تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٣

الآية

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣٢)

* * *

معاني المفردات

(فاحِشَةً) : ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.

(وَساءَ) : بئس.

* * *

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى)

وهذا أحد الخطوط القرآنية التي تريد أن تحدد للإنسان مسيرته في نطاق العلاقات الإنسانية ، وهو الخط الذي يضع له الحدود في دائرة العلاقة الجنسية ، فلا يرخص له القيام بأيّة ممارسة جنسية خارج نطاق الزواج ، لأن ذلك يمثل الفاحشة التي تسيء إلى عنصر الطهارة لدى الإنسان ، فتلوّث روحه

١٠١

وتنحرف به عن الاتجاه السليم ، بما لا ينسجم مع مصلحة الإنسان في نظام حياته. فالله لم يرد للإنسان أن يعيش الغريزة الجنسية بشكل فوضويّ ، كما لو كانت استجابة سريعة لحالة طارئة في حجم اللحظة التي سرعان ما تأتي وتذهب من دون أن تتعمق في حياته ، بل أراد له أن يعيشها في عمق المعنى الإنساني للعلاقات ، بحيث يشعر معها بالهدوء والاستقرار والطمأنينة ، وتمتزج فيها المادة بالروح ، وتحقق له نوعا من النظام المتوازن الذي تتحرك فيه هذه العلاقة ، إذ في الوقت الذي تشبع الغريزة في جوّ نفسيّ هادئ مستقر تغمره المودة والرحمة ، يبدأ مجتمع صغير بالتشكل انطلاقا من علاقة روحية وجسدية تلتقي فيها الزوجية بالأمومة والأبوّة ، لإنشاء نظام الأسرة الذي يجد فيه الجميع المحضن الذي يرعى العاطفة وينمي الحنان ويوحي بالترابط الإنساني في نطاق المحبة ، ويتحرك ـ بالتالي ـ في اتجاه التأكيد على المسؤولية التي تتوزع على الجميع ، ليمارس كل فرد فيها دوره في حركة الحياة ، لتكون بمثابة المدرسة الأولى في حمل المسؤولية العامة ، من خلال التدريب على ممارستها في الإطار الخاص.

* * *

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)

إن الزواج ـ في الإسلام ـ ليس مجرد شركة حياة تعاقدية ، بل يمثل وحدة حياة روحية ومادية ، وذلك ما عبرت عنه الآية الكريمة (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧]. وهذا ما أراد الإسلام أن يبني الحياة الاجتماعية عليه. وفي هذا المجال جعل نداء الغريزة الذي يصرخ في جسد المرأة والرجل ، بمثابة القوة التي تدفع الإنسان إلى الاتصال بالآخر ، فتدعوه إلى تعميق الصلة به وتوثيقها برباط وثيق ليعيش الخفقة واللهفة مع اللذة ، ولتستمر معه الحياة حلوة رقيقة منفتحة ، فلا تعود الغريزة في حاجة الجسد خاضعة للّحظة ، بل

١٠٢

تتحول إلى حركة حياة ، فيها من العاطفة الشيء الكثير ، ومن المسؤولية والواقعية الأثر الكبير ، فتبعد الغريزة عن واجهة اهتمام الإنسان كقاعدة للحياة ، وتغدو مجرد حاجة طبيعية إلى جانب الحاجات الطبيعية الأخرى ، وتتحرك سائر الاهتمامات في أجواء المسؤولية في حركة الواقع ، وبذلك تنعدم الحالة الخيالية ، لتفسح المجال للحالة الواقعية في التصور النفسي لنداء الغريزة. وقد جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنه كان جالسا بين أصحابه ، إذ مرت بهم امرأة جميلة ، فرمقها القوم بأبصارهم ، فقال عليه‌السلام : إن أبصار هذه الفحول طوامح وإن ذلك سبب هبابها ، فإذا نظر أحدكم إلى المرأة تعجبه فليلامس أهله فإنما هي امرأة كامرأته (١).

وهكذا أراد الإمام اعتبار الجنس حاجة طبيعية يمارسها الإنسان في الدائرة المشروعة ، بعيدا عن التصورات الخيالية التي قد تثيره في أجواء سحريّة آتية من جنان الأحلام السعيدة.

* * *

الزواج والزنى بين السلبيات والإيجابيات

وفي ضوء ذلك ، كان الزنى انحرافا عن هذا الخط المستقيم ، الذي يحقق للإنسان حاجة غريزته داخل نظام الأسرة ، وسببا في إثارة الأجواء السلبية التي تبعث الاهتزاز في عواطف الإنسان ، وتثير القلق في أوضاعه العامة ، وتخلق له الكثير من العقد النفسية عند ما يواجه الموقف الحائر بين حاجة الغريزة إلى الإشباع وبين حاجته إلى الاستقرار ، وهو إلى جانب ذلك يثير الفوضى في الأنساب ، ويهدم الأسرة ، فتفقد التماسك العاطفي ، والفيض الروحي ، والجوّ الحميم الذي يشعر فيه أفرادها بأنهم يعيشون في وحدة روحية ، تقوم على

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٢ ، ص : ٤٤٧.

١٠٣

أساس التكافل والتعاطف والشعور بالمسؤولية ووحدة المسير نحو المستقبل بتعاون يرتكز على قواعد ثابتة.

إن علاقة الزواج التي يعتبرها الإسلام المنفذ الوحيد لإشباع نداء الغريزة ، قد تشتمل على سلبيّات عاطفية أو قيود حياتية على مستوى الفرد والمجتمع ، وقد تؤدي إلى مشاكل معقدة في حياة الزوجين ، ولكننا إذا درسنا الإيجابيات التي حققها الزواج على مستوى حركة التاريخ ، فإننا سنجد نظاما إنسانيا شاملا ، استطاع أن يحقق كثيرا من التوازن والاستقرار والطمأنينة في حياة الإنسان ، بالرغم من اختلاف أوضاعه وتشريعاته وتقاليده تبعا لاختلاف الشعوب البدائية والمتحضرة في ممارستها له. وإذا كان الزواج على المدى التاريخي قد سبب ظلما على الزوج أو الزوجة أو لم يسبب ، فقد أنتج نظاما للعلاقات الإنسانية الأسرية المتنوعة في وحدتها ، وتمكن من إيجاد نموذج حيّ متحرك للعلاقات الأخرى في الدائرة الاجتماعية الواسعة ، لا سيما وأن الفرد إذا اعتاد على ممارسة المسؤولية في نطاق الأجواء الحميمة والمشاعر الطاهرة ، كان ذلك وسيلة من وسائل امتداد هذا الجو في حياته العامة.

وإذا كان للزنى بعض إيجابياته القائمة على الاستجابة للنوازع العاطفية والمشاعر الملتهبة والجوع الغريزي الذي قد يجد الإشباع في جهة دون أخرى ، والانسجام مع الأجواء الحالمة التي يثيرها الجمال الجسدي أو التناغم الروحي ، فإنّ السلبيات التي تترتب عليه لا تقف عند حدّ ، لما يثيره من المشاكل والتعقيدات والحرمان العاطفي والقلق الروحي ، لا سيما بالنسبة للمرأة التي تميل بطبيعتها إلى الاستقرار الجسدي والعاطفي ، والتي قد تفقد إنسانيتها أمام الصورة التي تعيش في خيال الرجل عنها ، من اعتبارها وسيلة للمتعة ، بعيدا عن أيّة مراعاة للخصائص الإنسانية التي تجعل منها إنسانا يفكر ويعمل ويتحرك في بناء الحياة.

١٠٤

وإذا أردنا أن ندخل في المقارنة بين السلبيات والإيجابيات ، فسنجد إيجابيات الزواج تتفوق كثيرا على إيجابيات الزنى ، بينما تتقدم سلبيات الزنى على سلبيات الزواج ، وإذا كان الإنسان لا يستطيع الوصول إلى نظام لا سلبيات فيه ، نظرا إلى محدودية الواقع الذي يتحرك فيه من حيث الشخص والساحة والأدوات والأجواء ، فمن البديهي أن يختار النظام الذي يكون نفعه أكثر من ضرره ، لتستقيم له حياته في الطريق الأقوم في اتجاه التكامل والتوازن والاستقامة.

* * *

١٠٥

الآية

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٣٣)

* * *

الأصل هو حرمة الإنسان

للحياة الإنسانية حرمتها وقدسيتها في نظام الرسالات السماوية ، فلا يجوز لأحد الاعتداء عليها وإزهاقها ، إلا ضمن دائرة خاصة يتحرك فيها التشريع بالرخصة من أجل المحافظة على الحياة بطريقة وقائية أو دفاعية ، أو من أجل حفظ السلامة العامة للمجتمع كله. ولم يكن هذا التشريع مختصّا برسالة معينة ، بل هو شامل لجميع الرسالات ـ كما ألمحنا إليه ـ بل ربّما كان هو القاعدة الإنسانية العامة التي جرت عليها الأمم المتنوعة التي لم تلتزم بالرسالات ، ولكنها تأثرت بها بشكل غير مباشر ، أو انطلقت فيها من خلال

١٠٦

طبيعة الفطرة التي توحي بذلك ، لأن الحياة التي لا تحمي نفسها بالضوابط القانونية المتمثلة في التشريعات أو العادات والتقاليد ، سوف تهتز وتنعدم في مهاوي السقوط والهلاك ، ولهذا أمكننا القول إن الأصل هو حرمة الإنسان ، إلا ما قام الدليل الخاص على خلافه.

* * *

استثناءات واقعية

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) جعل لها حرمة من خلال رسالاته ورسله (إِلَّا بِالْحَقِ) من جهة ما شرّعه من القصاص أو ما أباحه في حالة الدفاع عن النفس أو العرض أو المال أو المستضعفين ، أو ما رخص فيه أو ألزمه من الهجوم على الأعداء الذين يخاف منهم على حرية الناس وسلامة الحياة ، أو في مواجهة المفسدين في الأرض والمحاربين لله أو لرسوله ، أو في بعض الحدود الخاصة لدى حدوث بعض الأوضاع والجرائم ، ونحو ذلك. ولعل الأساس في ذلك كله ، هو إقامة نظام الحياة على أساس ثابت من الضوابط القانونية التي تحفظ السلامة العامة للحياة وللفكر وللإنسان.

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) بدون حق (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) يتجلى في تشريع القصاص عقابا للقاتل ، وسلّطنا وليه على قتله أو العفو عنه (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) فيقتل غير القاتل ، أو يقتل أكثر من شخص. (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) في ما جعله الله له من حقّ ، وما يحقّقه ذلك من سلطة ، وما يثيره من أوضاع وأجواء واقعية ، فلا يستعجل بالانتقام لقريبه من دون حقّ ، لأن الانتصار بالظلم الذي يأخذ البريء بجريرة المجرم ، لا يعتبر انتصارا ، بل الانتصار الحقيقيّ ، هو أن

١٠٧

تحطّم قوّة المجرم ، وتهدم حياته ، لأن ذلك هو الذي يحقق للعدل ثباته ، وللحقّ استمراره ، وذلك هو السبيل القويم الذي تتحرك فيه الحياة من أجل حماية قيمها الروحية والإنسانية العامة.

* * *

١٠٨

الآية

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣٤)

* * *

معاني المفردات

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) : أتموا العهد ولا تنقضوا حفظه.

* * *

التشريع يحمي الضعيف من كل اعتداء

لليتيم حرمته في الإسلام ، لأنه يمثل الوجود الإنساني الطفوليّ الضعيف الذي لا يملك ـ بحسب طبيعته ـ أيّ لون من ألوان الحماية من الاعتداءات على نفسه وماله ، مما يفرض على الناس ـ من وجهة نظر التّشريع الإسلامي ـ أن يتحملوا مسئولية حماية من كل معتد ، كما يفرض على التشريع أن يؤكد

١٠٩

على خطورة المسألة في وعي الناس من حيث نتائجها السلبيّة على مستوى الآخرة ، إذا أهملوا أمره أو تصرفوا معه تصرفا غير شرعيّ ، أو من حيث نتائجها الإيجابية ، فيما إذا قاموا برعايته وخدمته واحتضانه بالعطف والرحمة ، لأن ذلك هو الخط الإسلامي العام الذي يستهدف حماية الضعيف وتقويته وحفظه من كل اعتداء ، فإن الله لا يريد ظلم أحد ، على أساس حالة الاستضعاف التي يحس بها الضعيف في نفسه ، أو يفرضها القوي عليه ، في المجالات التي لا يستطيع معها الدفاع عن نفسه.

* * *

خطوات التشريع في حماية اليتيم

وقد جاءت هذه الآية لتحدد الخط المستقيم في طريقة التصرّف في مال اليتيم من أجل حمايته.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أى لا تتصرفوا فيه بأيّ نحو من أنحاء التصرفات العملية والقانونية ، وذلك على سبيل الكناية ، في التأكيد على المنع عن التصرف ، بالتركيز على المنع عن القرب منه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وذلك في الموارد التي تشتمل على المصلحة له ، في تنمية ماله وتحريكه بالطريقة المثلى التي تحفظه وتصونه من الضياع ، مع ملاحظة التحفظات الشرعية التفصيلية في هذا الجانب من حيث شخصية المتصرف بأن يكون وليّا خاصا ، أو عاما عند فقدان الولي الخاص ، من المجتهد العادل أو عدول المؤمنين ، ومن حيث طبيعة التصرف في أنواعه ، مما تعرّض له الفقهاء في كتب الفقه ، فلتراجع هناك. والظاهر أن المقصود بالأحسن ، هو الأفضل من عدمه ، لا الأعلى على جميع المستويات ، لأن ذلك ليس بمقصود ، على الظاهر.

١١٠

(حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي يبلغ سن البلوغ والرشد ، باعتبارها السن الذي يشتد بها عوده ، ويقوى فيها جسده ، فإذا بلغ هذه السن ، فيجب أن يسلّم إليه ماله ، لأنه هو صاحب السلطة الوحيد على ماله ، بعد ارتفاع المانع الذي كان يمنعه من التصرف فيه من ناحية تشريعية ، وذلك بارتفاع اليتم عنه ، لأن المصطلح الشرعي لليتيم يراد به الذي لم يبلغ الحلم ، فإذا بلغ الحلم فلا يتم. وعند ذلك تنتهي مسئولية الآخرين تجاهه بصفته يتيما ، لتبدأ مسئوليتهم عنه بصفته إنسانا ضعيفا في مجالات الضعف الأخرى ، كما تبدأ مسئوليته تجاه نفسه وتجاه الآخرين.

* * *

الوفاء بالعهد وحفظ النظام الاجتماعي

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) وهو الالتزام الذي يلزم به الإنسان نفسه ، من خلال مبادرة ذاتية ، أو بالتزامه برسالة أو منهج يلزمه بذلك ، فيشمل العهود التعاقدية في المعاملات المالية ، أو في العلاقات الإنسانية ، أو في المعاهدات الدولية ، أو في المسؤوليات الشرعية التي تمثل عهدا يتحرك في خط الإيمان الذي يفرض على المؤمن الالتزام بأوامر الله ونواهيه ونحو ذلك.

إن الآية تؤكد على وجوب الوفاء بالعهد ، لأن الله يريد للإنسان أن يحترم كلمته والتزاماته ، ويحترم الآخرين الذين يرتبط بهم بميثاق معيّن يتعلق بالجانب الاجتماعي التنظيمي للحياة ، في الدوائر الخاصة والعامة للناس.

وهذا خطّ إسلاميّ عام ، يراد ـ من خلاله ـ حفظ النظام الاجتماعي للناس ، وذلك بالتأكيد على عنصر الثقة فيه ، من خلال ما يفرضه من الالتزام

١١١

بالعهود والمواثيق ، التي تدفع إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار النفسي والعملي ، في ما يخط الإنسان لحركته ولحركة الناس من حوله ، ممن تتصل بهم مسئوليته على أكثر من صعيد ، فيطمئن لما أخذه من الآخرين في مستوى حركة العلاقات ، ويرتاح للمستقبل لاعتقاده بإخلاصهم لكلماتهم والتزاماتهم ، الأمر الذي يمنح الساحة القوّة والثقة والثبات.

(إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) إنّ الله يسأل عباده عن العهد كيف أعطوه ، وما يشتمل عليه من مضمون شرعيّ أو غير شرعيّ ، وكيف حافظوا عليه بالوفاء به ، فيما إذا كان يملك شرعية المضمون ، لأن الله يريد للإنسان أن لا يلزم نفسه بأمر إلا إذا كان منسجما مع خط الإيمان ومدلوله ، فإذا التزم بعهد غير شرعي ، فلا يجوز له الوفاء به ، لأن قضية الوفاء تتحرك في خطين : مسئولية الإنسان أمام الإنسان الآخر ومسئولية الإنسان أمام الله ، في ما يجب عليه ، وما لا يجب أو لا يجوز ، كما إذا كان التزاما بفعل حرام ، أو خيانة الدين أو الأمة. وهكذا جاءت الآية لتحدد للإنسان مسئوليته عن العهد ، وذلك بطريق حذف كلمة «عنه» التي تتعلق بها كلمة المسؤولية. وربما كانت على سبيل الكناية ، باعتبار أن العهد يمثل الكلمة المسؤولية التي يجب أن تدافع عن نفسها في موقع الالتزام والحركة ، من خلال ما تمثله من شخصية قائلها. وقد يقال ـ في هذا المجال ـ إن الإنسان كلمة وعهد والتزام.

* * *

١١٢

الآية

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(بِالْقِسْطاسِ) : القسطاس : الميزان. قيل فيه إنه رومي معرب ، وقيل إنه عربي ، وقيل إنه مركب في الأصل من كلمة القسط وهو العدل ، وطاس وهو كفة الميزان.

(وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) : أحسن عاقبة ومرجعا ، من آل يؤول إذا رجع.

* * *

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ)

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وهذا هو خط العدل في تنفيذ التعامل الذي يقع موضعا للتعاقد بين الناس ، فقد يحاول بعضهم أن ينحرف

١١٣

عما التزمه من المقدار الذي يجب عليه أن يسلّمه للطرف الآخر في التعاقد ، فينقضه حقه إذا كال أو وزن له ، مستغلّا غفلته أو جهله بالمقادير. وكانت هذه الآية تأكيدا لما جاءت به أكثر من آية ، في تحريم التطفيف في المكيال والميزان ، أو في إنقاص الناس أشياءهم التي يملكونها بالعقد ، لأن ذلك يعتبر نوعا من إفساد الحياة من خلال هذه الصيغة الفاسدة من التعامل المالي على مستوى التنفيذ والتطبيق.

ولعل من الواضح ، أن المسألة لا تنحصر بوجوب الوفاء في الكيل والوزن ، بل يشمل ما يكون التقدير فيه بالعد ، أو بالمساحة ، أو بنحو ذلك ... فلا بد للإنسان من أن يؤدي الحق كاملا غير منقوص ، بالقسطاس الذي وصف بالمستقيم ، انطلاقا من عدم الانحراف فيه عن خط الحق الذي يستحقه الناس.

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) لأنه يمثل العدل في حركة الحقوق المالية وإيصالها إلى أهلها ، ويؤدي إلى تأكيد الثقة في العلاقات الاجتماعية ، وبالتالي إلى احتواء المشاعر الخيّرة واحتضانها لمصلحة الإنسان في وجوده الفاعل في الحياة. ولعل المراد بكلمة (وَ (١) أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) الأحسن مآلا ومرجعا في ما ينتهي إليه أمرهم ويرتكز عليه نظام معاشهم في استقامة الحقوق على الخط المستقيم.

* * *

١١٤

الآية

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦)

* * *

معاني المفردات

(تَقْفُ) : القفو : اتّباع الأثر.

* * *

القرآن يدعو للأخذ بأسباب العلم

وهذه قاعدة قرآنية في منهج المعرفة الذي يكون أساسا للإيمان والعمل ، في المجال السلبي الذي يتحوّل إلى المجال الإيجابي ، وذلك بالابتعاد عن المجال الأول. وقد أكّد القرآن عليها في أكثر من آية ، وواجه الكافرين

١١٥

والمنحرفين بالمسؤولية ، من خلال انحرافهم عنها في ما ادّعوه من إيمان ، وفي ما أثاروه من حركة ، أو قاموا به من مشاريع ، لأنهم لم يأخذوا بالوسائل المشروعة للمعرفة ، بل ارتكزوا على ما لا قيمة له في حساب المسؤولية.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تتبع في قولك أو عقيدتك أو عملك ما لم ترتكز فيه على أساس من علم يتمثل بالحجّة التي تكشف الحقيقة ، وتجلو الغموض ، وتثبت الفكر ، وتؤدي إلى الإيمان المستقر الثابت في عمق الفكر والشعور. وهذا ما يتمثّل في اليقين القاطع الذي لا مجال معه لأي احتمال مضادّ ، أو في الاطمئنان النفسي أو الفكري للفكرة بحيث لا يمثل الاحتمال المضاد شيئا مهمّا أمام المستوى الكبير من الرجحان في جانب الإيجاب ، أو في الوسائل العقلانية أو الشرعية التي اعتمدها العقلاء أو صاحب الشريعة كأساس للمعرفة ، بحيث تمثل الحجة المقبولة أمام الله ... ولعلّ هذا هو المراد من كلمة «العلم» ـ في ما جاء في القرآن من هذه الكلمة ـ فقد لا يكون المقصود بها القطع الذي لا يحتمل الخلاف ، بل الوعي للفكرة بالمستوى الذي لا قيمة فيه لهذا الاحتمال ، إمّا لضعفه بحيث لا يعتنى به في حركة الوجدان ، وإمّا لقيام الدليل في بناء العقلاء وفي تعليمات الشرع ، على عدم الالتفات إليه. ويقابله الشك والظن اللّذان أطلقا على ما لا حجة فيه من ناحية ذاتية أو جعليّة. وإذا لم يكن ما قلنا مضمونا وضعيا للكلمة ، فلا أقل من أن يكون اللفظ منصرفا إليه ، لكثرة استعماله فيه.

وعلى ضوء ذلك ، أنكر القرآن العلم على الملحدين والمشركين والمنكرين للنبوة والرافضين للمعاد ، لأنهم لم يرتكزوا في أفكارهم ورفضهم على أساس من الحجة التي تثبت أمام النقد ، وتكشف الحقيقة ، وتواجه الفكرة المؤمنة بالفكر العلمي المنفتح ، بل اعتمدوا في ذلك على بعض الوسائل التي لا تمثل شيئا في حساب القيمة العلمية ، كالاستناد إلى عقائد الآباء الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، والارتكاز على عنصر الاستبعاد لبعض الأفكار التي

١١٦

لم يألفوها لأنها لا تدخل في نطاق الحس في الوقت الذي تؤكدها المعادلات العقلية ، أو الوقوف أمام الأفكاري الجديدة التي يثيرها الأنبياء أمامهم ، بشأن مسألة النبوة أو الوحي أو المضمون الفكري أو التشريعي للرسالات ، من دون أن يدرسوا البراهين التي يقدمها الأنبياء ، والحجج التي يدعمون بها رسالاتهم ويدعون الناس إلى الدخول معهم في حوار حولها ليتأملوا فيها ، أو يفكروا بها ، وليناقشوها من موقع الفكر والوعي ، فيرفضون ذلك كله ، ويبادرون إلى الرفض والإنكار والمواجهة ، ويجمدون عقولهم وأبصارهم وأسماعهم عن الحركة في هذا الاتجاه. ولهذا عبر القرآن عنهم بأنهم لا يعلمون ، لأنهم لا يملكون أساس العلم في ما يؤمنون به أو في ما يرفضون ، فليست المشكلة لديهم هي الحجة المضادة ، بل هي عدم استنادهم في الأمرين معا إلى الحجة البالغة الواضحة.

* * *

العلم أساس الحياة

ولعل المقصود بالآية ، هو توجيه الإنسان إلى الأخذ بأسباب العلم ، من خلال النهي عن اتّباع ما ليس له به علم ، فإن نفي الأخذ بالسلب يؤكد ضرورة الأخذ بالإيجاب. وهذا ما نريد أن نثيره في ساحة الصراع الفكري ، كمسلمين ، في ما نريد أن نلتزمه ، أو نناقشه ، أو نرفضه ، وهو البحث في الوسائل التي تكون أساسا للمعرفة ، لتكون هي الأساس للأدوات التي نستخدمها في الحوار ، لأن الابتعاد عن تحديد ذلك يجعل الحوار عقيما ، عند ما يلتزم كل فريق وسيلة يرفضها الفريق الآخر ، فلا يلتقيان على قاعدة ، بينما يعطي التّوافق على الوسيلة الثابتة علميا قوّة للحوار ، وذلك لما يعطيه من إمكانات الوصول

١١٧

إلى نتيجة إيجابية محدّدة.

* * *

الحاجة إلى حجة قوية في إثبات شؤون العقيدة والأخلاق

وهذا ما ينبغي أن يلتزمه المسلمون في فكرهم العقيدي والعملي على مستوى المفاهيم العامة والتشريعات العملية والأسس والأخلاقيّة ، بحيث يؤكدون على الأساس العلمي الذي يمثل جانب الحجة المقنعة أو الدامغة ، تماما كما لو كانت المسألة مسألة فتوى شرعية بالوجوب أو بالتحريم ، لأننا لا نجد فرقا بين الحديث عن الحكم الشرعي والحديث عن المفهوم الإسلامي العقيدي والأخلاقي في اعتباره حكما إسلاميا على مستوى الفتوى ، غير أن تلك فتوى في التشريع ، وهذه فتوى في العقيدة والأخلاق ، فهما سواء في مسئولية انتساب الرأي إلى الله ورسوله ، مما لا يجوز إلا بحجّة قويّة واضحة ، وربما كان التسامح في تفاصيل العقيدة أو في مفردات الأخلاق أكثر خطورة وتأثيرا على الإسلام من التسامح في حكم شرعيّ جزئيّ على مستوى بعض المجالات العبادية الخاصة.

ولعل المسألة لا تقف عند هذا الحد المتصل بالجانب الفكري في العقيدة والأخلاق والتشريع ، بل تتعدّاه إلى تحديد الواقع الموضوعي لدى الأشخاص والأشياء والمواقف السياسية والاجتماعية على مستوى التقييم والانتماء والحركة ، فلا يجوز للإنسان المسلم أن يتبع الوسائل غير العلمية في ذلك كله ، كما لا يجوز له إصدار الحكم على الأشخاص والمواقف ، كنتيجة لبعض الظواهر التي تحمل أكثر من وجه ، من دون أن يكون هناك أيّ سند شرعي يؤكد ذلك من موقع الحجّة ، فإن القاعدة الإسلامية تجعل الاحتمال لصالح المتهم ، لا لصالح المدّعي ، انطلاقا من عدم جواز الحكم إلا بالبينة

١١٨

الشرعية ، ومن لزوم الحمل على الصحة ما دام ذلك محتملا بطريقة معقولة ، وإذا كان لا يجوز الحكم على أحد بدون دليل ، في داخل المحكمة أو في ساحة المجتمع ، فلا يجوز أيضا قبول الأخبار التي تتحدّث عن بعض خصوصياته إلا إذا كانت الأخبار مشتملة على العناصر الشرعية التي يخضع لها الموقف الشرعي في قبول الخبر أو رفضه ، أو التحفّظ عليه ، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم والسنّة المطهّرة ، وفصّله الفقه الإسلامي في مجالاته الاجتهادية.

* * *

الوسائل المشروعة للمعرفة

وخلاصة الفكرة أن الإسلام يريد للحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية أن تتحرك على أساس العلم ، الذي يستمد وسائله من حركة الحواس وحركة العقل في مجال المعرفة ، في واقع الفرد والمجتمع ، وفي واقع الحياة العامة والخاصة.

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) وذلك باعتبار أن هذه هي وسائل المعرفة الحسية والعقليّة التي تعتبر الحجة على الحقيقة ، فيسأل السمع عما سمع ، وكيف سمع ، وما النتائج الصحيحة لذلك؟ ويسأل البصر ، عما رأى ، وكيف رأى ، وما النتائج؟ ويسأل الفؤاد ـ وهو العقل ـ عما وعاه من حقائق الحياة التي ترصدها الحواس الخمس وتكتشفها الملاحظة ، وكيف كانت تفاصيل وعيه ، وكيف استطاع أن يحتوي ذلك كله ليحوله إلى معادلة عقليّة ثابتة كأساس للمعرفة والإيمان؟

إن الله سيسأل هذه الوسائل الداخلية والخارجية عن طبيعة النتائج التي

١١٩

اختزنها الإنسان في وعيه ، مما يتصل بدورها في عالم المعرفة لديه ، فهل هو صادق في ما يملكه من مصادر المعرفة ، أو غير صادق في ذلك؟ وستجيب بالحقيقة الموضوعية في حياته ، وتتحدد ـ من خلال ذلك كله ـ طبيعة التقييم لقناعته ، ونوعية المسؤولية التي يواجهها على هذا الأساس ، ولن يستطيع أن ينكر شيئا من ذلك ، لأن الشهادة لا تأتيه من الخارج ، بل من الداخل الذي يصرخ بالحقيقة من أقرب طريق.

* * *

١٢٠