إعجاز القرآن

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني


المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0344-X
الصفحات: ١٩١

أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (١) فحق ذلك كله وصدق ولم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد.

وكقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (٢) وكقوله : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٣) فامتنعوا من المباهلة ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية نارا ، على ما ذكر في الخبر.

وكقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (٤) ولو تمنوه لوقع بهم هذا وما أشبهه.

وأما الوجه الثاني : الذي ذكرناه من إخباره عن قصص الأولين ، وسير المتقدمين ، فمن العجيب الممتنع على من لم يقف على الأخبار ، ولم يشتغل بدرس الآثار ، وقد حكى في القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها ، وحضرها.

ولذلك قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٥) وقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٦) وقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (٧) فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الأمور الغائبة السالفة. وقال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (٨) الآية.

فأما الكلام في الوجه الثالث : وهو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف ، فقد ذكرنا من هذا الوجه وجوها منها أنا قلنا : إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم ، ومباين لأساليب خطابهم. ومن ادعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر ، ولا السجع ، ولا الكلام الموزون غير المقفى ، لأن قوما

__________________

(١) آية (٨٣) سورة التوبة.

(٢) آية (٢٣) سورة التوبة.

(٣) آية (٦١) سورة آل عمران.

(٤) آية (٩٤ ، ٩٥) سورة البقرة.

(٥) آية (٦) سورة العنكبوت.

(٦) آية (٤٤) سورة القصص.

(٧) آية (٤٦) سورة القصص.

(٨) آية (٤٩) سورة هود.

٤١

من كفار قريش ادعوا أنه شعر ، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا ، ومن أهل الملة من يقول : إنه كلام مسجّع ، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم ، ومنهم من يدعى أنه كلام موزون ، فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.

٤٢

فصل :

في نفي الشعر من القرآن

قد علمنا أن الله تعالى نفى الشعر من القرآن ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (١) وقال في ذم الشعراء : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (٢) إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات فقال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) (٣) وهذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار ، من قولهم إنه شاعر ، وإن هذا شعر ، لا بد من أن يكون محمولا على أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة ؛ أو يكون محمولا على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر ، لدقة نظرهم في وجوه الكلام ، وطرق لهم في المنطق.

وإن كان ذلك الباب خارجا عما هو عند العرب شعر على الحقيقة ، أو يكون محمولا على أنه أطلق من بعض الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر ، وهذا أبعد الاحتمالات. فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحا ؛ وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره.

وإذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه في رأيهم وعندهم أقدر فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب. فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعرا كثيرا ، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام ، أو أبيات تامة ، ومنه ما يزعمون أنه مصراع كقول القائل :

«قد قلت لما حاولوا سلوتي

هيهات هيهات لما توعدون»

ومما يزعمون أنه بيت قوله سبحانه :

(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٤). قالوا هو من الرمل من البحر الذي قيل فيه :

«ساكن الريح نطوف ال

مزن منحلّ العزالى»

__________________

(١) آية (٦٩) سورة يس.

(٢) آية (٢٢٤ ـ ٢٢٥) سورة الشعراء.

(٣) آية (٤١) سورة الحاقة.

(٤) آية (١٣) سورة سبأ.

٤٣

وكقوله : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (١) كقوله الشاعر من بحر الخفيف :

«كل يوم بشمسه

وغد مثل أمسه»

وكقوله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٢). وكقوله : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (٣) ويشبعون حركة الميم فيزعمون أنه من الرجز ، وذكر عن أبي نواس (٤) أنه ضمن ذلك شعرا وهو قوله :

وفتية في مجلس وجوههم

ريحانهم قد عدموا التثقيلا

«دانية عليهم ظلالها

وذللت قطوفها تذليلا»

وقوله عزوجل : (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٥). زعموا أنه من الوافر كقوله الشاعر :

لنا غتم نسوّقها غزار

كأنّ قرون جلّتها عصيّ

وكقوله عزوجل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (٦) ضمنه أبو نواس في شعره ففصل وقال : فذاك الذي. وشعره :

وقرا معلنا ليصدع قلبي

والهوى يصدع الفؤاد السقيما

أرأيت الذي يكذب بالدي

ن فذاك الذي يدعّ اليتيما

وهذا من الخفيف كقول الشاعر :

وفؤادي كعهده بسليمى

يهوى لم يحل ولم يتغيّر

وكما ضمنه في شعره من قوله :

«سبحان من سخر هذا لنا

«حقا» وما كنا له مقرنين»

فزاد فيه حتى انتظم له الشعر ، وكما يقولونه في قوله عزوجل : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً* فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) (٧) ونحو ذلك في القرآن كثير كقوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ

__________________

(١) آية (١٨) سورة فاطر.

(٢) آية (٢ ، ٣) سورة الطلاق.

(٣) آية (١٤) سورة الإنسان.

(٤) أبو نواس هو : الحسن بن هانئ ، ولد في «الأهواز» سنة (١٤٥) في خلافة أبي جعفر المنصور ، وقبل أن يتجاوز السنة الثانية من عمره انتقل والداه إلى البصرة فنشأ فيها. مات سنة (١٩٨). له ترجمة في :

الأغاني ٢ / ١٨ ، ووفيات الأعيان ١ / ١٣٥ ، والفهرست (١٦٠).

(٥) آية (١٤) سورة التوبة.

(٦) آية (١٤ ، ١٥) سورة الماعون.

(٧) آية (١ ، ٢) سورة العاديات.

٤٤

وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً) (١) وهو عندهم شعر من بحر البسيط.

والجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها من وجوه أولها أنّ الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن ، لو كانوا يعتقدونه شعرا ، ولم يروه خارجا عن أساليب كلامهم ، لبادروا إلى معارضته ، لأن الشعر مسخر لهم ، سهل عليهم ، فيه ما قد علمت من التصرف العجيب والاقتدار اللطيف.

فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ولا عولوا عليه ، علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة ، والمرملون في هذا الشأن. وإن استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش ، وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان ، وبلغائهم وخطبائهم وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن ذهب أولئك النفر عنه ، وخفي عليهم شدة حاجاتهم إلى الطعن في القرآن والغض عنه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه. فلن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن وهو بالجهل حقيق.

وإذا كان كذلك علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال شديد ، وهو أنهم قالوا : إن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا ، وأقل الشعر بيتان فصاعدا. وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام. وقالوا أيضا : إن ما كان وزن بيتين ، إلا أنه يختلف رويهما وقافيتهما ، فليس بشعر. ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لا سيما إذا كان مشطورا ، أو منهوكا. وكذلك ما كان يقارنه في قلة الأجزاء. وعلى هذا يسقط السؤال.

ثم يقولون : إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذي يتعمد ويسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء ، دون ما يستوي فيه العاميّ والجاهل ، والعالم بالشعر واللسان وتصرفه. وما يتفق من كل واحد ، فليس يكتسب اسم الشعر ، ولا صاحبه اسم شاعر ، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر ، أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض ، كان الناس كلهم شعراء. لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر ، وينتظم انتظامه ، ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه : أغلق الباب وائتني بالطعام ، ويقول الرجل لأصحابه : أكرموا من لقيتم من تميم. ومتى تتبع الإنسان هذا ، عرف أنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله ، وأكثر منه.

وهذا القدر الذي يصح فيه التوارد ليس يعده أهل الصناعة سرقة ، إذ لم تعلم فيه حقيقة

__________________

(١) آية (١ : ٣) سورة الذاريات.

٤٥

الأخذ ، كقول امرئ القيس (١) :

وقوفا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد (٢)

ومثل هذا كثير. فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت ، ولم يمتنع التوارد فيه ، فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام المنثور اتفاقا غير مقصود إليه. فإذا اتفق ، لم يكن شعرا. وكذلك يمتنع التوارد على بيتين ، وكذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما ، فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعرا ، وإنما يعد شعرا ما إذا قصده صاحبه ، تأتي له ولم يمتنع عليه.

فإذا كان هو مع قصده ، لا يتأتى له ، وإنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه ، لم يصح أن يقال إنه شعر ، ولا أن صاحبه شاعر ، ولا يصح أن يقال : إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر ، فيجب أن يكون شعرا ؛ لأنه لو قصده لكان يتأتى منه.

وإنما لم يصح ذلك ؛ لأن ما ليس بشعر ، فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد. وما كان شعرا من أحد من الناس ، كان شعرا من كل أحد.

ألا ترى أن السوقيّ قد يقول أسقني الماء يا غلام سريعا؟ قد يتفق ذلك مع الساهي ، ومن لا يقصد النظم. فأما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينّا ، فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه. أما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيرا. فإذا كان بيتا واحدا فليس ذلك بشعر.

وقد قيل إنّ أقل ما يكون منه شعرا أربعة أبيات ، بعد أن تتفق قوافيها. ولم يتفق ذلك في القرآن بحال. فأما دون أربعة أبيات منه ، أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات ، فليس بشعر.

وما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروى. ويقولون إنه متى اختلف الروى خرج من أن يكون شعرا. وهذه الطرق التي سلكوها في الجواب معتمدة ، أو أكثرها. ولو كان ذلك شعرا ، لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد ، وأهله يتقاربون فيه ، أو يضربون فيه بسهم.

فإن قيل : في القرآن كلام موزون كوزن الشعر ، وإن كان غير مقفى ، بل هو مزاوج ، متساوي الضروب ، وذلك آخر أقسام كلام العرب. قيل : من سبيل الموزون من كلام ، أن يتساوى أجزاءه في الطول والقصر والسواكن والحركات. فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) بيت من معلقته الشهيرة.

٤٦

كقوله :

«رب أخ كنت به مغتبطا

أشدّ كفّي بعرى صحبته

تمسكا مني بالود ولا

أحسبه يزهد في ذي أمل

تمسكا مني بالود ولا

أحسبه بغير العهد ولا

يحول عنه أبدا

فخاب فيه أملي»

وقد علمنا أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل ، بل هذا قبيل غير ممدوح ، ولا مقصود من جملة الفصيح. وربما كان عندهم مستنكرا ، بل أكثره على ذلك. وكذلك ليس في القرآن من الموزون الذي وصفناه أولا ، وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء ، غير الاختلاف الواقع في التقفية ، ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بيّنا ، وتتم فائدته بالخروج منه. وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.

٤٧

فصل :

في نفي السجع من القرآن

ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن. وذكره أبو الحسن (١) الأشعري في غير موضع من كتبه. وذهب كثير ممن يخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن ، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام. وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان ، والفصاحة كالتجنيس ، والالتفات وما أشبه ذلك من الوجوه التي تعرف بها الفصاحة.

وأقوى ما يستدلون به عليه اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هارون عليهما‌السلام ، ولمكان السجع قيل في موضع (هارُونَ وَمُوسى) (٢) ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قبل (مُوسى وَهارُونَ) (٣) قالوا : هذا لا يفارق أمر الشعر ؛ لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصودا إليه.

وإذا وقع غير مقصود إليه ، كان دون القدر الذي يسمى شعرا. وذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم ، كما يتفق وجوده من الشاعر. وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير ، لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه. ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع.

قال أهل اللغة «هو موالاة الكلام على وزن واحد». قال ابن دريد (٤) : «سجعت الحمامة معناها رددت صوتها». وأنشد :

طربت فأبكتك الحمام السواجع

تميل بها ضحوا غصون نوائع

النوائع الموائل ، من قولهم جائع نائع أي متمايل ضعفا. وهذا الذي يزعمونه غير

__________________

(١) أبو الحسن الأشعري هو : علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري ، من ولد أبي موسى الأشعري ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مات سنة (٣٢٤). له ترجمة في : تاريخ بغداد ١١ / ٣٤٦ ، ووفيات الأعيان ٣ / ٢٨٤ ، وشذرات الذهب ٢ / ٣٠٣.

(٢) آية (٧٠) سورة طه.

(٣) آية (١٢٢) سورة الأعراف.

(٤) ابن دريد هو : أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدي ، ولد بالبصرة ، ونشأ وتعلم فيها ، وقد نبغ في اللغة ، وكان من أكابرها ، مقدما فيها. مات سنة (٣٢١). له ترجمة في : تاريخ بغداد ٢ / ١٩٥ ، وشذرات الذهب ٢ / ٢٨٩ ، ووفيات الأعيان ١ / ٤٩٧.

٤٨

صحيح. ولو كان القرآن سجعا ، لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلا فيها ، لم يقع بذلك إعجازا. ولو جاز أن يقال هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا شعر معجز.

وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر ، لأن الكهانة تنافي النبوات ، وليس كذلك الشعر.

وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للذين جاءوا وكلموه في شأن الجنين : كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح. فاستهل : أليس دمه قد يطل؟ فقال : «أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ وفي بعضها أسجعا كسجع الكهان» (١)؟ فرأى ذلك مذموما لم يصح أن يكون في دلالته ، والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم ، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع ، وإن لم يكن سجعا ، لأن ما يكون به الكلام سجعا يختص ببعض الوجوه دون بعض ، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن. لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى. وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه ، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ.

ومتى ارتبط المعنى بالسجع ، كانت إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع ، كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى.

فإن قيل : فقد يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعا ، فيجب أن تمسّوا أحدهما سجعا. قيل : الكلام في تفصيل هذا خارج عن عرض كتابنا ، وإلا كنا نأتي على فصل فصل من أول القرآن إلى آخره ، ونبين في الموضع الذي يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما لا يخفى. ولكنه خارج عن غرض كتابنا ، وهذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين. ثم إن سلم لهم مسلم موضعا أو مواضع معدودة ، وزعم أن وقوع ذلك موقع الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها ، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام. وزعم أن الوجه في ذلك أنه من باب الفواصل. أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه ، وأن ذلك إذا اعترض في الخطاب لم يعد سجعا ، على ما قد بينا من القليل من الشعر كالبيت الواحد ، والمصراع ، والبيتين من الرجز. ونحو ذلك يعرض فيه فلا يقال إنه شعر ؛ لأنه لا يقع مقصودا إليه ، وإنما يقع مغمورا في الخطاب.

فكذلك حال السجع ، الذي يزعمونه ويقدرونه. ويقال لهم : لو كان الذي في القرآن

__________________

(١) النسائي ٨ / ٥٢ ، والطبراني ١٧ / ١٤٢ ، والمجمع ٦ / ٣٠٠ ، وعزاه إلى الأخير من طريق محمد بن سليمان بن مسمول ، وهو ضعيف.

٤٩

على ما تقدرونه سجعا ، لكان مذموما مرذولا ؛ لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه ، واختلفت طرقه ، كان قبيحا من الكلام.

وللسجع منهج مرتب ، محفوظ ، وطريق مضبوط ، متى أخل به المتكلم أوقع الخلل في كلامه ، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة. كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود ، كان مخطئا ، وكان شعره مرذولا ، وربما أخرجه عن كونه شعرا. وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعا ، متقارب الفواصل ، متداني المقاطع ، وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه. وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير. وهذا في السجع غير مرضي ، ولا محمود. فإن قيل : متى خرج السجع المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه ، خرج من أن يكون سجعا. وليس على المتكلم أن يلتزم بأن يكون كلامه كله سجعا. بل يأتي به طورا ، ثم يعدل عنه إلى غيره ، ثم قد يرجع إليه.

قيل : متى وقع أحد مصراعي البيت مخالفا للآخر ، كان تخليطا وخبطا. وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجع وتفاوت كان خبطا.

وعلم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الأصل ، فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب. ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه ، لما تحيروا فيه ، وكانت الطباع تدعو إلى المعارضة ؛ لأن السجع غير ممتنع عليهم ، بل هو عادتهم. فكيف تنقص العادة بما هو نفس العادة. وهو غير خارج عنها ، ولا مميز منها. وقد يتفق في الشعر كلام على منهاج السجع وليس بسجع عندهم. وذلك نحو قول البحتري (١) :

تشكّى الوجى والليل ملتبس الدّجى

عزيزية الأنساب مرت نقيعها

وقوله :

قريب المدى حتى يكون إلى النّدى

عدو البنا حتى يكون معالي

ورأيت بعضهم يرتكب هذا ، فيزعم أنه سجع مداخل ، ونظيره من القرآن قوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) (٢) وقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) (٣) وقوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي

__________________

(١) البحتري هو : أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي ، ولد بمنبج من أعمال الشام ، وتخرج بها ، وانتقل إلى العراق في خدمة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان ، وله الحرمة التامة حتى قتلا ، فرجع إلى منبج.

مات سنة (٢٨٤). له ترجمة في : شذرات الذهب ٢ / ١٨٦ ، ووفيات الأعيان ٢ / ١٧٥ ، والفهرست (١٦٥).

(٢) آية (٢٧) سورة النحل.

(٣) آية (١٦) سورة الإسراء.

٥٠

سَبِيلِهِ) (١) وقوله : (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢) وقوله : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (٣) ولو كان ذلك عندهم سجعا لم يتحيروا فيه ذلك التحير ، حتى سماه بعضهم سحرا ، وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به ، ويصرفونه إليه ، ويتوهمونه فيه. وهم في الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه ، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم ، المألوفة لديهم ، والذي تكلمنا به في هذا الفصل كلام على جملة دون التفصيل. ونحن نذكر بعد هذا في التفصيل ، ما يكشف عن مباينة ذلك وجوه السجع. ومن جنس السجع المعتاد عندهم قول أبي طالب ، لسيف بن ذي يزن (٤) : «انبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه ، ونبت زرعه ، في أكرم موطن وأطيب معدن» وما يجري هذا المجرى من الكلام.

والقرآن مخالف لنحو هذه الطريقة ، مخالفته للشعر ، وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم. ولا معنى لقولهم إن ذلك مشتق من ترديد الحمامة صوتها على نسق واحد ، وروىّ غير مختلف. لأن ما جرى هذا المجرى لا يبنى على الاشتقاق وحده ، ولو بني عليه لكان الشعر سجعا ، لأن رويّه يتفق ولا يختلف ، وتتردد القوافي على طريقة واحدة. وأما الأمور التي يستريح إليها الكلام ، فإنها تختلف. فربما كان ذلك يسمى قافية ، وذلك إنما يكون في الشعر. وربما كان ما ينفصل عنده الكلامان يسمى مقاطع السجع. وربما سمي ذلك فواصل. وفواصل القرآن مما هو مختص بها ، لا شركة بينه وبين سائر الكلام فيها ، ولا تناسب.

وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون عليهما‌السلام في موضع ، وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع ، ولتساوي مقاطع الكلام ، فليس بصحيح. لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه. وهي أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحدا من الأمر الصعب الذي تظهر فيه الفصاحة ، وتتبين فيه البلاغة. وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة على ترتيبات متفاوتة ، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا. ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة فعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي معناها ، وتحويها ، وجعلوها بإزاء ما جاء به ، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به.

__________________

(١) آية (٢٤) سورة التوبة.

(٢) آية (٤٨ ، ٤٩) سورة آل عمران.

(٣) آية (٤) سورة مريم.

(٤) ابن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع ابن العرنجج ، وهو : حمير بن سبأ.

٥١

كيف وقد قال لهم : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (١) فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات ، وتأخيرها إظهارا للإعجاز على الطريقين جميعا ، دون التسجيع الذي توهموه. فإن قال قائل : القرآن مختلط من أول أوزان كلام العرب ، ففيه من جنس خطبهم ورسائلهم وسجعهم وموزون كلامهم الذي هو غير مقفى. ولكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع لبراعته وفصاحته ، قيل : قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ، ونثر ، وكلام مقفى غير موزون ، ونظم موزون ، ليس بمقفى ، كالخطب والسجع ، ونظم مقفى موزون له روىّ ، ومن هذه الأقسام ما هو سجية الأغلب من الناس ، فتناوله أقرب ، وسلوكه لا يتعذر ، ومنه ما هو أصعب تناولا ، كالموزون عند بعضهم ، أو الشعر عند الآخرين ، وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن يقع لهم بأحد أمرين : إما بتعمل ، أو بتكلف وتعلم وتصنع ، أو باتفاق من الطبع وقذف من النفس على اللسان للحاجة إليه.

ولو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع ، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم ويتعرض على ألسنتهم ، وتجيش به خواطرهم. ولا ينصرف عند الكل مع شدة الدواعي إليه. ولو كان طريقه التعلم لتصنعوه ولتعلموه فالمهلة لهم فسيحة ، والأمد واسع.

وقد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل : إنه اتفاق في الأصل غير مقصود إليه على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام ، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه تألفه الأسماع وتقبله النفوس ، تتبعوه من بعد وتعلموه.

وحكى لي بعضهم عن أبي عمر (٢) وغلام ثعلب ، عن ثعلب (٣) : أن العرب تعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن : «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» ويسمون ذلك الوضع الميتر ، واشتقاقه من المتر ، وهو الجذب أو القطع ، يقال مترت الحبل ، بمعنى قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره فيحتمل ما قاله ، وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا.

وقد يحتمل على قول من قال : بأن اللغة اصطلاح ، أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم. وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر ، وأنهم وقفوا على ما ينصرف إليه

__________________

(١) آية (٣٤) سورة الطور.

(٢) اختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا أصحها زبان.

(٣) ثعلب هو : أبو العباس ثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة. ومن مصنفاته : معاني القرآن ، ومعاني الشعر ، والقراءات ، وغريب القرآن. مات سنة (٢٩١). له ترجمة في : بغية الوعاة ١ / ٣٩٦ ، ووفيات الأعيان ١ / ٣٠ ، ومعجم الأدباء ٢ / ١٣٣ ، والفهرست (٧٤).

٥٢

القول من وجوه التفاصح ، أو توافقوا هم بينهم على ذلك ، ويمكن أن يقال : إن التواضع وقع على أصل الباب ، وكذلك التوقيف ، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب ، وإن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى ، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد وبنوا عليه وطلبوه ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها ، وتهش النفوس إليها ، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها ، واختيار طرق من تنزيلها.

وعرفهم محاسن الكلام ودلهم على كل طريقة عجيبة ، ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان بالقرآن ، والقدر الذي يتناهى إليه قدرهم ، هو ما لم يخرج عن لغتهم ، ولم يشذ من جميع كلامهم. بل قد عرض في خطابهم ووجدوا أن هذا إنما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد ، والحاجة الماسة إليه مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر.

وتكامل أحوالهم فيه دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة ومعجزة على الرسالة ، ولو لا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته وحسن انتظامه ، فلأن يقدروا بعد التنبيه على وجهه ، والتحدي إليه أولى أن يبادروا إليه لو كان لهم إليه سبيل ، فلو كان الأمر على ما ذكره السائل ، لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم ، ولا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم ، ولكانوا يسرعون إلى الجواب ، ويبادرون إلى المعارضة.

ومعلوم من حالهم أن الواحد منهم يقصد إلى الأمور البعيدة عن الوهم والأسباب التي لا يحتاج إليها ، فيكثر فيها من شعر ورجز ، ونجد من يعينه على نقله عنه على ما قدمنا ذكره من وصف الإبل ونتاجها. وكثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا. ثم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والذرابة ، ويتنافرون فيه. وتجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار على ما لا يخفى على أهله.

فاستدللنا بتحيّرهم في أمر القرآن على خروجه عن عادة كلامهم ، ووقوعه موقعا يخرق العادات ، وهذه سبيل المعجزات ، فبان بما قلنا إن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الإسجاع ، لا يخرجها عن حدها ولا يدخلها في باب السجع.

وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء ، فكان بعض مصاريعه كلمتين ، وبعضها تبلغ كلمات ، ولا يرون في ذلك فصاحة ؛ بل يرونه عجزا. فلو رأوا أن ما تلي عليهم من القرآن سجعا ، لقالوا : نحن نعارضه بسجع معتدل ، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن ، ونتجاوز حده في البراعة والحسن ، ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع

٥٣

تارة إلى غيره ثم رجع إليه ؛ لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع لأنه لو كان من باب السجع ، لكان أرفع نهاياته وأبعد غاياته ، ولا بد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه النظام ، وعباد بن سلمان ، وهشام القرظي ، ويذهب مذهبهم في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز ، وأنه يمكن معارضته ، وإنما صرفوا عنه ضربا من الصرف ، ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم ، وأنه منتظم من فرق شتى ، ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها ، ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه ، وكيف يعجزهم الخروج عن السجع والرجوع إليه. وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم ، أنهم كانوا لا يلزمون أبدا طريقة السجع والوزن ، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة ، فإذا ادّعوا على القرآن مثل ذلك ، لم يجدوا فاصلة بين نظمي الكلامين.

٥٤

فصل :

في ذكر البديع من الكلام

إن سأل سائل فقال : «هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما يتضمنه من البديع؟».

وقيل : ذكر أهل الصنعة ومن صنّف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظا نحن نذكرها ، ثم نبين ما سألوا عنه ، ليكون الكلام واردا على أمر مبيّن مقرر ، وباب مصور.

ذكروا أن من البديع في القرآن قوله عز ذكره : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (١) وقوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢) وقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٣) وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٤) وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥) وقوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) (٦).

وقد يكون البديع من الكلمات الجامعة الحكيمة كقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٧) وفي الألفاظ الفصيحة كقوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (٨) وفي الألفاظ الإلهية كقوله : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) (٩) وقوله : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (١٠) وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١١).

ويذكرون من البديع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خير الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل

__________________

(١) آية (٢٤) سورة الإسراء.

(٢) آية (٤) سورة الزخرف.

(٣) آية (٤) سورة مريم.

(٤) آية (٣٧) سورة يس.

(٥) آية (٥٥) سورة الحج.

(٦) آية (٣٥) سورة النور.

(٧) آية (١٧٩) سورة البقرة.

(٨) آية (٨٠) سورة يوسف.

(٩) آية (٩١) سورة النمل.

(١٠) آية (٥٣) سورة النحل.

(١١) آية (١٦) سورة غافر.

٥٥

الله ، كلما سمع هيعة (١) طار إليها) (٢). وقوله : (ربنا تقبل توبتي واغسل حوبتي) (٣) وقوله : (غلب عليكم داء الأمم قبلكم ؛ الحسد والبغضاء ، وهي الحالقة ، حالقة الدين لا حالقة الشّعر) (٤). وكقوله : (الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة) (٥).

وكقوله : (وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم) (٦).

وكقوله : (إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ) (٧).

وكقول أبي بكر الصديق (٨) رضي الله عنه في كلام له قد نقلناه بعد هذا على وجهه ، وقوله لخالد بن الوليد (٩) : «احرص على الموت توهب لك الحياة».

وقوله : (فر من الشرف يتبعك الشرف) وكقول علي بن أبي طالب (١٠) رضي الله عنه وكرم الله وجهه في كتابه إلى ابن عباس (١١) وهو عامله على البصرة : «أرغب راغبهم ،

__________________

(١) قوله : «هيعة». قال ابن الأثير في «النهاية» ٥ / ٢٨٨ : «الهيعة : الصوت الذي تفزع منه وتخافه من عدو ، وقد هاع يهيع هيوعا : إذا جبن».

(٢) أورده ابن الأثير في «النهاية» ٥ / ٢٨٨.

(٣) أبو داود في : الوتر (٢٥) ، والترمذي في : الدعوات (١٠٣) وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة في : الدعاء (٢) وأحمد ١ / ٢٢٧.

(٤) الترمذي ٢ / ٨٣ ، وأحمد ١ / ١٦٥ و ١٦٧ ، والبيهقي ١٠ / ٢٣٢ ، وشرح السنة ١٢ / ٢٥٩ ، والإرواء ٣ / ٢٣٨ وعزاه إلى «البزار» بسند جيد.

(٥) البخاري في : الرقاق (٣٥) ، ومسلم في : فضائل الصحابة (٢٣٢) ، والترمذي في : الأدب (٨٢) ، وابن ماجة في : الفتن (١٦) ، وأحمد ٢ / ٧ و ٥٥ و ٧٠ و ٨٨ و ١٠٩ و ١٢١ ـ ١٢٣ و ١٣٩.

(٦) الترمذي في : الإيمان (٨) ، وابن ماجة في : الفتن (١٢) ، وأحمد ٥ / ٢٣١ و ٢٣٦ و ٢٣٧.

(٧) البخاري في : الجهاد (٣٧) والرقاق (٧) ، ومسلم في : الزكاة (١٢١) ، وابن ماجة في : الفتن (١٨) ، وأحمد ٣ / ٧ و ٢١ و ٩١.

(٨) سبقت ترجمته.

(٩) خالد بن الوليد بن المغيرة أبو سليمان القرشي المخزومي. أسلم قبل غزوة مؤتة بشهرين ، وكان له الأثر العظيم في قتال أهل الرّدة ، وفتوح الشام والعراق. مات سنة (٢١) بحمص. له ترجمة في : الرياض المستطابة ص (٦٢ ـ ٦٤).

(١٠) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي المكي ثم المدني الكوفي. ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقرب العشرة نسبا إليه. كان أول من أسلم من الصبيان ، وأول من هاجر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر ، وأول من صلى من المسلمين. مات سنة (٤٠). له ترجمة في : أسد الغابة ٤ / ٩١.

والإصابة ٢ / ١٠٥ ، وتاريخ بغداد ١ / ١٣٣.

(١١) ابن عباس هو : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المكي ، وهو حبر الأمة ، وترجمان القرآن. توفي بالطائف سنة (٧٠). له ترجمة في : أسد الغابة ٣ / ٢٩٠ ، والإصابة ١ / ٣٢٢ ، ـ

٥٦

واحلل عقدة الخوف عنهم» وقوله حين سئل عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما قال ذلك والدين في قلّ ، فأما وقد اتسع نطاق الإسلام فكل امرئ وما اختار».

وسأل علي رضي الله عنه بعض كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم ، فقال : «لأردشير فضيلة السبق ، غير أن أحمدهم أنو شروان» قال : «فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟» قال : «الحلم والإناءة».

فقال علي رضي الله عنه : «هما توأمان ينتجهما علوّ الهمة». وقال : «قيل كل امرئ ما يحسن» وقال : «العلم قفل ومفتاحه المسألة».

وكتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس : «أما بعد ، فالحمد لله الذي فض خدمتكم ، وفرق كلمتكم». والخدمة الحلقة المستديرة ؛ ولذلك قيل للخلاخيل خدام.

وقال الحجاج «دلوني على رجل سمين الأمانة» ولما عقدت الرئاسة لعبد الله بن وهب الراسبي على الخوارج أرادوه على الكلام فقال : «لا خير في الرأي الفطير» وقال : «دعوا الرأي يغب». وقال أعرابي في شكر نعمة : «ذاك عنوان نعمة الله عزوجل». ووصف أعرابي قوما فقال : «إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام ، وإذا تصافحوا بالسيوف قعد الحمام» وسئل أعرابي عن رجل فقال : «صفرت عياب الود بيني وبينه بعد امتلائها واكفهرت وجوه كانت بمائها». وقال آخر : «من ركب ظهر الباطل نزل دار الندامة».

وقيل لرؤبة : «كيف خلفت ما وراءك»؟ فقال : «التراب يابس ، والمال عابس».

ومن البديع في الشعر طرق كثيرة قد نقلنا منها جملة لنستدل بها على ما بعدها ، فمن ذلك قول امرئ القيس (١) :

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

قوله : «قيد الأوابد» عندهم من البديع ، ومن الاستعارة. ويرونه من الألفاظ الشريفة. وعنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد ، صار قيدا لها ، وكانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره. واقتدى به الناس واتبعه الشعراء ، فقيل : قيد النواظر ، وقيد الألحاظ ، وقيد الكلام ، وقيد الحديث ، وقيد الرهان. وقال الأسود بن يعفر :

بمقلص عنز جهير شدة

قيد الأوابد والرهان جواد

__________________

ـ وشذرات الذهب ١ / ٧٥.

(١) سبقت ترجمته.

٥٧

وقال أبو تمام (١) :

لها منظر قيد الأوابد لم يزل

يروح ويغدو في خفارته الحب

وقال آخر :

ألحاظه قيد عيون الورى

فليس طرف يتعداه

وقال آخر : «قيد الحسن عليه الحدقا».

وذكر الأصمعي (٢) وأبو عبيدة (٣) وحماد وقبلهم أبو عمرو أنه أحسن في هذه اللفظة ، وأنه أتبع فيها فلم يلحق ، وذكروه في باب الاستعارة البليغة ، وسماها بعض أهل الصنعة باسم آخر ، وجعلوها من باب الإرداف ، وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى ، بل بلفظ هو تابع له وردف ، قالوا ومثله قوله : «نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل» وإنما أراد وترفهها بقوله : «نئوم الضحى» ومن هذا الباب قول الشاعر :

بعيدة مهوى القرط إما لنوفل

أبوها وإما عبد شمس وهاشم

وإنما أراد أن يصف طول جيدها فأتى بردفه ، ومن ذلك قول امرئ القيس (٤) : «وليل كموج البحر أرخى سدوله» ، وذلك من الاستعارة المليحة ، ويجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره من القرآن (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٥) (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (٦) ومما يعدونه من البديع التشبيه الحسن كقول امرئ القيس :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

__________________

(١) أبو تمام هو : حبيب بن أوس الطائي ، ولد في منبج في بلاد الشام ، وجاء مصر صغيرا ، وكان يسقي الماء في الجامع بالفسطاط ، ثم جالس الأدباء ، وأخذ عنهم وتعلم. مات سنة (٢٣٢). له ترجمة في : تاريخ بغداد ٨ / ٢٤٨ ، ومروج الذهب ٧ / ١٤٧ ، ووفيات الأعيان ١ / ١٢١.

(٢) الأصمعي هو : عبد الملك بن قريب من قيس ، وقد اشتهر بكنيته «الأصمعي» ، وكان أتقن القوم وأعلمهم بالشعر ، وأحضرهم حفظا. مات سنة (٢١٤). له ترجمة في : وفيات الأعيان ١ / ٢٨٨ ، والفهرست (٥٥) ، وتاريخ بغداد ١٠ / ٤١٠.

(٣) أبو عبيدة هو : معمر بن المثني التيمي ، كان أجمع سائر الرواة لعلوم العرب وأخبارهم وأنسابهم.

مات سنة (٢٠٩). له ترجمة في : وفيات الأعيان ٢ / ١٠٥ ، والفهرست (٥٣) ، وتاريخ بغداد ١٣ / ٢٥٢.

(٤) سبقت ترجمته.

(٥) آية (٤) سورة مريم.

(٦) آية (٢٤) سورة الإسراء.

٥٨

وقوله :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العناب والحشف البالي

واستبدعوا تشبيهه شيئين بشيئين على حسن تقسيم ، ويزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحدثين قول بشار (١) :

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وقد سبق امرؤ القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه ، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى دون صحة التقسيم والتفصيل. وكذلك عدّوا من البديع قول امرئ القيس في أذني الفرس :

وسامعتان يعرف العنق فيهما

كسامعتي مذعورة وسط ديرب

واتبعه طرفة (٢) فقال فيه :

وسامعتان يعرف العنق فيهما

كسامعتي شاة بحومل مفرد

ومثله قول امرئ القيس في وصف الفرس :

وعينان كالماويتين ومحجر

إلى سند مثل الصفيح المنصب

وقال طرفة في وصف عيني ناقته :

وعينان كالماويتين استكنتا

بكهفي حجابي صخرة قلت مورد

ومن البديع في التشبيه قول امرئ القيس :

له أيطلا ظبى وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

وذلك في تشبيه أربعة أشياء بأربعة أشياء أحسن فيها. ومن التشبيه الحسن في القرآن قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٣) وقوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٤) ومواضع نذكرها بعد هذا. ومن البديع في الاستعارة قول امرئ القيس :

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف إعجازا وناء بكلكل

__________________

(١) بشار هو : ابن برد الفارسي ، نشأ في البصرة ، ثم قدم بغداد بعد أن بناها المنصور ، وولد أعمى ، وكان ضخما طويلا عظيم الخلق والوجه مجدرا. وكان أطبع الشعراء على الشعر. مات سنة (١١٧) له ترجمة في : وفيات الأعيان ١ / ٨٨ ، والفهرست (١٥٩) ، وتاريخ بغداد ٧ / ١١٢.

(٢) طرفة هو : ابن العبد أبو عمرو. نبغ في الشعر منذ حداثته ، حتى صار يعد من الطبقة الأولى ، وتوفي صغير السن سنة (٥٠٠). له ترجمة في : خزانة الأدب ١ / ٤١٤.

(٣) آية (٢٤) سورة الرحمن.

(٤) آية (٤٩) سورة الصافات.

٥٩

وهذه كلها استعارات أتى بها في ذكر طول الليل ، ومن ذلك قول النابغة (١) :

وصدر أراح الليل عازب همه

تضاعف فيه الحزن من كل جانب

فاستعاره من إراحة الراعي إبله إلى مواضعها التي تأوى إليها بالليل وأخذ منه ابن الدمينة فقال :

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى

ويجمعني والهم والليل جامع

ومن ذلك قول زهير (٢) :

صحا القلب عن ليلي وأقصر باطله

وعرى أفراس الصبا ورواحله

ومن ذلك قول امرئ القيس :

سموت إليها بعد ما نام أهلها

سمو حباب الماء حالا على حال

وأخذه أبو تمام فقال : «سمو عباب الماء جاشت غواربه» ، وإنما أراد امرؤ القيس إخفاء شخصه ، ومن ذلك قوله : «كأني وأصحابي على قرن أعفرا» يريد أنهم غير مطمئنين.

ومن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد الله بن سعيد قال : أخبرني أبي ، قال أخبرنا عسل بن ذكوان ، أخبرنا أبو عثمان المازني ، قال سمعت الأصمعي يقول : أجمع أصحابنا أنه لم يقل أحسن ولا أجمع من قول النابغة :

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

قال الحسن بن عبد الله : وأخبرنا محمد بن يحيى ، أخبرنا عون بن محمد الكندري ، أخبرنا قعنب بن محرز قال : سمعت الأصمعي يقول : سمعت أبا عمرو يقول : كان زهير يمدح السوق ، ولو ضرب على أسفل قدميه مائتا دقل ، على أن يقول كقول النابغة :

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

لما قال يريد أنه سلطانه كالليل يصل إلى كل مكان ، واتبعه الفرزدق (٣) فقال :

لو حملتني الريح ثم طلبتني

لكنت كشيء أدركتني مقادره

__________________

(١) النابغة هو : زياد بن معاوية الذبياني ، أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء ، كان يفد هو وحسان بن ثابت على صاحب الحيرة فيمدحانه ، لكن النابغة كان مقدما على الجميع. مات سنة (٦٠٤ م). له ترجمة في : تاريخ ابن عساكر ٥ / ٤٢٤ ، والأغاني ٩ / ١٦٢.

(٢) زهير بن أبي سلمى ، أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء. مات سنة (٦١٥ م). له ترجمة في الأغاني ٩ / ٤٨ و ١٤٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٥ ، والشعر والشعراء (٥٧).

(٣) الفرزدق هو : همام بن غالب بن صعصعة. ولد بالبصرة ، وأقام في باديتها مع أبيه ، وظهرت فيه ملكة الشعر وهو غلام ، ولم يكن من مداح بني أمية لأنه كان يتشيع لعلي. مات سنة (١١٠). له ترجمة في : خزانة الأدب ١ / ١٠٥ ، ووفيات الأعيان ٢ / ١٩٦.

٦٠