إعجاز القرآن

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني


المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0344-X
الصفحات: ١٩١

والشيء القليل العجيب. وكما يلحق بكلامه بالوحشيات ، ويضاف من قوله إلى الأوابد ؛ لأن ما جرى هذا المجرى ، ووقع هذا الموقع ، فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره ، وللكاتب في قليل من رسائله ، وللخطيب في يسير من خطبه ، ولو كان كل شعره نادرا ومثلا سائرا ، ومعنى بديعا ، ولفظا رشيقا ، وكل كلامه مملوءا من رونقه ، ومائه ومملأ ببهجته وحسن روائه ، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين ، والمتردد بين الطرفين ، ولا البارد المستثقل ، والغث المستنكر ، لم يبن الإعجاز في الكلام ، ولم يبن التفاوت العجيب بين النظام والنظام.

وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل ، ومبهم قد يحتاج في بعض إلى تفسير ، وسنذكر ذلك بمشيئة الله وعونه ، ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه ، وأضفناه إليهم ، أن ذلك باب من أبواب البراعة ، وجنس من أجناس البلاغة ، وأنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم ، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم. وإذا أورد هذا المورد ، ووضع هذا الموضع ، كان جديرا.

وإنما لم نطلق القول إطلاقا ، لأنّا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه الخاصة ، ووقفا عليها. ومضافا إليها ، وإن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة ، آخذة بخطها من الحسن والبهجة متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع ، والتعمل المستبشع.

٨١

فصل :

في كيفية الوقوف

على إعجاز القرآن

قد بينا أنه لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية ، من العجم والترك وغيرهم ، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا أن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك. فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنهم قد تحدّوا على أن يأتوا بمثله ، وقرّعوا على ترك الإتيان بمثله ، ولم يأتوا به ، تبينوا أنهم عاجزون عنه. وإذا عجز أهل ذلك اللسان ، فهم عنه أعجز.

وكذلك نقول إن من كان أهل اللسان العربي إلّا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ، ووجوه تصرّف اللغة ، وما يعدّونه فصيحا بليغا بارعا من غيره ، فهو كالأعجمي ، في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن ، إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الفارسي الذي بدأنا بذكره ، وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء.

فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي ، ووقف على طرقها ومذاهبها ، فهو يعرف القدر الذي ينتهي إليه وسع المتكلم من الفصاحة ، ويعرف ما يخرج عن الوسع ، ويتجاوز حدود القدرة ، فليس يخفى عليه إعجاز القرآن ، كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر ، وكما يميز بين الشعر الجيد والرديء ، والفصيح والبديع ، والنادر والبارع والغريب.

وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم ، فيعرف الصّيرفيّ من النقد ما يخفى على غيره ، ويعرف البزاز من قيمة الثوب وجودته ورداءته ما يخفى على غيره ، وإن كان يبقى مع معرفة هذا الشأن أمر آخر. وربما اختلفوا فيه ؛ لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين والقول الرصين.

ومنهم من يختار الكلام الذي يروق ماؤه ، وتروع بهجته ورواؤه ، ويسلس مأخذه ، ويسلم وجهه ومنفذه ، ويكون قريب المتناول ، غير عويص اللفظ ولا غامض المعنى. كما يختار قوم ما يغمض معناه ويغرب لفظه ، ولا يختار ما سهل على اللسان وسبق إلى البيان.

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف زهيرا فقال : «كان لا يمدح الرجل

٨٢

إلا بما فيه» وقال لعبد بني الحسحاس حين أنشده :

«كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا» أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه.

وروي أن جريرا سأل عن أحسن الشعر ، فقال قوله :

إن الشقي الذي في النار منزله

والفوز فوز الذي ينجو من النار

كأنه فضله لصدق معناه. ومنهم من يختار الغلو في قول الشعر والإفراط فيه حتى ربما قالوا «أحسن الشعر أكذبه» كقول النابغة :

يقدّ السلوقيّ المضاعف نسجه

ويوقدن بالصّفاح نار الحباحب

وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين في الغلو والاقتصاد ، وفي المتانة والسلامة ، ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة ، وألطف تعملا ، وأن يتخير الألفاظ الرشيقة للمعاني البديعة والقوافي الواقعة ، كمذهب البحتري ، وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب :

في نظام من البلاغة ما شك

ك امرؤ أنه نظام فريد

وبديع كأنه الزهر الضا

حك في رونق الربيع الجديد

حزن مستعمل الكلام اختيارا

وتجنبن ظلمة التعقيد

وركبن اللفظ القريب فأدركن

به غاية المراد البعيد

ويرون أن من تعدى هذا كان سالكا مسلكا عاميا ولم يروه شاعرا ولا مصيبا. وفيما كتب الحسن بن عبد الله أبو أحمد العسكري قال : أخبرني محمد بن يحيى ، قال : أخبرني عبد الله بن الحسن ، قال : قال لي البحتري : دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه ، فأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا شعر أشجع ، فقال لي : إنه يخلي ، وأعادها مرات ، ولم أفهمها ؛ وأنفت أن أسأله عن معناها ، فلما انصرفت فكرت في الكلمة ، ونظرت في شعره ، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع ؛ وإذا هو يريد هذا بعينه ، أن يعمل الأبيات ، فلا يصيب فيها ببيت نادر ، كما أن الرامي إذا رمى برشقة فلم يصب بشيء قيل قد أخلى. قال : وكان علي بن الجهم أحسن الناس علما بالشعر.

وقوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام ، الذي يجمع الغريب والمعاني ، مثل أبي عمرو بن العلاء ، وخلف الأحمر ، والأصمعي. ومنهم من يختار الوحشي من الشعر ، كما اختار المفضل للمنصور من المفضليات. وقيل : إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.

٨٣

وذكر الحسن بن عبد الله أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس قال : «حضرت مع البحتري مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ، وقد سئل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد ، أيهما أشعر؟ فقال البحتري : أبو نواس أشعر ، فقال عبيد الله : إن أبا العباس ثعلبا لا يطابقك على قولك ، ويفضل مسلما ، فقال البحتري : ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عملهن ، إنما يعلم ذلك من وقع في سلك الشعر إلى مضايقه ، وانتهى إلى ضروراته.

فقال له عبيد الله : وريت بك زنادي يا أبا عبادة ، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار ابن برد في جرير والفرزدق أيهما أشعر؟

فقال : جرير أشعرهما ، فقيل له : بما ذا؟

فقال : لأن جريرا يشتد إذا شاء ، وليس كذلك الفرزدق ؛ لأنه يشتد أبدا.

فقيل له : فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير.

فقال : ليس هذا من عمل أولئك القوم. إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله. وفي الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق ، ولقد ماتت النّوار امرأته فناح عليها بقول جرير :

لو لا الحياء لعادني استعبار

ولزرت قبرك والحبيب يزار

وروي عن أبي عبيدة أنه قال للفرزدق : ما لك لا تنسب كما ينسب جرير؟ فغاب حولا ثم جاء فأنشد :

يا أخت ناجية بن سامة إنني

أخشى عليك بنيّ إن طلبوا دمي

والأعدل في الاختيار ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب «الحماسة» وما اختاره من «الوحشيات» وذلك أنه تنكر المستنكر الوحشي ، والمبتذل العامي ، وأتى بالواسطة. وهذه الطريقة من ينصف في الاختيار ، ولا يعدل به غرض يخص ؛ لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم ، وإظهار التقدم في معرفته وعجز غيرهم عنه ، ولم يكن قصدهم جيد الأشعار لشيء يرجع إليها في أنفسها ، ويبين هذا أن الكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس.

وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد ، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب ، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن ، ومستنكر المورد على النفس ، حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام ، أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة. ويجب أن يتنكب ما كان عليه اللفظ ، مبتذل العبارة ، ركيك المعنى ، سفسافي

٨٤

الوضع ، مجتنب التأسيس على غير أصل ممهد ، ولا طريق موطد ، وإنما فضلت العربية على غيرها لاعتدالها في الوضع.

ولذلك وضع أصلها على أكثرها بالحروف المعتدلة ، فقد أهملوا الألفاظ المستكرهة في نظمها ، وأسقطوها من كلامهم ، فجرى لسانهم على الأعدل ، ولذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي لأنهم بدءوا بحرف وسكتوا على آخر ، وجعلوا حرفا وصلة بين الحرفين ليتم الابتداء والانتهاء على ذلك.

والثنائي أقل ، وكذلك الرباعي والخماسي أقل. ولو كان كله ثنائيا لتكررت الحروف ، ولو كان كله رباعيا أو خماسيا لكثرت الكلمات. وكذلك بنى أمر الحروف التي ابتدئ بها السور التي ابتدئت بذكر الحروف ذكر فيها ثلاثة أحرف ، وما هو أربعة أحرف سورتان ، وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان ، فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا ، وإنما جعله فعلا واسما لشيء خاص. ومن جعل ذلك حرفا قال : أراد أن يحقق الحروف مفردها ومنظومها.

ولضيق ما سوى كلام العرب ، أو لخروجه عن الاعتدال يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة. والكلمات المختلفة كثيرا ، كنحو تكرر الطاء والسين في لسان يونان ، وكنحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشيء واحد في لسان الترك. ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكن في اللغة العربية. والعربية أشدها تمكنا وأشرفها تصرفا وأعدلها ، ولذلك جعلت حلية لنظم القرآن ، وعلق بها الإعجاز ، وصارت دلالة في النبوة.

وإذا كان الكلام إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس التي لا يمكن التوصل إليها بأنفسها ، وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها.

فما كان أقرب في تصويرها وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها ، وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد ، وأشد تحقيقا في الإيضاح عن الطلب ، وأعجب في وضعه ، وأرشق في تصرفه ، وأبرع في نظمه ، كان أولى وأحق بأن يكون شريفا.

وقد شبهوا النطق بالخط ، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة وصحة ولطف ، حتى يجوز الفضيلة ويجمع الكمال. وشبهوا الخط والنطق بالتصوير. وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صوّر لك الباكي المتضاحك ، والباكي الحزين ، والضاحك المتباكي ، والضاحك المستبشر. وكما أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الأمثلة ، فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان والطبع في تصوير ما في النفس للغير ، وفي جملة الكلام إلى ما تقصر

٨٥

عبارته وتفضل معانيه. وفي ما تقصر المعاني وتفضل العبارات ، وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقا للآخر ، ثم ينقسم ما يقع وفقا إلى أنه قد يفيدها على تفصيل. وكل واحد منهما قد ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعا شريفا وغريبا لطيفا. وقد يكون كل واحد منهما مستجلبا متكلفا ومصنوعا متعسفا ، وقد يكون كل واحد منهما حسنا رشيقا ، وبهيجا نضيرا ، وقد يتفق أحد الأمرين دون الآخر ، وقد يتفق أن يسلم الكلام والمعنى من غير رشاقة ولا نضارة في واحد منهما.

إنما يميز من يميز ، ويعرف من يعرف ، والحكم في ذلك صعب شديد ، والفضل فيه شأو بعيد. وقد قل من يميز أصناف الكلام ؛ فقد حكي عن طبقة أبي عبيدة ، وخلف الأحمر وغيرهم ، في زمانهم أنهم قالوا : ذهب من يعرف نقد الشعر.

وقد بينا قبل هذا اختلاف القوم في الاختيار ، وما يجب أن يجمعوا عليه ويرجعوا عند التحقيق إليه. وكلام المقتدر نمط ، وكلام المتوسع باب ، وكلام المطبوع له طريق ، وكلام المتكلف له منهاج ، والكلام المصنوع المطبوع له باب. ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم تخف عليه هذه الوجوه ، ولم تشتبه عنده هذه الطرق. فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه ، وقدر كل كلام في نفسه ، ويحله محله ، ويعتقد فيه ما هو عليه ، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم ، وإن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه ، وإن كان يعم إحسانه عرف ، ألا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو ، ومنهم من يجود في الهجو وحده ، ومنهم من يجود في المدح والسخف ، ومنهم من يجود في الأوصاف.

والعالم لا يشذ عنه مراتب هؤلاء ، ولا يذهب عليه أقدارهم ، حتى أنه إذا عرف له طريقة شاعر في قصائد معدودة فأنشد غيرها من شعر لم يشك أن ذلك من نسجه ، ولم يرتب في أنه من نظمه. كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خطه ، حيث رآه من بين الخطوط المختلفة ، وحتى يميز بين رسائل كاتب وبين رسائل غيره.

وكذلك أمر الخطب فإن اشتبه البعض ، فهو لاشتباه الطريقين وتماثل الصورتين. كما قد يشتبه شعر أبي تمام بشعر البحتري في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع ، ويقصد فيه التسهل ويسلك الطريقة الكتابية ، ويتوجه في تقريب الألفاظ وترك تعويض المعاني ، ويتفق له مثل بهجة أشعار البحتري وألفاظه.

ولا يخفى على أحد يميز هذه الصنعة ، سبك أبي نواس ، ولا نسج ابن الرومي ، من نسج البحتري ، وينبهه ديباجة شعر البحتري ، وكثرة مائه ، وبديع رونقه ، وبهجة كلامه ، إلا فيما يسترسل فيه ، فيشتبه بشعر ابن الرومي ، ويحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة والرقة

٨٦

والرشاقة والسلاسة ، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم. وكذلك يميز بين شعر الأعشى ، في التصرّف وبين شعر امرئ القيس ، وبين شعر النابغة وزهير ، وبين شعر جرير والأخطل ، والبعيث والفرزدق. وكل له منهج معروف ، وطريق مألوف.

ولا يخفى عليه في زماننا الفضل بين رسائل عبد الحميد وطبقته ، وبين طبقة من بعده ، حتى أنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن

العميد وبين رسائل أهل عصره ، ومن بعده ممن برع في صنعة الرسائل ، وتقدم في شأوها حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين ، وطريقة المتأخرين ، حتى خلص لنفسه طريقة ، وأنشأ لنفسه منهاجا ، فسلك تارة طريقة الجاحظ ، وتارة طريقة السجع ، وتارة طريقة الأصل ، وبرع في ذلك باقتداره ، وتقدم بحذقه ، ولكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقه من طريق غيره. وإن كان قد يشتبه البعض ويدق القليل وتغمض الأطراف وتشذ النواحي. وقد يتقارب سبك نفر من شعراء عصره ، وتتدانى رسائل كتاب دهر ، حتى تشتبه اشتباها شديدا ، وتتماثل تماثلا قريبا ، فيغمض الفصل.

وقد يتشاكل الفرع والأصل وذلك فيما لا يتعذر إدراك أمده ، ولا يتصعب طلاب شأوه ، ولا يتمنع بلوغ غايته ، والوصول إلى نهايته ، لأن الذي يتفق مع الفضل بين أهل الزمان إذا تفاضلوا وتفاوتوا في مضمار فصل قريب وأمر يسير. وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ ، وسارق المعاني ، ولا من يخترعها ، ولا من يسلم بها ، ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به ، ولا من يخترع الكلام اختراعا ، ويبتدهه ابتداها ، ممن يروّى فيه ، ويجيل الفكر في تنقيحه ، ويصير عليه حتى يتخلص له ما يريد ، وحتى يتكرر نظره فيه.

قال أبو عبيدة : سمعت أبا عمرو يقول : زهير والحطيئة واشباههما عبيد الشعر ، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين ؛ وكان زهير يسمّي كبر شعره «الحوليات المنقحة». وقال عدي بن الرقاع :

وقصيدة قد بت أجمع بينها

حتى أقوّم ميلها وسنادها

نظر المثقّف في كعوب قناته

حتى يقيم ثقافة منادها

وكقول سويد بن كراع :

أبيت بأبواب القوافي كأنما

أصادي بها سربا من الوحش نزّعا

ومنهم من يعرف بالبديهة وحدة الخاطر ، ونفاد الطبع وسرعة النظم ، يرتجل القول ارتجالا ، ويطبعه عفوا صفوا. فلا يقعد به عن قوم قد تعبوا وكدوا أنفسهم ، وجاهدوا خواطرهم.

وكذلك لا يخفى عليهم الكلام العلوي واللفظ الملوكي ، كما لا يخفى عليهم الكلام

٨٧

العامي واللفظ السوقي ثم تراهم ينزلون الكلام تنزيلا ، ويعطونه كيف تصرف حقوقه ، ويعرفون مراتبه فلا يخفى عليهم ما يختص به كل فاضل تقدم في وجه من وجوه النظم ، من الوجه الذي لا يشاركه فيه غيره ، ولا يساهمه سواه.

ألا تراهم وصفوا زهيرا بأنه أمدحهم ، وأشدهم أثر شعر. قاله أبو عبيدة ، وروي أن الفرزدق انتحل بيتا من شعر جرير ، وقال : هذا يشبه شعري. فكان هؤلاء لا يخفى عليهم ما قد نسبناه إليهم من المعرفة بهذا الشأن ، وهذا كما يعلم البزازون هذا الديباج عمل بتستر ، وهذا لم يعمل بتستر ، وأن هذا من صنعة فلان دون فلان ، ومن نسج فلان دون فلان ، حتى لا يخفى عليه وإن كان قد يخفى على غيره. ثم إنهم يعلمون أيضا من له سمت بنفسه ، ورفت برأسه ، ومن يقتدي في الألفاظ أو في المعاني أو فيهما بغيره ، ويجعل سواه قدوة له. ومن يلم في الأحوال بمذهب غيره ويأتي في الأحيان بمخترعه.

وهذه أمور ممهدة عند العلماء ، وأسباب معروفة عند الأدباء. وكما يقولون إن البحتري يغير على أبي تمام إغارة. ويأخذ منه صريحا وإشارة ، ويستأنس بالأخذ منه ، بخلاف ما يستأنس بالأخذ من غيره ، ويألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه.

وكما كان أبو تمام يلم بأبي نواس ومسلم ، وكما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد لا يتحاشى ، ويؤلف ما يقوله من فرق شتى. وما الذي نفع المتنبي جحوده الأخذ ، وإنكاره معرفة الطائيين. وأهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهارا ، أو ألم بهما فيه سرارا؟!

وأما ما لم يأخذ عن الغير ، ولكن سلك النمط ، وراعى النهج ، فهم يعرفونه ، ويقولون هذا أشبه به من التمرة بالتمرة ، وأقرب إليه من الماء إلى الماء ، وليس بينهما إلا كما بين الليلة والليلة. فإذا تباينا وذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه ، وسلك في غير جانبه ، قيل بينهما ما بين السماء والأرض ، وما بين النجم والنون ، وما بين المشرق والمغرب.

وإنما أطلت عليك ووضعت جميعه بين يديك ، لتعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن وجليله ، وغامضه وقريبه ، وبعيده ومعوجه ومستقيمه. فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس متداول ، وهو قريب متناول ، من أمر يخرج عن أجناس كلامهم ، ويبعد عما هو في عرفهم ، ويفوت مواقع قدرهم؟

وإذا اشتبه ذلك ، فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة ، أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه ، ويديرونه بينهم ، ولا يتجاوزنه ، فكلامهم سبل مضبوطة ، وطرق

٨٨

معروفة محصورة. وهذا كما يشتبه على من يدّعي الشعر من أهل زماننا ، والعلم بهذا الشأن ، فيدّعي أنه أشعر من البحتري ، ويتوهم أنه أدق مسلكا من أبي نواس وأحسن طريقا من مسلم. وأنت تعلم أنهما متباعدان ، وتتحقق أنهما لا يجتمعان ، ولعل أحدهما إنما يلحظ عبارة صاحبه ، ويطالع ضياء نجمه ، ويراعي حقوق جناحه ، وهو راكد في موضعه ، ولا يضر البحتري ظنه ، ولا يلحقه بشأوه وهمه. فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمد فصاحة القرآن ، وموقع بلاغته ، وعجيب براعته ، فما عليك منه ، إنما يخبر عن نقصه ويدل على عجزه ، ويبين عن جهله ، ويصرح بسخافة فهمه ، وركاكة عقله.

وإنما قدمنا ما قدمناه في هذا الفصل لتعرف أن ما ادعيناه من معرفة البليغ بعلو شأن القرآن ، وعجيب نظمه ، وبديع تأليفه أمر لا يجوز غيره ولا يحتمل سواه ، ولا يشتبه على ذي بصيرة ولا يخيل عند أخي معرفة كما يعرف الفضل بين طباع الشعراء من أهل الجاهلية ، وبين المخضرمين وبين المحدثين ويميز بين من يجري على شاكلة طبعه وغريزة نفسه ، وبين من يشتغل بالتكلف والتصنع ، وبين ما يصير التكلف له كالمطبوع ، وبين من كان مطبوعه كالتعمل المصنوع. هيهات هيهات ، هذا أمر وإن دق فله قوم يقبلونه علما ، وأهل يحيطون به فهما ، ويعرفونه إليك إن شئت ، ويصورونه لديك إن أردت ، ويجلونه على خواطرك إن أحببت ، ويعرضونه لفطنتك إن حاولت ، وقد قال القائل :

للحرب والضرب أقوام لها خلقوا

وللدّواوين كتّاب وحسّاب

ولكل عمل رجال ، ولكل صنعة ناس ، وفي كل فرقة الجاهل والعالم والمتوسط.

ولكن قد قلّ من يميز في هذا الفن خاصة ، وذهب من يحصل في هذا الشأن إلا قليلا ، فإن كنت ممن هو بالصفة التي وصفناها من التناهي في معرفة الفصاحات ، والتحقيق بمجاري البلاغات ، فإنما يكفيك التأمل ويغنيك التصور ، وإن كنت في الصنعة مرمدا ، وفي المعرفة بها متوسطا ، فلا بد لك من التقليد ، ولا غنى بك عن التسليم. إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها ، والشادي فيها كالبائن منها. فإن أراد أن يقرب عليه أمرا ، ويفسح له طريقا ، ويفتح له بابا ، ليعرف به إعجاز القرآن. فإنا نضع بين يديه الأمثلة ، ونعرض عليه الأساليب ، ونصور له صورة كل قبيل من النظم والنثر ، ونحضر له من كل فن من القول شيئا يتأمله حق تأمله ويراعيه حق مراعاته ، فيستدل استدلال العالم ، ويستدرك استدراك الناقد ، ويقطع له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية ، الطالع عن الإلهية ، الجامع بين الحكم والحكم. والإخبار عن الغيوب والغائبات ، والمتضمن لمصالح الدنيا والدين. والمستوعب لجلية اليقين والمعاني المخترعة في تأسيس أصل الشريعة وفروعها بالألفاظ الشريفة ، على تفننها وتصرفها. وتعمد إلى شيء من الشعر المجمع عليه فتبين وجه النقص فيه ، وتدل على

٨٩

انحطاط رتبته ، ووقوع أبواب الخلل فيه حتى إذا تأمل ذلك وتأمل ما نذكره من تفصيل إعجاز القرآن وفصاحته وعجيب براعته ، انكشف له واتضح ، وثبت ما وصفناه لديه ووضح. وليعرف حدود البلاغة ، وموقع البيان والبراعة ، ووجه التقدم في الفصاحة

وذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين أن الفارسي سئل فقيل له : ما البلاغة؟ فقال : معرفة الفصل من الوصل.

وسئل اليوناني عنها فقال : تصحيح الأقسام واختيار الكلام.

وسئل الرومي عنها فقال : حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة.

وسئل الهندي عنها فقال : وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة ، وقال مرة : التماس حسن الموقع والمعرفة بساحات القول ، وقلة الخرق بما التبس من المعاني ، أو غمض وشرد من اللفظ وتعذر. وزينته أن تكون الشمائل موزونة ، والألفاظ معدلة ، واللهجة نقية ، وأن لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة ، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة ، ولا يدقق المعاني كل التدقيق ، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح ، ويصفيها كل التصفية ، ويهذبها بغاية التهذيب.

وأما «البراعة» ففيما يذكر أهل اللغة ، الحذق بطريقة الكلام وتجويده. وقد يوصف بذلك كل متقدم في قول أو صناعة.

وأما «الفصاحة» فقد اختلفوا فيها منهم من عبر عن معناها بأنه ما كان جزل اللفظ حسن المعنى ، وقد قيل معناها الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس ، على عبارات جلية ، ومعان نقية بهية.

والذي يصور عندك ما ضمنا تصويره ، ويحصل عندك معرفته إذ كنت في صنعة الأدب متوسطا ، وفي علم العربية متبينا ، أن تنظر أولا في نظم القرآن ، ثم في شيء من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتعرف الفصل بين النظمين ، والفرق بين الكلامين ، فإن تبين لك الفصل ووقفت على جلية الأمور وحقيقة الفرق ، فقد أدركت الغرض ، وصادفت المقصد.

وإن لم تفهم الفرق ولم تقع على الفصل ، فلا بد لك من التقليد ، وعلمت أنك من جملة العامة ، وأن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان.

خطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : روى طلحة بن عبيد الله ، قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب على منبره يقول : «ألا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا ، وبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له ، وكثرة الصدقة في السّر والعلانية ترزقوا وتؤجروا وتنصروا. واعلموا أن الله عزوجل قد افترض عليكم الجمعة في

٩٠

مقامي هذا ، في عامي هذا ، في شهري هذا ، إلى يوم القيامة ، حياتي ومن بعد موتي. فمن تركها وله إمام ، فلا جمع الله له شمله ، ولا بارك الله في أمره ، ألا ولا حجّ له. ألا ولا صوم له. ألا ولا صدقة له. ألا ولا برّ له. ألا ولا يؤم أعرابي مهاجرا. ألا ولا يؤم فاجر مؤمنا. إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه» (١).

خطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم. وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين ؛ بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله تعالى قاض عليه فيه. فليأخذ العبد لنفسه من نفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الموت ، والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار» (٢).

خطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الحمد لله أحمد وأستعينه. نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله في قلبه ، وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أصدق الحديث وأبلغه. أحبوا من أحب الله وأحبّوا الله من كل قلوبكم. ولا تملوا كلام الله وذكره. ولا تقسوا عليه قلوبكم. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، اتقوا الله حق تقاته وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم. والسلام عليكم ورحمة الله» (٣).

ليبلّغ الشاهد الغائب ..

خطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أيام التشريق : قال بعد حمد الله : «أيها الناس ، هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم ، قالوا : في يوم حرام ، وشهر حرام ، وبلد حرام (٤).

قال : ألا فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، إلى يوم تلقونه» (٥).

__________________

(١) الطبراني ١ / ٢٧٩ ، والجوامع (٩٥٨٩) ، والكنز (١٠١٧٠).

(٢) القرطبي ١٨ / ١١٦.

(٣) مسلم في : الجمعة (٤٦) ، والقرطبي ١١ / ٢١٨ ، ودلائل النبوة ٢ / ٢٤٧ و ٥٢٤.

(٤) الدرّ ٣ / ٢٣٤.

(٥) أحمد ٤ / ٣٣٧ و ٥ / ٣٧ ، و ٧٢ والطبراني ١٨ / ٣١٢ ، وإرواء الغليل ١ / ٤٣ ، وقال حفظه الله :

صحيح.

٩١

ثم قال : «اسمعوا مني تعيشوا (١). ألا لا تظالموا ثلاثا. ألا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (٢). ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه (٣).

ألا وإن أول دم وضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل (٤). ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع (٥). ألا وإن الله تعالى قضى أن أول ربا يوضع ربا عمي العباس (٦). (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (٧). ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض (٨) ، منها أربعة حرم. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (٩) ، ألا لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض (١٠). ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون .. ولكن في التحريش بينكم (١١).

اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإن لهن عليكم حقا. ولكم عليهن حق (١٢). ألا لا يوطئن فرشكم أحد غيركم. فإن خفتم نشوزهن (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) (١٣) ، واضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. فإنما أخذتموهن بأمانة الله تعالى. واستحللتم فروجهن بكلمة الله (١٤). ألا ومن

__________________

(١) أحمد ٥ / ٧٢ ، والدرّ ٣ / ٢٣٤ ، والبداية ٥ / ٢٠١.

(٢) أحمد ٥ / ٧٢.

(٣) أحمد ٥ / ٧٣.

(٤) الدر المنثور ٣ / ٢٣٤.

(٥) أحمد ٥ / ٧٣ ، والدرّ ٣ / ٢٣٤ ، والطبري ٣ / ٧٢.

(٦) أحمد ٥ / ٧٣ ، والدرّ ٣ / ٢٣٥.

(٧) آية (٢٧٩) سورة البقرة.

(٨) البخاري ٦ / ٨٣ و ٧ / ١٢٩ ، ومسلم في : القيامة (١٢٩) وأبو داود (١٩٤٧) ، وأحمد ٥ / ٣٧ و ٧٣.

(٩) آية (٣٦) سورة التوبة.

(١٠) البخاري ١ / ٤١ ، و ٢ / ٢١٦ و ٥ / ٢٢٣ و ٢٢٤ و ٧ / ١٣٠ و ٨ / ٤٨ و ١٩٨ و ٩ / ٣ و ٦٣ و ٦٤ و ١٦٣ ، ومسلم في : الإيمان (١١٩ و ١٢٠) ، وأبو داود (٤٦٨٦) ، والترمذي (٢١٩٣) ، والنسائي ٧ / ١٢٦ و ١٢٧ ، وابن ماجة (٣٩٤٢ و ٣٩٤٣) ، وأحمد ١ / ٢٣٠ و ٤٠٢ و ٢ / ١٠٤.

(١١) أحمد ٣ / ٣٥٤ ، والاتحاف ٧ / ٢٨٢.

(١٢) مشكل الآثار ٣ / ٢١٢.

(١٣) آية (٣٤) سورة النساء.

(١٤) مسلم في : الحج (١٤٧) ، والترمذي (١١٦٣) ، وأبو داود (١٩٠٥) ، وابن ماجة (٣٠٧٤) ، وأحمد ٥ / ٧٣ ، والدارمي ٢ / ٤٨ ، والأرواء ٧ / ٢٢٧.

٩٢

كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها» (١). ثم بسط يده فقال : «ألا هل بلغت. ألا هل بلغت. ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أبلغ من سامع» (٢).

خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : وقف على باب الكعبة ثم قال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق الله وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده (٣). ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة البيت ، وسقاية الحاج (٤). ألا وقتل الخطأ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة. منها أربعة خلفة في بطونها أولادها. يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء (٥). الناس من آدم ، وآدم خلق من تراب. ثم تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) (٦) الآية. يا معشر قريش. أو يا أهل مكة. ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم.

قال : فاذهبوا فأنتم الطلقاء».

من كان همه الآخرة جمع الله له شمله ..

خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخيف : روى زيد بن ثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب بالخيف من منى ، فقال : «نضّر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها. ثم أداها إلى من لم يسمعها. فرب حامل فقه لا فقه له. ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (٧). ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن ؛ إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأولي الأمر ، ولزوم الجماعة. إن دعوتهم تكون من ورائه (٨). ومن كان همه الآخرة ، جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه. وأتته الدنيا وهي راغمة (٩). ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له».

خطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رواها أبو سعيد الخدري ، رضي الله عنه. خطب بعد العصر فقال : «ألا إن الدنيا خضرة حلوة. إلا وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا

__________________

(١) أحمد ٥ / ٧٣ ، والدرّ المنثور ٣ / ٢٣٥.

(٢) البخاري ١ / ٢٦ و ٣٧ ، ومسلم في الحج (٤٤٦) ، والترمذي (٨٠٩) ، والنسائي في : الحج (١١٠) ، وابن ماجة (٢٣٣ و ٢٣٤) ، وأحمد ٥ / ٤٥ ، والدارمي ٢ / ٦٨.

(٣) أحمد ٣ / ٤١٠.

(٤) سبق تخريجه.

(٥) الاتحاف ٨ / ٤١٩ ، والدرّ المنثور ٦ / ٩٨.

(٦) آية (١٣) سورة الحجرات.

(٧) ابن ماجة (٢٣٠ ، ٢٣١) ، وأحمد ٤ / ٨٠.

(٨) أحمد ٣ / ٢٢٥ و ٤ / ٨٠ و ٨٢ ، والدارمي ١ / ٧٥.

(٩) الترمذي (٢٤٦٥) ، والصحيحة (٩٤٩).

٩٣

واتقوا النساء (١). ألا لا يمنعن رجلا مخافة الناس أن يقول الحق إذ علمه» (٢). قال : ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف ، فقال : «إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا».

كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملك فارس : «من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى ، وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله. وأدعوك بدعاء الله ، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم».

كتاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي : «من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة ؛ سلم أنت. فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن. وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة. فحملت بعيسى فحملته من روحه ، ونفخه كما خلق آدم من طين بيده ونفخه. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته. وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني : وإني أدعوكم وجنودك إلى الله تعالى. فقد بلغت ونصحت ، فاقبلوا نصحي ، والسلام على من اتبع الهدى» (٣).

فلا تدخلها بغير هذا.!

نسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية : «هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سهيل بن عمرو : اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض. على أنه من أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذن وليّه ردّه عليهم. ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله لم يردّوه عليه. وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال. وأنه من أحبّ أن يدخل في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقده دخل فيه. ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه. وأنك ترجع عنّا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، فإذا كان عاما قابلا ، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا. وأنّ معك سلاح الراكب ، والسيوف في الركب ، فلا تدخلها بغير هذا».

ولا أطوّل عليك. وأقتصر على ما ألقيته إليك ، فإن كان لك في الصنعة حظ ، أو كان لك في هذا المعنى حس. أو كنت تضرب في الأدب بسهم ، أو في العربية بقسط ، وإن قل ذلك السهم أو نقص ذلك النصيب ، فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن ،

__________________

(١) مسلم ص (٢٠٩٨) ، والترمذي (٢١٩١) ، وابن ماجة (٤٠٠٠) ، وأحمد ٦ / ٣٦٤.

(٢) أحمد ٣ / ٤٧ ، والبيهقي ١٠ / ٩٠ ، وابن حبان (١٨٤٢) ، وابن عساكر ٦ / ١١١.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٣١٧.

٩٤

وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبه ورسائله ، وما عساك تسمعه من كلامه ، ويتساقط إليك من ألفاظه. وأقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا ، أو أمدا مديدا ، وميدانا واسعا ، ومكانا شاسعا ، فإن قلت : لعله أن يكون تعمل للقرآن ، وتصنع لنظمه ، وشبه عليه الشيطان ذلك من خبثه ، فتثبت في نفسك ، وارجع إلى عقلك ، واجمع لبك ، وتيقن أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام ، والمحافل الكبار ، والمواسم الضخام ، ولا يتجوز فيها ولا يستهان بها. والرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه ، ويشمر لها عن جد واجتهاد ، فكيف يقع بها الإخلال ، وكيف يتعرض للتفريط ، فستعلم لا محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهي ، وأن كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمر النبوي. فإذا أردت زيادة في التبيّن ، وتقدما في التعرف ، وإشرافا على الجلية ، وفوزا بمحكم القضية ، فتأمل ـ هداك الله ـ ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء ، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحد ، وسبكها سبك غير مختلف. وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين ، وبين شعر الشاعرين. وذلك أمر له مقدار معروف ، وحدّ ينتهي إليه مضبوط.

فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمي منهاج ، ولجملته طريق ، وتبينت ما يمكن فيه التفاوت ، نظرت أخرى ، وتأملته مرة ثانية ، فتراعى بعد موقعه ، وعالي محله وموضعه ، وحكمت بواجب من اليقين ، وثلج الصدر بأصل الدين.

خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه : قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد فإني وليت أمركم ، ولست بخيركم. ولكن نزل القرآن وسن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلّمنا فعلمنا.

واعلموا أن أكيس الكيس التقى. وأن أحمق الحمق الفجور. وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه. وأن أضعفكم عندي القويّ حتى آخذ منه الحق (١).

إيها الناس ، إنما أنا متبع ، ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني. وإن زغت فقوموني».

عهد أبي بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنه : «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر ، خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آخر عهده بالدنيا ، وأول عهده بالآخرة ، ساعة يؤمن فيها الكافر ، ويتّقي فيها الفاجر (٢).

إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن برّ وعدل ، فذاك ظني به ، ورأيي فيه.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ص (٦٩).

(٢) تاريخ الخلفاء ص (٨٢).

٩٥

وإن جار وبدّل ، فلا علم لي بالغيب. والخير أردت لكم ، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)» (١).

وفي حديث عبد الرحمن بن عوف ـ رحمة الله عليه ـ قال : دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، في علته التي مات فيها ، فقلت : أراك بارئا يا خليفة رسول الله ، فقال : أما إني على ذلك لشديد الوجع ، وما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي.

إني وليت أموركم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه والله لتتخذن نضائد الديباج ، وستور الحرير. ولتألمنّ النوم على الصوف الأذربي ، كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدّم أحدكم فتضرب رقبته في غير حد ، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا.

يا هادي الطريق جرت إنما هو والله الفجر أو البحر.

قال : فقلت : خفّض عليك يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن هذا يهيضك إلى ما بك. فو الله ما زلت صالحا مصلحا ، لا تأسى على شيء فاتك من أمر الدنيا ؛ ولقد تخليت بالأمر وحدك ، فما رأيت إلا خيرا.

وله خطب ومقامات مشهورة اقتصرنا منها على ما نقلنا منها قصة السقيفة :

نسخة كتاب : كتب أبو عبيدة بن الجراح. ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ؛ سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم ، فأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة ، أحمرها وأسودها. يجلس بين يديك الصديق والعدو ، والشريف والوضيع ، ولكل حصته من العدل. فانظر كيف أنت يا عمر عند ذلك ، فإنا نحذرك يوما تعنو فيه الوجوه ، وتحب فيه القلوب ، وإنا كنا نتحدث أن هذه الأمة ترجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة وإنا نعوذ بالله أن تنزل كتابنا سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا. فإنا إنما كتبنا إليك نصيحة والسلام.

فكتب إليهما : «من عمر بن الخطاب إلى عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل. سلام عليكما ، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فقد جاءني كتابكما تزعمان أنه بلغكما أني وليت أمر هذه الأمة ، أحمرها وأسودها ، يجلس بين يدي الصديق والعدو ، والشريف والوضيع. وكتبتما أن انظر كيف أنت يا عمر عند ذلك وأنه لا حول ولا قوة لعمر

__________________

(١) آية (٢٢٧) سورة الشعراء.

٩٦

عند ذلك إلا بالله. وكتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا. وقديما كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس ، يقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، ويأتيان بكل موعود ، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة أو النار. ثم توفّى كل نفس بما كسبت. إن الله سريع الحساب.

وكتبتما تزعمان أن أمر هذه الأمة يرجع في آخر زمانها ، أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة ، ولستم بذاك. وليس هذا ذلك الزمان ، ولكن زمان ذلك حين تظهر الرغبة والرهبة ، فتكون رغبة بعض الناس إلى إصلاح دينهم ، ورهبة بعض الناس إصلاح دنياهم!! وكتبتما تعوذانني بالله أن أنزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما. وإنما كتبتما نصيحة لي ، وقد صدقتكما فتعهداني منكما بكتاب ولا غنى بي عنكما».

عهد من عهود عمر رضي الله عنه : «بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله ، عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك.

أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلى إليك ، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له.

آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك.

البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما ، أو حرم حلالا. ولا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك ، وهديت لرشدك ، أن ترجع إلى الحق ، فإن الحق قديم ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم ، الفهم ، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة.

ثم اعرف الأشباه والأمثال ، وقس الأمور عند ذلك. واعمد إلى أشبهها بالحق لمن ادعى حقا غائبا ، أو بينة أمرا ينتهي إليه. فإن أحضر بينة أخذت له بحقه ، ولا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك ، وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو نسب. فإن الله تولى منكم السرائر ، ودرأ بالإيمان والبينات. وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم ، والتنكر عند الخصومات ، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ، ويحسن به الذخر. فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس. ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه ، شانه الله ، فما ظنك بثواب الله عزوجل في عاجل رزقه ، وخزائن رحمته ، والسلام».

ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه ؛ خطبة له رضي الله عنه قال : «إن لكل شيء

٩٧

آفة ، وإن لكل نعمة عاهة. في هذا الدين عيابون ، ظنانون ، يظهرون لكم ما تحبون ، ويسرون ما تكرهون. يقولون لكم ، وتقولون ، طغام مثل النعام ، يتبعون أول ناعق أحب مواردهم إليهم النازح. لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم عليّ ، ولكنه وقمكم وقمعكم وزجركم زجر النعام المخزمة. والله إني لأقرب ناصرا ، وأعز نفرا ، وأقمن إن قلتم هلم أن تجاب دعوتي من عمر. هل تفقدون من حقوقكم شيئا ؛ فما بالى لا أفعل في الحق ما أشاء. إذا فلم كنت إماما»!

كتابه إلى علي حين حضر رضي الله عنهما : «أما بعد : فقد بلغ السيل الزبى ، وجاوز الحزام الطبين ، وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه. فإذا أتاك كتابي هذا ، فأقبل إليّ ؛ عليّ كنت أم لي.

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلا فأدركني ولما أمزّق»

ومن كلام علي رضي الله عنه ؛ قال : لما قبض أبو بكر رضي الله عنه ، ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «وجاء علي باكيا مسترجعا وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة النبوة. حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر فقال : رحمك الله أبا بكر كنت إلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنسه ، وثقته ، وموضع سره ، كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشهدهم يقينا وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله ، وأحوطهم على رسوله. وآمنهم على الإسلام ، وآمنهم على أصحابه ، أحسنهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ، وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة ، وأقربهم وسيلة ، وأقربهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سننا وهديا ورحمة وفضلا. وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه وأوثقهم عنده. جزاك الله عن الإسلام وعن رسول خيرا.

كنت عنده بمنزلة السمع والبصر. صدقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين كذبه الناس ، فسمّاك الله في تنزيله صديقا. فقال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) (١) واسيته حين بخلوا ، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا ، وصحبته في الشدة أكرم الصّحبة ، ثاني اثنين ، وصاحبه في الغار ، والمنزل عليه السّكينة والوقار. ورفيقه في الهجرة ، وخليفته في دين الله وفي أمته أحسن الخلافة حين ارتدّ الناس فنهضت حين وهن أصحابك ، وبرزت حين استكانوا ، وقويت حين ضعفوا وقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا. ومضيت بنوره إذ وقفوا ، واتبعوك فهدوا وكنت أصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأبلغهم قولا ، وأكثرهم رأيا وأشجعهم نفسا ، وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا.

كنت للدين يعسوبا أولا ، حين نفر عنه الناس ، وآخرا حين أقبلوا ، وكنت للمؤمنين أبا

__________________

(١) آية (٣٢) سورة الزمر.

٩٨

رحيما إذ صاروا عليك عيالا ، فحملت أثقال ما ضعفوا ، ورعيت ما أهملوا. وحفظت ما أضاعوا ، شمرت إذ خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا. وأدركت أوتار ما طلبوا ، وراجعوا رشدهم برأيك ، فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا ، وكنت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمنّ الناس عليه في صحبتك ، وذات يدك. وكنت كما قال : ضعيفا في بدنك ، قويا في أمر الله ، متواضعا في نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا في أعين الناس ، كبيرا في أنفسهم. لم يكن لأحد فيك مغمز ، ولا لأحد مطمع ، ولا لمخلوق عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز ، حتى تأخذ له بحقه. والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق.

القريب والبعيد عندك سواء. أقرب الناس إليك أطوعهم لله شأنك الحق والصدق والرفق. قولك حكم. وأمرك حزم ، ورأيك علم وعزم. فأبلغت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، وأطفأت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوي الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون.

واتعبت من بعدك إتعابا شديدا. وفزت بالجد فوزا مبينا. فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك في السماء ، وهدت مصيبتك الأنام. فإنا لله وإنا إليه راجعون. رضينا عن الله قضاءه. وسلمنا له أمره. فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثلك أبدا. فالحقك الله بنبيه ، ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك».

وسكت الناس حتى انقضى كلامه ، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.

خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه : «أما بعد : فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم وغدا السباق. ألا وإنكم في أيام مهل ، ومن ورائه أجل.

فمن أخلص في أيام أمله فقد فاز. ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله ، وضره أمله.

ألا فاعملوا لله في الرغبة ، كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة ، نام طالبها ، ولا كالنار ، نام هاربها. ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل. ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال. ألا وإنكم قد أمرتم بالظّعن ، ودللتم على الزاد. ألا وإنّ أخوف ما أخاف عليكم الهوى وطول الأمل».

وخطب فقال بعد حمد الله : «أيها الناس ؛ اتقوا الله ، فما خلق امرؤ عبثا ، فيلهو. ولا أهمل سدى ، فيلغو. ما دنياه التي خسّست إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر

٩٩

إليه. وما الخسيس الذي ظفر به من الدنيا بأعلى همته ، كالآخر الذي ظفر به من الآخرة من سهمته».

وكتب علي رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس رحمه‌الله وهو بالبصرة : «أما بعد : فإن المرء يسرّ بدرك ما لم يكن ليحرمه. ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه. فليكن سرورك بما قدمت : من أجر أو منطق. وليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك.

وانظر ما فاتك من الدنيا ، فلا تكثر عليه جزعا ، وما نلته ، فلا تنعم به فرحا. وليكن همّك لما بعد الموت».

كلام لابن عباس رضي الله عنهما : قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس : ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك مكان أبي موسى ، يوم الحكمين؟

قال : «منعه والله من ذلك حاجز القدر ، وقصر المدّة ، ومحنة الابتلاء.

أما والله لو بعثني مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه ، ناقضا لما أبرم ، ومبرما لما نقض. أسف إذا طار ، وأطير إذا أسفّ. ولكن مضى قدر ، وبقي أسف. ومع يومنا غد. والآخرة خير لأمير المؤمن من الأولى».

خطبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «أصدق الحديث كتاب الله. وأوثق العرا كلمة التقوى. خير الملل ملّة إبراهيم. وأحسن السنن سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

خير الأمور أوساطها. وشر الأمور محدثاتها. ما قل وكفى ، خير مما كثر وألهى. خير الغنى غنى النفس. وخير ما ألقى في القلب اليقين.

الخمر جماع الإثم. النساء حبالة الشيطان. الشباب شعبة من الجنون. حب الكفاية مفتاح العجزة.

من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا. ولا يذكر الله إلا هجرا ، أعظم الخطايا اللسان الكذوب. سباب المؤمن فسق. وقتاله كفر. وأكل لحمه معصية. من يتألّ على الله يكذبه من يغفر يغفر له.

مكتوب في ديوان المحسنين : من عفا عفي عنه. الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره. الأمور بعواقبها. ملاك العمل خواتيمه. أشرف الموت الشهادة. من يعرف البلاء يصبر عليه. ومن لا يعرف البلاء ينكره».

خطبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : قال الراوي لما حضرته الوفاة قال لمولى له : من بالباب؟

فقال : نفر من قريش يتباشرون بموتك. فقال : ويحك ، ولم؟ ثم أذن للناس فحمد

١٠٠