أصول الإيمان

عبدالقاهر التميمي الشافعي

أصول الإيمان

المؤلف:

عبدالقاهر التميمي الشافعي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٩

الحي هو القادر يلزمه أن لا يكون المغشى عليه حيّا لأنه في حال غشيته غير قادر على شيء.

والنوع الثاني عشر منها : الموت وهو عندنا عرض. وزعم بعض الفلاسفة أن الموت ليس بأكثر من عدم الحياة. وزعم هؤلاء أن الحركة معنى والسكون عدم ذلك المعنى وأن الضياء معنى والظلمة عدم الضياء. ويقال لهؤلاء : يلزمكم أن يكون كل ما ليس بمتحرك ساكنا وكل ما ليس بحي ميتا لعدم الحركة ولا حياة فيه ويجب من هذا أن يكون العرض ميتا ساكنا لأنه ليس فيه حركة ولا حياة. وإذا رجعنا إلى أصلنا في تحقيق الموت معنى قلنا إنه عرض ينافي الحياة والجمادية. وقد اختلفوا في المقتول هل يحله موت أم لا فقال أصحابنا لا بد من موت يخلقه الله تعالى فيه لأن القتل عندنا يقوم بالقاتل والموت يقوم بالمقتول. وقال بعض المعتزلة يحل في المقتول معنيان : أحدهما : قتل من فعل القاتل والثاني : موت من فعل الله تعالى وزعم الكعبي أن المقتول لا موت فيه. وخالف بهذه البدعة قول الله عزوجل : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (١).

والنوع الثالث عشر من الأعراض : العلم وهو عندنا معنى غير الاعتقاد وتأثيره في الفعل من جهة أحكامه وإتقانه وزعم أكثر القدرية أن العلم اعتقاد مخصوص. ويلزمهم أن يكون كل عالم معتقدا والله تعالى عالم ليس بمعتقد وبطل بذلك قولهم.

والنوع الرابع عشر منها : الجهل وهو عند القدرية من جنس الاعتقاد ويلزمهم على هذا أن لا يكون الجاهل بما بطن الحامل جاهلا به إذا لم يعتقد فيه شيئا.

والنوع الخامس عشر منها : النظر.

والسادس عشر : الشك وزعم ابن الجبائي أن الشك ليس بمعنى.

__________________

(١) سورة آل عمران آية ١٨٥.

٤١

والسابع عشر : السهو والنوم من جنسه لأنه سهو عام.

والثامن عشر : القدرة وهي عندنا عرض غير الحياة والصحة وزعم النظام أنها جسم.

والتاسع عشر : العجز

والعشرون : الإرادة والكراهية داخلة في جنسها لأن الإرادة وجود الشيء كراهية لعدمه.

والحادي والعشرون : السمع وهو إدراك المسموع غير العلم به. وزعم الكعبي أن السمع إنما هو علم بالسّمع.

والثاني والعشرون : الصّمم الذي هو ضد السمع.

والثالث والعشرون : البصر الذي هو الرؤية وهي غير العلم بالمرئي وزعم الكعبيّ أنها العلم بالمرئي.

والرابع والعشرون : العمى وهو ضد الرؤية.

والخامس والعشرون : الكلام وهو عندنا غير الصوت وزعم أكثر القدرية أنه صوت مخصوص.

والسادس والعشرون : الخاطر وهو عندنا عرض خلاف قول النظام أنه جسم.

والسابع والعشرون : الألم.

والثامن والعشرون : اللذة وهي عندنا معنى غير نيل المنى وغير الراحة من مؤلم وزعم ابن زكريا المتطبب أنها راحة من مؤلم وزعم ابن الجبائي أنها نيل المنى.

والتاسع والعشرون : الفكر الواقع بعد الخاطر.

والثلاثون : كل اعتقاد صحيحا كان أو فاسدا فإن الاعتقاد عندنا ليس من

٤٢

جنس العلم ولا من جنس الجهل. فهذه أنواع الأعراض عندنا واختلف أصحابنا في الإعادة فأثبتها القلانسي معنى يقوم بالمعاد ولذلك منع إعادة الأعراض وقال أبو الحسن إن الإعادة وجود الفاني بعد عدمه مرة ثانية وأجاز إعادة الأعراض كما يجوز إعادة الأجسام. واختلفوا أيضا في الفناء فأثبته القلانسي عرضا يقوم بالجسم الفاني فيفنى به في الحالة الثانية من حال حدوث الفناء فيه. وزعم الجبائي وابنه أن الفناء عرض يخلقه الله عزوجل لا في محل فيفنى به جميع الأجسام وزعم أن الله تعالى غير قادر على إفناء بعض الأجسام مع بقاء بعضها. وقال شيخنا أبو الحسن الأشعري إنّ فناء الجسم يكون بأن لا يخلق الله فيه بقاء وأما العرض فإنما يفنى في الثاني من حالة حدوثه لاستحالة بقائه (١). واختلفوا في الثقل والخفة فأنكرهما أبو الحسن الأشعري وقال إنّ الثقيل إنما يثقل على غيره بزيادة أجزائه والخفيف يكون أخف من غيره بقلة أجزائه وأثبت القلانسي الثقل عرضا غير الثقيل وبه قال ابن الجبائي مع نفيه كون الخفة معنى. والرحمة عندنا إرادة الإنعام. والغضب إرادة العقاب. والمحبة والرضا إرادة الخير بالمحبوب والمرضي. فهذا كله داخل في معنى الإرادة

المسألة السادسة من هذا الأصل

في بيان ان الأعراض مختلفة الأجناس

اختلفوا في هذه المسألة فذهب أكثر مثبتي الأعراض إلى أنها أجناس مختلفة وأنها ليست من جنس الأجسام ولا من أبعاضها وخالفهم في ذلك النظام وضرار والنجار. أما النظام فإنه قال : لا عرض إلّا الحركة وزعم أيضا أن السكون من جنس الحركة غير أنه حركة اعتماد وزعم أيضا أن العلوم والإرادات من جملة حركات القلوب وزعم أن كل شيء من العالم ليس بحركة فهو جسم وأدخل الألوان والطعوم والأصوات والاستطاعة في جملة الأجسام. وزعم أيضا أن الجسم الكثيف

__________________

(١) [وكان القاضي أبو بكر محمد بن الطيب يقول : إذا أراد الله افناء الجسم قطع الاكوان عنه وليس البقاء ولا الفناء معنى].

٤٣

هو اللون والطعم والرائحة وما أشبهها وقال إن هذه الأشياء في أنفسها أجسام وقد اجتمعت وتداخلت فصارت جسما كثيفا وزعم أيضا أن مكان اللون مكان الطعم والرائحة وأجاز لذلك كون جسمين في مكان واحد على سبيل المداخلة ولم يجز ذلك على سبيل المجاورة. وأما ضرار فإنه زعم أن الجسم أعراض اجتمعت فاحتملت أعراضا سواها (١) [وأما الأعراض التي في حيز واحد ومكان واحد فيقال له هل يجوز انفراد تلك الأجسام اللطيفة عن الامتزاج فإن أجاز ذلك أجاز وجود لون لا لمتلون وذلك خلاف قول الجميع وإن منع من ذلك لزمه أن يكون الله تعالى قادرا على الجمع بين جسمين غير قادر على التفريق بينهما وقيل له إذا كان كل جسم ذا أجزاء غير متناهية وكان اللون والطعم الذي يتركب منها الجسم هي التي لا يخلو الجسم منها ومن اضدادها] وأن الأعراض [التي] تركب الجسم منها هي التي لا يخلو الجسم منها ومن أضدادها كاللون والطعم والرائحة والحياة والموت الذي هو ضده. وأما الذي ينفك الجسم منه ومن ضده كالعلم والقدرة والكلام فليس ببعض للجسم وأحال وجود أبعاض الجسم مفترقة فوافق النجار ضرارا في هذا القول وزاد عليه أن أجاز كون الشيء الواحد عرضا في حال وجسما في حال أخرى ولهذا زعم أن كلام الله تعالى إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهو جسم. وزعم النظام أن لا عرض إلّا الحركة وزعم أيضا أن الأعراض كلها جنس واحد والذي ألجأه إلى ذلك قوله بأن الحيوانات كلها جنس واحد لاتفاقها في توليد الإدراك. ثم زعم أن الجنس الواحد لا يقع منه عملان مختلفان كما لا يقع من النار تسخين وتبريد ولا من الثلج تبريد وتسخين. وزعم أيضا أن الاجسام ضربان حي وميت وأن الحي محال أن يصير ميتا والميت محال أن يصير حيا وأن

__________________

(١) [وأما الأعراض التي في حيز واحد ومكان واحد فيقال له : هل يجوز انفراد تلك الأجسام اللطيفة عن الامتزاج ، فإن أجاز ذلك أجاز وجود لون لا لمتلون ، وذلك خلاف قول الجميع وإن منع من ذلك لزمه أن يكون الله تعالى قادرا على الجمع بين جسمين غير قادر على التفريق بينهما ، وقيل له إذا كان كل جسم ذا أجزاء غير متناهية وكان اللون والطعم الذي يتركب منها الجسم هي التي لا يخلو الجسم منها ومن أضدادها].

٤٤

الحيوان كله جنس واحد وفعله جنس واحد وفي ضمن هذا القول أنواع من الإلحاد : أحدهما إذا زعم أن أفعال الحيوانات كلها جنس واحد وهي كلها حركات والحركات منها (متماثلة (١) عنده لزمه من ذلك أن يكون الكفر من جنس الإيمان والقول من جنس السكوت والعلم من جنس الجهل والحب من [جنس] البغض وأن يكون فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمؤمنين مثل فعل إبليس بهم ولزمه على هذا القول أن لا يغضب النظام على من لعنه وشتمه لأن قول القائل لعن الله النظام مثل قوله رحمه‌الله. والوجه الثاني من إلحاده في هذا الفصل أن قوله إن الحي لا يصير ميتا والميت لا يصير حيا مأخوذ من قول الديصانية إن النور حي لا يجوز عليه الموت والظلام ميت لا يصير حيا وإنما تفعل الشر طباعا. والوجه الثالث من إلحاده فيه أن قوله : لا يقع من فاعل واحد عملان مختلفان نتيجة قول الثنوية أن الخير والشر لا يقعان من أصل واحد كما لا يقع التسخين والتبريد من أصل واحد. ويقال له في قوله بتداخل الاجسام اللطيفة في حيز واحد هل يجوز انفراد تلك الأجسام اللطيفة عن الامتزاج فإن أجاز ذلك أجاز وجود لون لا لمتلون وذلك خلاف قول الجميع وإن منع منه لزمه أن يكون الله عزوجل قادرا على الجمع بين جسمين غير قادر على التفريق بينهما [وقيل له : إذا كان كل جسم ذا أجزاء غير متناهية وكان اللون والطعم والرائحة عندك أجساما وكل واحد منها في نفسه ذو أجزاء بلا نهاية فيجب أن يكون كل واحد منها جسما كثيفا في نفسه لكثرة أجزائه وخروجها عن الحصر ولزمك على هذا الأصل إبطال المداخلة فيها لأنك لا تجيز تداخل الأجسام الكثيفة وليست الكثافة معنى أكثر من اجتماع الأجزاء. فإن قلت إنما يحصل الكثافة باجتماع الأجزاء المختلفة وأجزاء اللون متجانسة وكذلك أجزاء الطعم والرائحة فلذلك لم يكثف في أنفسها قيل يلزمك على هذا أن تقول في الجسمين الكثيفين إذا اجتمعا ولونهما وطعمهما ورائحتهما واحد أن لا يصيرا كثيفين لأنهما من جنس واحد في جميع أجزائهما ووجب من هذا أن لا يكثف الشيئان بضم أحدهما إلى الآخر وقيل له إذا كان اللون والطعم والرائحة عندك

__________________

(١) وردت في المطبوع «ثلة».

٤٥

أجساما متداخلة فهل مكانها أعيانها أم غيرها وليس من أصله أن يكون مكانها غيرها وإذا قال مكانها أعيانها وجب منه أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر فيكون المستكنّ في المكان مكان مكانه] وقيل له : قد سلّمت لنا أن الحركة عرض تحلّ الجسم ومحلّها عندك جسم هو لون وطعم ورائحة فإن حلت الحركة فيها كلها صار عرضا واحدا في محلين وأكثر وإن حلت في بعضها تحرك بها بعض الجسم دون كله. ويقال لمن زعم أن الجسم أعراض هل اجتمعت لأنفسها أو لمعنى سواها فإن اجتمعت في أنفسها استحال الافتراق عليها وقد يتبدل لون الجسم مع كونه على الطعم الأول ويتبدل طعمه مع كونه على الوصف الأول في جنسه فإن كان اللون والطعم يجتمعان باجتماع يقوم بهما وجب من هذا قيام العرض بالعرض وإذا كان الاجتماع عرضا وقد اجتمع مع اللون والطعم وجب عليهم أن يكون اجتماع هذه الثلاثة لاجتماع آخر ثم كذلك حتى يتسلسل إلى اجتماعات لا نهاية لها. وأما قول النّجار أن الكلام عرض إذا قرئ وجسم إذا كتب فكفى في خزيه هذا القول لأن الدّم الذي يكتب به بعض الآيات يصير كلاما لله تعالى عنده وهذا قول إن رضيه لنفسه رضينا بأن يكون هو من أهله.

المسألة السابعة من هذا الأصل

في بقاء الأعراض

اختلفوا في بقاء الأعراض : فأحاله أصحابنا والكعبي وأجازت الكرّامية بقاء جميع الأعراض وقالوا : إن حدوث كل حادث في العالم إنما هو بقول الله تعالى كن وإرادته لحدوثه وعدمه بقول له افن وإرادته لعدمه. فإذا خلق جسما أو عرضا وجب بقاؤه إلى أن يقول له افن ويريد عدمه. واختلفت المعتزلة في هذه المسألة : فقال النظّام لا عرض إلا الحركة ومحال بقاء الحركة فأما الألوان والطعوم والروائح والأصوات والخواطر فهي أجسام يصح بقاؤها. وقال أبو الهذيل الأعراض منها ما يبقى ومنها ما لا يبقى والذي لا يبقى منها الحركة والإرادة وأجاز بقاء اللون والطعم والرائحة والتأليف والحياة والعلم والقدرة وحكى الإسكافي عنه أن سكون الحي لا

٤٦

يبقى وسكون الميت باق والمشهور عنه أن سكون أهل الجنة وسكون أهل النار في آخر الأمر باق على الدوام. وكان يزعم أن ما يبقى من الأجسام والأعراض فإنما يبقى من أجل بقاء لا في محل وزعم أن ذلك البقاء هو قول الله ابق. وقال بشر بن المعتمر : السكون كله باق لا يفنى إلا بالخروج منه إلى حركة. وكذلك كل لون لا يفنى إلا بخروج الجسم منه إلى ضده. وأحال محمد بن شبيب بقاء الحركة والسكون. وقال الجبائي وابنه إنّ الصوت والألم والحركات والفكر والإرادات والكراهات أعراض غير باقية وأجازا بقاء الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والاعتماد والتأليف واللون والحياة والقدرة والعجز والعلوم والاعتقادات ، وقال الجبّائي : السكون الذي يفعله الحيّ في نفسه غير باق وكل ما يفعله في نفسه مباشرا غير باق وأجاز بقاء الكلام ومنع ابنه من بقاء الكلام. وقال ضرار والنجّار : الأعراض التي هي أبعاض الجسم عندهما باقية وما سواها من الأعراض يستحيل بقاؤه. ودليلنا على استحالة بقاء الأعراض أن القول ببقائها يؤدي إلى إحالة عدمها [لأن العرض إذا بقي ولم يكن بقاؤه من أجل حدوث بقاء فيه ـ حتى إذا قطع عنه البقاء فني كما يقول أصحابنا في فناء الجسم إذا لم يخلق فيه البقاء ـ وجب أن يكون باقيا إلى أن يوجد ضد له يوجب عدمه ولو كان كذلك لم يكن طريان ضده عليه بأن يوجب عدمه أولى من أن يكون وجوده مانعا من طريان ضده عليه وهذا يحيل جواز العدم على الأعراض وإحالة عدمها يوجب إحالة حدوثها وفي إحالة حدوثها وجوب قدمها وقدم الأجسام معها وإذا بطل القول بقدم الأجسام بطل القول بما يؤدي إليه] لأن العرض لو بقي ولم يكن بقاؤه لحدوث معنى فيه حتى إذا قطع عنه ذلك المعنى فني لوجب أن لا يجوز عدمه ، لطريان ضده عليه بأن يوجب عدمه ، أولى من أن يكون وجوده مانعا من طريان ضده عليه. وقلنا للكرّامية إذا كان عدم العرض عندكم بقول الله تعالى افن وإرادته لعدمه وصح وجود المقول له مع هذا القول وهذه الإرادة في حال حدوثها عندكم فهلا صح بقاء هذه الثلاثة أحوالا كثيرة لأن كل شيئين لا يتنافى وجودهما في حالة واحدة لا يتنافيان بعد ذلك. وقلنا لأبي الهذيل إذا كان بقاء الباقي عندك بقول الله ابق وهذا القول حادث عندك لا في

٤٧

محل فما الذي يمنعه من أن يقول للإرادة ابق وللحركة ابق فيلزمك على هذا إجازة بقاء الحركة والإرادة وذلك خلاف أصلك.

المسألة الثامنة من الأصل الثاني

في تجانس الأجسام

اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب : فأما الدهرية النافية للأعراض فقد زعموا أن الأجسام منها مختلفة ومنها متفقة. ما اتفق منها في الجنس فهي لأنفسها متفقة وما اختلف منها في الجنس فهي لأنفسها مختلفة. وزعم أصحاب التناسخ أن الروح جسم خلاف الأجسام المحسوسة. واختلف أصحاب الهيولى في هذه المسألة : منهم من زعم أن هيولى العالم جوهر واحد من جنس واحد وإنما اختلفت أجزاؤه عند حدوث الأعراض المختلفة فيها. ومنهم من زعم أن لكل نوع من انواع العالم هيولى مخصوصة فهيولى الذهب غير هيولى الخشب ونحو ذلك والهيولات (١) من أصولها اجناس مختلفة. واختلف أصحاب الطبائع في هذا : فمنهم من زعم أن الأجسام في الأصل أربعة أجناس فهي الأرض والماء والنار والهواء وسائر الأجسام مركبة منها. ومنهم من قال بجنس خامس وهو الريح وزعم أن الريح غير الهواء المتحرك. ومنهم من جعل الخامس الفلك وزعم أنه طبيعة خامسة غير قابلة للكون والفساد ومنهم من أثبت في هذه الخمسة روحا سابحة فيها هي خلافها في الجنس. وأما الثنوية فإن المانوية منهم زعمت أن الأجسام في الأصل نوعان قديمان وهما النور والظلمة وهما متضادان في الصورة والفعل ولكل واحد منهما خمسة أبدان مختلفة فأبدان النور النار والنور والريح والماء وروحه النسيم وأبدان الظلمة الحريق والظلمة والسّموم والضباب وروحها الدخان وزعموا أن أبدان النور كل واحد منها مخالف للآخر وإن أبدان الظلمة مخالف بعضها بعضا فصارت الأجسام عندهم عشرة أجناس نصفها من جملة النور ونصفها من جملة الظلام.

وزعمت الديصانية منهم أن الأجسام كلها نوعان نور وظلمة وإن النور حي

__________________

(١) [فهؤلاء يزعمون ان الأجناس في اصولها مختلفة الأجناس].

٤٨

والظلمة موات وكل واحد منهما جنس مخالف للآخر في ذاته وفعله. وزعمت المرقونية منهم أن الأجسام ثلاثة أجناس نور وظلمة ومعدل ثالث بينهما وهو سبب المزاج بينهما. وزعم النظام ومن تبعه من القدرية أن الأجسام أنواع مختلفة ومتضادة وبناه على دعواه أن الألوان والطعوم والأصوات والخواطر أجسام. وقال أصحابنا بتجانس الأجسام كلها وقالوا إنّ اختلافها في الصورة وفي سائر الأحكام إنما هو لاختلاف الأعراض القائمة بها ووافقهم على هذا من المعتزلة الجبّائي وابنه أبو هاشم. ودليل هذا القول إن أعظم أنواع الاختلافات بين الأجسام ما نراه من الاختلافات بين الأرض والماء والنار والهواء وما نراه لا من الاختلافات بين الحيوان والجمادات وأنواع النبات وهذه الأنواع مع اختلافها في الصورة واللون والطعم والرائحة والوزن يستحيل بعضها إلى بعض لأن الأرض تنحل فتصير ماء كالملح إذا ذاب والماء في بعض البقاع يجمد فيصير حجرا والحجر من جنس الأرض. وقد ينعقد الماء فيصير ملحا والملح من جنس الأرض السّبخة المالحة. والصاعقة تقع على الأرض. فتغوص فيها إلى الماء فتصير في الماء قطعة حديد والحديد من جنس الأرض. والهواء قد ينعقد فيصير بخارا وسحابا ثم يقطر منه المطر. والقطرة من الماء إذا صبت على الصفحة المحماة بالنار صارت بخارا وهواء. والحيوان والنبات إذا أحرقا صارا رمادين والرماد من جنس الأرض. فدلت استحالة هذه الأصول بعضها إلى بعض أنها في الأصل جنس واحد وأنّ اختلافها في الصورة لاختلاف الأعراض القائمة بها [كما بيناه].

المسألة التاسعة من الأصل الثاني

في إثبات حدوث الأعراض

اختلف الذين أثبتوا الأعراض في حدوثها : فقال المسلمون وكل من أقر بشريعة بحدوثها. واختلفت الدهرية الذين أثبتوا الأعراض في حدوثها فمنهم من قال بحدوث الأعراض وزعم أن الأجسام (١) سابقة لها وهذا قول أصحاب الهيولى.

__________________

(١) [الجواهر].

٤٩

ومنهم من قال إنّ الأعراض حوادث إلا أنه [لا] حادث منها إلا وقبله حادث ولا حركة إلا وقبلها حركة أو سكون ولا سكون إلا وقبله حركة (١) وزعم آخرون منهم أن الأعراض قديمة في الأجسام غير أنّها تكمن في الأجسام وتظهر فإذا ظهرت الحركة في الجسم كمن السكون [فيه] وإذا ظهر السكون [فيه] كمنت الحركة [فيه] وكذلك كل عرض ظهر كمن ضده في محله. والكلام على الأزلية وأهل الهيولى يأتي بعد هذا في الفصل الذي يلي هذا الفصل. فقلنا لأصحاب الكمون والظهور لو كان العرض يظهر ويكمن لوجب أن يكمن بعد ظهوره لمعنى يقوم به (٢) وهذا يؤدي إلى قيام عرض بعرض وذلك محال فما يؤدي إليه مثله. وإذا استحال ذلك استحال الظهور والكمون على الأعراض فصح أنها كلها حوادث في الأجسام.

المسألة العاشرة من الأصل الثاني

في استحالة تعري الأجسام من الأعراض

ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري إلى استحالة تعري الأجسام من الألوان والأكوان والطعوم والروائح. وقال لا بد أن يكون في كل جوهر لون وكون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحياة أو ضدها وإذا وجد في حالين فلا بد من وجود بقاء فيه في كل حال بعد حال حدوثه. وزعم الكعبي [وأتباعه من القدرية] أن الجوهر يجوز تعريه عن الأعراض كلها إلا من اللون. وزعم أبو هاشم وأتباعه من القدرية أن الجوهر في حال حدوثه يجوز تعريه من الأعراض كلها إلا من الكون وكل عرض حدث فيه بعد الكون فإنه لا يخلو منه بعد حدوثه إلا بضده.

__________________

(١) [وهذا قول طائفة أزلية الدهرية].

(٢) [لأن الموجود إذا تغير عليه الوصف تغير عليه الوصف في ذاته لمعنى قام به فإن اجابوا الى ذلك لزمهم إجازة قيام عرض بعرض وهذا خلاف أصولهم ، وإذا بطل الظهور والكمون في الاعراض وصح تغير الأجسام بها من حال الى حال وبطل انتقال العرض من جسم الى جسم لاستحالة قيام الانتقال والحركة بالعرض صح ان قيام العرض بالجوهر إنما هو حدوثه فيه ، وصح بهذا الدليل حدوث جميع الأعراض].

٥٠

وزعم الصالحيّ وأتباعه من القدرية : أنه يجوز وجود الجوهر خاليا من الأعراض كلّها. وزعم المعروف منهم بابن المعتمر أنّ الجوهر الواحد لا يحتمل الأعراض فإذا اجتمعت ثمانية أجزاء وصارت جسما أحدثت في أنفسها الأعراض طباعا. وزعم أصحاب الهيولى أن هيولى العالم كان شيئا واحدا خاليا من الأعراض ثم حدثت فيه الأعراض [فتجانست وتنوعت واختلفت الأجزاء] فتركب منها العالم عند حدوث الأعراض فيها. فيقال لهم هل كانت الهيولى في الأصل جوهرا واحدا أو جواهر؟ فإن قالوا كانت جوهرا واحدا قيل فكيف صارت بحدوث الأعراض فيه جواهر كثيرة وحدوث العرض في الشيء إنما يغير صفته ولا يزيد في عدده. وإن قالوا كانت الهيولى قبل حدوث الأعراض فيها جواهر وأشياء قيل الجواهر لا يخلو من اجتماع وافتراق وهما عرضان. وفي هذا بطلان قولهم بتعريها من الأعراض. [وقيل أخبرونا كيف حدثت الأعراض في الهيولى فإن زعموا أنّها حدثت فيها بنفسها قيل كيف يحدث الشيء بنفسه وإن قالوا حدثت فيها بقوة لها أثبتوا في الهيولى قوة قبل حدوث الأعراض ونقضوا قولهم بتعري الهيولى عن الأعراض فإن قالوا بصانع أحدث الأعراض في الهيولى قيل فاعل العرض بالجسم إنما يغير بالعرض صفة الجسم ولا يجعل الجسم الواحد جسمين وقيل لهم أيّ العرضين أسبق إلى الهيولى ، الاجتماع أو الافتراق؟ فإن زعموا أن الافتراق يسبق إليها وجب كونها قبل ذلك مجتمعة الأجزاء حتى تفترق بالافتراق وفي هذا بطلان قولهم أن الهيولى لم تكن مجتمعة ولا مفترقة قبل حدوث الأعراض فيها فإن استدلوا] و[إن] استدل أهل الهيولى على إثبات الهيولى بأن قالوا لم نجد حادثا حدث إلا من أصل له ولم نجد في الشاهد فاعلا فعل شيئا إلا من شيء كالخاتم المصوغ من (١) الفضة أو الذهب والباب المصنوع من الخشب والثوب من القطن ونحو ذلك فيقال لهم إن الصانعين في الشاهد لا يصنعون أجساما وإنما أفعالهم أعراض وكل عرض يحدث في الشاهد لا من أصل له [وقلنا للهاشمية والكعبية إذا أجزتم تعرّي الجواهر من جميع الأعراض إلا من الألوان أو من الأكوان في الابتداء وإن استحال تعريها منها بعد

__________________

(١) وردت في المطبوع «في».

٥١

وجودها فيها فبم ينفصلون من أصحاب الهيولى إذا قالوا إنّها قبل حدوث الأعراض فيها كانت خالية من الأعراض وإن استحال تعريها منها بعد حدوث الأعراض فيها. وقيل للصالحي منهم إذا صح عندك وجود الجوهر خاليا من الأعراض كلها فما الذي يفسد به قول أصحاب الهيولى وما الذي كان يكون دليلا على حدوث الجوهر الواحد لو خلقه فيه تعالى منفردا ولم يخلق فيه عرضا وهذا لا سبيل إلى الاستدلال عليه وكل قول لا يصح معه الاستدلال على حدوث الأجسام وعلى حدوث الجوهر فهو فاسد] فإذا ثبت لنا حدوث الأجسام وجب أن يكون حدوثها لا من أصل كما أن حدوث الأعراض لا من أصل لها. وقلنا للصالحي إذا خرق تعري الجواهر من الأعراض فبم تنفصل من أهل الهيولى إذا ادعوا من قدم الهيولى وزعموا أنها كانت في الأزل خالية من الأعراض ثم حدثت الأعراض فيها وكل قول يلزمك عليه مقالة فاسدة فهو فاسد مثلها.

المسألة الحادية عشرة من الأصل الثاني

في تحقيق حدوث الأجسام

والخلاف في حدوث الأجسام مع فرق : إحداها الدهرية المعروفة بالأزلية لدعواها أن العالم كان في الأزل على هذه الصورة في أفلاكه وكواكبه وسائر أركانه وإن الحيوانات متناسلة كما هي الآن كذلك. والخلاف الثاني مع أصحاب الهيولى في قولهم هيولى العالم قديمة وأعراضها حادثة. والخلاف الثالث مع الثنوية في قولهم : بقدم النور والظلمة. والخلاف الرابع مع أهل الطبائع الذين قالوا بقدم الأرض والماء والنار والهواء. والخلاف الخامس مع من قال بقدم هذه الأربعة وبقدم الأفلاك معها. وقال أهل الحق بحدوث جميع الأجسام والأعراض. ودليل ذلك : إنا قد دللنا قبل هذا على حدوث الأعراض في الأجسام ودللنا أيضا على استحالة تعري الأجسام من الأعراض الحادثة فيها فإذا صح أن الأجسام لم تسبق الأعراض الحادثة وجب حدوثها لأن ما لم يسبق الحوادث كان محدثا كما أن ما لم يسبق حادثا واحدا كان محدثا ولا معنى لاعتراضهم على هذه الأدلة بأن الأجسام لم تسبق الألوان والأعراض ولا يجب

٥٢

كونها ألوانا ولا أعراضا كذلك لم تسبق الحوادث ولا يجب كونها حوادث. لأنا نقابل الجملة بالتفصيل فإذا جاز أن لا يسبق لونا واحدا وعرضا واحدا ما لا يكون لونا وعرضا جاز أن لا يسبق الألوان والأعراض ما لا يكون لونا ولا عرضا وكل ما لم يسبق حادثا واحدا وجب كونه حادثا كذلك ما لم يسبق الحوادث كونه حادثا [وقد دخل في حكم هذه الدلالة حكم النار والأرض والهواء والماء والأفلاك والكواكب وسائر الأجسام من حيوان ونبات لأنها كلها أجسام غير سابقة الأعراض الحادثة فيها فوجب حدوث جميعها كما بيناه].

المسألة الثانية عشر من الأصل الثاني

في بيان وقوف الأرض ونهايتها

اختلفوا في هذه المسألة [على مذاهب] : فقال المسلمون وأهل الكتاب بوقوف الأرض وسكونها وإن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. وبه قال جماعة من الفلاسفة منهم أفلاطون وأرسطاطاليس وبطليموس وأقليدس. وزعم بعض السمنية أن الأرض تهوي أبدا بما عليها. وزعم قنادوس [وحكى عن ميلاوش] أن الأرض تتحرك حركة دورية لكنها لا تزول عن مركزها. وحكى أرسطاطاليس في كتاب (السماء والعالم) عن قوم من الفلاسفة أن الفلك ساكن وأن الأرض هي التي تدور بما عليها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة دورة واحدة. وهذا عكس قول المنجمين أن الفلك يدور حول الأرض في كل يوم وليلة دورة واحدة. واختلف القائلون بوقوفها في علة وقوفها : فقال أصحابنا إنّ الله تعالى وقفها لا على جسم وليس الهواء المحيط بها حاملا لها وأجازوا وقوف كل جسم لا في مكان. [وزعمت الدهرية الذين زعموا أنه لا نهاية للأرض إلا من جهة الصفحة العليا منها إن] وزعمت القدرية النافية لنهاية العالم من تحت ومن الأطراف أن علة وقوف الأرض أنه ليس تحتها خلاء ولا عن جانب منها خلاء. وزعم أرسطاطاليس أن علة وقوفها أنها تطلب مركزها الذي في وسطها. وزعم قوم من الفلاسفة أن علة وقوفها سرعة دوران الفلك حولها [من وقوف في الفلك] قالوا : ولو وقف الفلك لسقطت الأرض من وسط الفلك إلى الجانب الأسفل منه. وقال آخرون علة

٥٣

وقوف الأرض جذب الفلك لها من كل جانب إلى نفسه. وقال آخرون علة وقوفها دفع الفلك لها عن نفسه من كل جانب.

وزعم ابن الراوندي أن علة وقوفها أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصاعد في الجرم والقوة فلذلك وقفت فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركبة من جسمين أحدهما منحدر والآخر مصعد فاعتدلا فيها فلذلك وقفت. ودليل بطلان قول من زعم أن الأرض تهوي أبدا وصول ما نلقيه من اليد إلى الأرض والخفيف لا يلحق ما هو أثقل منه في الانحدار ما لم يكن للأثقل منها وقوف. ولو كانت للأرض حركة دورية لأحسسنا بذلك كما نحسّ بحركتها عند الزلزلة ثم إنا لو جعلنا قطعة من الأرض على طبق لم تدر عليه ولو رمينا بها في الهواء لنزلت على الاستواء ولم تدر على نفسها فإذا كانت كل قطعة منها لا تدور فكيف دارت جملتها. وقول من جعل علة وقوفها نفي النهاية عنها من غير جهة الصفحة العليا منها باطل لأن تناهيها من جهة دليل على تناهيها من سائر الجهات [ومن سار في قبلة الشرق كان ما خلّف وراءه من جهة المغرب في كل يوم أكثر مما خلفه قبل ذلك وما زاد على غيره فالمزيد عليه متناه في نفسه] ولو كانت علة وقوفها طلبها للمركز الذي في وسطها لوجب أن لو حفرنا بئرا على سمت ذلك المركز نافذة إلى الصفحة السفلى منها أن يقف الماء عند ذلك المركز لا على قرار منها وهذا محال عندهم. ومن زعم أن علة وقوفها سرعة دوران الفلك حولها (١) ، سلم له دوران الفلك حول الأرض والسموات عند طباق فوق الأرض ساكنة وإنما تتحرك الكواكب فيها ولو سلمنا لهم دوران الفلك حول الأرض والهواء لم يجب بذلك وقوف الأرض لأن هذه العلة لو صحت لما صح دوران الطيور في الهواء فوق الأرض لأن الفلك يدور حولها كما يدور حول الأرض. ولو كان علة وقوفها جذب الفلك لها إلى نفسه من كل جانب لوجب إذا رمينا بقطعة من الأرض في الهواء أن

__________________

(١) [فمن سلم لهم دوران الفلك حول الأرض أو ما علموا من قولنا أن الفلك فوق الأرض كالطبق ، وانه ليس تحت الأرض سماء وأن الفلك ساكن وأن الكواكب متحركة فيه].

٥٤

يذهب إلى الفلك ولا يرجع إلى الأرض. ولو كان علة وقوفها ريح صعادة تحتها كما قال ابن الراوندي لوجب أن لا ينحدر إلى الأرض ما يرمى به في الهواء عند هبوب الريح. ولو كانت الأرض مركبة من جزءين أحدهما منحدر والآخر مصعد لوجب إذا رمينا بقطعة منها في الهواء أن يقف في الهواء لأنها مركبة من منحدر وصعاد [فلما لم يكن كذلك بطلت هذه العلة وسائر العلل التي حكيناها عن مخالفينا وصح بما قلنا إن الأرض واقفة بقدرة الله تعالى وإنها متناهية من كل جهة كما بيناه] وإذا بطل (١) قول مخالفينا في هذه المسألة صح قولنا فيه.

المسألة الثالثة عشر من الأصل الثاني

في وقوف السماوات وأعدادها

زعم قوم من الفلكية أن الفلك قديم لا صانع له. وزعم آخرون أنه قديم وله صانع. وزعم قوم من الفلكية أنه من العناصر الأربعة وإن القول فيها كالقول في الأرض والماء والنار والهواء. وزعم آخرون منهم أنه طبيعة (خامدة) (٢) ليست فيها حرارة ولا برودة وليس هو بخفيف ولا ثقيل ولا يجوز عليه الزيادة والنقصان. ومنع ارسطاطاليس من طريان الفساد على الأفلاك وأجاز ذلك آخرون منهم وزعم أكثرهم أن شكل الفلك (كرى) (٣). وزعم قوم أنه كنصف بيضة أو كنصف كرة ومنهم من قال إنّه كرة زعموا أنه يتحرك من جهة المشرق إلى المغرب حركة دورية في كل يوم وليلة مرة واحدة وأنّ الكواكب التي فيه تتحرك من المغرب إلى المشرق على خلاف سمت حركة الفلك. وزعم أكثرهم أن أعداد الأفلاك تسعة ، منها سبعة للكواكب السبعة التي هي زحل والمشتري والمرّيخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر وقالوا : إن أدناها إلينا فلك القمر وأبعدها فلك زحل. وفوق الأفلاك السبعة فلك البروج وفيها الكواكب الثابتة وفوقه الفلك الأعظم الذي سموه مدبر الكل [وزعم آخرون منهم أن الأفلاك ثمانية وليس فوق فلك البروج فلك].

__________________

(١) وردت في المطبوع «بطلت».

(٢) وردت في المطبوع «خامسة».

(٣) كروي.

٥٥

وذهب المسلمون وأهل الكتاب إلى أن الأفلاك سبعة طباق بعضها فوق بعض وقالوا إنها ساكنة وإنما يتحرك فيها الكواكب وهي كلها في السماء السفلى دون ما فوقها [ودليل حدوث الأفلاك في جملة دليل حدوث الأجسام والعلم بأعداد الأفلاك واقع من طريق الشرع لا مجال للحس فيه. ومن زعم أن الأفلاك متحركة حركة دورية أبطل كون العرش والملائكة فوق الأفلاك وبناه على كون الأفلاك (كريّة) (١) ولا دليل معه على ذلك. ومن زعم أن لكل كوكب من الكواكب فلكا مخصوصا استدل عليه بأن كل كوكبين عند اقترانهما يرى الأسفل منهما دون الأعلى وهذه العلة منتقضة بالشمس فإن كل كوكب يقارن الشمس لا يرى عند مقارنته للشمس ولا عند محاذاته لها في النقطة الواحدة من برج واحد ومع ذلك فقد زعموا أن بعض الكواكب تحتها وفي هذا نقض اعتلالهم وإذا لم يسلم لهم كون الفلك كرة وقلنا إنه طبق مبسوط بطل دعواهم وجوب حركته وإن كانت جائزة في العقل ، وقد استقصينا هذه المسألة وأشكالها في كتابنا الذي سميناه (كتاب هيئة العالم)] وقد دللنا على حدوث الأفلاك والكواكب بالدلالة على حدوث الأجسام كلها. ومن زعم أن الأفلاك متحركة حركة دورية أبطل كون العرش والملائكة فوق السموات وفيما بينها. ومن زعم أن الكواكب السبعة في سبعة أفلاك استدل بأن الكواكب عند اقترانها يرى الأسفل منها دون الأعلى. وهذه العلة منتقضة بالشمس فإنها إذا قارنت كوكبا أيّها كان فهي المرئية دون ذلك الكوكب وإن كان المقارن لها عندهم تحت الشمس كالقمر والزهرة وعطارد.

المسألة الرابعة عشرة من الأصل الثاني

في إثبات نهاية العالم

وزعم القدرية [الدهرية] أن الأرض لا نهاية لها من خمس جهات وإنما لها نهاية من الوجه الذي تلاقي منه الهواء من فوق. وزعموا أيضا أن السموات لا نهاية لها في الأقطار. وقد دللنا قبل هذا على نهاية الأرض ودليل نهاية السموات

__________________

(١) كروية.

٥٦

[السماء] دوران الشمس والقمر والكواكب في كل دور لها إلى أن يعود كل واحد منها إلى مشرقه الذي منه سار فإن [كان] كل كوكب ينتهي إلى مشرقه بقطعه الفلك وجب بذلك تناهي الفلك وإن كانت الكواكب ترى من الفلك في بعض أقطار الأرض وتدور تحت الأرض إلى أن يرجع إلى مشرقه ثبت بذلك كون الأرض متناهية ولأن الماء والهواء اللذين هما بين الأرض والفلك متناهيان من كل جهة وإذا تناهى ركنان من العالم من كل جهة فكذلك سائر أركانه متناهية من كل جهة.

المسألة الخامسة عشرة من الأصل الثاني

في إجازة الفناء على العالم

واختلفوا في هذه المسألة : فمن قال بقدم الأجسام أحال عدمها وكل من قال بحدوثها أجاز الفناء عليها إلا الجاحظ فإنه أحال عدم الأجسام والذين أجازوا فناءها اختلفوا في كيفية فنائها : فقال شيخنا أبو الحسن الأشعري إنّ الله عزوجل إذا أراد فناء جسم لم يخلق البقاء فيه. وقال بعض أصحابنا (١) وهو القاضي أبو بكر ابن الطيب (٢) إنّ الله عزوجل يفني الجسم بقطع الأكوان عنه فإذا لم يخلق في الجسم لونا ولا كونا فني ذلك الجسم. وزعم القلانسي من أصحابنا أن الله تعالى يخلق في الجسم فناء يفني [به] في الحال الثانية من حال حدوث الفناء فيه. وزعم الجبائي وابنه أن الله تعالى يخلق فناء لا في محل فيفني به جميع الأجسام وزعم أن الله ليس بقادر على إفناء بعض الأجسام مع بقاء بعضها. وقول الجاحظ كفر عند سلف الأمة لأنه أحال أن يبقى الإله سبحانه فردا كما كان في الأزل فردا. ودليل فساد قول القلانسي أن الجسم إذا لم يفن بالفناء في حال حدوثه فكيف يفنى به في الثاني من حال حدوثه. وقول الجبائي وابنه صريح في الكفر لأنهما وصفا الله تعالى بالقدرة على فناء كل لا يقدر على فناء بعضه. والحمد لله على العصمة من كل بدعة

__________________

(١) أصحابه.

(٢) [ان الأجسام لا تعرى عن الأكوان والألوان فإذا أراد الله إفناء جسم قطع عنه الأكوان والأجسام وإذا لم يخلق في الجسم الكون واللون صار معدوما].

٥٧
٥٨

الأصل الثالث

من أصول هذا الكتاب في معرفة صانع العالم

ومعرفة نعوته الذاتية

وفي هذا الأصل أيضا خمس عشرة مسألة هذه ترجمتها :

مسألة في أن الحوادث لا بد لها من محدث.

مسألة في أن صانعها صنعها لا من شيء.

مسألة في أن الصانع قديم.

مسألة في أنه قائم بنفسه.

مسألة في نفي الحدّ والنهاية عنه.

مسألة في إحالة الأجزاء والأبعاض عليه.

مسألة في إحالة كونه في مكان دون مكان.

مسألة في إحالة وصفه بالألوان والطعوم.

مسألة في إحالة الآفات عليه.

مسألة في إحالة العدم عليه.

مسألة في إحالة الحجر عليه فيما يخلق.

مسألة في غناه عن خلقه وعن اجترار نفع إلى نفسه.

مسألة في كونه خالقا لأنواع الحوادث.

مسألة في أنه هو المفني لما يفنى.

مسألة في بيان أوصافه الذاتية. وسنذكر في كل واحد من هذه المسائل مقتضاها إن شاء الله تعالى.

٥٩

المسألة الأولى من الأصل الثالث

في أن الحوادث لا بد لها من محدث

وزعم قوم من الكفرة الدهرية : أن كل حادث يحدث في نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار وقد أقروا بحدوثها وأنكروا محدثها وأنكروا الأعراض. وفرقة منهم قالت بحدوث الأثمار لا من صانع وأثبتوا للأعراض فاعلا. ومن قال من الدهرية بأن الطبع هو الفاعل ولم يصف الطبع بصفة الصانع الحي القادر العالم فهو أيضا من جملة منكري الصانع والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه وإذا بطل اختصاصه بوقته لأجل الوقت صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به لو لا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده ولأنه إذا لم يصح حدوث كتابة لا من كاتب ونسج لا من ناسج وبناء لا من بان كذلك لا يصح وقوع حادث لا من محدث [فإن قيل لم لا يجوز أن يكون محدثه الطبع؟ قيل إنّ الطبع المضاف إليه الفعل لو أريد به فاعل حي قادر عالم فهو الصانع الذي أثبتناه وإن أريد به ما ليس بحيّ ولا موجود أصلا فما ليس بموجود لا يكون فاعلا. فإن قيل لم لا يكون فاعله طبعا موجودا إلا أنه ليس بحي قيل أن الموجود الذي ليس بحي إن كان قائما بنفسه فهو جسم أو جوهر وقد دللنا على حدوث الجواهر والأجسام وافتقارهما إلى صانع وإن كان غير قائم بنفسه فهو عرض ولا يصح كون العرض فاعلا. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الحادث أحدث نفسه؟ قيل لأنه يستحيل من المعدوم إحداث نفسه لاستحالة كون المعدوم فاعلا وإذا حدث فحدوثه يغنيه عن إحداث نفسه فبطل إحداث نفسه وصح أن محدثه غيره].

المسألة الثانية من الأصل الثالث

في أن صانع الحوادث أحدثها لا من شيء

ذهب الموحدون إلى أن الصانع خلق الأجسام والأعراض ابتداء لا من

٦٠