملامح النهار في حركة النور الباحث عن الشمس في موعد الشروق. وبذلك تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، ويشهده الله قبل ذلك وبعده. ولعل التعبير عن صلاة الصبح القرآني دون سائر الصلوات ، باعتبار أنها الصلاة التي يتمثل فيها الجوّ القرآني في روحانيته المتميزة بهدوء الليل وانفتاح النور ، لتكون الوجه الذي يشير إلى الصلوات الأخرى بأبلغ تعبير ، وأروع صورة.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) أي فاسهر واستيقظ ببعض الليل ، كما عن بعض ، أو بالقرآن ، على رأي بعض آخر ، لتكون صلاة زائدة على الفريضة ، لتنتفع بها من خلال ما تحصل عليه من القرب لله والحصول على ثوابه.

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) في يوم القيامة ، أو في الدنيا والآخرة ، (مَقاماً مَحْمُوداً) أي موقعا من مواقع الحمد ، أو مكانا مميزا محمودا في موقعه وفي ثوابه ... وربما كان ذلك نظرا إلى مقام الشفاعة الذي جعله الله للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم القيامة ، بما يحمده عليه جميع الخلائق ـ لو كان الخطاب موجها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أما إذا كان موجّها إلى كل إنسان فإن المراد به ـ والله العالم ـ هو

٢٠٣

المقام الذي يناله المؤمن المخلص في صلاته ، وذلك لما يمنحه الله من الثواب والكرامة والرضوان عنده.

* * *

٢٠٤

الآيتان

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١)

* * *

معاني المفردات

(زَهُوقاً) : الزهوق : الهلاك والبطلان.

* * *

الدعاء انفتاح حرّ مطلق على الله

كما أنّ للصلاة دورها في التعبئة الروحية عند المؤمن ، كذلك للدعاء دوره الروحي في وجدانه ، ولكنه يتميز عنها كونه لا يتحدد بوقت ، فللإنسان أن يدعو ربه في كل وقت دون تحديد زمن معيّن ، ولا يتحدد بمضمون ، فله أن يدعو بما شاء من القضايا التي تحيط بذهنه ، أو الأمور التي تتصل بحياته ، ولا

٢٠٥

يتحدد بكلمات معينة ، فله أن يختار ما يشاء منها والطريقة أو اللغة التي يدعو بها. إنه يمثل الانفتاح الحرّ المطلق على الله في كل همومه وتطلّعاته ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وهذا ما يعبّر عن الحاجة المطلقة إلى الله ، واللجوء إليه في كل شيء ، والشعور العميق بالحضور الدائم معه ، في جميع خصوصياته ، من أصغر شيء إلى أكبره ، والانفتاح على الأمل الكبير في الحياة ، الذي يشعر معه أنه لا مجال لليأس في كل موقع من مواقعها ما دام الأمر مرتبطا بقدرة الله التي لا يثقلها أو يعجزها شيء ، فكل الموانع تتساقط أمامه ، وكل الحواجز تتكسر عنده ، لأنه القادر على كل شيء ، والمهيمن على كل وجود.

وقد أراد الله للإنسان أن لا يقتصر في الدعاء على حاجاته المادية المتصلة بالجانب الحسي من حياته ، لئلا تكون اهتماماته العامة والخاصة في حديثه مع الله محصورة في هذه الدائرة المادية ، فينعكس ذلك سلبا على تصوّره للأشياء ، من خلال ما يوحي به الدعاء من حالة ثقافية ، تنفتح فيها الآفاق على كل الجوانب المهمّة في الحياة ، التي تنمّي في الإنسان الشخصية المتوازنة في نظرتها إلى العنصر المادي والروحي معا ، وفق الطريقة التي خلق الله الحياة عليها. وفي ضوء ذلك ، جاء القرآن ليقدّم بعض النماذج المتصلة بالجانب العملي المتحرك في الحياة ، في الخط الذي يسير عليه ، والأفق الذي يتطلع نحوه ـ كما نرى ذلك في الآية التالية ـ ليلجأ إلى الله في تحديد الخطوط التي تحكم الجانب العملي الحركي الرسالي ، كما ليلجأ إليه في تحديد الدوائر التي تتحرك فيها حاجاته المادية.

* * *

دعوة لطلب الصدق في جميع المواقع

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) إنه الصدق الذي يحكم الاهتمامات الروحية

٢٠٦

والعملية في كل مداخل الإنسان ومخارجه ، سواء في الأفكار التي يتبنّاها كمدخل طبيعيّ لحركته في الحياة ، أو في العلاقات الخاصة والعامة التي تربطه بالواقع وبالناس ، لتحدد له موقعه في ساحات الصراع واللقاء ، على المستوى الإيجابي أو السلبي ، أو في المشاريع المتنوعة التي تنظّم للإنسان حركته ، وتحدد له دوره وطريقه في الوصول إلى أهدافه وأسلوبه في ممارسة ذلك. وهكذا يعيش الصدق في كل موقع يدخل إليه ، ويتحرك فيه ، لأن ذلك مما ينسجم مع دعوة الحق ، كواجهة للرسالة ، وكعمق للحركة ، وكطابع للشخصية ، في ما يمثله ذلك الواقع من انسجام الكلمة والأسلوب والموقف.

(وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) في جميع المواقف التي يريد الإنسان التحرك منها إلى موقف آخر ، أو في كل المواقع التي تلتقي بالخط السلبي في الحياة ، فلا يكون الموقف منطلقا من الزيف والدجل والرياء ، ولا يكون الموقع مختلفا مع الثوابت المتصلة بالرسالة ، بل يستمد الصدق والثبات من حركته الإيجابية في خط العقيدة والتشريع.

إنها الكلمة التي تعبّر عن العقيدة ، وتنسجم مع الفعل. وهذه هي الدعوة التي يطلقها المؤمن من كل قلبه ، مبتهلا إلى ربه أن يعينه على الإخلاص في النية والفكر والشعور ، وعلى الصدق في القول والعمل في مواجهة الضغوط التي تتحدّى فيه ثباته ، وتخاطب انفعاله ، وتتلاعب بعاطفته ، وتضغط على حركته ... إنه لا يريد أن يسترخي للدعاء ، ليكون بديلا عن الجهد والمعاناة في سبيل تأكيد الموقف ، ليترك الأمر للإرادة الإلهية المباشرة في ما يدخل فيه ، وما يخرج منه ، ولكنه يوحي بأنه يريد أن يتجه هذا الاتجاه ، ويعمل على تأكيده ، ويعاني ـ كل المعاناة ـ في سبيله ، ويريد من الله أن يثبّته في مواقع الزلل ، ويقوّيه في مواطن الضعف ، كما يريد الله للإنسان أن يعمل ما يستطيع ، ويستعين به على ما لا يستطيع.

٢٠٧

(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) وتعبر كلمة السلطان عن جوانب القوة والسلطة والمنعة التي تدعم الموقف من الداخل والخارج ، لينصره أمام الأعداء في تحدياتهم لفكره ومواجهتهم لموقفه ، واعتدائهم على حياته ، وإضعافهم لإرادته ، فلا يضعف أمام الباطل ولا يتنازل عن موقف الحق.

وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يتعلّمه ويربّي نفسه عليه في اللجوء إلى الله ـ سبحانه ـ في استمداد القوّة والعون من عنده ، في كل مواقع الخوف والضعف والاهتزاز.

* * *

(جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ)

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي إعلان الحقيقة على الناس دون خوف ، لأن مسألة إثارة الحق في وعي الناس لا يمكن أن تخضع لعوامل الإخفاء ، بل لا بد من التأكيد على الموقف في ساحة التحدّي ، ليعرف الناس كيف يواجهون الحياة من مواقعه ، لئلا يضيعوا في غمار الضلال ، وهذا ما جعل الأنبياء ينطلقون في دعوتهم للإيمان بالله والسير في طريقه ، بكل قوّة وإصرار ومعاناة ، ويتحملون في سبيل ذلك كل الصعوبات ، ويقدمون أغلى التضحيات ... حتى فقد الكثيرون حياتهم من أجله.

إنه الإعلان المتحدي ؛ لقد جاء الحق ، ودخل الساحة ، وسيفرض نفسه عليها ، وسيواجه كل الأعداء ، وسيهجم على كل المواقع ، بكل أدواته وأساليبه وخطواته العملية ، وزهق الباطل وهلك ، لأن الحق سوف يفضح كل نقاط ضعفه ، وسيكشف عن كل الزيف الذي يختبئ داخله ، وعن كل السحر الزائف الذي يبرز ملامحه بطريقة خادعة ... وسيواجه كل قواه ، وسيسقطه وينتصر

٢٠٨

عليه ، مهما امتد الزمن ، ومهما ارتبكت المواقف واهتزت المواقع ، فإن الحقيقة ستفرض نفسها ، ولو بطريقة متحركة ، تتقدم حينا ، وتتأخر حينا آخر.

(إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) لا يحمل عناصر البقاء الحقيقية التي تمنحه القدرة على الاستمرار والدوام ، إذ إنّه لا يملك عمق الثبات في ذاته ، بل كل ما هناك ، أنه يستعير عوامل القوّة من الأوضاع الخارجية التي تحيط بالساحة ، في عملية تجاذب وصراع. وهذا ما يريد الله للمؤمن أن يستوحيه في نفسه ، وأن يؤكده في ساحته ، وإن وقفت هذه العوامل في مواجهته على مستوى الفكر والسياسة والاجتماع.

* * *

٢٠٩

الآية

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً) (٨٢)

* * *

معاني المفردات

(خَساراً) : خسرانا وفشلا.

* * *

الأمراض الروحية والفكرية

في القرآن أكثر من حديث عن المرض الروحي والفكري ، الذي يترك آثاره سلبيا على حركة الإنسان في الحياة ، ويبعده عن الوضع الطبيعي الذي يتمثل بالفطرة الإنسانية الهادية التي تقوده إلى خط التوازن ، وتجعله يواجه المشاكل الفكرية بالتأمّل والبحث والحوار ، فلا يضيق بأيّة مشكلة تواجه قناعاته ، ولا يتجمّد أمام حالة تعصب ، ولا يرتبك في قرارته أو يعيش حالة الحيرة ، بل يتعامل مع المسألة الفكرية من موقع المسؤولية عل مستوى القناعة والموقف. ومن هنا ، كان النفاق مرضا في القلب وفي الواقع ، كما كان الكفر كذلك ، لأن الكفر يمثل الانحراف عن خط التوحيد ، من خلال عدم الارتفاع إلى مستوى مسئولية الفكر المنطلق من مواقع الحجة ، والاستسلام للمزاج الذاتي الباحث عن التنفيس عن عقدته بالهروب إلى أجواء اللامبالاة بعيدا عن الحوار. أما النفاق ، فإنه يمثل الخلل النفسي الذي يعيش فيه الإنسان التذبذب

٢١٠

العملي بين مفهومي الفكر والموقف ، وبذلك يعمل المنافق على خداع نفسه وخداع غيره ، طلبا لبعض المكاسب والأطماع الشخصية. ويتفرّع عن هذا المرض الكثير من النتائج السلبية على حياته وحياة الناس من حوله ، من خلال ما يتحرك به من حركات معقّدة ، وما يثيره من أوضاع الاهتزاز الاجتماعي ، وما يواجهه من انتماءات متنقلة ، تتقلب في الساحة تبعا للرياح القادمة إليها من قريب أو من بعيد ، فيسيء بذلك إلى سلام المجتمع ، في واقعه الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والأمني ...

* * *

الصحة الروحية

وجاء القرآن ليثير الاهتمام بالصحة الروحية ، بالقوة نفسها التي يعيش فيها الإنسان الاهتمام بالصحة الجسدية ، وليؤكد على خطورة النتائج السلبية على قضية المصير في الدنيا والآخرة ، وليعرّف الناس ملامح هذا المرض في الفكر والسلوك والعلاقات ، ويفتح لهم المجالات الواسعة لالتماس الشفاء من مواقعه ، بالتركيز على صفاء الفطرة ، واستقامة الفكر ، وانفتاح الروح ، ومسئولية الحركة والموقف في الخط العام الذي يؤكد على المبدأ والمنهج ، وفي الخطوط التفصيلية التي تضع التطبيق السليم في خدمة النظرية. وفي هذا الاتجاه كان الإلحاح على تزكية الروح من الداخل حتى العمق ، وعلى تعليم الكتاب الذي يثير النظرية في خطوطها العامة والخاصة ، وعلى تعليم الحكمة التي تعرّف الإنسان مواقع التحرّك في دراسة الساحة من حيث الشخص والجوّ والظروف.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) لمن قرأه وتدبّره ووعاه وعمل به ، وحمله دعوة مفتوحة للحياة كلها وللناس كلهم ... في روح مليئة بالجدية والاهتمام والمسؤولية ، وبذلك يعرف كيف تكون سعادة الروح ، ونظافة الضمير ، وسلامة الوجدان ، وصفاء الفطرة ، واستقامة الحياة ... ويلتقي بالصحة النفسية من أقرب

٢١١

طريق ، فيكتشف كيف يكون الفكر أساسا للقناعة ، وكيف يكون الحوار وسيلة للوصول إلى مواقع الوحدة أو التفاهم ، وكيف تكون الصراحة أداة لاكتشاف الحقائق ، وكيف يكون التعاون قوّة للساحة ، وكيف يكون الانسجام بين القناعة والموقف مظهرا للقوة ، فيلتقي بالإيمان القائم على الحجة ، وبالمسؤولية المرتكزة على الوضوح ، وبالإخلاص المنطلق من خط التقوى وقاعدة الحق.

(وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) في ما يفتح قلوبهم على النور الذي يتفايض بالعلم واليقين والإيمان ، ويدفع مواقفهم إلى التكامل أو الوحدة أو اللقاء ، ويهذب نفوسهم بالطهر والعفّة والصفاء ، ويحقق لهم الكثير من النتائج الإيجابية على صعيد التخطيط الدقيق للفكر والشريعة والحياة ... وبذلك تتحول الرحمة من عاطفة في القلب ، وإحساس في الشعور ، إلى حركة واعية مليئة بكل ما يغني التجربة ، ويعمّق الوجود. إنها رحمة الفعل ، لا رحمة الانفعال.

خسارة الظالمين

(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) هؤلاء الذين يعيشون اللامبالاة والاسترخاء أمام حاجات الجسد ، وينتقلون من خسارة إلى أخرى في طريقتهم في الحياة ، وأسلوبهم في حركة العلاقات وطبيعة الانتماءات ، القائم على سياسة اللف والدوران ، فيفقدون سلامهم النفسي والعملي ، ويتخبّطون في الحيرة والارتباك ، ويتحركون في نفق الضياع ... وتأتي آيات القرآن لتضعهم وجها لوجه أمام الربح الحقيقي ، الذي يؤمّن لهم سلامة الدنيا والآخرة ، ويحقق لهم سعادة الروح إلى جانب سعادة الجسد ، ويقدم لهم ذلك كله بطريقة تفصيلية في آياته البيّنات ، وفي تشريعاته الحكيمة ، وفي منهجه القويم ، فيرفضون ذلك كله ، فيخسرون بذلك كل الخير في الدنيا ، ويضيفون إليه خسارة المصير في الآخرة ، عند ما يواجهون الحساب الدقيق الذي ينتهي بهم إلى عذاب النار ، جزاء على ما أنكروه من حقائق ، وما فرّطوا فيه من مواقف ، وما أجرموا به من أعمال.

* * *

٢١٢

الآيتان

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (٨٤)

* * *

معاني المفردات

(وَنَأى بِجانِبِهِ) : بعد بأحد شقيه : اليمين أو اليسار. وهو كناية عن استكباره وتعاظمه.

(شاكِلَتِهِ) : طريقته ومذهبه. ويراد بها نيته.

* * *

التعلق بالظواهر

ويتناول القرآن طبيعة الإنسان الخاضعة للعوامل المباشرة في حياته ، التي يستسلم من خلالها للانفعالات السريعة المتصلة بالجانب الظاهر من الواقع

٢١٣

دون النفاذ إلى العمق ، فيؤدي به ذلك إلى فقدان التوازن في النظرة والموقف.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) فأعطيناه الصحة والأمن والمال ، وسهّلنا له أمور الحياة ، فأصبح في المستوى الكبير من الراحة والنعيم والعلوّ في الموقع ... (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) وتولّى عن الله ، وابتعد عنه ، وانقطع عن الاتصال به ، كمن يعرض بوجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقعا بعيدا عنه ، في تعبير عن انقطاع الصلة الحميمة به ، أو عن العلو والاستكبار ... فينسى الله ، ويغفل عن عمق الصلة الكونية التي تربط كل شيء من حوله به ـ تعالى ـ في ما يتقلّب فيه من النعم ، أو ما يتحرك فيه من الأوضاع ، فليس هناك نعمة إلّا من الله خالق كل شيء. ولكن المشكلة في الإنسان ، أنه لا يتعمّق في خصائص الواقع في نظرة تأمل وتفكير ليخلص إلى أنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ، كما لا يملك أيّ شيء في الحياة إلا بالله ، مما يفرض عليه أن يفكر بالله في كل موقع من مواقع النعمة ، وفي كل مظهر من مظاهر النجاح ، حتى طاقاته الفكرية والجسدية ، التي يحركها في سبيل الحصول على موارد الحياة ، فهي مظهر لقدرة الله في تنظيم وجوده الجسدي والعقلي ، الذي تتحرك أجهزته بقدرة الله ، ولذا فإن عليه أن لا يستسلم للغفلة وللشعور بالذاتية ولشعور القوّة والاستقلال عن الله عند ما يواجه مواقع القدرة والنعمة في حياته ، لأن الله الذي خلقها قادر أن يجمّدها في أيّة لحظة.

(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) وهذه هي النتيجة للارتباط الكلي بالعناصر المادية المحيطة به ، والانشداد إليها كمصدر وحيد للقوّة ، فإذا انفصلت عنه ، وانطلقت الظروف المعاكسة التي تثير في حياته الخوف والجوع والفقر ، فإنه يسقط أمامها ويستسلم لليأس ، وربما تؤدّي به الصدمة إلى الهلاك ، لأنه يجد أبواب الأمل موصدة أمامه ، ونوافذ الحياة مغلقة في وجهه. وقد تتحرك الصدمة في اتجاه آخر ، فتهز مشاعره ، وتزيل الضباب عن عينيه ، وتفتح قلبه على الله في قدرته المطلقة على حماية الإنسان من حيث لا يشعر ، ورزقه من

٢١٤

حيث لا يحتسب ، فيرجع إليه في ابتهال الخاضع ، وإنابة المنيب ، وروحية العبد الضعيف الذي يستمد القوّة من الله عند ساعة الشدة.

إنه الإنسان الضعيف في حال قوته وضعفه ، فهو الضعيف حال القوة ، لأن نظرته المستغرقة في مظاهر القوة المادية تضعف وضوح الرؤية عنده وإرادة الجدية في حركة الحياة من حوله. فهو ضعيف أمام الواقع القويّ المحيط به ، إذ يشعر أنه أكبر منه ، ويتصاغر حجمه عنده ، وهو الضعيف الذي ينسحق عند ما يعيش اليأس والسقوط والانهيار أمام كل عناصر الضعف ، ولا يحاول أن يستجمع عناصر القوّة من حوله ، من خلال التطلع إلى مصدر القوّة للحياة كلها ، وهو الله سبحانه.

وإذا كانت الآية تعرّضت للجانب السلبي في حياته ، أمام الحالتين ، وحاولت أن تبرز الصورة المشوّهة لحركته ، فإنها لا تريد أن تعقّده أمام ذلك ، بل تريد إثارة إرادة التحدي في شخصيته ، من أجل أن يتحرك نحو مواجهة المستقبل من مواقع الإيمان الذي تتوازن فيه الشخصية في حالتي القوة والضعف ، فلا تطغيها القوة ، ولا يسقطها الضعف ، بل تظل مشدودة إلى الله ، لتشعر أن القوة منه ، وأن الضعف يمكن أن يتحول إلى قوّة من خلاله. والمقصود بالشر ، هو الحوادث التي تصيب الإنسان بنقص في جسده ، أو في ماله ، أو في عرضه ، أو في نفسه ، كالمرض والفقر والخوف والخسارة والهزيمة والموت ، ولعل التعبير عنها بالشر ، باعتبار انعكاسها السلبيّ على صاحبها. ولكننا إذا نظرنا إلى علاقتها بالواقع الكوني ، فإننا نجد فيها انسجاما مع الحكمة التي أقام الله الكون عليها ، مما يجعلها خيرا بالنسبة إلى الواقع العام للإنسان ، وإن كانت شرا ذاتيا بالنسبة إلى هذا الشخص بالذّات.

* * *

٢١٥

العمل صورة الشخصيّة الداخليّة

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) إن العمل هو صورة الشخصية الداخلية للإنسان ، لأنه يعبّر عن العناصر الذاتية التي تتمثل في الأفكار والمشاعر والأساليب والعلاقات ... وذلك على أساس أن الإنسان إنما يتحرك من موقع العوامل الفكرية والنفسية والعاطفية التي توجّه حياته ، وبذلك اختلفت أعمال الناس تبعا لاختلاف مكوّناتهم الشخصية ، فإذا كان الشخص ذا شخصية عقلانية هادئة ، فإنه يواجه المشاكل بطريقة موضوعية بعيدة عن السرعة والارتجال ، أما إذا كان ذا شخصية انفعالية ثائرة ، فإنه يعالج القضايا بطريقة انفعالية سلبية سريعة التأثر بما حولها. وهكذا نجد الشخصية العالمة ، والجاهلة ، أو الشجاعة والجبانة ، أو الكريمة والبخيلة.

* * *

وقفة مع حرية الإرادة

ولكن قد يتساءل البعض ، إذا كان العمل تابعا للشخصية في مكوّناتها الذاتية ، وفي عناصرها الخاضعة للمؤثرات الداخلية من حيث المزاج ، أو للمؤثرات الخارجية من حيث الظروف والأوضاع ، فأين يكون موقع الاختيار وحرية الإرادة في تصرفات الإنسان ، ما دام خاضعا لمزاجه الانفعالي أو العقلاني ، أو لشخصيته العالمة أو الجاهلة ، وما إلى ذلك؟!

والجواب عن ذلك : أن المؤثرات الداخلية أو الخارجية التي تمثل عناصر الشخصية ، قد تثير في حياة الإنسان الأجواء السلبية أو الإيجابية المتصلة بها ، ولكنها لا تفرض نفسها عليه بحيث تلغي إرادته وتشلّ حركته ،

٢١٦

لأن هناك مساحة واسعة بين مفهوم الشخصية في الداخل من خلال المزاج ، أو في الخارج من خلال الظروف ، وبين مفهوم العنصر العقلي ، الذي يدقّق ويحاسب ويحاكم ويصحّح ويؤكد الموقف ، فقد جعل الله للعقل قوّة مهيمنة على المؤثرات السلبية في حياة الإنسان ، وأردفه بالوحي الذي يفصّل له الأمور وينظّم له الخطوط ، وبذلك يبقى هناك مجال للتغيير ، وساحة للإرادة الحرّة التي تضغط على المزاج بعقل مفتوح.

وبهذا يبطل السؤال الذي يقول : ما جدوى الرسالات التي توجّه إلى الناس ، إذا كان كل إنسان يعمل على شاكلته التي خلق عليها ، أو التي اكتسبها من خلال ظروفه الموضوعية؟!

إن المسألة لا تتعلق بحالة ضاغطة لا تترك مجالا للاختيار أو للتغيير ، بل بمناخ يثير في النفس عوامل الانحراف ، ويحرّكها في اتجاه المعصية ، في الوقت الذي يمكن للمناخ الآخر القادم من العقل أو من الوحي ، أن يحوّل الخطوات في اتجاه آخر ، ويضعف العوامل السلبية ، ويقوّي ـ بدلا منها ـ العوامل الإيجابية في خط الاستقامة والطاعة ..

وهذا ما قرره الله في الآية الكريمة : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] التي أكدت على قدرة الإنسان على تغيير نفسه ، بتغيير الصورة الفكرية والشعورية الداخلية ، كوسيلة من وسائل التغيير العملي على صعيد الواقع.

وهذا ما يؤكده الواقع في ما نراه من الأشخاص الذين يولدون في بيئة شريرة تضغط على طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في الحياة ونوازعهم وتطلّعاتهم في حركة الواقع من حولهم ... ولكنهم يتمرّدون على هذا الواقع في أنفسهم ، على أساس موقف تأمّل يوحي بالصفاء ، أو موقف فكر يقود نحو التحوّل والتغيير ، أو كلمة وحي سمعوها ، ففتحت لهم آفاقا جديدة من الحياة ،

٢١٧

أو تجربة عاشوها فحرّكت في ذاتهم إرادة التغيير.

إن في نفس كل إنسان شخصية منفتحة طاهرة ، ترقد في أعماق الأعماق حيث تعيش ينابيع الفطرة ومواقع الصفاء في الروح ، وربما تطغى عليها شخصية أخرى تتحرك في أجواء الغريزة وفي نوازع الحس ، فتنطلق بالأعمال السلبيّة ، كما تنطلق الشخصية الفطرية بالأعمال الإيجابية ، وقد تتغير كل منهما في اتجاه آخر ، يغطّي هذا الجانب ليبرز مكانه جانب آخر ، مما يجعل للعقل وللوحي وللتجربة الواعية دورا كبيرا في عملية التغيير. وهكذا يعمل كل إنسان على صورته الداخلية ووفق شاكلته الشخصية ، ولكن الله مطّلع على خفايا الأمور ، في ما يتحرك به الإنسان من نوازع وأفكار وشهوات مما يخفى أمره على الناس ، أو مما تلتبس فيه النظرة إلى الواقع (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) لأن الله لا ينظر إلى مواقع الصورة في الخارج ، بل إلى مواقعها في الداخل ، مما يحدّد طبيعة التفاضل في الهدى ، أو طبيعة الضلال والهدى.

* * *

٢١٨

الآية

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٥)

* * *

الرّوح في القرآن

كان المسلمون يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أشياء كثيرة ، مما يطوف في أفكارهم ، أو مما يسمعونه من كلام الله مما أبهم عليهم أمره ، وجاء القرآن ليثير بعض هذه الأسئلة ، وليتحدث عنها وعن أجوبتها ، وكانت الروح من هذه الأمور التي تكرر الحديث عنها في القرآن في موارد متفرقة ، كما في قوله تعالى : في خلق آدم :

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٩].

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧].

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [النحل : ٢].

٢١٩

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر : ٤].

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥].

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢].

(أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١].

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨].

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج : ٤].

والظاهر أن إطلاق كلمة الروح ليس على نهج واحد ، فقد يظهر من الآية الأولى (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] أن المقصود بها التعبير الكنائي عن القدرة الخفيّة التي تمنح الحياة ، في ما يتمثل فيها من عمق سر الحياة ، الذي يحوّل الجماد إلى كائن حيّ ، وذلك بلحاظ التناسب بين معنى الروح الذي يمثل الحياة في ذات الله ، وبين إعطاء الحياة لآدم ، فكأن الله أعطاه من روحه ما دبّ فيه الحياة لتتخذ معنى يلتقي بالله.

وهكذا يمكن أن يكون ذلك هو المراد في حكاية القرآن عن خلق عيسى عليه‌السلام في ما حدّثنا به عن مريم ابنة عمران : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ... وربما كان هذا التأكيد على «النفخ من روح الله» ناشئا من أن حركة الحياة في كلا النموذجين ، لا تخضع للأسباب المألوفة أو للتدرّج الطبيعي ، بل تخضع لما تحمله الإرادة الإلهية المباشرة ، من السرّ الخفي للقدرة ، مما يوحي بالسبب غير العادي ، في القدرة التي تعبر عن سر الروح الإلهيّ. أمّا الآيات التي تتحدث عن الروح الذي أرسل إلى مريم أو الروح الذي يعرج مع الملائكة ، أو الذي يقوم معهم يوم القيامة ، أو يتنزل معهم ، فالظاهر أنها تعبر عن مخلوق سماويّ ، رفيع

٢٢٠