تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

المنطق الساذج

كيف يفكر هؤلاء؟ هل لديهم أفكار عميقة تواجه العقيدة بالبراهين المضادّة؟ وهل يعيشون مسئولية الفكر ، بعمق النظرة إلى القضايا ، ووضوح الرؤية إلى الأشياء؟

ليس هناك إلا مواجهة الحقائق ، بأنها لا تنسجم مع المألوف الذي عاشوه في حواسّهم وتجاربهم. وما ذا لدى الألفة من حجة تواجه بها العقل القاطع في الفكر الذي يمثله؟!

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) وهذا هو المنطق الساذج الذي يخاطبون به عقيدة الآخرة في موقف رافض ، فتقادم الزمن بعد الموت يحوّل الجسد إلى عظام ورفات جامد لا أثر فيه للحياة ، فلا نبضة ولا حركة ، فكيف يمكن أن تدب الحياة فيه ، لينبض من جديد ويتحرك؟! إن هذا لشيء عجيب يشبه الخرافة ، فكيف يتحوّل إلى عقيدة أو إيمان؟ ولكن المنطق القرآني يثير المسألة بأسلوب التحدي الذي يصعد المسألة : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) في ما يتميزان به من الصلابة والشدّة والخلوّ عن كل أثر للحياة ، (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) مما تشاهدونه أو تسمعون به. كونوا كما تشاؤون أن تتصوروا أنفسكم فيه ، وتبدّلوا في أية صورة من الصور ، فليست المشكلة كامنة في طبيعة الشكل الذي تتمثل فيه الحياة أولا ، ثم تموت ، لتعود من جديد في عملية البعث الأخروي ، بل هي مشكلة القدرة التي تملك سرّ الحياة في البداية ، وفي النهاية ، (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) في سؤال ساذج يتحرك في حجم اللحظة ، لا في عمق الفكرة. وتلك هي مشكلة الكثيرين ممن يتحرّكون في العقيدة ، بعيدا عن الأسس الفكرية التي ترتكز عليها في محاكمة واعية عميقة للشبهات التي تحيط بالمسألة ، واستنتاج دقيق للمضمون.

* * *

١٤١

الخالق هو المعيد

(قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهو الله الذي تعتقدون أنه خلقكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، لأنه يملك القدرة على أن يعطي الحياة سرّها ، فهو القادر على أن يعيدها من جديد ، إذ إنّ عملية الإعادة أكثر سهولة من عملية الخلق في الابتداء. (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) ويحركونها ـ في حالة تعجب ـ وينحنون أمامك انحناءة العاجز عن ردّ الحجة بمثلها لأنهم لا يملكون ذلك ، فيبادرون إلى الهروب من الجواب ، إلى توجيه سؤال آخر يستبعد المسألة في حساب الزمان ، وقد يكون في موقع الساخر منها.

(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) فها هي الحياة تتقدم ، والأموات يتكاثرون ويزدادون ويتحولون إلى عظام ورفات ، ولا نجد أحدا منهم يعود من جديد إلى الحياة ، بالرغم من تقادم الزمن عليه (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) فهو سرّ الله الذي اختص به ، ولم يعرّفه لأحد من عباده حتى لأقرب رسله إليه ، ولكنه سيأتي ، لأن الله الصادق في وعده قد أخبرنا به ، والعقل القاطع قد حكم بإمكانه ... فانتظروه في إيمان الواثق بحصوله ، فقد يأتيكم قريبا من حيث لا تشعرون ولا تعلمون. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) الذي يتحرك من موقع قدرته ورحمته ونعمته ، التي يشعر فيها الإنسان بكل صفات الحمد المتمثلة في ذاته المقدسة ، وتشعرون بحركة الحياة ، وهي تهتز وتضج قليلا من الزمن ، وستواجهون الحقيقة هناك ، في ساحة المسؤولية ، بعيدا عن كل جدل ، ففكروا الآن كيف تواجهون المسألة من هذا الموقع.

* * *

١٤٢

الآيات

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥)

* * *

معاني المفردات

(يَنْزَغُ) : يفسد.

(زَبُوراً) : كتابا أنزل على داود عليه‌السلام.

* * *

١٤٣

مناسبة النزول

كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ، فيقولون : يا رسول الله ، ائذن لنا في قتالهم ، فيقول لهم : إنّي لم أؤمر فيهم بشيء ، فأنزل الله ـ سبحانه ـ (وَقُلْ لِعِبادِي) الآية ـ ـ عن الكلبي (١).

* * *

الكلمة المناسبة في الحوار

كيف تكون الكلمة التي يطلقها الإنسان في الحوار أو التخاطب الاجتماعي؟ هل هي الكلمة التي يوحي بها المزاج ، في لحظة انفعال ، أو نزوة هوى ، أو هي الكلمة التي يخطط لها العقل ، ويحرّكها الإيمان؟؟

إن للكلمة مدلولها في حسابات الفعل وردّ الفعل ، وأثرها السلبي أو الإيجابي في حركة

العلاقات الخاصة والعامة ، وفي إثارة المشاكل أو في حلّها ... وهذا ما يريد القرآن توجيه الإنسان إليه في دراسة الفكرة التي يريد أن يحركها في المجتمع ، ليختار الفكرة الأفضل التي تفتح القلوب على المحبة ، والمشاعر على الرحمة ، والعقول على الخير والحقيقة. ثم يدرس الكلمة الأحسن التي لا تختزن الحساسيات المعقّدة ، ليقول الكلمة الأحسن في اللفظ والمدلول. ولا بد له ـ في ذلك ـ من دراسة المسألة من جميع جوانبها بطريقة مقارنة ، ليرفض السيّئ والأسواء ، ويختار الحسن والأحسن.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٦ ، ص : ٥٤٤.

١٤٤

اختيار الأحسن تجنبا للتباغض

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قل لهم ـ يا محمد ـ من موقع الإلزام في مواضعه ، على أساس المصلحة التي تحمل في داخلها الخير الضروري للناس ، ومن موقع النصيحة والاستحباب ، في مواضع الرخصة ، على أساس المصلحة الراجحة التي لا تلزم ، فهذا هو السبيل لتركيز المجتمع في علاقاته العملية ، على أساس الألفة والمحبة والخير والرحمة ، ولإبعاده عن التناحر والاختلاف والتباغض والتحاقد ، لأن الشيطان قد يدخل في خلفيات الكلمة وفي مداليلها ، وفي إيحاءاتها وحساسياتها ، ليثير العداوة والبغضاء بين الناس. (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) ويفسد علاقاتهم ، ويغري بعضهم ببعض ... فينبغي الحذر منه ، وذلك بالابتعاد عن مداخلة وحبائله ووسائله الشيطانية (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) فهو يحاول الإيحاء له بالكفر والشرك والضلال ، الذي يؤدي به إلى عذاب السعير.

* * *

الآية موجهة للناس كافة

وقد ذكر صاحب الميزان : «أن المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول ، ويخاشنونهم بالكلام ، وربما جبهوهم بأنهم أهل النار ، وأنهم ـ معشر المؤمنين ـ أهل الجنة ، ببركة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان ذلك يهيّج المشركين عليهم ، ويزيد في عداوتهم ، ويبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم وتعذيبهم وإيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعناد مع الحق. فأمر الله ـ سبحانه ـ

١٤٥

نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم بقول التي هي أحسن» (١).

ولكن من الملاحظ أن مثل هذا الاستيحاء أو الاستظهار ، لا قرينة عليه من ناحية الآية في مدلولها ، ولا من ناحية تاريخية في سلوك المؤمنين مع المشركين. وربما كان استظهاره إرادة المؤمنين من قوله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي) ما ينافي ذلك ، لأن السياق يوحي بأن المسألة هي من أجل تنظيم حركة العلاقات بين المؤمنين في طريقة التخاطب والحوار ، وذلك في قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) فإن الضمير راجع لعباده.

وإننا نرى في هذه الآية توجيها للناس كافة باتباع الكلمة التي هي أحسن في الحوار من دون اختصاص بالمؤمنين ، لعدم ظهور كلمة (عبادي) في هذا الاختصاص ، بل إن حال الكلمة هي حال «يا أيها الناس» التي يراد من خلالها توجيه الناس جميعا إلى القواعد العامة التي تنظّم سلوكهم وحياتهم بشكل عامّ ، مما يجعل المؤمنين يتحركون من خلال التزامهم بالشريعة ، إلى الالتزام بهذه المبادئ الإلهية الإنسانية في بعدها الإنساني ، الذي يوحي إليهم بالانسجام معها من خلال المسلمين وغيرهم ، ليخاطب المؤمنون بعضهم البعض بالتي هي أحسن ، فيعمّقوا الصلة الروحية الإيمانية بينهم ، وليخاطبوا غيرهم من المشركين والكافرين بهذا الأسلوب ، ليحطموا حواجز العناد والتمرّد في داخلهم ، ويقودهم إلى أجواء الإيمان من أقرب طريق.

* * *

استحضار علم الله أمام الإنسان

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) وبما يصلحكم أو يفسدكم ، ولذلك أمركم بما أمركم

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ١١٥.

١٤٦

به ليصلح أمركم في الدنيا والآخرة من خلال التزامكم به وطاعتكم له ، ونهاكم عما نهاكم عنه ليبعدكم عن إفساد أمركم ومصيركم في الدنيا والآخرة ، من خلال انسجامكم معه وعدم عصيانكم له ، وبذلك فإن عليكم مواجهة المسألة من هذا الخط ، والحذر من الانحراف عنه ، لأن الأمر في كل نتائجه السلبية والإيجابية لله الذي يعلم كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء من ذلك كله ، وليس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا لغيره شيء من أمركم ، في ما يمكن أن يحدث لكم على مستوى المصير ، بل الأمر إليه ـ وحده ـ (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فيغفر ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بما تستحقونه على مخالفة أمره ونهيه. ثم يلتفت بالخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقول له : إن مهمته الإبلاغ ، وهي تنتهي عند حصوله منه.

(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) حافظا لأعمالهم ، تتحمل مسئوليتها وتؤاخذ بانحرافهم. وهذا المعنى الظاهر من الآية يتصل بالآية السابقة ، من خلال ما يستفاد من الإيحاء بذكر الشيطان ، بالانحراف الذي يقود العباد إليه ويجعلهم يقعون في معصية الله ، فيستحقون عذابه ، فكان من المناسب الإيحاء بأن الله مطّلع عليهم ، فيجب أن لا يغفلوا عنه ، ولا يستجيبوا للشيطان ، وليعلموا أن أمرهم بيد الله ، فهو الذي يرحمهم في مواضع الرحمة ، ويعذبهم في مواضع العذاب ، تبعا لاختلاف مشيئته في ذلك.

وقد استظهر صاحب تفسير الميزان أن قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) في مقام تعليل الأمر السابق ثانيا ، ويفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من إغلاظ القول على غيرهم ، والقضاء بما الله أعلم به من سعادة أو شقاء ، كأن يقولوا : فلان سعيد بمتابعة النبي ، وفلان شقيّ ، وفلان من أهل الجنة ، وفلان من أهل النار ... وعليهم أن يرجعوا الأمر ويفوضوه إلى ربهم ، فربكم ـ والخطاب للنبي وغيره ـ أعلم بكم ، وهو يقضي الأمر فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب (إِنْ يَشَأْ

١٤٧

يَرْحَمْكُمْ) لا يشاء ذلك إلّا مع الإيمان والعمل الصالح على ما بيّنه في كلامه (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) ولا يشاء ذلك إلا مع الكفر والفسوق ، وما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلا مفوضا إليه أمرهم ، حتى تختار لمن تشاء ما تشاء ، فتعطي هذا وتحرك ذاك.

ومن ذلك يظهر أن الترديد في قوله : (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) باعتبار المشيئة المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان والكفر والعمل الصالح والطالح ، وأن قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والانتساب إلى قبول دينه نظير قوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (١).

إننا نلاحظ أن هذا الاستظهار مبنيّ على ما استظهره في الآية السابقة ، من توجيه النداء إلى المسلمين في طريقة مخاطبتهم للمشركين. وقد ناقشنا ذلك ، لأنه لا يرتكز على أساس لفظي أو تاريخي ، بل هو مجرد استنتاج ذاتي لا ينسجم مع السياق ـ كما قدمنا ـ ونلاحظ ـ أيضا ـ أن الأسلوب القرآني قد دأب على إثارة علم الله أمام الإنسان ، وذلك كي يدفعه إلى مراقبته في داخل نفسه ، ليكون ذلك سبيلا إلى الامتناع عن معصيته ، كما أن الحديث عن الترديد بين الرحمة والعذاب ينطلق في سياق استحقاق العذاب ، الذي قد يكون موضعا للعفو أو للعقاب ، من خلال مشيئته ، لا في اختلاف الموارد بين الإطاعة والمعصية. وبهذا فإن ما ذكره لا يتناسب مع ذلك.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه هو الذي خلقهم ، ويعلم سرّهم وعلانيتهم ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء. وهذا ما يريد الله من الإنسان أن يختزنه داخل ضميره ، ليشعر بالإحاطة الشاملة الممتدة لكل الآفاق من حوله ، حتى يكون ذلك سبيلا لتعميق الرقابة الداخلية في نفسه ، فيمتنع عن

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ١١٦ ـ ١١٧.

١٤٨

التمرّد على الله ومعصيته ، ويكون انطلاقة للوعي الفكري الذي يوحي بالثقة بتنظيم الله للكون على مستوى التكوين والتشريع ، وإرسال الرسل الذين يقودون الناس إلى الخير ، وإنزال الكتب التي توجه الحياة إلى التخطيط الدقيق الذي يعطيها هداها.

* * *

اهتزاز الكون بالتسبيح

(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بما ميزناهم من مواقع العمل ، وطبيعة المعجزة ، ونوعية الكتب ، وذلك بمقتضى الحكمة التي أقام الله الحياة عليها. (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) هذا الكتاب الذي يتميز بالكلمة الأحسن المشتملة على حمد الله وتسبيحه ، وبالأسلوب الأحسن الذي يثير أعمق مشاعر الإيمان ، في الانفتاح على الله سبحانه ، والخضوع له ، والخشوع أمام جلاله ... وهكذا كان هذا السحر اللفظي ، والمضموني ، والروحي الممتزج بالسحر الصوتي الذي يتميز به نبي الله داود عند ما يقرأ الزبور ، يوجب الاهتزاز الكوني بالتسبيح لله ، حتى لتحس بأن الكون يسبّح من حوله ، والطيور تسبّح من فوقه.

ولعل في هذا بعض الإيحاء بأن الله قد يجعل الفضل بالكلمة الأحسن ، والأسلوب الأحسن ، لأن الحياة قد تفتح قلبها للحقيقة من خلالهما ، وقد تهتز لمشاعر الإيمان أمامهما ، ولأن ذلك يحقق إنسانية الإنسان في احترامه للآخرين ، الذي يؤدي إلى احترام الآخرين له ولفكره من موقع المحبة والانفتاح.

* * *

١٤٩

الآيات

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (٥٩)

* * *

معاني المفردات

(الْوَسِيلَةَ) : طريق التّقرّب إلى الله.

(مَحْذُوراً) : من الحذر ، وهو الخوف ، أي يحذره العاقل ويحترس منه.

(مَسْطُوراً) : مكتوبا.

(النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) : أي دلالة واضحة عند من يبصرها.

١٥٠

(فَظَلَمُوا بِها) : فكفروا بها.

* * *

وهم الشريك

وتبقى مسألة التوحيد هي الأساس الثابت ، الذي يخاطب الله به عباده ويدعو نبيّه ليحاورهم فيه ، فيواجه الأفكار الوهمية التي تدعم الشرك ، ويقتحم المشاعر الخفية التي تحتضنه ، لأن هذه المسألة تشكّل الخط العام للحياة الذي تلتقي به كل الخطوط التفصيلية التي يريد الله للناس أن يتحركوا فيها.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) من هؤلاء الذين تعبدونهم بمختلف وسائل العبادة وأشكالها ، وتعمقوا في دراسة خصائصهم الذاتية وطبيعة قدراتهم ، ولا تواجهوا المسألة معهم من موقع الألفة التي تحجب عن الإنسان الطبيعة المظلمة للأشياء ، أو من موقع التقليد الذي يستغرق الإنسان معه بالمقدّسات الموروثة بعيدا عن أي تفكير أو نقد موضوعي للأشياء ... وبادروا بدراسة حاجاتكم الملحّة المعقّدة وما أنتم فيه من مشاكل وآلام وأوضاع صعبة ، وقدموها إليهم فستلتقون بالحقيقة الصارخة : (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) وإزالته (وَلا تَحْوِيلاً) عنهم إلى غيرهم. لأنهم لا يملكون قدرة ذاتية من خلال العناصر الخاصة التي يتألف منها كيانهم المحدود ، بل لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.

* * *

١٥١

إشكالات أمام النقاش

والظاهر أن الآية ليست بصدد الحديث عن دعائهم ، ليروا هل يستجيبون أو لا يستجيبون لهم؟ ليلتقوا بالجانب السلبيّ من ذلك ، فيعرفوا بأنهم ليسوا في مستوى الألوهية الذي يجعلهم شركاء لله ـ سبحانه ـ ليثير البعض في ذلك إشكالا ، وهو أن الناس قد يسألون الله ، فلا يستجيب لهم لأنه لا مصلحة لهم في ذلك ، أو لأن هناك مفسدة ، أو لأن هناك بعض الموانع التي تمنع من تنفيذ ذلك ... فكيف يمكن أن يكون ذلك دليلا على نفي ألوهيتهم؟؟

وقد أجاب البعض عن ذلك ، بأن «الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شيء ، ودعاه عن قلب فارغ سليم ، يستجيب له ، وأن غيره إذا انقطع داعيه عن الله وسأله مخلصا ، فإنه لا يملك الاستجابة.

ويتابع الجواب فيقول : وعلى هذا ، فلا محل للمعارضة من قبل المشركين ، فإنهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم ، وهم ، أنفسهم ، يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر ، وانقطعوا إلى الله ، وسألوه النجاة ، نجّاهم إلى البر ، وهم معترفون بذلك. ولئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جدّ في الدعاء وانقطاع إليه ، كان حالهم في البر حال غيرهم وهم في البحر ، ولم يخيّبوا ولا ردّوا.

ولم يقابل الله سبحانه في كلامه بين دعائهم لآلهتهم ودعاء المسلمين لإلههم ، حتى يعارض باشتراك الدعاءين في الرد وعدم الاستجابة ، وإنما قابل بين دعاء المشركين لآلهتهم وبين دعائهم أنفسهم له ـ سبحانه ـ في البحر عند انقطاع الأسباب وضلال كل مدعوّ من دون الله» (١).

إننا نلاحظ على ذلك ، أن الآية واردة على سبيل الكناية ، لإظهار

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ١٢٦ ـ ١٢٧.

١٥٢

عجزهم الذاتي عن الاستجابة لهم ، لا للحديث عن نفي الفعلية في الزمن المعيّن ، فلا مجال لورود الإشكال من الأساس.

وأما القول بأن الله يستجيب للإنسان إذا انقطع إليه ، فهو غير دقيق لأن عدم الاستجابة لا ينحصر بصورة فقدان التوجه القلبي والروحي إلى الله ، بل قد يكون من جهة عدم المصلحة فيه للداعي ، أو لوجود المانع من جهته ، أو من جهة النظام الكوني للحياة.

وقد حاول بعضهم أن يثير أمام هذه الآية إشكالا آخر ، وهو أن الظاهر من الآية ، أن المقصود بهؤلاء هم الجن والإنس والملائكة ونحوهم من المخلوقات الواعية العاقلة ، بقرينة الآية الثانية الآتية. وفي هذا المجال لا يمكن نفي قدرتهم مطلقا ، لأن لهم قدرة خاصة ، ولو بمعونة قدرة الله ـ كما يعتقد هؤلاء القائلون بألوهيتهم ـ فكيف يمكن نفي القدرة مطلقا؟ وبذلك قال بأن الظاهر هو نفي القدرة المستقلة.

ولكننا نلاحظ على ذلك ، بأن المسألة ترتكز على إلغاء قدرتهم الخاصة ، الخاضعة في وجودها لله ، المتحركة بإرادتهم ، والإيحاء بأنها لا تملك أن تقدم إليهم شيئا ، إذا لم يأذن الله بذلك بطريقة غيبيّة ، لأن ما يملكونه من القوّة لا يقوم به لو أرادوا ذلك ، لأن الأمر من اختصاص القوة الإلهية التي لم يعطها لأحد من عباده بطريقة ذاتية مستقلة.

* * *

حاجة الآلهة تطردها عن موقع الشريك

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) من هؤلاء الآلهة ، لا يشعرون أمام الله بأيّ

١٥٣

استقلال ذاتي ، بل يحسون بالحاجة المطلقة إليه ، لاعتقادهم بالغنى المطلق له ، ولذا فهم يحاولون الوصول إليه وإلى رحمته بأيّ طريق ، وفي عملية بحث دائم ، ويبتغون إليه الوسيلة التي تقربهم إليه ليمارسوها ، وليحصلوا عليها ، وليتسابقوا في ذلك كله ، ليروا (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) من خلال طبيعة وسيلته التي تتميز عن الوسيلة الأخرى لغيره.

والظاهر أن المراد من الوسيلة ، هي العمل الصالح الذي أراده الله سبيلا للقرب منه ، لا الأشخاص الذين يتخذهم الناس وسائل للوصول إلى الله. ولعل هذا هو المراد من قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ، [المائدة : ٣٥] وذلك من خلال ما تعبر عنه الكلمة من الطريق أو الأداة التي يتقرب بها الناس إلى الله ، ويصلون ـ من خلالها ـ إليه بشكل مباشر.

(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) في لهفة المترقّب الذي ينتظر هطول الرحمة عليه بالمغفرة والرضوان ، (وَيَخافُونَ عَذابَهُ) في شعور الإنسان المذنب الذي يعرف أنه مستحق للعذاب ، ولذا فإنه يخاف عذاب الله ، ويحذر من وقوعه. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً). يحذر منه الناس ، لما له من شدّة في طبيعته ونتيجته.

وعلى ضوء هذا ، فإن معنى الآية ، هو ، كيف يمكن أن يدّعي هؤلاء الناس ألوهية هذه المخلوقات ، واعتبارها شريكة لله سبحانه ، مع أنها لا تشعر بالاستقلال الذاتي في طبيعتها ، بل هي ـ على العكس من ذلك ـ تشعر بالحاجة المطلقة إليه ، ممّا يدفعها إلى تلمّس كل الوسائل التي تقربها إليه لتدرس أيّها أقرب إليها ، لتسلكها ، فيعرف أفرادها (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ليحس بالأمن والطمأنينة والنجاة من النار ... وترجو رحمة الله وتخاف عذابه ، فهي في قلق دائم من ذلك كله ، فكيف يمكن أن تكون في موقع الشريك لله ـ سبحانه ـ؟

* * *

١٥٤

كتاب التكوين وسنن الحياة

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) بالموت أو بغيره من الأسباب المهلكة ، كالزلزال والطوفان والإحراق (أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) بالجوع والخوف ونقص من الأموال والثمرات ، وذلك ما تؤدي إليه الأعمال التي يقوم بها المترفون والمستكبرون ويتبعهم عليها المستضعفون ، لأن سنة الله في خلقه قد جرت على ربط النتائج بمقدماتها ، والمسببات بأسبابها. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) في ما قدره الله ، في علمه ، في كتاب التكوين الذي أخضع الحياة كلها لقوانين وضوابط وأوضاع تتحرك من خلالها للوصول إلى النظام الكوني ، الذي أراده الله خطّا عمليا وتكوينيّا للموجودات العاقلة المتحركة بالإرادة ، وجعله خطا تكوينيا للموجودات الجامدة أو النامية غير العاقلة. وقد تحدث بعض المفسرين عن احتمال أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، الذي ذكر فيه كل شيء بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له ، واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد. وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك ، فلا بد من أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة.

ولكن هذا الوجه غير ظاهر من اللفظ القرآني ، بل الأقرب هو كتاب التكوين في قوانينه العامّة أو إرادة ما ذكرناه من علم الله ، الذي قد يستعار له لفظ الكتاب الذي يسطر فيه العلم ، ولو أريد منه ذلك ، فلا مشكلة من جهة عدم التناهي ، لأن من الممكن أن تكون الأمور مندرجة تحت عناوين عامّة وضوابط محدودة تحتوي جميع التفاصيل ، والله العالم.

* * *

١٥٥

الموقف من طلب المشركين للمعاجز

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) ظاهر هذه الفقرة من الآية ، أن الله ـ سبحانه ـ كان يرسل الأنبياء بالآيات المعجزة التي تخرق المألوف ، في ما يقترحه الناس عليهم ، أو ما لا يقترحونه ، ولكن تلك الأمم السابقة ، كذّبت بهذه الآيات ، مما جعلها لا تؤدي المهمّة التي أرادها الله من تخويف الناس والضغط عليهم لمصلحة الإيمان به وبرسله ، وذلك لما تثيره في نفوسهم من الأجواء الروحية التي تدفعهم إلى الاهتمام والتفكير بالمسألة الإيمانية من موقع ثابت ، الأمر الذي أدى إلى أن يرسل الله نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن ، الذي يخاطب في الإنسان عقله وفكره ووجدانه ، ليفهم طبيعة الإيمان ويقتنع بها ، من خلال التفكير الذي يتلمس الأسلوب والمضمون ، في ما يكتشفه من الإعجاز القرآني ، ومن الحقائق الإسلامية الرسالية ، ولهذا لم يستجب لمقترحات قريش على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تفجير الصخور إلى ينابيع ، ومن تحويل الصحراء إلى جنات ، ومن الصعود إلى السماء ، ومن إنزال الكتاب السماوي بطريقة خارقة للعادة ، لأن ذلك لن يحقق أيّة نتيجة ، ما داموا لا يملكون إرادة الإيمان التي تدفعهم إلى دراسة الوسائل الفكرية والعملية الموصلة إليه ، ولهذا فإنهم يواجهون المسألة من خلال أسلوبين في الرفض ، فإذا استجاب النبي لهم ، فإنهم سيعتبرون ذلك سحرا وإذا لم يستجب لهم ، فإنهم سيرون في ذلك دليلا على عجزه وابتعاده عن مقام النبوّة.

ولكن ، إذا كانت الآيات مرادفة للتكذيب من قبل الكافرين ، فإن معنى ذلك أنها عديمة الفائدة ، فكيف أرسلها الله عليهم ولم يمنعها عنهم ، كما منعها في نهاية المطاف ، لأن ما يكون سببا للمنع لاحقا ، لا بد من أن يكون كذلك في السابق ، لأن المحذور مشترك بين الزمانين ، أو الحالتين.

١٥٦

وقد أجاب البعض عن هذا الإشكال بأن التكذيب مساوق للتعذيب في إرادة الله ، كما قرره في بعض آياته ، وذلك في حالات إنزال الآيات المقترحة من قبلهم ، وهذا ما لا مجال له في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن الله قد رفع العذاب عنهم بسبب وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وبسبب استغفارهم كما جاء في الآية الكريمة : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] فلو أنّ النبي استجاب لمقترحاتهم لكذبوه ، ولكان ذلك موجبا لنزول العذاب عليهم ، مما لا يتناسب مع هذه السنة الإلهية الجديدة في أمر الواقع الإسلامي.

وقد ورد التأكيد على هذا الوجه في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر محمد الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية ، قال : وذلك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل قومه أن يأتيهم ، فنزل جبرائيل فقال : إن الله عزوجل يقول : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) وكنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم ، فلذلك أخرنا عن قومك الآيات(١).

ولكن هذه الرواية لا تخلو من مناقشة ـ بحسب ظاهرها ـ لأنها تعتبر أن الآية هي رسول الله ، كما تتحدث عن أحداث سابقة في تاريخ قريش ، متضمنة للتكذيب وللإهلاك. وهذا مما لا نعهده فيهم ، لأن الله لم يرسل إليهم رسولا قبل النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ورد في الدر المنثور : «أخرج أحمد ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون ، فقيل له : إن شئت أن تتأنّى بهم ، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٣ ، ص : ١٤٥.

١٥٧

فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم. قال : لا ، بل أستأني بهم. فأنزل الله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (١).

* * *

النبوّة الخاتمة تفرض آية مختلفة

وهناك توجيه آخر ، ربّما لا يكون بعيدا عن جو الآية ، وهو أن نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي النبوّة الأخيرة في تاريخ الإنسان ، فهي خاتمة النبوات ، كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خاتم الأنبياء. وهذا ما يفرض أن لا تكون الآيات هي الأساس الذي يرتكز عليه التحدّي وينطلق منه الإيمان ، لأن ذلك مما يذهب بذهاب الآية التي تتضمن عنصرا مؤقتا محدودا ، الأمر الذي يؤدّي إلى لغويّة إرسال الآية وعبثيّته ، لأن الساحة لا تملك آية جديدة تعمل من أجل تجربة جديدة للإيمان ، بينما كانت الخطة تفرض الاستمرار للعنصر الحيّ الذي يغذي الساحة بالإيمان في كل مرحلة وجيل ، مهما كفر الكافرون وكذب المكذبون ، كما هو الحال في القرآن الذي يلتقي مع الخط الفكري القائم على العقل والوجدان في هداية الناس إلى الله ـ سبحانه ـ في كل خطوط الإيمان المتنوعة في الحياة.

أمّا في الأزمنة السابقة ، فإن الآية التي يرسلها الله مع الإنذار بالعذاب تؤدي دورا معينا بالنسبة إلى الأمة التي تعيش في ذلك الزمن ، كما تؤدي دورا تحذيريا بالنسبة إلى الأمم القادمة في مراحل النبوّات المتأخرة.

إننا نستقرب مثل هذا التوجيه في فهم الآية ، وربما كان أقرب من

__________________

(١) السيوطي ، جلال الدين ، الدّر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٥ ، ص : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

١٥٨

التوجيه الذي ذكرنا سابقا بالنسبة إلى ظهور الآية ؛ والله العالم بحقائق آياته.

(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) وهذا نموذج من الآيات التي أرسل الله بها رسوله «صالح» ، فكذبوا بها وعقروها ، فأنزل الله عليهم العذاب وأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ولعل التأكيد على هذه النماذج «لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم ، يبصرها صادرهم وواردهم» ، كما جاء في تفسير الكشاف (١).

(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) وتحذيرا للناس ، بعد أن قامت عليهم الحجة بها ، فليس لهم عذر في الإنكار أو التمرّد ، في ما تدل عليه هذه الآيات من صدق النبي في رسالته ، وارتباط الرسالة بالله من خلال الوحي ، ولذا فإنها تحمل في داخلها طبيعة الإنذار المستقبلي في حالات الانحراف ، سواء على مستوى إثارة الخوف في عذاب الدنيا ، أو في عذاب الآخرة.

* * *

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٢ ، ص : ٤٥٤.

١٥٩

الآية

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠)

* * *

معاني المفردات

(طُغْياناً) : ظلما.

* * *

مناسبة النزول

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير ، عن سهل بن سعد قال : رأى رسول

١٦٠