إعجاز القرآن

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني


المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0344-X
الصفحات: ١٩١

تُسْئَلُونَ) (١) وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) وقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٣) إلى. غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن ، فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع منها ، ومنها ما ينفرد فيها. وذلك مما يدعوهم إلى المباراة ، ويحضّهم على المعارضة ، وإن لم يكن متحديا إليه.

ألا ترى أنهم قد كان ينافر شعراؤهم بعضهم بعضا ولهم في ذلك مواقف معروفة ، وأخبار مشهورة ، وأيام منقولة ، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة ، ويتبجحون بذلك ويتفاخرون بينهم. فلن يجوز والحالة هذه ، أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها ، تحداهم إليها أو لم يتحداهم.

ولو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر ، لوجب في ذلك أمر آخر ، وهو أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به. وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه ، وتعمل نظمه في الحال.

فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق ، وخطبة متقدمة ، ورسالة سالفة ، ونظم بديع ، ولا عارضوه به ، فقالوا هذا أفصح مما جئت به ، وأغرب منه ، أو هو مثله ، علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل ، وأنه لم يوجد له نظير. ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا ، ولعرفناه كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية ، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب ، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم وصنوف فصاحاتهم.

فإن قيل الذي بنى عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن ، أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله ، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه. فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب ، وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه ، وما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي. وأن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال.

قيل : إنما احتيج إلى التحدّي لإقامة الحجة وإظهار وجه البرهان ، لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة ، بأن يدعيها من ظهرت عليه ، ولا تظهر على مدّع لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله. فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة ، بالتحدي وجب فيها

__________________

(١) آية (٤٤) سورة الزخرف.

(٢) آية (٢) سورة البقرة.

(٣) آية (٢٣) سورة الزمر.

٢١

التحدي ، لأنه تزول بذلك الشبهة عن الكل ، وينكشف للجميع أن العجز واقع عن المعارضة.

وإلا فإن مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب ، ويتقن مصارف الكلام ، وكان كاملا في فصاحته ، جامعا للمعرفة بوجوه الصناعة ، لو أنه احتج عليه بالقرآن ، وقيل له إن الدلالة على النبوة والآية على الرسالة ما أتلوه عليك منه ، لكان ذلك بلاغا في إيجاب الحجة ، وتماما في إلزامه فرض المصير إليه.

ومما يؤكد هذا ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد دعا الآحاد إلى الإسلام محتجا عليهم بالقرآن ؛ لأنّا نعلم أنه لم يلزمهم تصديقه تقليدا. ونعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه. وإنما دخلوا على بصيرة. ولم نعلمه قال لهم ارجعوا إلى جميع الفصحاء ، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتي. بل لما رآهم يعلمون إعجازه ، ألزمهم حكمه ، فقبلوه وتابعوا الحق ، وبادروا إليه مستسلمين ، ولم يشكوا في صدقه ، ولم يرتابوا في وجه دلالته. فمن كانت بصيرته أقوى ، ومعرفته أبلغ كان إلى القبول منه أسبق. ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز ، واشتبه عليه بعض شروط المعجزات ، وأدلة النبوات كان أبطأ إلى القبول ، حتى تكاملت أسبابه ، واجتمعت له بصيرته ، وترادفت عليه موادّه.

وهذا فصل يجب أن يتمّم القول فيه بعد ، فليس هذا بموضع له ، ويبين ما قلناه أن هذه الآية علم يلزم الكل قبوله ، والانقياد له. وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه ومعرفة وجه دلالته ، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه. وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة. فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم ، وجرى مجراهم ، في توجه الحجة عليه.

وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن ، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في ذلك محل الأعجمى في أن لا يتوجه عليه الحجة. حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه. وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده ، أو الغاية في معرفة الخطب ، أو الرسائل وحدها غور هذا الشأن ، ما يعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ، ووجوه الكلام وطرق البراعة ، فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها ، دون تحققه بعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه.

فأما من كان متناهيا في معرفة وجوه الخطاب ، وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة ، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه ، وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه ، حتى سبر الحال بعجز أهل

٢٢

اللسان عنه ، وهذا خطأ من القول. فصحّ من هذا الوجه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا ، وبأن قيل له إنه دلالة وعلم على نبوتك أنه كذلك ، من قبل أن يقرأه على غيره أو يتحدى إليه سواه.

ولذلك قلنا : إن المتناهي في الفصاحة والعلم ، بالأساليب التي يقع فيها التفاصح ، متى سمع القرآن عرف أنه معجز ، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه ، ويعرف من حال غيره ، مثل ما يعرف من حال نفسه ، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو ، وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر على أنه علم على نبوة ، ودلالة على رسالة ، بأن يقال له إن هذه آية لنبيه ، وإنما ظهرت عليه وادعاها معجزة له وبرهانا على صدقه.

فإن قيل : فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر ، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه. فكذلك التبليغ. وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن فهو قد يخفى عليه عجز غيره. قيل هو مع مستقر العادة ، وإن عجز عن قول الشعر وعلم أنه معجز فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم. ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن ، علم عجز غيره لأنه كهو ، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء ، إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أو يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه.

فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة ، وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام وأنواع الخطاب ، ووجد القرآن مباينا لها ، علم خروجه عن العادة ، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات ، فهو لا يجوزه من نفسه ، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره إلا على وجه نقض العادة. بل يرى وقوعه موقع المعجزة ، وهذا وإن كان يفارق فلق البحر ، وإخراج اليد البيضاء. ونحو ذلك من وجه. وهو أن يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه ، فكونه ناقضا للعادة من غير تأمل شديد ، ولا نظر بعيد.

فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل ، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات ، والكشف عن أمور نحن ذاكروها بعد هذا الموضع. فكل واحد منها يؤول إلى مثل حكم صاحبه في الجمع الذي قدمنا. ومما يبين ما قلناه من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة ، يعرف إعجاز القرآن. وتكون معرفته حجة عليه إذا تحدى إليه وعجز عن مثله. وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره. وما الذي يصنع ذلك الغير ، وهو ما روي في الحديث : أن جبير (١) بن مطعم ورد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في معنى حليف له أراد أن يفاديه فدخل

__________________

(١) جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي المكي ثم المدني. أسلم يوم الفتح ، وقيل قبلها ، وحسن إسلامه ، وكان سيدا حكيما وقورا. مات بالمدينة سنة (٥٨) أو (٥٩). له ترجمة في : الرياض ـ

٢٣

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقرأ سورة : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (١) في صلاة الفجر ، قال : فلما انتهى إلى قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٢) قال : خشيت أن يدركني العذاب فأسلم. وفي حديث آخر أن عمر (٣) بن الخطاب رضي الله عنه سمع سورة طه فأسلم.

وقد روي أن قوله عزوجل في أول حم «السجدة» إلى قوله : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٤) نزلت في شيبة وعتبة ابني ربيعة وأبي سفيان بن حرب وأبي جهل. وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكلمه ، وكان حسن الحديث ، عجيب الشأن ، بليغ الكلام ، وأرادوا أن يأتيهم بما عنده ، فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة حم السجدة من أولها حتى انتهى إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (٥) فوثب مخافة العذاب ، فاستحكوه ما سمع ، فذكر أنه لم يسمع منه كلمة واحدة ، ولا اهتدى لجوابه ، ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرد. فقال عثمان (٦) بن مظعون لتعلموا أنه من عند الله إذ لم يهتد لجوابه.

وأبين من ذلك قول الله عزوجل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (٧) فجعل سماعه حجة عليه بنفسه ، فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه.

فإن قيل : لو كان ما قلتم لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه ، قيل : لا يجب ذلك ، لأن صوارفهم كانت كثيرة ، منها أنهم كانوا يشكّون ، منهم من يشك في إثبات الصانع ، وفيهم من يشك في التوحيد ، وفيهم من يشك في النبوة ، ألا ترى أن أبا سفيان (٨) بن حرب لما جاء إلى رسول

__________________

ـ المستطابة ص (٤٨).

(١) آية (١) سورة الطور.

(٢) آية (٨) سورة الطور.

(٣) سبقت ترجمته.

(٤) آية (٤) سورة فصلت.

(٥) آية (١٣) سورة فصلت.

(٦) عثمان بن مظعون. قال ابن إسحاق : أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا ، وهاجر إلى الحبشة. له ترجمة في : الإصابة ٢ / ٤٦٤.

(٧) آية (٦) سورة التوبة.

(٨) أبو سفيان بن حرب بن أمية القرشي الأموي المكي. ولد قبل الفيل بعشر سنين ، وكان شيخ مكة ، ورئيس قريش. مات بالمدينة سنة (٣١) أو (٣٢). له ترجمة في : الرياض المستطابة ص (١٢٨ ـ ١٢٩).

٢٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسلم عام الفتح ، قال له النبي عليه‌السلام : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال : بلى ، فشهد. قال : أما آن لك أن تشهد أني رسول الله؟ قال : أما هذه ففي النفس منها شيء. فكانت وجوه شكوكهم مختلفة. وطرق شبههم متباينة ، فمنهم من قلت شبهه ، وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر فأسلم. ومنهم من كبرت شبهه ، وأعرض عن تأمل الحجة حق تأملها ، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية ، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر ، وراعى واعتبر ، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله ، فلذلك وقف أمره.

ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة ، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة ، لتوافقوا إلى القبول جملة واحدة. فإن قيل : فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه : إعجاز القرآن؟ وما الوجه الذي يتطرق به إليه؟ والمنهاج الذي يسلكه حتى يقف به على جلية الأمر فيه؟ قيل : هذا سبيله أن يفرد له فصل ، فإن قيل : فلم زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلا قلتم : إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة ، وتوجه من هذه الطرق الغريبة ، كان على مثل نظم القرآن قادرا ، وإنما يصرفه الله عنه ضربا من الصرف ، أو يمنعه من الإتيان بمثله ، ضربا من المنع ، أو تقصر دواعيه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله من الدلالة ، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة. لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلها. وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى ، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة. فالجواب أنه لو صح ذلك ، صح لكل من أمكنه نظم ربع بيت ، أو مصراع من بيت ، أن ينظم القصائد ويقول الأشعار. وصح لكل ناطق قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة ، نظم الخطب البليغة ، والرسائل العجيبة ، ومعلوم أن ذلك غير سائغ ، ولا ممكن.

على أن ذلك لو لم يكن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع ، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه ، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه كان أبلغ في الأعجوبة ، إذا صرفوا عن الإتيان بمثله ، ومنعوا عن معارضته وعدلت دواعيهم عنه. فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع ، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب ، على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف ، لأنهم لم يتحدوا إليه ولم يلزمهم حجته. فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان.

وفيه معنى آخر ، وهو : أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاما مطمعا لم يخف عليهم ، ولم يشتبه لديهم. ومن كان متناهيا في فصاحته ، لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال. فإن قال صاحب السؤال إنه قد يطمع في ذلك. قيل له : أنت تزيد على هذا ،

٢٥

فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن ، وقد يزيد عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه. ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظا ومعنى! ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه ، ويحسبه ظان من أمره ، والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد. ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب ، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ، بيّن الغلط ، وأن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى قوله في محكم كتابه : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (١) فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله ، بأن ذلك من قول البشر ، لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته.

ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع معجزا ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه. وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم أن الكلّ قادرون على الإتيان بمثله ، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به. ولا بأعجب من قول فريق منهم إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب ، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.

فإن قيل : فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عزوجل معجز كالتوراة والإنجيل والصحف ، قيل : ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وإن كان معجزا كالقرآن ، فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب. وإنما لم يكن معجزا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن ، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن.

ولمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز. ولكنه يتقارب ، وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة ويقولون : ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب ، ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما نعرف من اللغة. وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناول العربية. وكذلك التصرف في الاستعارات ، والإشارات ، ووجوه الاستعمالات البديعة التي يجيء تفصيلها بعد.

__________________

(١) آية (١٨ : ٢٥) سورة المدثر.

٢٦

هذا ويشهد لذلك من القرآن أن الله تعالى وصفه بأنه بلسان عربي مبين. وكرر ذلك في مواضع كثيرة ، وبين أنه رفعه عن أن يجعله أعجميا. فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته ، لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وأنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله إنه عربي مبين ، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم ، ولا يحتاجون في تفسيره إلى من سواهم ، فلا يمتنع أن يفيد ما قلنا أيضا كما أفاد بظاهره ما قدمناه.

ويبين ذلك أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة وهم من أهل البراعة فيها ، وفي العربية ، فقد وقفوا على أنه ليس يقع فيها من التفاضل والفصاحة ما يقع في العربية. ومعنى آخر وهو أنّا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم ، ولا ادعى لهم المسلمون. فعلم أنّ الإعجاز مما يختص به القرآن. ويبين هذا أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة على ما قد اتفق في العربية. وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة ، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتى في العربية. وكذلك لا يتأتى في الفارسية جميع الوجوه التي يتبين فيها الفصاحة على ما يتأتى في العربية.

فإن قيل : فإن المجوس تزعم أن كتاب «زرادشت» وكتاب «ماني» معجزان ، قيل : الذي يتضمنه كتاب «ماني» من طريق النيرنجات وضروب من الشعوذة ليس يقع فيها إعجاز. ويزعمون أن في الكتاب الحكم وهي حكم منقولة متداولة على الألسن لا يختص بها أمة دون أمة. وإن كان بعضهم أكثر اهتماما بها وتحصيلا لها وجمعا لأبوابها.

وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن ، وإنما فزعوا إلى الدّرة اليتيمة ، وهما كتابان أحدهما يتضمن حكما منقولة ، توجد عند حكماء كل أمة ، مذكورة بالفضل ، فليس فيها شيء بديع من لفظ ، ولا معنى. والآخر في شيء من الديانات وقد تهوس فيه مما لا يخفى على متأمل ، وكتابه الذي بينّاه في الحكم منسوخ من كتاب «بزرجمهر» في الحكمة. فأي صنع له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟ وبعد ، فليس يوجد له كتاب يدعى مدع أنه عارض فيه القرآن ، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ، ثم مزّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد ، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ثم يلوح له رشده ، ويتبين له أمره ، وينكشف له عجزه.

ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يخف علينا موضع غفلته ، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته. ومتى أمكن أن تدعى الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه!

٢٧

فصل :

في جملة وجوه إعجاز القرآن

ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز :

الوجه الأول : يتضمن الإخبار عن الغيوب ، وذلك مما لا يقدر عليه البشر. لا سبيل لهم إليه : فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه‌السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١) ففعل ذلك وكان أبو بكر (٢) الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه ، عرّفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه ، ليثقوا بالنصر ، ويستيقنوا بالنجاح. وكان عمر (٣) بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه ، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه ، فكان سعد بن أبي وقاص رحمه‌الله ، وغيره من أمراء الجيوش من جهته يذكر ذلك لأصحابه ، ويحرضهم به ، ويوثق لهم. وكانوا يلقون الظفر في مواجهاتهم ، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه إلى بلخ ، وبلاد الهند وفتح في أيامه مرو الشاهجان ومرو الروذ ومنعهم من العبور بجيحون. وكذلك فتح في أيامه فارس إلى اصطخر وكرمان ، ومكران وسجستان وجميع ما كان من مملكة كسرى ، وكل ما كان يملكه ملوك الفرس بين البحرين من الفرات إلى جيحون.

__________________

(١) آية (٣٣) سورة التوبة.

(٢) أبو بكر الصديق هو : عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو القرشي التيمي. كان أول من أسلم من الرجال ، ولم يتردد حين عرض عليه الإسلام ، وثبت له أفضل الفضائل بصحبة الهجرة ، وكانت بيعته إجماعا من الصحابة. مات سنة (١٣). له ترجمة في : أسد الغابة ٣ / ٣٠٩ ، وشذرات الذهب ١ / ٢٧ ، ومروج الذهب ٢ / ٣٠٥.

(٣) سبقت ترجمته.

٢٨

وأزال ملك ملوك الفرس فلم يعد إلى اليوم. ولا يعود أبدا إن شاء الله تعالى. ثم إلى حدود أرمينية وإلى باب الأبواب ، وفتح أيضا ناحية الشام ، والأردن ، وفلسطين ، وفسطاط مصر. وأزال ملك قيصر عنها ، وذلك من الفرات إلى بحر مصر ، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية ، فأخذ الضواحي كلها ولم يبق دونها إلا ما حجز دونه بحر ، أو حال عنه جبل منيع ، أو أرض خشنة ، وأو بادية غير مسلوكة.

وقال الله عزوجل : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١) فصدق فيه وقال في أهل بدر : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) (٢) ووفى لهم بما وعد. وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن ، من الإخبار عن الغيوب ، يكثر جدّا ، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.

والوجه الثاني : أنه كان معلوما من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين ، وأقاصيصهم ، وأنبائهم ، وسيرهم.

ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ، ومهمات السير ، من حين خلق الله آدم عليه‌السلام ، إلى حين مبعثه. فذكر في الكتاب الذي جاء به معجزة له : قصة آدم عليه‌السلام ، وابتداء خلقه ، وما صار إليه أمره من الخروج من الجنة ، ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته.

ثم ذكر قصه نوح عليه‌السلام ، وما كان بينه وبين قومه وما انتهى إليه أمره. وكذلك أمر إبراهيم عليه‌السلام. إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن ، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء صلوات الله عليهم.

ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه ، إلا عن تعلم ، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ، ولا مترددا إلى التعلم منهم. ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.

ولذلك قال عزوجل : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٣) وقال : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ

__________________

(١) آية (١٢) سورة آل عمران.

(٢) آية (٧) سورة الأنفال.

(٣) آية (٤٨) سورة العنكبوت.

٢٩

يَعْلَمُونَ) (١) وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم ويشتغل بملابسة أهل صنعة ، لم يخف على الناس أمره. ولم يختلف عندهم مذهبه ، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم وإن كان نادرا. وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعليم ، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها فلو كان منهم لم يخف أمره.

والوجه الثالث : أنه بديع النظم ، عجيب التأليف ، متناه في البلاغة ، إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة. ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ، ونكشف الجملة التي أطلقوها.

فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه منها : ما يرجع إلى الجملة. وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه ، واختلاف مذاهبه ، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم ، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا ، فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع ، وترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلا في وزنه. وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له.

وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق ، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع ، ولا فيه شيء منه. وكذلك ليس من قبيل الشعر لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ، ومنهم من يدعى أن فيه شعرا كثيرا ، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع ، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم ، وأساليب خطابهم ، أنه خارج عن العادة ، وأنه معجز ، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن. وتميّز حاصل في جميعه. ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة ، والغرابة والتصرف البديع والمعاني اللطيفة ، والفوائد الغزيرة ، والحكم الكثيرة ، والتناسب في البلاغة ، والتشابه في البراعة ، على هذا الطول ، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة ، وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة ، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال ، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف.

__________________

(١) آية (١٠٥) سورة الأنعام.

٣٠

وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عز من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١) (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢) فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت ، وبان عليه الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره ، فتأمله تعرف الفضل.

وفي ذلك معنى ثابت وهو أن عجيب نظمه ، وبديع تأليفه ، لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ، ومواعظ ، واحتجاج وحكم ، وأحكام وأعذار ، وإنذار ، ووعد ووعيد وتبشير ، وتخويف وأوصاف ، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة ، وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل ، والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع ، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.

فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح. ومنهم يسبق في التقريظ دون التأبين. ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ. ومنهم من يغرب في وصف الإبل والخيل ، أو سير الليل ، أو وصف الحرب ، أو وصف الروض ، أو وصف الخمر ، أو الغزل أو غير ذلك ، مما يشتمل عليه الشعراء ويتداوله الكلام.

ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب. ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ، ووقف دونه ، وبان الاختلاف على شعره ، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر ، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم ، فإذا كان الاختلال بيّنا في شعرهم لاختلاف ما يتصرفون فيه ، واستغنينا عن ذكر من هو دونهم. وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.

ثم نجد في الشعراء من يجوّد في الرجز ، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا. ومنهم من ينظم القصيد ، ولكن يقصّر فيه مهما تكلفه أو عمله. ومن الناس من يجوّد في الكلام المرسل ، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا عجيبا. ومنهم من يوجد بضد ذلك.

وقد تأملنا نظم القرآن ، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها ،

__________________

(١) آية (٢٣) سورة الزمر.

(٢) آية (٨٢) سورة النساء.

٣١

على حد واحد في حسن النظم ، وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ، ولا انحطاط عن المنزلة العليا ، ولا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة ، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة ، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت ، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة. فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر. لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار ، وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن.

ومعنى الرابع : وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بيّنا في الفصل والوصل ، والعلو والنزول ، والتقريب والتبعيد ، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع ، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره ، والخروج من باب إلى سواه ، حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح. وأطبقوا على أنه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء. وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى وتنقل يستحسن. وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء ، والتحول من باب إلى باب. ونحن نفصل بعد هذا ونفسر هذه الجملة ، ونبين على أن القرآن على اختلاف ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة ، والطرق المختلفة ، يجعل المختلف كالمؤتلف ، والمتباين كالمتناسب ، والمتنافر في الإفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب تتبين فيه الفصاحة ، وتظهر به البلاغة ، ويخرج به الكلام عن حد العادة ، ويتجاوز العرف.

ومعنى خامس : وهو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس والجن. فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ، ويقصرون دونه كقصورنا. وقد قال الله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) فإن قيل : هذه دعوى منكم ، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن مثله ، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ، وإن كنا عاجزين كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة وأسباب غامضة ، دقيقة لا نقدر نحن عليها ، ولا سبيل لنا للطفها إليها ، وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.

قيل : قد يمكن أن تعرف ذلك بخبر الله عزوجل. وقد يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن ، وما يروون لهم من الشعر ، ويحكون

__________________

(١) آية (٨٨) سورة الإسراء.

٣٢

عنهم من الكلام. وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم ، منقول عنهم ، والقدر الذي نقلوه قد تأملناه ، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس ، ولعله يقصر عنها ، ولا يمتنع أن يسمع الناس كلامهم ، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم.

وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان ، ولهم أشعار محفوظة مروية في دواوينهم قال تأبط شرا (١) :

وأدهم قد حبت جلبابه كما

احتابت الكاعب الخيعلا

إلى أن حدا الصبح أثناءه

ومزّق جلبابه الأليلا

على شيم نار تنوّرتها

فبتّ لها مدبرا مقبلا

فأصبحت والغول لي جارة

فيا جارتا أنت ما أهولا

وطالبتها بضعها فالتوت

بوجه تهول واستغولا

فمن سأل أين ثوب جارتي

فإن لها باللوى منزلا

وكنت إذ ما هممت اعتزمت

ت وأحر إذا قمت أن أفعلا

وقال آخر :

عشوا ناري فقلت منون أنتم؟

فقالوا : الجنّ ، قلت : عموا ظلاما

فقمت إلى الطعام فقال منهم

زعيم يحسد الإنس الطعاما

ويذكرون لامرئ القيس (٢) قصيدة مع عمرو الجنى وأشعارا لهما كرهنا ذكرها لطولها وقال عبيد بن أيوب :

فلله درّ الغول أي رفيقة

لصاحب قفر خائف متقفر

أرنّت بلحن بعد لحن وأوقدت

حواليّ نيرانا تلوح وتزهر

وقال ذو الرمة (٣) بعد قوله :

قد أعسف النازح المجهول معسفه

في ظل أخضر يدعو هامه البوم

__________________

(١) تأبط شرا هو : ثابت بن جابر ، كان أسمع العرب وأبصرهم وأكيدهم ، وكان أعدى رجل ينظر إلى الظباء فينتقي أسمنها ، ثم يعدو خلفه فلا يفوته. مات سنة (٥٣٠ م). له ترجمة في : الأغاني ١٨ / ٢٠٩ ، والشعر والشعراء (١٧٤) ، وخزانة الأدب ١ / ٦٦.

(٢) سبقت ترجمته.

(٣) ذو الرمة هو : غيلان بن عقبة بن نهيس ، يعد من الشعراء المتيمين ، وصاحبته مية بنت مقاتل المنقري ، وكانت جميلة ، وكان هو دميما أسود ، وسمعت تشبيبه بها ، ولم تره ثم رأته ، فقالت : «وا سوأتاه» فغضب ، وهجاها. مات سنة (١١٧). له ترجمة في : وفيات الأعيان ١ / ٤٠٤ ، وخزانة الأدب ١ / ٥١.

٣٣

للجنّ بالليل في حافاتها زجل

كما تناوح يوم الرّيح عيثوم

دويّة ودجى ليل كأنهما

يمّ تراطن في حافاته الروم

وقال أيضا :

وكم عرّست بعد النوى من معرّس

لها من كلام الجن أصوات سامر

وقال :

ورمل عزيف الجن في عقباته

هزيز كتضراب المغنّين بالطبل

وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم ، ويحكون عنهم ، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب ، صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه ، كعجز الإنس. ويبين ذلك من القرآن أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن ، فقال : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (١) إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه. فإذا ثبت أنه وصف كلامهم ، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم ، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.

وهذان الجوابان أسدّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه ؛ بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز ، فلا يعتبر غيره. ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه ، فقال لنا قائل : فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله ، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها. وإنما ضعّفنا هذا الجواب ؛ لأن الذي حكى وذكر عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله ، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه كما علمنا عجز الإنس عنه. ولو كان وصف عجز الملائكة عنه لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه فإن قيل : أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل ، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة. قيل هذا : كما أنه يدل على التفصيل أيضا. فصح أن يلحق هذا القبيل ، كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل.

ومعنى سادس : وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب ، من البسط والاقتصار ، والجمع ، والتفريق (٢) ، والاستعارة والتصريح ، والتجوز والتحقيق ، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد

__________________

(١) آية (٢٩) سورة الأحقاف.

(٢) قال السيوطي في «الاتقان» ١ / ٢٧٥ ، «هو أن تدخل شيئين في معنى ، وتفرق بين جهتي الإدخال.

وجعل منه الطيبي قوله : «الله يتوفى الأنفس حين موتها» الآية. جمع النفسين في حكم التوفي ، ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال.

أي : الله يتوفى بالإمساك والإرسال. أي : الله يتوفى الأنفس التي تقبض والتي لم تقبض ، فيمسك

٣٤

في كلامهم ، موجود في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة. وقد ضمّنا بيان ذلك بعد ؛ لأن الوجه هاهنا ذكر المقدمات دون البسط والتفصيل.

ومعنى سابع : وهو أن المعاني التي تتضمن في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين ، والرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة ، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة ، مما يتعذر على البشر ، ويمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة ، والأسباب الدائرة بين الناس ، أسهل وأقرب من تخيّر الألفاظ لمعان مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة. فلو أبرع اللفظ في المعنى البارع ، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر ، والأمر المتقرر المتصور. ثم إن أضيف ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ، ويراد تحقيقه ، بان التفاضل في البراعة والفصاحة. ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى ، والمعاني وفقها ، لا يفضل أحدهما على الآخر ، فالبراعة أظهر ، والفصاحة أتم.

ومعنى ثامن : وهو أن الكلام يبين فضله ورجحان فصاحته ؛ بأن نذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام ، أو نقذف ما بين شعر فتأخذه الأسماع ، وتتشوف إليه النفوس ويرى وجه رونقه باديا غامرا سائر ما يقرن به ، كالدرّة التي ترى في سلك من خرز ، وكالياقوتة في واسطة العقد.

وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير. وهي غرة جميعه ، وواسطة عقده ، والمنادى على نفسه بتمييزه وتخصصه برونقه ، وجماله واعتراضه في جنسه ومائه. وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص ليتحقق ما ادعيناه منه. ولو لا هذه الوجوه التي بينّاها لم يتحير فيه أهل الفصاحة ، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة ، والتصنع للمعارضة ، وكانوا ينظرون في أمرهم ، ويراجعون أنفسهم. أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته ، ويتوقفون لها. فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة ، إنما عدلوا عن هذه الأمور لعلمهم بعجزهم عنه ، وقصور فصاحتهم دونه. ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعا فيهم ولا متقدما في الفصاحة منهم هذه الحال ، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل ، وحتى يعرف حال عجز غيره. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك تحققا بظهور العجز وتبينا له.

__________________

الأولى ويرسل الأخرى».

٣٥

وأما قوله تعالى حكاية عنهم : (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) (١) فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم ، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم وهو يدل على عجزهم. ولذلك أورده الله مورد تقريعهم ، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز ، والضمان إلى الوفاء.

فلما لم يستعملوا ذلك مع استمرار التحدي ، وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم. إذ لو كانوا قادرين على ذلك ، لم يقتصروا على الدعوى فقط.

ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات ، والهوام ، والحيات. وفي وصف الأزمة والاتساع والأمور التي لا يؤبه لها ، ولا يحتاج إليها ، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس ، ويتبجحون به أشد التبجح ، فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة ، والعبارات الفصيحة ، مع تضمن المعارضة تكذيبه والذب عن أديانهم القديمة ، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم ، وتضليله إياهم ، والتخلص من منازعته ، ثم من محاربته ومقارعته ، ثم لا يفعلون شيئا من ذلك ، وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل ويعللونها بالأباطيل.

ومعنى تاسع : وهو أن الحروف التي بنى عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا ، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة ، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة ، وهو أربعة عشر حرفا ليدل بالمذكور على غيره ، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم ، والذي ينقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها أقسام نحن ذاكروها. فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة ، فالمهموسة منها عشرة ، وهي الحاء ، والهاء ، والخاء ، والكاف ، والشين ، والثاء ، والفاء ، والتاء ، والصاد ، والسين. وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة.

وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور ، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء ، لا زيادة ولا نقصان. والمجهور معناه : أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه ، ومنع أن يجري معه ، حتى ينقضي الاعتماد. ويجري الصوت والمهموس كل حرف ضعف الاعتماد في موضعه ، حتى جرى معه النفس. وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبتنى عليه أصول العربية.

وكذلك مما يقسمون إليه الحروف. يقولون إنها على ضربين : أحدهما حروف

__________________

(١) آية (٣١) سورة الأنفال.

٣٦

الحلق ، وهي ستة أحرف : العين ، والحاء ، والهمزة ، والهاء ، والخاء ، والغين. والنصف من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور. وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.

وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين : أحدهما حروف غير شديدة ، وإلى الحروف الشديدة ، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه وهي : الهمزة ، والقاف ، والكاف ، والجيم ، والظاء ، والذال ، والطاء ، والباء. وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بنى عليها تلك السور ، ومن ذلك الحروف المطبقة ، وهي أربعة أحرف ، وما سواها منفتحة فالمطبقة : الطاء ، والظاء ، والضاد ، والصاد. وقد علمنا أن نصف هذه في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.

وإذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام ، لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأوا مباني اللسان على هذه الجهة. وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر على حد التصنيف الذي وصفنا ، دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه بعد العهد الطويل لا يجوز أن يقع إلا من الله عزوجل. لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب. وإن كان إنما نبهوا على ما بنى عليه اللسان في أصله ، ولم يكن لهم في التقسيم شيء ، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان. فذلك أيضا من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان. فإن كان أصل اللغة توقيفا فالأمر في ذلك أبين. وإن كان على سبيل التواضع ، فهو عجيب أيضا ؛ لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه ، وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم إذا كانت حروفا كنحو (الم) لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعا ، واللام متوسطة ، والميم متطرفة. لأنها تأخذ في الشفة ، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف. وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم ، بما يتعارفون من الحروف التي تردد بين هذين الطرفين.

ويشبه أن يكون التصنيف وقع في هذه الحروف دون الألف لأن الألف قد تلغى ، وقد تقع الهمزة وهي موقعا واحدا.

ومعنى عاشر : وهو أنه سهّل سبيله ، فهو خارج عن الوحشيّ المستكره ، والغريب المستنكر ، وعن الصنعة المتكلّفة. وجعله قريبا إلى الأفهام ، يبادر معناه لفظه إلى القلب ، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس ، وهو مع ذلك ممتنع المطلب ، عسير المتناول ، غير مطمع مع قربه في نفسه ، ولا موهم مع دنوّه في موقعه ، أن يقدر عليه ، أو يظفر به.

٣٧

فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل ، والقول المسفسف ، فليس يصحّ أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة ، فيطلب فيه التمنع ، أو يوضع فيه الإعجاز. ولكن لو وضع في وحشي مستكره ، أو غمر بوجوه الصنعة ، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف ، لكان لقائل أن يقول فيه : ويعتذر ويعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره ، وقرب منهاجه ، وسهل سبيله ، وجعله في ذلك متشابها متماثلا. وبين مع ذلك إعجازهم فيه. وقد علمت أن كلام فصحائهم ، وشعر بلغائهم ، لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر ، أو وحشي مستكره ، ومعان مستبعدة.

ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع ، لا يوجد دونه في الرتبة. ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين ، متصرف بين المنزلتين ، فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس (١) :

«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» (٢).

ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ، ما يتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة ، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها ، على وجه يؤخذ باليد ويتناول من كتب ، ويتصور في النفس كتصور الأشكال ، ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.

واعلم أن من قال من أصحابنا إن الأحكام معللة بعلل موافقة مقتضى العقل ، جعل هذا وجها من وجوه الإعجاز ، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه كنحو ما يعللون به الصلاة ، ومعظم الفروض وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة ، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك. ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم ، وفي ذلك كلام يأتي في كتابنا في الأصول.

وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد ، فإنا جمعنا بين أمور وذكرنا المزية المتعلقة بها ، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتقاده في إظهار الإعجاز فيه. فإن قيل : فهل تزعمون أنه معجز لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه ، أو لأنه عبارة عنه ، أو لأنه قديم في نفسه ، قيل : لسنا نقول بأن الحروف قديمة ، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟

ولا نقول أيضا إن وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم. لأنه لو

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) صدر البيت الأول من معلقته.

٣٨

كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل ، وغيرهما من كتب الله عزوجل ، معجزات في النظم والتأليف. وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ، ومتفردها ، وقد ثبت خلاف ذلك.

٣٩

فصل :

في شرح ما بيّنا من

وجوه إعجاز القرآن

فأما الفصل الذي بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب ، والصدق ، والإصابة في ذلك كله ، فهو كقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (١) فأغزاهم أبو بكر (٢) ، وعمر (٣) رضي الله عنهما ، إلى قتال العرب والفرس والروم.

وكقوله : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (٤) ، وراهن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك ، وصدق الله وعده.

وكقوله في قصة أهل بدر : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٥) وكقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (٦).

وكقوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) (٧) في قصة أهل بدر وكقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (٨) وصدق الله تعالى وعده في كل ذلك ، وقال في قصة المتخلفين عنه في غزوته : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ

__________________

(١) آية (١٦) سورة الفتح.

(٢) سبقت ترجمته.

(٣) سبقت ترجمته.

(٤) آية (١ : ٤) سورة الروم.

(٥) آية (٤٥) سورة القمر.

(٦) آية (٢٧) سورة الفتح.

(٧) آية (٥) سورة الأنفال.

(٨) آية (٥٥) سورة النور.

٤٠