أصول الإيمان

عبدالقاهر التميمي الشافعي

أصول الإيمان

المؤلف:

عبدالقاهر التميمي الشافعي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٩

فقالت القدرية البصرية : إنها موافقة الإرادة وإن كل من فعل مراد غيره فقد أطاعه. وألزم الجبّائي على هذا كون الباري تعالى مطيعا لعبده إذا فعل مراده فالتزم ذلك وكفرته الأمة. وقال أصحابنا إن الطاعة موافقة الأمر فكل من امتثل أمر غيره صار مطيعا له. وسؤالنا ربّنا ليس بأمر ، فلذلك لم يكن مطيعا لنا وإن أجابنا فيما سألناه. وللعصيان في اللغة معنيان أحدهما : معنى الذنب والخروج عن الطاعة الواجبة. والثاني الامتناع عن الشيء. والمعصية نقيض الطاعة فكما إن الطاعة موافقة الأمر كذلك المعصية مخالفة الأمر وإن شئت قلت موافقة النهي.

المسألة الثالثة من هذا الأصل

في زيادة الإيمان ونقصانه

كل من قال : إن الطاعات كلها من الإيمان أثبت فيه الزيادة والنقصان. وكل من زعم : أن الإيمان هو الإقرار الفرد منع من الزيادة والنقصان فيه. وأما من قال إنه التصديق بالقلب فقد منعوا من النقصان فيه. واختلفوا في زيادته : فمنهم من منعها ومنهم من أجازها. ودليل الزيادة فيه قول الله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) (١) وقوله : «(وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (٢) وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) (٣) وقوله : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٤) وقال : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٥) وقال أيضا : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) (٦). ففي هذه الآيات السّتّ تصريح بأن الإيمان يزيد وإذا صحت الزيادة فيه كان الذي زاد إيمانه قبل الازدياد أنقص إيمانا منه في حال الازدياد.

__________________

(١) سورة آل عمران آية ١٧٣.

(٢) سورة الانفال آية ٢.

(٣) سورة التوبة آية ١٢٤.

(٤) سورة الأحزاب آية ٢٢.

(٥) سورة الفتح آية ٤.

(٦) سورة المدثر آية ٣١.

٢٠١

المسألة الرابعة من هذا الأصل

في جواز الاستثناء في الإيمان

كل من قال في الإيمان بقول الخوارج أو القدرية أو المجسمة الكرّامية فإنه لا يستثني في الإيمان في الحال وإنما استثنى فيه في المستقبل. والقائلون بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث مختلفون في الاستثناء فيه : فمنهم من يقول به ، وهو اختيار شيخنا أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك. ومنهم من ينكره وهذا اختيار جماعة من شيوخ عصرنا : منهم أبو عبد الله بن مجاهد والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأسفرايني وكل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان قال بالموافاة وقال كل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا علم في عاقبته إنه لم يكن قط مؤمنا. والواحد من هؤلاء يقول : أعلم أنّ الإيمان حق وضده باطل وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنا حقا فيستثني في كونه مؤمنا ولا يستثني في صحته إيمانه واستدلّوا بأن الله تعالى ما أمر بإيمان ينقطع وإنما أمر بإيمان يدوم إلى آخر العمر وإذا قطع القاطع إيمانه علم أنّ الذي أظهره قبل القطع لم يكن الإيمان المأمور به كما إن الصلاة التي يقطعها صاحبها قبل تمامها لا تكون صلاة على الحقيقة وإنما تكون صلاة إذا تمت على الصحة. وقد روي عن ابن أبي مليكة أنه قال : أدركت أكثر من خمسمائة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل منهم يخشى على نفسه النفاق لأنه لا يدري ما يختم له.

المسألة الخامسة من هذا الأصل

في إيمان من اعتقد تقليدا

قال أصحابنا : كل من اعتقد أركان الدين تقليدا من غير معرفة بادلتها ننظر فيه ، فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال : لا آمن أن يرد عليها من الشّبه ما يفسدها فهذا غير مؤمن بالله ولا مطيع له بل هو كافر وإن اعتقد الحقّ ولم يعرف دليله واعتقد مع ذلك انه ليس في الشبه ما يفسد اعتقاده فهو الذي اختلف فيه

٢٠٢

أصحابنا : فمنهم من قال هو مؤمن وحكم الإسلام له لازم وهو مطيع لله تعالى باعتقاده وسائر طاعاته وإن كان عاصيا بتركه النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة أدلة قواعد الدين. وإن مات على ذلك رجونا له الشفاعة وغفران معصية برحمة الله وإن عوقب على معصيته لم يكن عذابه مؤبدا وصارت عاقبة أمره الجنة بحمد الله ومنّه. هذا قول الشافعي ومالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر وبه قال المتقدمون من متكلمي أهل الحديث كعبد الله بن سعيد (١) والحارث المحاسبي (٢) وعبد العزيز المكي (٣) والحسين بن الفضل البجلي (٤) وأبي عبد الله الكرابيسي وأبي العباس القلانسي وبه نقول. ومنهم من قال إن معتقد الحقّ قد خرج باعتقاده عن الكفر ، لأن الكفر واعتقاد الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان ، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلّا إذا عرف الحق في حدوث العالم وتوحيد صانعه وفي صحة النبوة ببعض أدلته سواء أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة أو لم يحسنها. وهذا اختيار الأشعري وليس المعتقد للحق بالتقليد عنده مشركا ولا كافرا وإن لم يسمّه على الإطلاق مؤمنا وقياس أصله يقتضي جواز المغفرة له لأنه غير مشرك ولا كافر. واختلفت المعتزلة في هذا الباب : فمن زعم منهم أن المعارف ضرورية زعم أن معتقد الحق إذا اعتقده عن ضرورة ولم يخلطه بفسق فهو مؤمن ولو خلطه بفسق فهو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر. وان اعتقده لا عن ضرورة فليس بمكلّف. واختلف الذين قالوا

__________________

(١) هو ابو سعيد الأشجّ عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي الحافظ صاحب التصانيف ، روى عن هشيم وعبد الله بن ادريس وخلف ، وكان ثقة حجة. قال ابو حاتم : هو امام اهل زمانه وقال محمد بن أحمد الشطوي ، ما رأيت احفظ منه. توفي في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائتين وقد جاوز التسعين.

(٢) مرت ترجمته.

(٣) هو عبد العزيز بن يحيى الكتاني المكي ، سمع من سفيان بن عيينة وناظر بشر المريسي في مجلس المأمون بمناظرة عجيبة غريبة فانقطع بشر وظن عبد العزيز ومناظرتهما مشهورة مسطورة ، وعبد العزيز هو صاحب كتاب الحيدة وهو معدود في أصحاب الشافعي توفي سنة أربعين ومائتين.

(٤) مرت ترجمته.

٢٠٣

منهم : إن المعرفة بالله وكتبه ورسله اكتساب عن [غير نظر] واستدلال ، فيمن اعتقد الحق تقليدا : فمنهم من قال إنه فاسق بتركه النظر والاستدلال فالفاسق عندهم لا مؤمن ولا كافر. ومنهم من زعم إنه كافر لم يصح توبته عن كفره لتركه بعض فروضه. وزعم أبو هاشم أن الكافر لو اعتقد جميع أركان دين الإسلام واعتقد جميع أصول أبي هاشم وعرف دليل كل أصل له ، إلا أصلا واحدا جهل دليله ، من أصول العدل والتوحيد عنده فهو كافر ومقلدوه كلهم كفرة عنده. وهو صادق عندنا في هذا وإن كان كاذبا في أصوله.

المسألة السادسة من هذا الأصل

في إيمان الأطفال

اختلفوا في وقت وجوب الإيمان : فزعم من قال باكتساب المعارف ، من المعتزلة ، إن وقت وجوب الإيمان وقت صحته فكل من صح [منه] الإيمان وجب عليه الإيمان وذلك عند تمام العقل الذي صح معه الاستدلال المؤدي إلى المعرفة وليس البلوغ شرطا فيه. ثم إن النظام والاسكافي وجعفر بن حرب قالوا واجب على من خلقه الله عاقلا ورأى نفسه وغيره من العالم ، أن يعلم أن له وللعالم صانعا. ثم إن خطر بباله بعد ذلك هل صانعه جسم أم لا ، هل يجوز أن يرى أم لا ، أو هل له شبه أم لا ، أو هل خلق الخلق لمنفعة أو لا ، فعليه بعده النظر والاستدلال وإن خطر بباله هل لصانعه أن يعاقبه إن عصاه وهل له أن يديم عقابه أم لا؟ فعليه أن يجيز ذلك ولا يقطع عليه. وقال جعفر بن مبشر بمثل قول النظام في جميع ذلك إلّا في الوعيد فإنه أوجب على المفكّر أن يعلم أنّه إن عصى ربه ولم يعرفه عاقبه دائما. وزعم أنّ دوام الوعيد يعرف بالعقل. وقال بشر بن المعتمر بوجوب المعرفة والإيمان على العاقل من غير خاطر ، إلا أنه أوجب النظر والاستدلال في المعرفة. وقال أبو العباس القلانسي ومن تبعه من أصحابنا بوجوب المعارف العقلية على العاقل من جهة العقل. وقال شيخنا أبو الحسن وضرار وبشر بن غياث : وقت صحة الإيمان والمعرفة وقت كمال العقل ووقت وجوبهما عند اجتماع العقل والبلوغ ولا

٢٠٤

وجوب إلا من جهة الشرع. وزعمت الكرّامية أن الإيمان قد وجد من الكل في الذر الأول. ثم اختلفوا فيما بينهم : فزعم المعروف منهم بالأصرم إن الذرية لم يكونوا يومئذ مأمورين بالإيمان وإنما سئلوا عن التوحيد فأجابوا وصارت إجابتهم إيمانا ولم تكن طاعة. وقال أكثرهم كانوا مأمورين وكان الجواب منهم طاعة. فقد فهم لو كان ذلك إيمانا وولدوا عليه لم يجز للمسلمين استرقاق أولاد المشركين لأنه لم يظهر من أطفالهم شرك بعد الإيمان الأول. ثم الدليل على تعليق الوجوب بالبلوغ والعقل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ». (١) ثم الكلام في إيمان الأطفال مبني على الخلاف الذي ذكرناه : فالكرّامية تزعم أنهم يولدون مؤمنين بالإقرار السابق منهم في الذر الأول سواء ولدوا من مؤمن أو كافر فإن بلغ الواحد منهم وكفر نظر فإن كان أبواه كافرين أقرّ على كفره وإن كان أبواه أو أحدهما مؤمنا صار مرتدا عن الدين. فقلنا لهم على هذا القول لو كان الطفل ، الذي أبواه كافران ، مؤمنا لوجب إذا مات قبل البلوغ أن يدفن في مقابر المسلمين وإن يغسل ويصلى عليه كما يفعل ذلك لأطفال المؤمنين ووجب أن يكون ماله للمسلمين دون الكافرين ووجب أيضا أن لو بلغ واختار دين أبويه أن يكون مرتدا يقتل بردته ولا يقبل منه الجزية. وزعمت الغيلانية من القدرية أنّ الطفل إذا عرف حدوث العالم وتوحيد صانعه ضرورة وأقرّ بذلك وبما جاء من عند الله فهو مؤمن وإن اعتقد ضدّ ذلك أو أقرّ بضده فهو كافر. وقال الباقون من المعتزلة إن الطفل قبل كمال عقله ليس بمؤمن ولا كافر ، لكنه إن مات على ذلك دخل الجنة. واختلفوا فيه إذا كمل عقله قبل البلوغ : فمنهم من قال يلزمه بعد معرفته بنفسه أن يأتي بجميع معارف العدل والتوحيد وكل ما كلّف بعقله في الحال الثانية من معرفته بنفسه ، فإن لم يأت بذلك في الحال الثانية من معرفته بنفسه صار عدوّا لله كافرا. وأما الذي لا يعلم إلا بالشرع فعليه أن يأتي بمعرفته في الحال الثانية من حال سماع الأخبار على وجه يقطع

__________________

(١) أخرجه الترمذي عن علي بلفظ : رفع القلم عن ثلاثة ـ ١٤٢٣ وأخرجه الحاكم في المستدرك عن عائشة بلفظ رفع القلم عن ثلاثة ٢ : ٥٩ و ٤ : ٣٨٩ ورواه عن علي بلفظ :

رفع القلم عن ثلاثة ١ : ٢٥٨ و ٤ : ٣٨٩.

٢٠٥

العذر. وهذا قول أبي الهذيل. وقال بشر بن المعتمر إنّ الحال الثانية حال فكر واعتبار وإنما يجب ذلك عليه في الحال الثالثة. واعتبر الاسكافي وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر مهلة يمكن فيها الاستدلال. وعلى أصول أصحابنا لا يجب على الطفل قبل بلوغه وتمام عقله شيء. فإن أظهر طفل من أطفال المشركين كلمة الإسلام ومات عليه فقد قال أبو حنيفة : إنه مات مسلما ، وقال أصحابنا أمره إلى الله لكنّا ندفنه في مقابر المسلمين ونحول بينه وبين أبويه قبل موته لئلا يفتناه عن الدين ولكنا نجعل ماله لأبويه. ولو لم يمت وبلغ واختار دين أبويه لم نجعله مرتدا وجعله أبو حنيفة مرتدا. وأجمع الفقهاء على أن الطفل من أولاد المسلمين لو أظهر كلمة الردة لم يكن مرتدا فإن مات على ذلك ورثه المسلمان من أبويه ودفن في مقابر المسلمين. واختلفوا في الطفل إذا كان أبواه كافرين فأسلم أحدهما فقال أصحابنا : يصير مسلما بإسلام أحدهما وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. واعتبر مالك فيه دين أبيه كما اعتبر نسبه بأبيه.

المسألة السابعة من هذا الأصل

في بيان من مات من ذراري المشركين

اختلفوا فيهم : فزعمت الكرّامية أن الأطفال كلهم مؤمنون بقولهم بلى في الذر الأول ومن مات منهم قبل بلوغه دخل الجنة لإيمانه السابق. وزعمت الأزارقة من الخوارج أن أطفال المشركين مشركون وأنّهم في النار مع آبائهم. وكذلك قالوا في أطفال مخالفيهم من أهل ملة الإسلام. وقالوا في أطفال موافقيهم إذا ماتوا إنهم في الجنة. واختلف هؤلاء في الطفل إذا مات في حال شرك أبويه ثم أسلم أبواه وصار موافقا لهم. فمنهم من قال يصير تابعا لأبويه في الآخرة. ومنهم من قال يكون حكمه في الآخرة حكم المشركين لأنه مات في حال شرك أبويه. وزعم قوم من العجاردة في الأطفال إن البراءة منهم واجبة قبل البلوغ فإذا مات طفلا فقد مات على وجوب البراءة منه. وقالت الصلتية منهم بمثل ذلك في أطفال موافقيهم. وقالت فرقة أخرى من العجاردة ليس للاطفال قبل البلوغ حكم إيمان ولا حكم كفر ولا حكم ولاية ولا حكم عداوة. وقد ألزم هؤلاء أن لا ينزّلوهم إذا ماتوا أطفالا جنة

٢٠٦

ولا نارا. وأما الروافض فإن الشيطانية (١) منهم زعموا أن المعارف ضرورية والعبد مأمور بالإقرار. وقالوا إذا أقرّ الطفل بالله تعالى وبمعالم دين الإسلام فهو مؤمن وإن مات قبل الإقرار به لم يكن مؤمنا ولا كافرا ولا مستحقا للعذاب. وقال أبو مالك الحضرمي إن عرف الطفل ربّه عزوجل وأقرّ به ثم مات فقد مات مؤمنا وإن عرف ولم يقرّ مات كافرا مستحقا لعذاب الكفر وإن لم يعرف ولم يقرّ لم يكن مؤمنا ولا كافرا وإن أقرّ ولم يعرف كان مسلما ولم يكن مؤمنا. وأما المعتزلة فقد أفشوا في الناس قولهم بأن من مات طفلا كان من أهل الجنة لكنهم ناقضوا في ذلك بإيجاب القائلين منهم ، بأن المعارف الدينية اكتساب على الطفل إذا كمل عقله ، جميع المعارف العقلية ، حتى إن مات بعد توجه وجوب المعرفة عليه وقبل حصولها له مات كافرا مستحقا للخلود في النار. ومنهم من أوجب هذه المعرفة عليه في الحال الثانية من معرفته بنفسه وبه قال أبو الهذيل. ومنهم من أوجبها عليه في الحال الثالثة من معرفته بنفسه وبه قال بشر بن المعتمر. ومنهم من اعتبر فيها مدة يمكن النظر والاستدلال على ذلك. وكلهم يقول إن تلك المدة إذا مضت ولم يستدل مات كافرا مستحقا (٢) الخلود دون أن لم يكن (٣) قد بلغ الحلم ولا السن الذي يكون بلوغا عند أئمة المسلمين. وفي هذا بطلان تمويههم عند العامة بأنهم يقولون : إن الأطفال في الجنة. وأما أهل السنة فإنهم أجمعوا إن مات من ذراري المؤمنين صغيرا أو بلغ مجنونا ومات كذلك يكون مع المؤمنين في الجنة. وتوقف المتحرجون منهم في أطفال المشركين لاختلاف الأخبار فيهم. فروي فيهم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار». وفي خبر آخر إنهم خدم أهل الجنة. وعن ابن عباس أنه يوقد لهم نار فيؤمرون باقتحامها فمن اقتحمها لم يضرّه النار شيئا وصار منها إلى الجنة وعسى هؤلاء هم الذين روي فيهم أنّهم خدم أهل الجنة ومن لم يقتحمها عصى ربه ودخل النار وعسى هؤلاء هم الذين روي تضاغيهم في

__________________

(١) [السلطانية].

(٢) [للخلود في النار].

(٣) [وإن لم يكن].

٢٠٧

النار. واختلفوا في الأعضاء المقطوعة من الإنسان فقال أصحابنا إنها في الآخرة مردودة على أصحابها. واختلفت القدرية في هذا فقال منهم عباد بن سليمان بمثل قولنا. ومنهم من قال : يد المؤمن التي قطعت في حال كفره قبل الإيمان لمن مات كافرا بعد قطع يده مؤمنا ويجعل يد هذا لذلك على البدل فإن لم يتفق البدل في ذلك جعلت يد الذي قطعت يده مؤمنا ثم كفر زيادة في جسم مؤمن مات مؤمنا لا على أن يكون يدا ثالثة له ولكن زيادة في بدنه وكذلك يد قطعت من كافر ثم أسلم يصير زيادة في جسم كافر مات على كفره. هذا قول الكعبي وكذلك قوله فيما سقط بالهزال. وقال أبو هاشم ابن الجبائي يجوز أن يعاد له تلك اليد بعينها ويجوز إبدالها بغيرها لأنه لا معتبر بالأطراف وإنما الواجب أن يعاد منه القدر الذي لا يبقى حيّا دونه. وإلى هذا القول ذهب بعض الكرّامية وهو المعروف منهم بالمازني. وقال بعضهم : إنما يجب إعادة ما هو أصل بنيته فأما الزيادة فإنما تعاد من باب الأولى إذا لم يكن سبب مانع ، فأما إن كان سبب مانع ، كأن يكون قد اتصل بجسم حيوان آخر فصار بعضا له ، جاز أن يعاد في أحدهما دون الآخر وجاز أن يعاد في واحد منهما. وأرادت هذه الطائفة من الكرّامية بأصل البنية الجزء الذي قال في الذر الأول بلى وحكاية هذه البدعة تغني عن نقضها لوضوح فسادها.

المسألة الثامنة من هذا الأصل

في بيان حكم من لم يبلغه دعوة الإسلام

الكلام في هذه المسألة مبني على الخلاف في وجوب المعارف العقلية. فمن زعم إنها ضرورية ، قال فيمن لم تبلغه دعوة الإسلام : إن كان قد عرف توحيد ربه وصفاته وعدله وحكمته بالضرورة فحكمه حكم المسلمين وهو معذور في جهله بالنبوة وأحكام الشريعة وإن لم يعرف التوحيد وعدل الصانع بالضرورة فلا تكليف عليه وليس له في الآخرة ثواب ولا عذاب. ومن ذهب إلى أن الواجب من المعارف العقلية مكتسب اختلفوا فيمن لم تبلغه الدعوة : فزعمت المعتزلة من هذه الفرقة أن من كمل عقله واعتقد الحق في العدل والتوحيد فهو معذور في جهله بالرسل والشرائع ومن زاغ منهم عن اعتقاد الحق فهو كافر مستحق للوعيد. وقال أصحابنا :

٢٠٨

إن الواجبات كلها معلوم وجوبها بالشرع. وقالوا فيمن كان وراء السد أو في قطر من الأرض ولم تبلغه دعوة الإسلام ينظر فيه فإن اعتقد الحق في العدل والتوحيد وجهل شرائع الأحكام والرسل فحكمه حكم المسلمين وهو معذور فيما جهله من الأحكام لأنه لم يقم به الحجة عليه. ومن اعتقد منهم الإلحاد والكفر والتعطيل فهو كافر بالاعتقاد وينظر فيه فإن كان قد انتهت إليه دعوة بعض الأنبياء عليهم‌السلام فلم يؤمن بها كان مستحقا للوعيد على التأبيد. وإن لم تبلغه دعوة شريعة بحال لم يكن مكلفا ولم يكن له في الآخرة ثواب ولا عقاب فإن عذبه الله في الآخرة كان ذلك عدلا منه ولم يكن عقابا له كما إن إيلام الأطفال والبهائم في الدنيا عدل من الله تعالى وليس بعقاب لهم على شيء. وإن أنعم عليه في الآخرة فهو فضل منه وليس بثواب له على الطاعة كما إن إدخاله ذراري المسلمين الجنة فضل منه وليس بثواب على طاعة وإن كان هذا الذي لم تبلغه دعوة الإسلام غير معتقد كفرا ولا توحيدا فليس بمؤمن ولا كافر فإن شاء الله عذبه في الآخرة عدلا وإن شاء أنعم عليه فضلا. وليس لأحد لقي أحدا لم تبلغه الدعوة قتله حتى تقوم الحجة عليه فإن قتله فقد قال أهل العراق لا دية عليه. وأوجب عليه الشافعي رضي الله عنه دية مع الكفّارة. فإن كان على شريعة لأهل الذمة فديته دية ذمي وإن لم يكن على شرع ما فقد قيل [فيه دية مسلم] وقيل فيه بأقل الديات وهو دية مجوسي في قول الشافعي وأصحابه.

المسألة التاسعة من هذا الأصل

في بيان من يقطع بإيمانه من أهل الإيمان

أجمع أصحابنا على القطع بإيمان الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام وعلى أن كل واحد منهم مختوم له بالإيمان يوافي ربه عزوجل به ويكون معصوما عن التبديل والكفر والنفاق. وقالوا في هاروت وماروت إنهما كانا ملكين وتابا عن ذنبهما وسيختم لهما بالسعادة إن شاء الله. وأبطلوا قول من زعم إنهما كانا علجين من بابل لأنهما مذكوران في القرآن بأنهما ملكان. وقالوا بأن العشرة من أهل بيعة الرضوان كلهم من أهل الجنة. وكذلك كل من شهد بدرا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكذلك

٢٠٩

كل من شهد أحدا إلا رجلا اسمه قزمان وهو الذي قتل نفسه لما لحقه ألم الجراح. وكذلك كل من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية فهو من أهل الجنة غير رجل واحد كان على جمل أورق فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استثناه منهم. وقالوا في سبعين ألفا من هذه الأمة يدخلون الجنة بلا حساب كل واحد منهم يشفع في سبعين ألفا منهم عكاشة بن محصن. وقالوا في أويس القرني (١) رضي الله عنه إنّه من أهل الجنة لورود الخبر ، بأنه خير التابعين. وقالوا في الحسن والحسين وأولاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلبه : إنهم في الجنة. وكذلك محمد بن علي الباقر لخبر روي عن جابر أنه أبلغه سلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك أزواجه كلهن في الجنة معه كما ورد به الخبر. وقالوا في الأئمة الذين تدور عليهم الفتاوى في الحلال والحرام ، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كمالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وسائر من خاض في بيان أحكام الشريعة ولم يشب مذهبه بدعة من بدع الخوارج والرافضة أو القدرية أو الجهمية أو النجارية أو المشبهة الجسمية ، إنهم كلهم من أهل الإيمان لإجماع الأمة على موالاتهم وترك تفسيقهم. وأرادوا بهذا الإجماع إجماع أهل السنة دون إجماع أهل الأهواء فإن من أهل الأهواء من كفّر الصحابة كلهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتركهم عليّا (٢) وكفر عليّا بتركه قتالهم كما ذهب إليه الكاملية. ومنهم من كفر أهل السنة وسائر مخالفيه كما نثبته (٣) بعد هذا. وقلنا في عوام المسلمين وكل من لم نعرف منه بدعة إنه على ظاهر الإيمان وحكمه حكم المؤمنين والله أعلم بعاقبة أمره ونستثني في إيمان كل من لم نعلم عاقبة أمره والله أعلم.

__________________

(١) [هو أويس بن عامر المرادي القرني ذو المناقب الشهيرة من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر وعليا إذا لقياه أن يطلبا منه الدعاء ، وهو سيد زهاد زمنه ، كان يلتقط ما على المزابل فإذا نبحه كلب قال : كل مما يليك وآكل مما يليني إن تجاوزت الصراط فأنا خير منك وإلا فأنت خير مني. وجد في قتلى أصحاب علي سنة سبع وثلاثين].

(٢) [بيعة علي].

(٣) [بنينه].

٢١٠

المسألة العاشرة من هذا الأصل

في بيان الأفعال الدالة على الكفر

قال أصحابنا : إن أكل الخنزير من غير ضرورة ولا خوف وإظهار زيّ الكفرة في بلاد المسلمين من غير إكراه عليه والسجود للشمس أو للصنم وما جرى مجرى ذلك من علامات الكفر وإن لم يكن في نفسه كفرا إذا لم يضامّه عقد القلب على الكفر ومن فعل شيئا من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطنا. وأما تارك الصلاة فإن تركها عن استحلال فهو كافر وإن تركها عن كسل فقد اختلفوا فيه : فقال أحمد بن حنبل إنه كافر. وقال الشافعي رضي الله عنه : إنه يؤمر بالصلاة فإن صلى وإلّا قتل وأجاز الصلاة عليه لأنه ليس بكافر. وقال أبو حنيفة : يؤدب حتى يصلّي ولا يقتل. وكفرته الخوارج بذلك وقالت القدرية إنه لا مؤمن ولا كافر كما بيّنا قبل هذا.

المسألة الحادية عشرة من هذا الأصل

في أديان الأنبياء عليهم‌السلام قبل النبوة

قال أصحابنا : كل نبي كان قبل نبوته مؤمنا بربه عارفا بتوحيده إمّا على حكم الدلائل العقلية وإما على شريعة نبي قبله. وقالوا في نبينا عليه‌السلام إنه كان قبل نزول الوحي عليه على ملة إبراهيم عليه‌السلام (١). وزعمت الكرّامية أنه كان على شريعة عيسى عليه‌السلام. وهذا من طريق العقل جائز ولكن لم يرد الخبر به.

المسألة الثانية عشرة من

في بيان من يصح منه الطاعة ومن لا يصح منه

كل من عرف حدوث العالم وتوحيد صانعه وصفاته وعدله وحكمته وعرف شروط النبوة وأصول الشريعة صحت منه الطاعة لله تعالى ومن جهل هذه الأصول أو بعضها لم يصح منه الطاعة لله تعالى إلا واحدة وهي النظر والاستدلال على

__________________

(١) [وهذا من طريق العقل جائز ، ولكن لم ترد الجزية].

٢١١

معرفة الله تعالى ، فإن ذلك طاعة ممن استدل عليه قبل معرفته به لأنه مأمور بذلك. وأجاز أبو الهذيل من الكافر كثيرا من الطاعات مع جهلة بالله عزوجل. وقال أصحابنا أن مخالفينا من القدرية والخوارج والرافضة والجهمية والنجارية والجسمية (١) لا يصح لأحد منهم طاعة لله عزوجل لأنهم يقصدون بما يزعمون أنها طاعات معبود ليس هو الإله عندنا. وقلنا للجبائي إذا زعمت أن الطاعة موافقة الإرادة فقد يحصل من مخالفيك كثير مما أراد الله عزوجل منهم فوجب عليك أن يكون مخالفوك مطيعين لله عزوجل. ونحن نقول إنّ الطاعة موافقة الأمر وليس شيء من أفعالك وأفعال أهل الأهواء عندنا موافقا لأمر الله عزوجل على الوجه الذي أمر به ولذلك لم يكن أحد منكم مطيعا لله تعالى.

المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل

في بيان أقسام الطاعات والمعاصي

الطاعات عندنا أقسام : أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمنا وتكون عاقبته لأجلها الجنة إن مات عليها. وهي معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوّات والكرامات ومعرفة أركان شريعة الإسلام وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر.

والقسم الثاني : إظهار ما ذكرناه باللسان مرّة واحدة وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق وبه تحل المناكحة واستحلال الذبيحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين والصلاة عليه وخلفه.

والقسم الثالث : إقامة الفرائض واجتناب الكبائر وبه يسلم من دخول النار ويصير به مقبول الشهادة.

والقسم الرابع : منها زيادة النوافل وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية.

والمعاصي أيضا أقسام : قسم منها كفر محض كعقد القلب على ما يضادّ

__________________

(١) [والمجسمة].

٢١٢

القسم الأول من أقسام الطاعات أو الشكّ فيها أو في بعضها ومن مات على ذلك كان مخلّدا في النار.

والقسم الثاني : منها ركوب الكبائر أو ترك الفرائض من غير عذر وذلك فسق سقط به الشهادة وفيه ما يوجب الحد أو القتل أو التعذير وهو مع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات خلاف قول الخوارج إنه كافر وخلاف قول القدرية إنه لا مؤمن ولا كافر. وربما غفر الله تعالى له بلا عقاب وإن عاقبه على ذنبه لم يكن عقابه مؤبّدا ومآل أمره الثواب في الجنة بفضل الله ورحمته.

والقسم الثالث : منها ما يسمّيه بعض المتكلمين صغائر وليس فيها ترك فريضة راتبة ولا ارتكاب ما يوجب حدّا. وأصحابنا لا يسمونه صغيرة والأمر فيها إلى الله تعالى يفعل فيها ما يشاء.

المسألة الرابعة عشرة من هذا الأصل

في بيان شروط الإسلام ومقدماته

من شرط صحة الإيمان عندنا تقدم المعرفة بالأصول العقلية في التوحيد والحكمة والعدل وثبوت النبوة والرسالة واعتقاد أركان شريعة الإسلام. ومن شرطه معرفة صحة ذلك كله بأدلته المشهورة وإن لم يعلم دليل فروعها صح إيمانه. واختلفوا في صحة الإيمان بالله مع الجهل ببعض صفاته الأزلية أو الجهل ببعض أسمائه : فقال أصحابنا من علم صفاته الأزلية وصحة عدله في كل أفعاله صح إيمانه وإن لم يعرف أسماءه. وزعمت المعلومية من الخوارج أنّ من لم يعرف الله بجمع أسمائه فهو جاهل والجاهل به كافر. وهذا خلاف الجمهور ويجب على القائل به أن لا يعرف ربه من لا يعرف لغة العرب وإن كان موافقا لهذا القائل في أصوله كلها.

المسألة الخامسة عشرة من هذا الأصل

في بيان ما يفرق به بين دار الإسلام ودار الكفر

كل دار ظهرت فيه دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية

٢١٣

ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمّيّ ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة فهي دار الإسلام. واللقيطة فيها حر بحكم الدار ومسلم لأجلها واللقطة فيها تعرف سنة على شروطها. وإذا كان الأمر على ضد ما ذكرناه في الدار فهي دار الكفر. وزعم أكثر المعتزلة أن البلدان التي غلبت عليها أهل السنة دار كفر. وزعم بعضهم أنها دار فسق وجعل للفسق دارا كما جعل الفاسق في منزلة بين المنزلتين. وقالت الأزارقة بأن الدنيا كلها دار شرك وحرب إلا موضع عسكرهم فإنها دار إيمان. وقد استقصينا هذه المسألة في كتاب الإيمان.

٢١٤

الأصل الثالث عشر

من أصول هذا الكتاب في بيان

أحكام الإمامة وشروط الزعامة

وفي هذا الأصل خمس عشرة مسألة هذه ترجمتها :

مسألة في وجوب الإمامة.

مسألة في حال نصب الإمام.

مسألة في عدد الأئمة.

مسألة في بيان جنس الإمام وقبيلته.

مسألة في شروط الإمامة.

مسألة في عصمة الإمام وتسديده.

مسألة في بيان ما يثبت به الإمامة.

مسألة في تعيين الإمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مسألة في الوصية والتوارث فيها.

مسألة في صحة إمامة عمر وعثمان.

مسألة في صحة إمامة علي رضي الله عنه.

مسألة في قتلة عثمان وخاذليه.

مسألة في حكم أهل الصفّين والجمل.

مسألة في حكم الخوارج والحكمين.

مسألة في إمامة المفضول وبيان الأفضل من الصحابة رضي الله عنهم. فهذه مسائل هذا الأصل وسنذكر في كل واحدة منها مقتضاها إن شاء الله تعالى.

٢١٥

المسألة الأولى من هذا الأصل

في بيان وجوب الإمامة

اختلفوا في وجوب الإمامة وفي وجوب طلب الإمام ونصبه. فقال جمهور أصحابنا من المتكلمين والفقهاء ، مع الشيعة والخوارج وأكثر المعتزلة ، بوجوب الإمامة وإنها فرض واجب (١) إتباع المنصوب له وإنه لا بد للمسلمين من إمام ينفّذ أحكامهم ويقيم حدودهم ويغزي جيوشهم ويزوّج الأيامى ويقسم الفيء بينهم. وخالفهم شرذمة من القدرية كأبي بكر الأصم وهشام الفوطي فإن الأصم زعم أن الناس لو كفّوا عن التظالم (٢) لاستغنوا عن الإمام. وزعم هشام أن الأمة إذا اجتمعت كلمتها على الحق احتاجت حينئذ إلى الإمام وأما إذا عصت وفجرت وقتلت الإمام لم يجب حينئذ على أهل الحق منهم إقامة إمام. واختلف الذين رأوا الإمامة من الفروض اللازمة في علة وجوبها. فزعم المدعون اللطف من المعتزلة أنها إنما وجبت لكونها لطفا في إقامة الشرائع. وقال أبو الحسن إنّ الإمامة شريعة من الشرائع يعلم جواز ورود التعبد بها بالعقل ويعلم وجوبها بالسمع. فقد اجتمعت الصحابة على وجوبها ولا اعتبار بخلاف الفوطي والأصم فيها مع تقدم الإجماع على خلاف قولهما. وقد وردت الشريعة بأحكام لا يتولّاها إلّا إمام أو حاكم من قبله كإقامة الحدود على الأحرار مع اختلافهم في إقامة السادة الحدود على المماليك وكتزويج من لا ولي لها في قول أكثر الأمة وكإقامة الجماعات والأعياد في قول أهل العراق. وأما قول الأصم أن الأمة إذا تناصفت استغنت عن الإمام فإنهم مع التناصف لا بد لهم من قائم بحفظ أموال اليتامى والمجانين وتوجيه السرايا إلى حرب الأعداء والذبّ عن البيضة ونحوها من الأحكام التي يتولّاها الإمام أو منصوب من قبله. وأما قول الفوطي بسقوط الإمامة عند الفتنة فضيره في هذا القول إبطال إمامة علي رضي الله عنه لأنها عقدت له في حال قتل عثمان

__________________

(١) [إقامته وواجب].

(٢) [المظالم].

٢١٦

ووقوع الفتنة فيه. وعليّ هو الإمام حقّا على رغم الفوطي واتباعه.

المسألة الثانية من هذا الأصل

في حال نصب الإمام

قال أصحابنا بوجوب نصب الإمام في كل حال لا يكون فيها إمام ظاهر ووجوب طاعته إن كان ظاهرا ولم يجيزوا أن يأتي على الناس زمان فيه إمام واجب الطاعة وهو غائب غير ظاهر. وأجازت الروافض غيبته عن جميع الناس وأوجبوا انتظاره ولم يجيزوا نصب إمام في حال انتظارهم من ينتظرونه. وافترقوا في ذلك فرقا : فرقة من الزيدية ينتظرون محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب (١) ويزعمون أنه حيّ لم يمت وقد تواتر الخبر في قتله بالمدينة في أيام المنصور. وفرقة منهم ينتظرون محمد بن القاسم صاحب الطالقان. وفرقة منهم ينتظرون يحيى بن عمر ، صاحب الكوفة في أيام الطاهرية ، مع تواتر الخبر بقتله. والكيسانية من الروافض ينتظرون محمد بن الحنفية ويزعمون أنه لم يمت وأنه بجبل رضوى إلى أن يأذن الله له بالخروج. وفرقة من الإمامية ينتظرون جعفر بن محمد الصادق ويزعمون أنه لم يمت وهؤلاء يعرفون بالياءوسية. وقوم منهم يقال لهم المباركية ينتظرون محمد بن اسماعيل بن جعفر ولا يصدقون بموته. وفرقة منهم ينتظرون موسى بن جعفر وهم يشاهدون مشهده ببغداد. وفرقة منهم ينتظرون محمد بن علي بن موسى وهم على انتظاره من وقت المأمون إلى يومنا هذا. وجميع المنتظرين منهم لمن انتظروه اليوم في حيرة من الدين لدعواهم أن القرآن والسنن قد وقع فيهما تحريف وتبديل ولا يعرف منهما تحقيق أحكام الشريعة على التفصيل إلا من عند الإمام المعصوم إذا ظهر. ويدّعون أنهم اليوم في التيه وكفاهم بهذا خزيا.

__________________

(١) قتل لثنتي عشرة ليلة من رمضان سنة خمس واربعين وله اثنتان وخمسون سنة وقبره بالبقيع مشهور.

٢١٧

المسألة الثالثة من هذا الأصل

في عدد الأئمة في كل وقت

اختلف الموجبون للامامة في عدد الأئمة في كل وقت : فقال أصحابنا لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة وإنما تنعقد إمامة واحد في الوقت ويكون الباقون تحت رايته. وإن خرجوا عليه من غير سبب يوجب عزله فهم بغاة إلّا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخرين فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته. وقالت الرافضة : لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان ناطقان. ويصح أن يكون في الوقت إمامان أحدهما ناطق والآخر صامت. وزعموا أن الحسين بن علي كان صامتا في وقت الحسن ثم نطق بعد موته. وزعم قوم من الكرّامية أنه يجوز أن يكون في وقت واحد إمامان وأكثر. وقالت جماعة منهم إنّ عليّا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد إلا أن عليّا كان إماما على وفق السنة وكان معاوية إماما على خلاف السنة وكان واجبا على أتباع كل واحد منهما طاعة صاحبها. فيا عجبا من طاعة واجبة في خلاف السنة. ولو جاز إمامان وأكثر لجاز أن ينفرد كل ذي صلاح بالإمامة فيكون كل واحد منهم بولاية محلته وعشيرته. وهذا يؤدي إلى سقوط فرض الإمامة من أصلها.

المسألة الرابعة من هذا الأصل

في بيان جنس الإمام وقبيلته

اختلفوا في هذه المسألة : فقال أصحابنا إنّ الشرع قد ورد بتخصيص قريش بالإمامة ودلت الشريعة على أن قريشا لا تخلو ممن يصلح للإمامة فلا يجوز إقامة الإمام للكافّة من غيرهم. وقد نص الشافعي رضي الله عنه على هذا في بعض كتبه. وكذلك رواه زرقان عن أبي حنيفة. وقالت الضرارية بصلاح الإمامة في غير قريش مع وجود من يصلح لها من قريش. وزعم الكعبيّ أن القرشي أولى بها من الذي يصلح لها من غير قريش ، فإن خافوا الفتنة جاز عقدها لغيره. وقال ضرار :

٢١٨

إذا استوى الحال في القرشي والأعجمي ، فالأعجميّ أولى بها والمولى أولى بها من الصميم. وزعمت الخوارج أن الإمامة صالحة في كل صنف من الناس وإنما هي للصالح الذي يحسن القيام بها ولهذا بايعوا نافع بن الأزرق ثم لقطريّ بن الفجاءة ولنجدة وعطيّة وليس واحد منهم قريشا. وزعمت الزيدية من الروافض أنها لا تكون من قريش إلا في ولد عليّ رضي الله عنه ومن خرج من ولد الحسن أو الحسين شاهرا سيفه وفيه آلات الإمامة فهو الإمام. وزعمت الإمامية أنها اليوم في أحد مخصوص من أولاد علي رضي الله عنه واختلفوا في ذلك الذي ينتظرون خروجه. وقالت الغلاة من الروافض إنّ الإمامة في الأصل في عليّ وولده. ثم أخرجوها إلى جماعة من غير قريش إمّا بدعواهم وصية بعض الأئمة إليه وإمّا بدعواهم تناسخ الروح من الإمام إلى من زعموا أن الإمامة انتقلت إليه ، كالبيانية في دعواها انتقال روح الإله من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى بيان وكدعوى من ادعى أن الروح انتقلت إلى الخطاب الأسدي وكدعوى المنصورية نبوّة أبي منصور العجلي وإمامته. ودليل أهل السنة على أن الإمامة مقصورة على قريش قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش». ولهذا الخبر سلّمت الأنصار الخلافة لقريش (١) يوم السقيفة فحصل الخبر وإجماع الصحابة دليلين على أن الخلافة لا تصلح لغير قريش وقد اختلف النسّابون في قريش من هم؟ فذهب أكثرهم إلى أنهم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي. وهذا اختيار أبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي عبيد القاسم بن سلام وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه. وقالت التميمية قريش [من] ولد الياس بن مضر وأدخلوا أنفسهم في جملة قريش لأنهم من ولد الياس بن مضر. وهذا اختيار أبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش وحماد بن سلمة الفقيه (٢) وعبيد الله بن الحسن القاضي وسوار بن

__________________

(١) [ولا اعتبار بخلاف من خالف الاجماع بعد حصوله ، وإذا صح ان الخلافة في قريش].

(٢) [هو حماد بن سلمة بن دينار البصري الحافظ ، سمع قتادة وأبا حمزة الضبعي وطبقتهما وكان سيد أهل وقته ، قال وهيب بن خالد : حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا ، وقال ابن المديني ، ـ

٢١٩

عبد الله (١) وروى مثله عن أبي الأسود الدؤلي (٢). وقالت القيسية إنّ قريشا هم جميع ولد مضر بن نزار فأدخلت قيس غيلان في هذه الجملة وبه قال من الفقهاء مسعر بن كدام (٣) وقد روى مثله عن حذيفة بن اليمان (٤) والقول الأول أصح.

المسألة الخامسة من هذا الأصل

في شروط الإمامة [الأئمة]

قال أصحابنا إنّ الذي يصلح للإمامة ينبغي أن يكون فيه أربعة أوصاف : أحدها : العلم وأقل ما يكفيه منه أن يبلغ فيه مبلغ المجتهدين في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.

والثاني : العدالة والورع وأقل ما يجب له من هذه الخصلة أن يكون ممن يجوز قبول شهادته تحمّلا وأداء. والثالث : الاهتداء إلى وجوه السياسة وحسن التدبير بأن يعرف مراتب الناس فيحفظهم عليها ولا يستعين على الأعمال الكبار بالعمّال الصغار ويكون عارفا بتدبير الحروب.

__________________

ـ كان عند يحيى بن ضريس عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث. وقال شهاب البلخي : كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال توفي سنة سبع وستين ومائة.

(١) هو سوار بن عبد الله بن سوار التميمي العنبري البصري ابو عبد الله قاضي الرصافة ببغداد ، روى عن يزيد بن زريع وطبقته ، قال في المغني : سوار بن عبد الله بن قدامة العنبري ليس بشيء. وكان من الشعراء المجيدين توفي سنة خمس واربعين ومائتين.

(٢) هو أبو حرب بن أبي الأسود الدؤلي البصري روى عن عبد الله بن عمر وجماعة ، توفي سنة عشر ومائة.

(٣) هو مسعر بن كدام الحافظ ابو سلمة الهلالي الكوفي الأحول أحد الأعيان يسمى المصحف من إتقانه ويدعى الميزان لنقده وتحرير لسانه قاله ابن ناصر الدين ، وقال في العبر : أخذ عن الحكم وقتادة وخلف وكان عنده نحو ألف حديث ، قال يحيى القطان : ما رأيت أثبت منه ، وقال أبو نعيم : مسعر أثبت من سفيان وشعبة. توفي سنة خمس وخمسين ومائة.

(٤) هو حذيفة بن اليمان العيسي صاحب السر المكنون في تمييز المنافقين ولذلك كان عمر لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة يخشى ان يكون من المنافقين وسمي ابن اليمان لأن جده حالف بني عبد الأشهل وهم من اليمن. توفي سنة ست وثلاثين.

٢٢٠