تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك. فما استجمع ضاحكا حتى مات. فأنزل الله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ).

وفيه أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر أن النبي قال : رأيت ولد الحكم ابن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة. وأنزل الله في ذلك : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) يعني الحاكم وولده.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أريت بني أمية على منابر الأرض ، وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء ، واهتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك ، فأنزل الله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ).

وفيه أخرج ابن مردويه ، عن الحسن بن علي أن رسول الله أصبح وهو مهموم فقيل : مالك يا رسول الله؟ فقال : إني أريت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا فقيل : يا رسول الله ، لا تهتم فإنها دنيا تنالهم. فأنزل الله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ).

* * *

حكمة إلهية في اختبار الناس

في هذه الآية وضوح في المعنى من جهة المفهوم العامّ الذي توحي به ، وغموض من جهة التطبيق ، وذلك من جهة ما يراد من الرؤيا التي أراها الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يقصد من الشجرة الملعونة في القرآن ... حيث اختلف المفسرون في ذلك.

فمدلول الآية يتضمن الإيحاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الله قد أحاط بالناس

١٦١

في علمه ، فهو المطّلع على كل شيء مما يضمرونه أو يظهرونه ، كما أحاط بهم في قدرته ، فهو المهيمن على وجودهم كله ، فلا يستطيعون التحرك ، بمقدار شعرة ، بعيدا عن سيطرته ، ولا يتمكنون من الهروب من ملكه.

وقد كان من حكمة الله أن يختبر الناس ، ويفتنهم بما يكون محلا للأخذ والرد والنفي والإثبات ، سواء في ذلك الحوادث التي تحدث في ساحتهم ، أو الظروف التي تضغط عليهم ، أو الأجواء التي يثيرها في وجدانهم ، من خلال ما يلقيه إلى النبي من كلمات أو ما يريه من منامات ، ليحدّث بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس ، فيختلفون حولها. وهكذا يريد الله أن يجعل الرؤيا التي أراها له فتنة للناس ، كما هي الشجرة الملعونة في القرآن ، ولكن الناس لا يواجهون ذلك بمسؤولية ، في ما يفرضه المصير من تأمّل وتبصّر واستعداد ، فلا يخافون الله ، بل يزدادون تمردا وطغيانا من خلال أجواء اللامبالاة التي يواجهون بها أمر الله سبحانه.

* * *

وجوه في تفسير الرؤيا والفتنة

ولكن ما هي هذه الرؤيا التي رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ذكر صاحب مجمع البيان عدة وجوه في تفسيرها :

أحدها : أن المراد بالرؤيا رؤية العين ، وهي ما ذكره في أوّل السورة من إسراء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى بيت المقدس وإلى السموات في ليلة واحدة ، إلا أنه لما رأى ذلك ليلا وأخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا ، وسمّاها فتنة ، لأنه أراد بالفتنة الامتحان وشدّة التكليف ، ليعرّض المصدّق بذلك لجزيل ثوابه والمكذّب لأليم عقابه.

١٦٢

ثانيها : أنها رؤيا نوم رآها أنه سيدخل مكة ، وهو بالمدينة ، فقصدها فصدّه المشركون في الحديبيّة عن دخولها ، حتى شكّ قوم ودخلت عليهم الشبهة ، فقالوا : يا رسول الله ، أليس قد أخبرتنا أنّا ندخل المسجد الحرام آمنين؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوقلت لكم إنكم تدخلونها العام؟! قالوا : لا ، فقال : لندخلها إن شاء الله. ورجع ثم دخل مكة في العام القابل. فنزل : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ).

ثالثها : أن ذلك رؤيا رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن قرودا تصعد منبره وتنزل ، فساءه ذلك واغتمّ به ، روى سهل بن سعد عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ذلك ، وقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يستجمع بعد ذلك ضاحكا حتى مات ، وروى سعيد ابن يسار أيضا ، وهو المروي عن أبي جعفر «الباقر» وأبي عبد الله «الصادق» عليهما‌السلام (١).

رابعها : ما ذكره تفسير الكشاف من احتمال أن يكون المراد بالرؤيا ، ما يمكن أن يكون قد رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مصارع المشركين في بدر ، قبل المعركة ، فحدّث به أصحابه في ما كان يروى عنه من قوله حين ورد ماء بدر : «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يومئ إلى الأرض ويقول : هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ... فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمر يوم بدر وما أري في منامه من مصارعهم ، فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء (٢). أمّا الشجرة الملعونة فقد فسرت بأنها «عائلة بني أمية» على أساس الوجه الثالث في تفسير الرؤيا ، ويكون اللعن في القرآن متعلقا بهم من خلال انطباق أحد العناوين الملعونة من المنافقين والظالمين وأمثالهم ، وبذلك يحصل هناك انسجام بين الرؤيا وبين

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٤٨.

(٢) تفسير الكشاف ، ج : ٢ ، ص : ٤٥٥

١٦٣

الشجرة الملعونة التي تمثل المضمون الواقعي للرؤيا.

أما مسألة الفتنة في ذلك ، فمن جهة المراكز التي يتبوءونها ، من خلال الخلافة التي قد تخدع الكثيرين من الناس ، فتوحي إليهم بشرعية تصرفاتهم الطاغية المستكبرة والمنحرفة عن خط الإسلام ، في ما يفتتن به الناس ، من الأشخاص الذين يحملون صفات معينة تتصل بالدين ، مما يمنحها طبيعة القداسة التي تحوّل الضلال إلى عنصر مقدّس ، وتجعل لرموزه قداسة في ميزان التقييم الديني للأشخاص.

وقيل إنها اليهود ، لأن الله تحدث عن لعنهم في القرآن ، وقيل إنها شجرة الزقوم الملعونة من حيث طعمها ونتائجها السيئة ، قالوا : وإنما سمّى شجرة الزقوم فتنة لأن المشركين قالوا : إن النار تحرق الشجرة فكيف تنبت الشجرة في النار وصدّق به المؤمنون.

* * *

مناقشة الآراء

هذه هي خلاصة الآراء في معنى الكلمتين. وقد نلاحظ على التفسير الأول للرؤيا بأنه خلاف ظاهر الكلمة التي تدل ـ بحسب إطلاقها ـ على ما يراه الإنسان في المنام. كما أن التفسير الثاني لا ينسجم مع الطبيعة المكية للسورة ، مما لا يتفق مع رؤيا دخول مكة التي كانت في المدينة ، حيث كانت متأخرة عن مورد نزول الآية.

أما التفسير الرابع ، فقد تكون نقطة ضعفه أنه لا دليل على وجود رؤيا من هذا القبيل في هذا الشأن ، لأن ما ذكره الله من منام الرسول ، في يوم بدر ، هو ما يتعلق بحجم الأعداء ، لا بمصارعهم.

وبذلك يكون التفسير الثالث أقرب إلى الذهن وإلى جوّ الآية من خلال

١٦٤

ما توحي به كلمة الإحاطة من الانفتاح على الأشياء المستقبلية ، المتصلة بحركة الإسلام في المستقبل في ما يريد الله أن يعرّف به رسوله ، بما ينتظر دينه من تطورات على صعيد التطبيق في حركة الواقع. كما أن مفهوم الفتنة يلتقي بالواقع المنحرف الذي يقود إلى الارتباك ، أكثر مما يلتقي بما يختلف الناس حوله من الأخبار.

ومن الأمور التي تؤكد هذا التفسير ، التقاء روايات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم الحجة في تفسير القرآن ، بروايات غيرهم من أهل السنة ، وانسجامه مع حركة الآية في تحذير الناس من الانحراف عن خط الله ، من خلال الواقع المنحرف الذي يقودهم إلى الهلاك.

* * *

حكمة إلهيّة

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) فاطّلع على كل ما يحدث لهم في الحاضر والمستقبل ، وأراد لك أن تطلع على كثير مما يخفى عنك مما يتّصل بحركتك في خط الرسالة وحركتها في مواجهة أحداث المستقبل. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) ، كسبيل من سبل تعريفك بما قد يحدث لك ولأمتك ، (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) وذلك لما يمكن أن تثيره فيهم من اهتزاز وارتباك ، (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) من هؤلاء الذين يتحركون ، ليقودوا خط الضلال والانحراف بعيدا عن خط الإسلام والاستقامة ، أو هذه الشجرة التي تحدث عنها القرآن ، فأثارت كثيرا من الجدال الناشئ عن عدم الفهم (وَنُخَوِّفُهُمْ) بما يثيره فيهم الحذر الذي يوجههم نحو الخير. (فَما يَزِيدُهُمْ) ذلك (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي ظلمنا وعدوانا من خلال أجواء الغفلة واللامبالاة التي تقودهم إلى الاستخفاف بكل حالات الإنذار والتخويف ؛ والله العالم.

* * *

١٦٥

الآيات

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥)

* * *

معاني المفردات

(لَأَحْتَنِكَنَ) : لأقودنّ. مأخوذ من تحنيك الدابة ، إذا شدّ على حنكها الأسفل بحبل يقودها به. أو لأقتطعنهم من الأصل ، من احتنك الأرض إذا جرّد ما عليها.

(مَوْفُوراً) : تامّا ، مكمّلا.

١٦٦

(وَاسْتَفْزِزْ) ، الاستفزاز : الاستخفاف والاستنهاض.

(وَأَجْلِبْ) : من الجلبة وهي الصّياح.

* * *

تكرار قصة آدم وإبليس للغظة والاعتبار

وتبقى قصة آدم وإبليس ، هي القصة التي يراد لها أن توحي للإنسان بالحذر انطلاقا من الخط الذي تحرك في بداية الخليفة ، وبدأ بحالة الكبرياء الذاتية العنصرية ، التي دفعت إبليس إلى الامتناع عن السجود لآدم ، كما أمره الله ، وإلى التخطيط لإضلال بنيه في المستقبل ليخرجهم من الجنة ، كما كان أبوهم سببا لإخراجه من رحمة الله ، في ما تحركت به النوازع إلى هذا المصير.

وهذا ما يريد الله للإنسان أن يعيشه في مواجهة الشيطان ، كحقيقة ثابتة تفرض نفسها عليه في عملية إغواء وإضلال ، ولكنها لا تستطيع أن تشلّه وتجمّده ، لأنه يملك العقل الذي يحدّد له مواقع الخير والشر كما يملك الوحي الذي يقوده إلى تفاصيل الواقع ويحذّره من نتائجها السلبية بطريقة حاسمة.

وتبقى القصة المتكررة في القرآن ، أسلوبا لا يريد أن يكرر الواقعة كخبر للمعرفة ، بل يريد أن يحركها في كل موقع للفكر ، وللعظة ، وللاعتبار.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) تحية له وتكريما لمقامه ، أو خضوعا لله الذي خلقه في أحسن الخلق وأورعه ، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) لم يسجد ، لأنه كان يعيش في داخل نفسه عدم التوازن بين حس الكرامة في الذات وحس العبودية لله ، فلم يعرف أن المخلوق لا يملك أيّة إرادة أمام الله ، فلا بد له من أن يعيش الاستسلام المطلق لذاته المقدّسة ، وأن كرامته مستمدّة من طاعته لله ،

١٦٧

لا من استسلامه لنوازعه الذاتية ، وأن الله هو الذي يحدّد للخلق مكانتهم من خلال اطلاعه على عمق السرّ الذي يتمثل في وجودهم ، بعيدا عن كل الأوضاع الظاهرة التي تميز مخلوقا عن آخر بغض النظر عن المعاني الخفيّه الكامنة في الداخل. وبذلك ضاع إبليس عن الطريق السويّ ، واختلطت المقاييس في ذهنه ، فانحرفت به عن خط الوضوح في الرؤية ، واستغرق في ذاته ، كما لو كانت تملك الأصالة الذاتية بعيدا عن كونها مخلوقة لله. ولا حظ العنصر الذي وجد منه وهو النار ، والعنصر الذي صنع منه آدم وهو الطين ، ففضل عنصره من دون التفات إلى أن الذي أودع الخصائص في النار هو الذي أودع الخصائص في الطين ، وعرف سر الذات في كل منهما ، فهو الذي يحدد مواقع الفضل في هذا أو ذاك ، لا المخلوق الذي لا يملك من المعرفة إلا ما عرفه الله.

* * *

عقدة الانتقام

(قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) أي كيف أسجد لهذا المخلوق الذي لا يملك أيّ تفوّق عليّ في عنصره ، وهو الطين. وتعاظمت الكبرياء في ذاته ، وتحركت العقدة في نفسه ، وحاول أن ينفّس عن هذه الحالة النفسية المعقّدة ، بعد أن يحصل على الخلود في الأرض ، ما دامت الحياة فيها ، فأعلن خطته الشريرة في الانتقام من هذا المخلوق ، الذي سيكون له ولأولاده شأن في هذه الأرض ، وذلك بالانتقام من أولاده. (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) أي أخبرني عن هذا المخلوق الذي فضَّلته عليّ ، كيف كرَّمته عليّ وأنا في المستوى الأعلى بالنسبة إليه. (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أي لأستأصلنهم بالإغواء ، وبذلك أبعدهم عن رحمتك ، وأنزلهم عن هذا المستوى الذي رفعتهم إليه ، وأردتهم أن يديروا به الأرض من خلال وحيك ، وأن

١٦٨

يخضعوها لإرادتك ، وأن يرتفعوا إليك بالطاعة ... (إِلَّا قَلِيلاً) منهم ، ممّن يرتفع إلى مستوى عقله ، ولا يخضع لنداء شهوته ، ولكنه يتوازن فيعطي للشهوة دورها في حركة الحياة في الجسد ، بما يلبي حاجته الطبيعية ، ويمنع عنها حريتها ، في ما يهدد حياتها وطهرها وصفاءها في آفاق الروح ، ويتحرك في اتجاه الدور الطبيعي المميز الذي خلقه الله من أجله ، وهو الخلافة في الأرض.

* * *

الإيحاء لإبليس باستعمال كل وسائل التضليل

(قالَ اذْهَبْ) وتصرّف بما يحلو لك ، مما قد تعتبره تنفيسا للعقدة ، وثأرا للكرامة ، وانسجاما مع كبرياء الذات ... ولكنه في الواقع مظهر الغرور ، يشعر صاحبه بالانتفاخ الذي لا يمثل شيئا من القوّة ، بل يمثل أعمق نوازع الضعف ، تماما كما هو الورم الذي يوحي بضخامة الجسد ، ولكنه يذهب كالهواء ... امض لشأنك وخذ حريتك. ولكن ما النتيجة ، وما العاقبة؟ فإن الأمور تعرف بنتائجها لا بمقدماتها. (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) وأطاعك ، وترك عقله ، وأطاع شهوته ، وعصى ربه ... (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) لا نقصان فيه.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي استخفّه حتى يستثيره نداؤك ليسعى إليك ، وذلك بإثارة عناصر الإغراء والإغواء والتزيين والتحسين أمامه (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) الجلبة ـ الصياح الذي يصدر عن صاحب الخيل والرجال من خلفه ، ليحثه على السبق واللحاق به ، والرجل جمع رجل ... وهو وارد على سبيل الكناية والتمثيل ، مثّل حاله في تسلّطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم ، فصوّت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجنده من خيّالة ورجّالة ، حتى استأصلهم ـ كما ورد

١٦٩

في الكشاف (١). وبهذا كانت الفكرة إيحاء للشيطان بأن يستعمل كل وسائله وإمكاناته وقواه في سبيل الإضلال (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) وذلك بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعية في اكتساب المال كالقمار والربا والسرقة والغصب ، أو في إنفاقه في الموارد المحرّمة ، أو بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعية في إنجاب الأولاد عن طريق الزنى ، أو في التربي على غير النهج الشرعي ـ إذا كانت ولادته شرعية ـ أو ما شاكل ذلك ... الأمر الذي يجعل المال والولد شركة بين الشيطان وبين صاحبه ، من خلال علاقته المحرّمة به ، بالإضافة إلى النسبة الذاتية التي تنتسب فيها الأشياء إلى أصحابها ، والأولاد إلى آبائهم.

(وَعِدْهُمْ) بكل المواعيد الكاذبة التي تثير فيها أمامهم أحلام المستقبل الذهبية ، التي تترتّب على معصيتهم لله وانحرافهم عن خطه المستقيم ، وتؤدي بهم إلى الاستسلام إلى أماني المغفرة والرحمة والشفاعة ، ونحو ذلك مما يخضع ـ في طبيعته ـ إلى شروط معينة. (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) فليس له حقيقة في الفكرة ولا في الواقع ، بل هو صورة في الخيال ، وحركة في الوهم والحس والشعور ، لأنه يظهر الباطل في صورة الحق ، والخطأ في مظهر الصواب ، والانحراف في خيال الاستقامة.

* * *

نجاح الشيطان مع المستسلمين له

افعل كل ذلك ، واستنفد كل طاقتك ، واصرخ بأعلى صوتك ، فسوف لن يستمع إليك ولن يتبعك إلا الضعفاء في عقولهم وإراداتهم ، الذين لا يعيشون في الآفاق الرحبة من معرفة الله ، ولا يتحركون في مواقع المسؤولية ، بل

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٢ ، ص : ٤٥٦.

١٧٠

يستسلمون للشهوات ويمارسون كل أوضاع الحياة من خلال اللّامبالاة ، كما لو كانت الحياة فرصة طيبة للهو والعبث ، بعيدا عن الفكر والهدى ، أما عباد الله الذين يعيشون الإحساس بالعبودية في عمق الذات ، على أساس أنه سرّ الوجود الإنساني في شعورهم بحاجتهم المطلقة لله في كل شيء ، من أول حركة في رحلة الوجود حتى آخر نبضة منه ، فليست العبودية عندهم حالة طارئة ، تنطلق من غلبة أو تشريع أو ما أشبه ذلك ، بل هي المعنى والحقيقة والمضمون في داخل الشخصية ، فهم ينظرون إلى المسؤولية نظرة جدّية ، تتصل بإنسانيتهم التي تعني الانسجام مع النظام الكوني في حركته ، للوصول به إلى الغاية الأساسية ، والّتي تفرض النظرة إلى عناصرها الذاتية ، كأمانة لله عندها ، في ما يجب أن تقوم به أو تتحرك به من خطط ومشاريع ... ولذلك فإنهم يعيشون الحرية أمام الشيطان وأمام العالم ، بالعمق نفسه الذي يعيشون فيه العبودية أمام الله.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) لأن سلطانك على الذين يتبعونك لا يعود سببه إلى ما تملكه من قوّة مهيمنة ضاغطة ساحقة ، أو لضعف فيهم لا يمكن أن يترجم إلى قوّة ، بل هو ناشئ من تنازل هؤلاء عن قوتهم في الفكر والإرادة ، واستسلامهم لك في ساحة الصراع ، ولكن عبادي الذين آمنوا بي وبرسلي ، وأخلصوا لرسالتي ، يستنفرون كل طاقاتهم الفكرية والعملية لمواجهة أساليبك الشيطانية وضغوطك الشهويّة ، فلا تستطيع إغواءهم لأنهم يتمرّدون على كل عناصر الإغواء الذاتية ، ولا تتمكن من إضلالهم ، لأنهم يصرّون على السير بقوّة في اتجاه الخط المستقيم ، من خلال المنهج الفكري والعملي الذي خطته الرسالات للإنسان من أجل بقائه مع الله في جميع أوضاعه العامة والخاصة ... فهو الذي يمد الإنسان بالقوّة عند ما يريد أن يتحرك نحوه ويتجه إليه ، ويقوم على رعايته وحمايته من كل شرّ يضغط عليه بما لا قيل له به. (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) وكافلا لعباده المخلصين السائرين على طريقه وهداه.

* * *

١٧١

الآيات

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩)

* * *

معاني المفردات

(يُزْجِي) : الإزجاء : سوق الشيء حالا بعد حال.

(ضَلَ) : هنا بمعنى غاب وذهب.

(حاصِباً) : الحاصب : من حصبه بالحجارة : أي رماه بها.

(قاصِفاً) : كاسرا.

(تَبِيعاً) : مطالبا أو محاسبا.

* * *

١٧٢

مواجهة الحقيقة

وإذا كان الله وكيلا وكافلا لعباده ، فكيف لا يستذكر العباد ذلك ، وكيف يغفل البعض عن الله ، فيرتبط في شعوره وإحساسه بالأمن ، بالجانب الحسّي من الحياة ، ولا يلتفت إلى أن الله الذي يمنح الإنسان النجاة في مظاهر الأمن الحسّي ، قادر على أن يسلبه ذلك في الموقع نفسه ، لأن الله يحفظ الإنسان ويحرسه من حيث يحتسب أو لا يحتسب ، ويهلكه من حيث يشعر أو لا يشعر ، مما يفرض عليه أن يتعلق بالله في خوفه وأمنه ، ولا يتعلق بمظاهر خلق الله ، لأن الله هو الذي خلق أسباب الموت والحياة. وهذه هي الفكرة التي تعالجها هذه الآيات في أكثر من نموذج من مواقع الحفظ أو الهلاك.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) ويجريها فيه بقوانينه الطبيعية التي أودعها في الكون ، في حركة الرياح التي تخضع لها حركة السفن في البحر.

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في ما يرزقكم من رزقه الذي يسخره لكم في البحر ، وما يوصلكم إليه من مواقعه في البر ، عند ما لا يكون هناك طريق بري إليه.

(إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) فقد أغدق عليكم من شآبيب رحمته في أصل الوجود وفي حركته ، وهو يريد أن يوصلكم إلى النعيم في جنته ورضوانه في دار السلام.

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) وثار الموج من كل مكان ، واهتزت السفينة في قبضة الرياح الهائجة ، وعشتم الخوف والهلع ، ورأيتم الموت أمامكم ماثلا في كل موجة ، وفي كل اهتزاز ... فإلى من تتجهون بقلوبكم؟ ومن هو القادر على إنقاذكم؟ وكيف تتصرفون؟؟ فكّروا جيدا في هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله ، هل ترون فيهم ملجأ من الخوف ، ومهربا من الموت؟ هل يملكون لكم نفعا؟ فهم لو كانوا في مثل حالتكم لما استطاعوا إلى الخروج من هذا

١٧٣

المأزق سبيلا ، بل يخافون كما تخافون ، ويطلبون المدد من الغيب كما تطلبون ، لأنهم عباد أمثالكم ، يحملون مثلكم نقاط الضعف الذاتية ، ولكنكم خدعتم أنفسكم بمظاهر القوة التي يملكونها ، ولم تنفذوا إلى ما وراءها من عوامل الضعف ، فعبدتموهم من دون الله ، حتى واجهتم الحقيقة الآن. فما ذا هناك؟

* * *

الله هو القوة المطلقة المهيمنة

(ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) لقد ضاع كل هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء من دون الله ، وتبخّرت كل صورهم وأشكالهم وظاهر قوتهم في الهواء ، أمام قوّة الرياح وعسف الأمواج ، وتحوّلوا إلى أشباح تتطاير في الخيال ، ولا تملك أن تتماسك لحظة في البال ... لقد ضاع هؤلاء جميعا ، وبقيت الحقيقة الثابتة المشرقة التي مهما غفل الإنسان عنها فإنها تبرز من جديد ، لتفرض نفسها على الفكر والشعور والوجدان ، ولتؤكد وجودها في الحياة من موقع حاجتها إليها في كل لحظة. لقد ضاع كل هؤلاء إلا إيّاه. هو القوّة المطلقة ، الإله الخالق المهيمن على كل شيء ، والقادر على كل شيء. إنك لن تحتاج إلى أن تلفظ اسمه لتعرفه ، لأن كل كيانك يتجه إليه من دون جهد ، بكل عفوية الحقيقة وبساطتها الماثلة في كل شيء ، ولا يتجه إلى غيره ، لأنه ليس هناك من يستطيع أن ينقذك من ضرّك غيره ، ولكن الإنسان يبقى إنسانا في نسيانه وغفلته ، فلا يحتفظ في وعيه بالحقائق التي تربطه بالعمق ، بل يظل في مستوى السطح حيث الذاكرة لا تحوي إلا الأمور الشخصية.

* * *

اللّجوء إلى الله مظهر للإيمان لا حالة طارئة

(فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن ذكره في ضمائركم ، وانحرفتم عنه لأنكم

١٧٤

شعرتم بالآمن على اليابسة التي تثبت أقدامكم في الموقع الصلب الذي تمتد صلابته إلى أعماق الأرض ، فلا مجال للخوف من احتواء الأعماق لكم في ظلامها المميت ، كما هو البحر الذي يشد الغريق إلى القعر ، ولا يعلو به إلى السطح حتى يأخذ منه حياته. وتلك هي قصة الإنسان الذي لا يشده إلى الله عمق إيمانه ، بل يربطه به خوفه من الحوادث المحيطة به ، فيحتاج إليه في خلاصه منها ، فإذا زالت الأحداث انقطعت صلته بالله. إن الإيمان لا يتنافى مع اللجوء إلى الله في حالة الخوف ، بل يؤكده ، ولكنه يريد أن يكون الالتجاء إليه مظهرا من مظاهر الإيمان ، لا مجرد حالة طارئة سريعة تأتي مع الحدث وتذهب معه ، ولا تترك أي تأثير في الداخل كما تتركه النعمة العظيمة في نفس المنعم عليه لصاحب النعمة ، بحيث يتذكره في كل وقت ، ويعترف بجميله ، ويعمل على أن يشكره بكل وسائل الشكر القولية والعملية ، لا سيما إذا كانت النعمة في حجم هذه النعمة التي تتحدث عنها الآية ، وهي إنقاذ الحياة من أخطار الموت.

* * *

الارتباط بالأمور المحسوسة

(وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) بنعمة ربّه ، لأنه يرتبط بالأمور المحسوسة في حياته الماثلة بأشخاصها أمامه ، ولا يرتبط بالغيب الذي قد يكون حضوره في حياته أعمق من الحس المتحرك حوله. ولذا فإنه يحتاج إلى المزيد من المعاناة والتفكير والجهد في ممارسة الإيحاء الذاتي بالمفردات المتحركة في حياته في حال الخوف والأمن ، والفقر والغنى ، والراحة والتعب ... التي تربطه بالله وتوحي له دائما بحضوره ـ سبحانه ـ في حياته في الحالات الطبيعية ، لأنه السبب الأعمق في الأشياء كلها ... وتلمس ظواهر الأمن في بعض الأشياء لا يعني عدم قدرة الله على أن يثير عناصر الخوف فيها من حيث لا يعرف ، مما أودعه الله في الكون من خصائص الأوضاع المألوفة أو غير المألوفة.

١٧٥

دلالة الآية على وحدانية الله

وقد اعتبر علماء الكلام هذا المضمون المذكور في الآية دليلا على وحدانية الله سبحانه ، فالإنسان قد يخضع لحالة معينة كالإشراف على الغرق ، بعيدا عن كل الوسائل التي تنقذ حياته ، لكنّنا لا نراه يعيش اليأس القاتل والاستسلام الكلي أمام الموت الفاغر فاه ليلتهمه ، بل نرى الأمل يتحرك في قلبه في قوّة وحيوية واخضرار ، متعلقا بوجود قوة قادرة رحيمة ، وليس هناك معنى لذلك إلا أن هناك سببا فوق الأسباب يرجع الأمر كله إليه ، وهو الله ـ سبحانه ـ الذي تنطلق الفطرة من عمق الصفاء فيها ، لتلتقي به وتكشف وجوده وحضوره في حياة الإنسان ، ولكن الشوائب الطارئة ، والزخارف المغرية ، والأهواء العابثة ، هي التي تحجب الفطرة عن الله ، وتنتهي بالإنسان إلى الغفلة عنه.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) فكيف تأمنون لصلابة الأرض التي تقفون عليها ، وأنتم تعرفون مبلغ قدرته التي يزلزل بها الأرض ، ويحول الجبال إلى تراب تذروه الريح. (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) يرميكم بالحجارة أو يقصفكم بالريح المهلكة في البر ... فكيف تأمنون في البر من مكر الله ما لا تأمنونه في البحر ، مع أن كل القوانين في البر والبحر طوع إرادته وقدرته؟!

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) فيرجعكم إلى البحر بسبب أو بآخر ، (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) يقصف السفن فيكسرها ، (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) بالله وبنعمه. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) ، وهو التابع الذي يتبع الشيء ، فيتابع المسألة مع الله ليسأله لم فعل هذا أو ليحاسبه على ذلك ، لأن الله هو الأعلى الذي لا يقترب من جلاله شيء ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

* * *

١٧٦

الآية

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٧٠)

* * *

معاني المفردات

(كَرَّمْنا) : فضلنا بكثير من المميزات.

* * *

الإنسان خليفة الله

لقد خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له ، تحيّة لهذا المخلوق الذي يتميز بصفات كماليّة ، وذلك لما تختزنه الإنسانية في داخله من عناصر النموّ في سبيل الكمال ، وخضوعا لله الذي كان هذا الإنسان مظهر قدرته ، وذلك لما يتميز به من عقل ووعي وقدرة على الانفتاح على كل جوانب المعرفة التي تحتاجها الحياة في نموّها وتطوّرها وبلوغها إلى مستوى الأهداف التي أراد الله للإنسان تحقيقها ، وما يملكه من قابليات يحركها في قيادة الواقع ، والاستفادة من كل ما سخره الله له في الأرض والسماء ، من أجل أن تتوازن الحياة في

١٧٧

المواقع المتنوعة التي يحمل كل منها خصوصية للفكر وللعمل وللحياة.

ولم يكن آدم ـ بشخصه ـ موضعا لهذا التكريم الإلهي ، في حفلة الخلق الأولى ، وفي حركة الوجود بعد ذلك ، وفي امتداده في نطاق الزمن ، بل كان آدم ـ الإنسان ـ النوع ، في كل مظاهره النوعية وخصائصه الإنسانية ؛ من العقل والعلم والقدرة على التنوع في الحركة في مجالات النمو والإبداع ، هو سر هذا التكريم.

إنه سيّد الأرض ، وحامل الرسالة ، ومستودع علم الله الذي يريد للإنسان أن يحمله ، وخليفته في إدارة النظام الكوني ، بالمقدار الذي يستطيع ـ معه ـ أن يستوعب إسراره ، ويملك حركته. وذلك هو الفرق بين الإنسان وبين الحيوان الذي يملك الحياة ويمارس بعض الدور فيها ، ولكنه غير قادر على التطوير والتنويع والحركة ، لأنه خاضع في حياته للفطرة الذاتية التي تتحرك وتقف بحساب دقيق ، دون أن يملك القدرة على الخروج من هذه الدائرة ، بل هو في كل حياته خاضع للإنسان ، مسخّر له ، وواقع ـ في أغلب مجالاته ـ تحت سلطته. أمّا الجن ، فقد يملك بعض الخصائص العقلية ، التي نعرفها من خلال مسئوليته أمام الله عن الإيمان وعن الحركة في اتجاهه ، ولكنه ـ على ما يبدو ـ لا يملك هذا النوع من القدرة على الإبداع الذاتي ، أو الاختزان الروحي للمسؤولية ، ولذا كان الإنسان هو الرسول الذي أرسله الله من أجل أن يهديه ويرشده ويخطط له طريق الهدى ، كما حدثنا القرآن عن ذلك في سورة الجن.

وإذا كانت هناك بعض العقائد التي توحي بالقدرة الخارقة التي تمكّن الجن من السيطرة على الإنسان والضغط عليه ، وتجميد عقله ، وإرباك حياته ، وتعقيد مشاعره ، وإثارة أعصابه ، فإنها لا ترجع إلى أساس علميّ أو دينيّ موثوق به ، بل هي مجرد انطباعات واستنتاجات يحملها الناس من خلال الثقافات المشوشة ، التي تفرض نفسها على الذهن ، حتى تحوّله إلى ما يشبه

١٧٨

العقائد الموروثة.

وقد يكفي في قيمة الإنسان أمامه ، أن الله حمله مسئولية إدارة الحياة وحده ، من خلال عقله وإرادته وإمكاناته المنفتحة على كل جوانب المسؤولية في الحياة ، ولم يحملها لأحد غيره.

* * *

تكريم الإنسان في الأرض

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) في تلك الخصائص الذاتية التي يستطيع من خلالها اكتساب خصائص أخرى ، تضيف إلى عقله عقلا جديدا ، وإلى علمه علما منفتحا ، وإلى حركته في الواقع قوّة جديدة ... وقد استطاع الإنسان ، على مر العصور ، في نماذجه العليا المتمثلة بالرسل والأئمة والأولياء ، وفي بقية النماذج المتنوعة في طاقاتها ، أن يكون في المستوى الكبير في تحريك هذه الطاقات ، وفي الوصول بالمعرفة إلى عوالم جديدة ، لم يكن له عهد بها من قبل ، وفي إدارة الحياة على طريقة مبدعة ، توحي بالعمق والسموّ والامتداد ، في ما تعبر عنه من حركة العقل والمعرفة والإرادة.

وإذا كانت هناك سلبيات كثيرة على مستوى الانضباط في خط المسؤولية ، وذلك من خلال مظاهر الانحراف عن إرادة الله التشريعية في كثير من الأعمال والأوضاع ، فإن هناك إيجابيات كثيرة ، على مستوى الإبداع في استخراج دفائن الأرض ، واكتشاف آفاق السماء ، والتحرك على أساس إدارة المعرفة في خدمة الحياة ، من خلال ما أراد الله له أن يفجره من أسرار الكون لخدمة الإنسان والحياة.

* * *

١٧٩

هل التكريم أصل فقهيّ؟

وقد يخطر في البال ، أن لا يكون هذا الإعلان عن تكريم الله لبني آدم مجرد حديث عما أفاض الله على الإنسان من ألطاف التكريم التكويني في طبيعته ودوره في الحياة ، بل يتعدّاه إلى الخط التشريعي الذي يوحي بكرامة الإنسان كأصل من أصول النظرة القرآنية إليه ، بحيث تؤكد كل تصرّف يكرّس كرامته ، وترفض كل ما يؤدي إلى إهانته من موقعه الإنساني ، بعيدا عن العناوين الثانوية التي قد تجيز إهانته والتعدي على حرمته ، على أساس بعض الأوضاع أو الصفات أو الانتماءات المنحرفة عن خط الله ... فتكون لنا من خلال ذلك قاعدة شرعية ، هي احترام الإنسان في نفسه وماله وعرضه ، كأصل إسلاميّ فقهيّ ، لا يجوز الخروج عنه إلا بعنوان آخر مخصّص له.

وقد يكون الأساس في استيحاء هذا الأصل الفقهي من الآية ، هو أن الله إذا كرّم بني آدم في إعدادهم التكويني والعملي ، فإننا نستفيد من ذلك أنه يريد لهم أن يؤكدوا هذه الكرامة على مستوى وجودهم الحياتي وفي علاقاتهم الاجتماعية التي تحكم تصرف كل واحد منهم تجاه الآخر ، سيما وأن التصرف السلبي المخالف لذلك يتنافى مع خط الكرامة الإلهية للإنسان ، لأنه ينتهي إلى الإهانة لمن يريد الله احترامه.

أمّا ما ثبت في الشرع من جواز التعدّي على أنفس بعض الناس وأموالهم وأعراضهم ، فلأنهم أهدروا احترام إنسانيتهم بالانحراف عن الخط ، الذي أراد الله لهم أن يحترموا أنفسهم ودورهم فيه ، فابتعدوا عن مواقع الكرامة باختيارهم ، فلا مجال لاحترامهم بعد ذلك ..

وقد نستطيع استيحاء النظرة الإسلامية إلى بعض الأعمال التي يقوم بها

١٨٠