أصول الإيمان

عبدالقاهر التميمي الشافعي

أصول الإيمان

المؤلف:

عبدالقاهر التميمي الشافعي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٩

هذا ، خلاف قول من زعم من القدرية أن الله تعالى لم يكن له في الأزل اسم ولا صفة ولا يمكن وصف المعدوم باكثر من هذا تعالى الله من قولهم] وقس على هذا ما جرى مجراه.

المسألة العاشرة من هذا الاصل

في بيان ما دل من اسمائه على افعاله

كالبرّ في الدلالة على بره بعباده ، والباري : في الدلالة على أنه خالق الخلق ، والباسط : في الدلالة على بسط الرزق لمن شاء وعلى أنه بسط الارض ولذلك سماها بساطا خلاف قول من زعم من الفلاسفة والمنجمين أن الارض كرية (١) غير مبسوطة. والباعث من أسمائه دليل على بعثه الرسل عليهم‌السلام وعلى بعثه الاموات من اللحود. والتّواب دليل على أنه الموفق عباده للتوبة. والجامع من أسمائه فيه إشارة على معنى قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) (٢) وقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) (٣) وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٤). والخافض والرافع دليلان على أنه يخفض من يشاء ويرفع من يشاء فيخفض الكفرة إلى أسفل السافلين ويرفع أولياءه إلى أعلى عليين. والخالق والخلاق من خصوص أسمائه خلاف قول القدرية والثنوية بخالق غير الله تعالى. والدافع من أسمائه فيه اشارة إلى قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (٥). والرب بمعنى المالك للمملوكات كلها وقد يكون بمعنى المصلح للشيء والله خالق كل صلاح على زعم القدرية. والرزاق والرازق : دليلان على أن الارزاق كلها من فعله. والساتر والستار : إشارة إلى ستره ذنوب من يشاء من عباده وإلى ستره عيوب من شاء منهم. والضار والنافع هو سبحانه خلاف قول الثنوية : إنّ خالق الضرر غير

__________________

(١) كروية.

(٢) سورة المائدة آية ١٠٩.

(٣) سورة القيامة آية ١٧.

(٤) سورة القيامة آية ٣.

(٥) سورة البقرة آية ٢٥١.

١٠١

خالق النفع. والغفور والغافر من أسمائه دليل على غفرانه لما دون الشرك لمن شاء. وزعمت القدرية أن الله لا يغفر لصاحب الكبيرة ولا يجوز أن يعذب من لا كبيرة له فلا يتحقق على اصولهم لله الوصف بالغفور. والفاطر بمعنى الخالق. والقاهر والغالب دليلان على ابطال قول المجوس إنّ الشيطان غلب الإله حتى تحصّن في السماء. ومعنى الكفيل من أسمائه راجع إلى ضمانه ارزاق عباده. والمصوّر والمعزّ والمذلّ والمغيث والمجيب والمبين والمبدي والمعيد والمحيي والمميت والمقدم والمؤخر والمقسط والمغني والمنتقم والوهاب والهادي كل ذلك من اسمائه دالة على افعال مخصوصة. والوارث : دليل على بقائه بعد فناء خلقه. والنصير : دلالة على نصرته لأوليائه على اعدائه.

المسألة الحادية عشرة من هذا الاصل

فيما دل من اسمائه على [معان]

هذا النوع من أسمائه كثير. منها البديع فإنه يكون بمعنى المبدع للشيء ومنه قوله عزوجل : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، أي مبدعهما وعلى هذا الوجه يكون هذا الاسم مشتقا من فعله. وقد يكون البديع بمعنى الأول يقال منه بدع وبديع ومنه قوله : (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (٢) أي ما كنت أولهم ويكون البديع الذي لا يكون له مثل وعلى هذين الوجهين يكون البديع من أسمائه الأزلية. ومنها الظاهر والباطن إن حملناهما على معنى أنه العالم بظواهر الأمور وبواطنها كانا من أوصافه الأزلية وإن حملناهما على معنى قوله : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٣) ، كانا مشتقين من فعله. ومنها الجبار ، إن تأولناه على معنى القهر لأعدائه أو على معنى جبره للكسير كان مشتقا من فعله وإن تأولناه على معنى [الذي لا يناله الأيدي] من لا ينال ، كقولهم : نخلة جبارة إذا لم تنلها الايدي ، كان من صفاته الأزلية. ومنها الجميل إن حملناه على نفي العيوب عنه فهو من أوصافه

__________________

(١) سورة البقرة آية ١١٧.

(٢) سورة الأحقاف آية ٩.

(٣) سورة لقمان آية ٢٠.

١٠٢

الازلية وإن حملناه على معنى المجمل فهو مشتق من فعله. ومنها الحفيظ ، إن كان من حفظه خلقه فهو مشتق من فعله وإن كان بمعنى العليم فهو من صفاته الأزلية. ومنها الحميد : إن كان بمعنى المحمود فهو مشتق من فعله وإن كان بمعنى الحامد فهو من صفاته الأزلية لأن الحمد من الله كلامه الأزلي. ومنها الحكيم : إن اخذناه من اتقانه وأحكامه لأفعاله فهو مشتق من فعله وإن حملناه على معنى حكمته وعلمه فهو من صفاته الأزلية. وكذلك الحليم إن تأولناه على تأخيره عقوبة أهل العقوبة فهو مشتق من فعله وإن حملناه على نفي الطيش عنه فهو من صفاته الأزلية. ومنها السلام : إن كان من السلامة عن العيوب فهو من أوصافه الأزلية وإن كان من إنعامه سلامة عباده فهو مشتق من فعله. ومنها الصمد : إن كان من معنى السيد المصمود في النوائب فهو مشتق من فعله وإن اخذناه من الذي لا جوف له فمعناه في الله أنه لا يوصف بالأعضاء ويكون حينئذ من أوصافه الأزلية. والمؤمن من أسمائه ، إن كان من بذله الأمان فهو مشتق من فعله وإن كان من الإيمان الذي هو التصديق فتصديقه بقوله الأزلي. وقس على هذا ما جرى مجراه.

المسألة الثانية عشرة من هذا الأصل

فيما يجوز تسمية غير الله به من أسمائه

أما التسمية بالإله والرحمن والخالق والقدوس والرزاق والمحيي والمميت ومالك الملك وذي الجلال والإكرام فلا يليق بغير الله عزوجل. ويجوز تسمية غيره بما خرج من معاني تلك الأسماء الخاصة. ومن أسمائه ما يوصف الله به مدحا ويوصف غيره به ذمّا كالجبّار والمتكبر والمصوّر. ومنها ما يوصف به مطلقا ويوصف غيره به مقيدا بالإضافة كالرب والقابض والباسط والخافض والرافع.

المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل

في الفرق بين صفاته وأوصافه

اختلفوا في معنى الوصف والصفة : فزعمت الجهمية والقدرية أنهما راجعان إلى وصف الواصف لغيره أو لنفسه ولم يثبتوا لله تعالى صفة أزلية. وقال أبو

١٠٣

الحسن الاشعري إنّ الوصف والصفة بمعنى واحد وكل معنى لا يقوم بنفسه فهو صفة لما قام به ووصف له. ويجوز على هذا المذهب وجود صفة لموصوفين كخبر المخبر عن سواد فإنه وصف للسواد وصفة للقائل ويجوز على هذا كون المعدوم موصوفا عند الخبر عنه. وقال أكثر أصحابنا : إن صفة الشيء ما قامت به كالسواد صفة للأسود لقيامه به ووصف الشيء خبر عنه وقول القائل : زيد عالم صفة للقائل لقيامه به ووصف لزيد لأنه خبر عنه. والعلوم والقدر والألوان والأكوان وكل عرض سوى الخبر عن الشيء صفات وليست باوصاف.

المسألة الرابعة عشرة من هذا الأصل

في بيان ما يوصف به الله تعالى من فعل لا يصدر عنه اسم

قال الله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (١) ولا يقال له ساق وقال : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٢) ولا يقال له مستهزئ وقال أيضا : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) (٣) ولا يقال ساخر وقال : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٤) ولا يقال غضبان وقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (٥) ولا يقال مصلّ [و] (٦) قال : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (٧) ولا يقال إنّه مرهق. وفي هذا دليل على أن مأخذ اسمائه التوقيف دون القياس.

المسألة الخامسة عشرة من هذا الاصل

في بيان أسمائه المضافة التي لا تطلق بغير إضافة

من هذا النوع قوله : قابل التوب وشديد العقاب ولا يجوز أن يقال له شديد

__________________

(١) سورة الدهر آية ٢١.

(٢) سورة البقرة آية ١٥.

(٣) سورة التوبة آية ٨٠.

(٤) سورة الفتح آية ٦.

(٥) سورة الأحزاب آية ٥٦.

(٦) زيدت على المطبوع لسياق العبارة.

(٧) سورة المدثر آية ١٧.

١٠٤

مفردا ولا يجوز أن يقال في الدعاء : يا شديد العقاب ، إلا مقرونا فيقال : يا قابل التوب شديد العقاب. ومنه «رفيع الدرجات» ولا يقال له : رفيع بغير إضافة ويجوز أن يقال له الرافع مطلقا. ومنه «ذو العرش» و«ذو الجلال» و«ذو المعارج» [و] لا يصح شيء منه دون الاضافة. ومنه أيضا «مولج الليل في النهار ومولج النهار في الليل». ومنه مسبب الاسباب ومفتح الأبواب ويقال له الفتاح على الاطلاق.

١٠٥
١٠٦

الأصل السادس

من أصول هذا الكتاب في بيان عدل

الصانع وحكمته

وفي هذا الأصل خمس عشرة مسألة هذه ترجمتها :

مسألة في بيان العدل والظلم.

مسألة في معنى الخلق والكسب.

مسألة في أن الله تعالى خالق الاكساب.

مسألة في إبطال التولد من فعل الانسان.

مسألة في بيان ما يصح اكتسابه.

مسألة في أن الهداية والاضلال من فعل الله.

مسألة في خلق الآجال وتقديرها.

مسألة [في] خلق الارزاق وتقديرها

مسألة في نفوذ مشيئة الله فيما أراد.

مسألة في جواز تخلية العباد عن التكليف.

مسألة في اجازة الزيادة والنقصان في الشرع.

مسألة في جواز خلق الكفرة على الانفراد.

مسألة في جواز إماتة من [علم الله منه الإيمان لو لم يمته] يؤمن ، قبل إيمانه.

مسألة في [الاختصار على خلق الجمادات] جواز خلق الاموات دون الاحياء.

مسألة في جواز التخصيص بالنعم. فهذه مسائل هذا الاصل.

وسنذكر في كل مسألة منها مقتضاها ان شاء الله تعالى.

١٠٧

المسألة الأولى من هذا الاصل

في بيان العدل والظلم

اعلم إن العدل في اللغة قد يكون بمعنى المثل كقوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (١) ، أي مثل ذلك. وقد يكون بمعنى العدول عن الشيء ومنه قوله تعالى : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ،) (٢) ، أي يعدلون عن الحق إلى الجور. والعدل في الأصل مصدر أقيم المصدر مقام الاسم فقيل للعادل عن الباطل إلى الحق عدل. وعلى هذا يستوي فيه الذكر والانثى والجمع والتثنية والوحدان. وإذا قيل لله سبحانه عدل ، فمعناه العادل. وقال سيبويه : معناه ذو العدل كقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٣). ولو لا ورود الشرع بتسميته عدلا ما جاز اطلاق المصادر في أسمائه. واختلف أصحابنا في تحديد العدل من طريق المعنى : فمنهم من قال : هو ما للفاعل أن يفعله. فإذا قيل له : يلزمك على هذا أن يكون كل كفر ومعصية عدلا من أجل أنها عندك من أفعال الله تعالى وله أن يفعلها. أجاب عنه بأن كلها عدل منه وإنما هي جور وظلم من مكتسبها. ومنهم من قال : العدل من أفعالنا ما وافق أمر الله عزوجل به والجور ما وافق نهيه (فإن أردت طرد هذا الحد قلت العدل ما لم يوافق نهي الله]. وزعم الكعبي أن العدل هو التسوية بين العباد فيما يحتاجون إليه من إزاحة العلل والتوفيق والهداية. ويلزمه على هذا الأصل أن لا يكون الإنسان عادلا بفعل لا يتعدى منه إلى غيره. ومعنى الظلم في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه ، وقد يكون بمعنى المنع كقوله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (٤) ، أي لم تنقص ولم تمنع منه شيئا. واختلفوا في معنى الظالم من طريق المعنى فقال أصحابنا : حقيقته من قام به الظلم.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٩٥.

(٢) سورة النحل آية ٦٠.

(٣) سورة الطلاق آية ٢.

(٤) سورة الكهف آية ٣٣.

١٠٨

وزعمت القدرية أن حقيقته فاعل الظلم ، وأجازوا أن يكون ظلم الظالم قائما بغيره. واعترضوا على أصحابنا في قولهم أن الظالم من قام به الظلم ، بأن قالوا : إنّ الظلم يقوم ببعض الظالم والجملة هي الظالمة. وهذا السؤال ساقط على أصل شيخنا أبي الحسن الاشعري ، لأنه يقول : إنّ محل الظلم من الجملة ، هو الظالم دون جملته. ومن قال من أصحابنا إنّ الظالم هو الجملة ، كما ذهب إليه القلانسي وعبد الله بن سعيد ، أجاز أن يقال إنّ الظلم قائم بالظالم وإن قام ببعضه كما يقال (١) عندهم للإنسان بكماله : عالم قادر لقيام العلم والقدرة ببعضه. فإن قالوا : لو كان الظالم من قام به الظلم لوجب أن يكون المشجوج (٢) والمقتول ظالمين بما حلّهما من الظلم الذي هو القتل والشجّة. قيل له ليس ما حلّ بالمقتول والمشجوج ظلما عندنا وإنما الظلم عندنا فيهما قائم بالقاتل والشاج عند تحريكه يده بما وقع عقيبه من الآثار الظاهرة في المقتول والمشجوج. ومما يدل على إبطال قولهم ، إنّ الكافر من فعل الكفر والظالم من فعل الظلم ، اتفاقهم معنا على أن الجهل بالله تعالى كفر به وقد وافقنا القدرية ، سوى النظّام والاسواري على أن الله تعالى قادر على أن يخلق في الكافر جهلا به ولو فعل مقدوره من ذلك لكان الجاهل كافرا به ولم يكن فاعلا. وفي هذا بطلان تحديدهم الكافر بفاعل الكفر.

المسألة الثانية من هذا الاصل

في بيان معنى الخلق والكسب

زعمت القدرية أن الكسب الذي يقول به أهل السنة غير معقول لهم وقالوا : لا وجه لنسبة الفعل إلى مكتسبه غير احداثه له. [واختلف أصحابنا في تفسير معنى الكسب فمنهم من قال للقدرية] وقال اصحابنا (٣) للقدرية انكم زعمتم ان افعالنا

__________________

(١) كما يقال [في الرجل أنه ساكن البلد وإن سكن في بعضه].

(٢) الشّجاج بالكسر جمع شجة ، تقول : شجّه يشجه ، بضم الشين وكسرها شجا فهو مشجوج وشجيج ومشجّج أيضا إذا كثر ذلك فيه ، ورجل أشجّ بيّن الشّجّة إذا كان في جبينه أثر الشجة.

(٣) [اختلف أصحابنا في تفسير معنى الكسب فمنهم من قال للقدرية ...].

١٠٩

كانت في حال عدمها قبل حدوثها اشياء واعراضا وان الانسان المكتسب لها لم يجعلها اشياء واعراضا. ونحن نقول إنّ الله عزوجل هو الذي جعل أفعالنا أشياء وأعراضا. وهذا معنى قولنا إنّ الله عزوجل خلق أعمال عباده ومعناه أنه هو الذي جعل اشياء واعراضا. وقد سلمتم لنا أن الانسان لم يجعلها كذلك فالذي نفيتموه عن الإنسان اضفناه إلى الله عزوجل. وقد ضرب بعض أصحابنا للاكتساب مثلا ، في الحجر الكبير ، قد يعجز عن حمله رجل ويقدر آخر على حمله منفردا به. إذا اجتمعا جميعا على حمله كان حصول الحمل بأقواهما ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملا. كذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله ولو أراد الله الانفراد بإحداث ما هو كسب للعبد قدر عليه ووجد مقدوره ، فوجوده على الحقيقة بقدرة الله تعالى ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلا وإن وجد الفعل بقدرة الله تعالى. فهذا قول معقول وإن جهلته القدرية. وإنما المجهول قول ابن الجبائي في هذا الباب ، لأنه قال : إنّ الخالق للشيء إنما يخلقه بأن يجعله على حال. ثم لا يصف تلك ، بأنها موجودة ولا معدومة ، ولا بأنها معلومة ولا مجهولة (فصارت) (١) دعاويه في أحداث الافعال غير معقولة له ولغيره.

المسألة الثالثة من هذا الأصل

في بيان أنّ الله تعالى خالق اكساب العباد

واختلفوا في إكساب العباد وأعمال الحيوانات على ثلاثة مذاهب : أحدها قول أهل السنة إن الله عزوجل خالقها كما أنه خالق الأجسام والألوان والطعوم والروائح ؛ لا خالق غيره وإنما العباد مكتسبون لأعمالهم.

والمذهب الثاني : قول الجهمية أن العباد مضطرون إلى الأفعال المنسوبة إليهم وليس لهم فيها اكتساب ولا لهم عليها استطاعة وإنّ حركاتهم الاختيارية بمنزلة حركة العروق النوابض في اضطرارهم إليها. والمذهب الثالث : قول القدرية الذين زعموا أن العباد خالقون لأكسابهم وكل حيوان محدث لاعماله وليس لله في

__________________

(١) وردت في المطبوع «مضار».

١١٠

شيء من أعمال الحيوانات صنع. وذكر أكثرهم أن الله عزوجل غير قادر على مقدور غيره وإن كان هو الذي أقدر القادرين على مقدوراتهم. وزعم المعروف منهم بمعمران الاعراض كلها من أفعال الأجسام إما بالاختيار وإما بالطباع وإن الله تعالى ما خلق لونا ولا طعما ولا رائحة ولا حركة ولا سكونا ولا حياة ولا موتا ولا قدرة ولا عجزا ولا علما ولا صحة ولا سقما ولا سمعا ولا بصرا ولا شيئا من الأعراض. وزعم المعروف منهم ببشر بن المعتمر ، أنّ الألوان والطعوم والروائح والرؤية والسمع ، منها ما هو من فعل الله عزوجل ومنها ما هو من فعل العبد ومنها ما هو من اجتماع العباد. والدليل على جميع القدرية من القرآن قوله عزوجل : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١) ، فأثبت في هذه الآية للعباد أعمالا خلاف قول الجهمية : إن العبد ليس له عمل وأخبر عن نفسه بأنه خالق أعمال العباد خلاف قول القدرية : إن العباد خالقون لأعمالهم. فدلت الآية على بطلان قول الجهمية والقدرية. فإن قيل أراد بالأعمال الأصنام المعمولة. قيل إن الأصنام لم تكن من عمل العباد وإنما نحتها عملهم والله خالق عملها الذي هو نحتهم لها. ويدل عليه قوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢). فأخبر أنه لو كان غير الله خالقا شيئا مثل خلق الله لكان شريكا له. وزعمت القدرية أنهم يخلقون من الحركات والاعتمادات والعلوم والإرادات والآلام مثل ما خلق الله عزوجل منها. وفي هذه الدعوى دعوى المشاركة لله في صنع أكثر أجناس الأعراض. ثم قوله قل الله خالق كلّ شيء دليل على انه خالق كل مخلوق سواء كان من أكساب العباد أو من غير أكسابهم. ويدل عليه قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٣) وفي هذا دليل على أنه خالق سرائر الصدور وعالم بها. وفيه أيضا دليل على أن الخالق للشيء يجب أن يكون عالما به وبتفصيله وقد علمنا أن العباد لا يعلمون تفصيل عدد حركاتهم الكسبية في عضو واحد في زمان متناه. وقد

__________________

(١) سورة الصافات آية ٩٦.

(٢) سورة الرعد آية ١٦.

(٣) سورة الملك آية ١٣ و ١٤.

١١١

زعمت القدرية أن النائم والساهي يخلقان الكلام والأصوات والحركات والآلام التي لا علم لهم بها. وهذا خلاف حكم الآية التي تلوناها. ويدل على بطلان قولهم من القياس إنّ الخالق للشيء يجب أن يكون قادرا على إعادته كالخالق للأجسام والألوان قادر على إعادتها. وإذ كان الواحد منا لا يقدر على إعادة كسبه بعد عدم الكسب صح أن ابتداء وجود كسبه كان بقدرة غيره وهو الله القادر على إعادته. فإن قالوا لو كان الكسب فعلا لله وللعبد لاشتركا فيه. قيل ليس حدوثه منهما ، حتى يكونا شريكين في إحداثه وإنما الله عزوجل خالق الكسب والعبد مكتسب له كما أن الله خالق حركة العبد والعبد متحرك ولا يجب الشركة بمثل هذا. وإنما يتصور الشركة بين صانعين يكون صنع واحد منهما غير صنع صاحبه ، في الجنس الواحد ، كالخياطين يشتركان في خياطة قميص واحد ، لأن خياطة أحدهما غير خياطة الآخر. ومن زعم من القدرية أن صنعه في يديه غير صنع الله فيه فهو الذي ادعى المشاركة المذمومة وكفاهم به خزيا.

المسألة الرابعة من هذا الأصل

في إبطال القول بالتولد

واختلفوا في التولد : فزعم أكثر القدرية أن الإنسان قد يفعل في نفسه فعلا يتولد منه فعل في غيره ويكون هو الفاعل لما تولّد ، كما أنه هو الفاعل لسببه في نفسه [ولذلك زعموا أن ذهاب السهم وإصابته الهدف وهتكه له وقتله لما وراء الهدف ، فكل ذلك من فعل الله لأن حركات السهم متولد من تحريكه يده بالسهم والقوس. وكذلك قولهم في انكسار الزجاج بالحجر إذا ألقاه عليه إنسان. وقالوا في الألم الحادث عقيب الضرب إنّه فعل الضارب متولد عن ضربه] وكذلك الضارب متولد عن ضربه. وزعموا أيضا أن فاعل السبب لو مات عقيب السبب ثم تولد من ذلك السبب فعل بعد مائة سنة لصار ذلك الميت فاعلا له بعد موته وافتراق أجزائه بمائة سنة. وأجاز المعروف منهم ببشر بن المعتمر أن يكون السمع والرؤية وسائر الإدراكات وفنون الألوان والطعوم والروائح متولدة عن فعل الانسان [فالمتولد عنه

١١٢

من فعله. ومتى كان السبب من فعل الله عزوجل فالمتولد أيضا من فعله]. وقال أصحابنا أن جميع ما سمّته القدرية متولدا من فعل (١) الانسان وليس الإنسان مكتسبا وإنما يصح من الإنسان اكتساب فعله في محل قدرته. وأجازوا أن يمد الإنسان الوتر بالسهم ويرسل يده ولا يذهب السهم. وأجازوا أيضا أن يقع سهمه على ما أرسله ولا يكسره ولا يقطعه. وأجازوا أيضا أن يجمع الإنسان بين النار (٢) [والقطن] والحلفاء (٣) فلا تحرقها على نقض العادة كما أجرى العادة بأن لا يخلق الولد إلا بعد وطئ الوالدين ولا السمن إلا بعد العلف ولو أراد خلق ذلك ابتداء لقدر عليه. وزعم بعض القدرية وهو المعروف بثمامة أن الأفعال المتولدة لا فاعل لها. يلزمه على هذا الأصل إجازة حدوث كل فعل لا من فاعل وفيه إبطال دلالة الموحدين على إثبات الصانع. وزعم النظّام منهم أن المتولدات كلها من أفعال الله تعالى بإيجاب الخلقة. وهذا القائل مصيب عندنا في قوله : إن الله خالق المتولدات ، ومخطئ في دعواه إيجاب الخلقة على معنى أن الله طبع الحجر على أن لا يقف في الهواء لأن وقوفه في الهواء جائز غير مستحيل عندنا [وقد أكذبه المعتزلة في قوله : إنّ المتولدات من فعل الله تعالى. وقالوا يلزمه أن يكون كلمة الكفر فعلا من الله تعالى. لأن الكلام كله متولد عندهم. وهم الكفرة في هذا دونه. وأما كفر النظّام من غير هذا الوجه وسنذكر بعد هذا إن شاء الله].

المسألة الخامسة من هذا الاصل

في الفرق بين ما يصح اكتسابه وبين ما لا يصح اكتسابه

اجمع أصحابنا على أن الحركة والسكون يصح اكتسابهما وكذلك الإرادة

__________________

(١) [الله عزوجل ولا يصح أن يكون الإنسان فاعلا في غير محل قدرته لأنه يجوز ان يمد الانسان وتر قوسه ويرسل السهم من يده فلا يخلق الله تعالى في السهم ذهابا].

(٢) [والقطن].

(٣) الحلفاء : نبت في الماء ، قال أبو زيد : واحدتها حلفة كقصبة وطرفة ، وقال الأصمعي :

حليفة بكسر اللام.

١١٣

والعلم والاعتقاد والجهل والقول والسكوت [والكفر]. وأجمعوا على أنه لا يصح منا اكتساب الالوان والطعوم والروائح والقدرة والعجز والسمع والصمم والرؤية (١) والعمى والخرس واللذة والشهوة والأجسام [هذا كله قول أصحابنا]. وزعم معمر : إن الأعراض كلها من فعل الأجسام إما طباعا وإما اختيارا. وأجاز بشر بن المعتمر [أن الواحد منا يصح أن يفعل اللون] منا فعل الألوان والطعوم والروائح والإدراكات على سبيل التولد. وكل من زعم من القدرية أن المخلوق يجوز أن يحدث في غيره أعراضا وتأليفا فلا دليل له من طريق العقل على أن الله عزوجل هو الفاعل لتأليف أجزاء السماء وحركات الكواكب لأن ذلك كله يصح عندهم أن يكون فعلا لبعض الملائكة وبعض الجن فلا دليل لهم على أن ذلك من فعل الله تعالى وكفاهم بذلك خزيا.

المسألة السادسة من هذا الأصل

في أن الهداية والإضلال من فعل الله عزوجل

قال أصحابنا : إن الهداية من الله [تعالى] لعباده على وجهين :

أحدهما من جهة إبانة الحق والدعاء إليه وإقامة الأدلة عليه وعلى هذا الوجه يصح إضافة الهداية إلى الرسل وإلى كل داع إلى دين الله عزوجل لأنهم مرشدون إليه وهذا تأويل قول الله عزوجل في رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) ، أي تدعو إليه. والوجه الثاني من هداية الله تعالى لعباده ، خلقه في قلوبهم الاهتداء ، كما ذكره الله عزوجل في قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٣). فالهداية الأولى من الله تعالى شاملة جميع المكلّفين.

والهداية الثانية منه خاصة للمهتدين. وفي تحقيق ذلك نزل قول الله عز

__________________

(١) [والبصر].

(٢) سورة الشورى آية ٥٢.

(٣) سورة الأنعام آية ١٢٥.

١١٤

وجل : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) ، يعني به اهتداء القلوب الذي لا يقدر عليه غير الله عزوجل. ولهذا قال في نبيه عليه‌السلام : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) [وقد وصفه بأنه يهدي إلى صراط مستقيم فالهداية التي أثبتها الله تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق البيان والدعوة. والهداية التي نفاها عنه من جهة شرح الصدور وقبولها للحق]. والإضلال من الله عزوجل لأهل الضلال على معنى خلق الضلالة عن الحق في قلوبهم. وعلى ذلك يحمل قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (٣) وقوله : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤). فمن أضله فبعدله ومن هداه فبفضله هذا قول أهل السنة. وزعمت القدرية أن الهداية من الله تعالى على معنى الإرشاد والدعاء وإبانة الحق وليس إليه من هداية القلوب شيء. وزعموا أن الإضلال منه على وجهين :

أحدهما : أن يقال إنّه أضل عبدا بمعنى أنه سماه ضالا

والثاني : على معنى أنه جازاه على ضلالته. وقد أخطئوا في تأويلهم من طريق اللغة ومن طريق المعنى. أما من طريق اللغة فلأنّ من سمى غيره ضالا أو نسبه إلى الضلالة فإنما يقال فيه إنّه ضلّله بالتشديد ولا يقال أضله. وأما من طريق المعنى فمن جهة أن الإضلال من الله لو كان بمعنى التسمية والحكم لوجب أن يقال إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أضل الكفرة لأنه سماهم ضالين وحكم بضلالتهم ووجب أن يقال إنّ الكفرة والشياطين قد أضلوا المؤمنين والأنبياء لأنهم قد سموهم ضالين. ولو كان الإضلال من الله عزوجل بمعنى العقاب على الضلالة لكان كل من أقام الحد على الزاني والسارق والقاتل والقاذف وشارب الخمر قد أضلهم ، لأنه قد جازاهم على

__________________

(١) سورة يونس آية ٢٥.

(٢) سورة القصص آية ٥٦.

(٣) سورة الأنعام آية ١٢٥.

(٤) سورة المدثر آية ٣١.

١١٥

ضلالاتهم وفسقهم. وإذا بطل هذا صح أن الهداية والإضلال من الله تعالى على ما ذهبنا إليه دون ما ذهبت القدرية إليه. [وزعمت الثنوية أن الهداية من النور والضلال من الظلمة. وزعمت المجوس أن الهداية من الإله والإضلال من الشيطان وقد مضى الكلام عليهم في توحيد الصانع. في ذلك كفاية على إبطال قولهم].

المسألة السابعة من هذا الأصل

في خلق الآجال وتقديرها.

قال (١) أصحابنا : [على أن من] كل من (٢) مات حتف أنفه أو قتل فإنما مات بأجله الذي جعله الله عزوجل أجلا لعمره. والله قادر على إبقائه والزيادة في عمره لكنه إذا لم يبقه إلى مدة لم يكن المدة التي لم يبق إليها أجلا له ، كما أن المرأة التي لم يتزوجها قبل موته لم تكن امرأة له وإن أمكن أن يتزوجها لو لم يمت. واختلفت القدرية في هذه المسألة : فقال أبو الهذيل فيها مثل قولنا وهو أن المقتول لو لم يقتل مات في وقت قتله بأجله [لأن المدة التي لم يعش إليها لم تكن أجلا له ولا من عمره] وقال الجبائي أيضا فيمن علم الله منه أنه يقتل لعشرين سنة أن الوقت الذي يقتل فيه أجل له وهو أجل موته ولا يجوز أن يكون له أجل آخر إلا على تقدير الإمكان. وزعم الباقون من القدرية أن المقتول مقطوع عليه أجله. فجعلوا العباد قادرين على أن ينقصوا مما أجّله الله عزوجل ووقّته. ولو جاز ذلك لجاز أن يزيدوا في أجل من قضى الله له أجلا محدودا. وإذا لم يقدروا على الزيادة في أجل آخر لم يقدروا على النقصان منه. فأما قول نوح عليه‌السلام : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٣) ، فإنه لم يقل ويؤخركم إلى أجل لكم. ونحن لا ننكر إمكان البقاء ان لو لم يمت المقتول. ولكنا قلنا إنّ المدة التي قتل قبلها لم تكن أجلا له [احتجوا بقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (٤).

__________________

(١) [أجمع]. ٢) [على أن من]. (٣) سورة نوح آية ٤. (٤) سورة فاطر آية ١١.

١١٦

ومن فروع هذه المسألة : اختلافهم في المقتول هل هو ميت أم لا. وقد زعم الكعبي أن المقتول غير ميت لأن الموت من [فعل] قبل الله والقتل من [فعل] قبل القاتل. وقال أكثر القدرية : المقتول ميت وفيه معنيان أحدهما موت من فعل الله عزوجل والثاني : قتل هو من فعل القاتل. وقال أصحابنا : القتل غير الموت ولكن المقتول ميت والموت قائم به والقتل يقوم بالقاتل. ومن فروعها [أيضا] الشهادة وقد زعمت القدرية أنها الصبر على ألم الجراح والعزم على ذلك قبل وقوعه ومنعوا تسمية قتل الكافر للمؤمنين شهادة. وقالت الكرّامية الشهادة أن يصيب المؤمن من البلاء [على] ما يوجب تكفير ذنوبه كلها إذا لم يكن من الصديقين ، لأن الصديق لا يحتاج إلى تكفير ذنبه. وقال أصحابنا : من قتل مظلوما أو مات من بعض الأمراض المخصوصة كالحريق والغريق وموت المرأة في طلقها ونحو ذلك فهو شهيد. ولو كانت الشهادة في تكفير الذنوب لم يكن من لا ذنب له شهيدا وإن قتله الكفرة في حربها. وإذا صح لنا أن الشهادة ما ذكرنا ، فالشهداء عندنا نوعان :

أحدهما : شهيد يغسل ويصلى عليه وهو الذي مات حتف أنفه موتا يوجب له الشهادة أو جرح في قتال الكفرة أو أهل البغي ومات في غير المعركة.

والثاني : شهيد مقتول في المعركة فقد أجمعوا على أنه لا يغسل واختلفوا في الصلاة عليه : فقال الشافعي : لا يصلى عليه وقال أبو حنيفة بالصلاة عليه.

المسألة الثامنة من هذا الأصل

في الأرزاق وتقديرها

زعمت القدرية أن الله عزوجل لم يقسم الأرزاق إلّا على الوجه الذي حكم به من استحقاق المواريث وما فرض من سهام الصدقات لأهلها وما فرض من الغنائم لذوي القربى ومن ذكر معهم. وزعموا أن الإنسان قد يفوته ما رزقه الله عزوجل وأنه قد يأكل رزق غيره إذا غصب شيئا وأكله. وأجازوا أن يزيد الزرق بالطلب وينقص بالتواني. وقال أهل الحق أن كل من أكل شيئا أو شرب فإنما تناول رزق نفسه حلالا كان أو حراما ولا يأكل أحد رزق غيره. ويجب على القدرية في قود

١١٧

أصلها أن يقولوا ، فيمن غصب جارية فأولدها بالحرام ولدا وسقى ذلك الولد ألبانا مغصوبة حتى نشأ ، ثم أطعمه بعد ذلك من الحرام إلى أن بلغ وصار لصّا فلم يأكل ولم يشرب طول عمره إلّا من الحرام ثم مات على ذلك ، إن الله ما رزقه شيئا. وكذلك الدابة من نتاج مغصوب إذا لم يأكل من غير الحرام لم يكن الله رازقا لها عندهم. وهذا خلاف قول الله عزوجل : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (١).

المسألة التاسعة من هذا الأصل

في نفوذ مشيئة الله تعالى في مراداته

أجمع أصحابنا على نفوذ مشيئة الله تعالى في مراداته على حسب علمه بها.

فما علم منه حدوثه أراد حدوثه خيرا كان أو شرا. وما علم أنه لا يكون أراد أن لا يكون. وكل ما أراد كونه فهو كائن في الوقت الذي أراد حدوثه فيه على الوجه الذي أراد كونه عليه. وكل ما لم يرد كونه فلا يكون سواء أمر به أو لم يأمر به [وهذا قولهم في الجملة. واختلفوا في التفصيل فمنهم من قال أقول في الجملة إنّ الله تعالى أراد حدوث كل حوادث خيرها وشرها ولا أقول في التفصيل إنّه أراد الكفر والمعاصي الكائنة وإن كانت من جملة الحوادث التي قلنا في الجملة إنّه أراد كونها. كما نقول في الجملة عند الدعاء يا خالق الأجسام ويا رازق البهائم والأنعام كلها. ولا نقول يا رازق الخنافس والجعلان (٢) وإن كانت هذه الأشياء من جملة ما أطلقنا في الجملة بأنه خالقها ورازقها. كذلك القول في المرادات جملة وتفصيلا على هذا القياس. وهذا قول شيخنا أبي محمد عبد الله بن سعيد وكثير من أصحابنا. ومنهم من أطلق إرادة الله سبحانه في مراداته جملا وتفصيلا ولكنه قيد الإرادة في التفصيل فقال في الجملة إنّ الله تعالى قد أراد حدوث كل ما علم حدوثه من خير وشر. وقال في التفصيل إنّه أراد حدوث الكفر من الكافر بأن يكون كسبا له قبيحا منه. ولم يقل أراد الكفر والمعصية على الإطلاق من غير تقييد له ،

__________________

(١) سورة هود آية ٦.

(٢) دويبة.

١١٨

على الوجه الذي ذكرناه. وهذه طريقة شيخنا أبي الحسن رحمه‌الله ، ومنهم من قال : إذا عبرنا عن المعاصي والكفر بأنها حوادث قلنا إنّ الله تعالى أراد حدوثها ولم نقل أراد الكفر والعصيان وإن قلنا أراد حدوث هذا الحادث الذي هو كفر أو معصية. كما أن المخلوقات كلها حجج الله سبحانه ودلائله والليل منها ونقول فيها بلفظ الليل إنّها ليلة مظلمة ولا نقول إنّها حجة مظلمة ولا نقول في الخشبة المنكسرة إنّها حجة منكسرة وهذا القول اختيارنا]. واختلفت القدرية في هذه المسألة فزعم النظام والكعبي أن الله تعالى ليست له إرادة على الحقيقة. وإذا قيل إنّه أراد شيئا من فعله فمعناه أنه فعله وإذا قيل إنّه أراد شيئا من فعل غيره فمعناه أنه أمر به. وزعم البصريون منهم أنه مريد بإرادة حادثة لا في محمل ، وقالوا قد يريد ما لا يكون وقد يكره الشيء فيكون [وزعموا أن المعاصي كلها على كراهة منه] وإنه قد شاء هداية كل الناس ولم يشأ ضلال أحد. وقد أكذبهم الله عزوجل في ذلك بقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١) [فأخبر أنه ما شاء هداية الكل ولو شاء لآتى كل نفس هداها]. فإن قالوا : إنّ الهدى المذكور في هذه الآية بمعنى الرجوع إلى الدنيا لأنه معطوف على قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ،) (٢) ، ثم قال : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) ، يعني ما سألت من الرجعة إلى الدنيا .. قيل لهم إنّ رجوعهم إلى الدنيا لا يكون هدى لهم لإمكان وقوع الضلالة منهم بعد ذلك ألا تراه قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٣) ، فدل هذا على أنّ الهدى المذكور في الآية هداية القلوب وإنه لم يردها من جميع المكلّفين [وإنما أرادها من بعضهم]. ويدل عليه قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٤). وفي هذا دليل على أن من لم يشأ الاستقامة فإن الله ما شاء منه أن يشاء الاستقامة. ولأن القدرية البصرية وافقونا على أن الله عزوجل لو أراد من فعل نفسه

__________________

(١) سورة السجدة آية ١٣. (٢) سورة السجدة آية ١٢. (٣) سورة الأنعام آية ٢٨. (٤) سورة التكوير آية ٢٨ و ٢٩.

١١٩

شيئا فلم يقع لحقه سهو أو ضعف. كذلك إذا أراد من غيره ما لا يقع لحقه الضعف والنقص كما أنه لو وقع من فعله شيء بخلاف خبره لحقه الكذب كذلك لو وقع من غيره ما هو خلاف خبره لحقه الكذب. والأمر على عكس هذا لأنه يجوز أن يقع من غيره ما لم يأمر به كما يقع منه ما لم يأمر به [قالوا : لا يلحقه النقص بأن يقع من غيره خلاف مراده لأنه قادر على إلجائه إلى مراده ، قيل : إنّ الله تعالى وإن ألجأ إلى فعل ما أراد منه فلا يجب تمام مراده على أصولكم ، لأنكم زعمتم أنه أراد منه فعل الإيمان والطاعة اختيارا على وجه يستحق به الثواب ، وإذا ألجأ إليه لم يستحق به ثوابا ولا يتم مراده منه. على أن هذا الإلجاء لا يخلو من وجوه أما أن يكون بخلق الإيمان والطاعة فيهم فليس هذا قولكم. أو يكون بسلب قدرة الكفر والمعصية عنهم وفيه سلب قدرة الإيمان والطاعة عندكم على أصلكم في أن القدرة تصلح للضدين. أو بأن يلجئهم بعذاب يخوّفهم به فلا يخلو حينئذ من أن يعلموا أن ذلك العذاب من قبل الله أو يشكوا فيه فإن عرفوا ذلك فقد عرفوا الله ولا يجوز إلجاء من عرفه إلى معرفته. وإن شكوا في ذلك لم ينكروا وقوع المخالفة منهم.

فلا يكون الإله قادرا على إتمام مراده منهم على أصول القدرية بحال. وإذا بطل ذلك صح أن إرادته نافذة في كل ما يشاء].

المسألة العاشرة من هذا الأصل

في جواز تخلية العباد عن التكليف

قال أصحابنا : كل ما علم الله وجوبه أو تحريمه فالشرع أوجب ذلك فيه. ولو لم يرد الشرع بالخطاب لم يكن شيئا واجبا ولا محظورا وكان جائزا من الله عزوجل أن لا يكلف عباده شيئا. وزعمت البراهمة والقدرية أنه لم يكن جائزا تخلية العباد عن التكليف وقالوا : لو فعل ذلك لكان قد أغراهم بالمعاصي. وهذا كلام لا معنى تحته لأن من علق الحظر والإباحة على الشرع لم يسلم شيئا قبل الشرع معصية وإذا جاز من الله تعالى خلق العصاة ولم يكن ذلك إغراء بالمعصية جاز ترك التكليف ولم يكن ذلك إغراء بالمعصية.

١٢٠