إعجاز القرآن

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني


المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0344-X
الصفحات: ١٩١

فصل :

في حقيقة المعجز

معنى قولنا : «إن القرآن معجز» على أصولنا أنه لا يقدر العباد عليه. وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يصح دخوله تحت قدرة العباد. وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه ، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه ، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام. فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة. وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا.

فلما لم يقدر عليه أحد ، شبه بما يعجز عنه العاجز. وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله ؛ لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز. وقد أجرى الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم ، وأن لا يقدروا عليه. ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله ، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه.

فلما لم يشتغلوا بذلك ، علم أنهم فطنوا إلى خروج ذلك عن أوزان كلامهم ، وأساليب نظامهم ، وزالت أطماعهم عنه.

وقد كنا بيّنا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ، ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع. ولا يحتاج في مثله إلى توقيف ، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب ، فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي.

ثم وقفوا على حسن ذلك ، وقدروا عليه بتوفيق الله عزوجل. وهو الذي جمع خواطرهم عليه ، وهداهم له ، وهيّأ دواعيهم إليه. ولكنه أقدرهم على حد محدود ، وغاية في العرف مضروبة ، لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا. ودل على عظم شأنه ، بأنهم قدروا على ما بيّنا من التأليف ، وعلى ما وصفناه من النظم من غير توقيف ولا اقتضاء أثر ، ولا تحدّ إليه ، ولا تقريع.

فلو كان هذا من ذلك القبيل ، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه ، لم تزل أطماعهم عنه. ولم يدهشوا عند وروده عليهم ، فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم الوقت ، وكان يدعو إليه سنين كثيرة.

وقال عز من قائل : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ

١٨١

النَّذِيرُ) (١) وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي ، بان أنّه خارج عن عادتهم ، وأنهم لا يقدرون عليه.

وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ ، لأن ذلك طبعهم ولغتهم ، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن. وهذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة.

والذي ذكرناه بذلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن. وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال.

ولو لم يكن جرى في المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا ، لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة ، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة.

وأما «نظم القرآن» فقد قال أصحابنا فيه : إن الله تعالى يقدر على نظم القرآن في الرتبة التي لا مزيد عليها ، فقد قال مخالفونا : إن هذا غير ممتنع لأن فيه من الكلمات الشريفة الجامعة للمعاني البديعة ، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع ، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية لأنه عندهم ، وإن زاد على ما في العادة ، فإن الزائد عليها وإن تفاوت ، فلا بد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه. والذي نقوله إنه لا يمتنع أن يقال : يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله.

وأما قدرة العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه مما تصح قدرتهم عليه.

__________________

(١) آية (٤٥) سورة فاطر.

١٨٢

فصل :

في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمور تتصل بالإعجاز

إن قال قائل : إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفصح العرب ، وقد قال هذا في حديث مشهور ، وهو صادق في قوله ، فهلا قلتم : إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره؟ قيل : قد علمنا أنه لم يتحداهم إلى مثل قوله وفصاحته ، والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء ، كقدر ما بين شعر الشاعرين ، وكلام الخطيبين في الفصاحة ؛ وذلك مما لا يقع به الإعجاز.

وقد بينا قبل هذا : أنا إذا وازنّا بين خطبه ، ورسائله ، وكلامه المنثور ، وبين نظم القرآن ، تبين من البون بينهما ، مثل ما بين كلام الله عزوجل ، وكلام الناس. ولا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجز ، وإن كان دون القرآن في الإعجاز.

فإن قيل : لو لا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن. وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هل هو من القرآن أم لا؟ ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره ، وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط.

وقد يجوز أن يكون شذّ عن مصحفه ، لا لأنه نفاه من القرآن ، بل عوّل على حفظ الكل إياه.

على أن الذي يروونه خبر واحد لا يسكن إليه في مثل هذا ، ولا يعمل عليه.

ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه.

وهذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رضوان الله عليهما.

ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة ، كما يغلط الحافظ في حروف ، وينسى ، ما لا نجيزه على الحفاظ مما لم نجزه عليه.

ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك. وكان يظهر وينتشر. فقد تناظروا في أقل من هذا ، وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل. فكيف

١٨٣

يجوز أن يقع التخفيف فيه؟! وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف ، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولّدة بالإجماع المتقرر ، والاتفاق المعروف؟

ويجوز أن يكون الناقل اشتبه عليه ، لأنه خالف في النظم والترتيب ، فلم يثبتهما في آخر القرآن. والاختلاف بينهم في موضع الاثبات غير الكلام في الأصل. ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن.

فمنهم من قال قوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (١) ، ومنهم من قال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (٢) ومنهم من قال : فاتحة الكتاب.

واختلفوا أيضا في آخر ما أنزل فقال ابن عباس (٣) : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) (٤) وقالت عائشة : سورة المائدة. وقال البراء (٥) بن عازب آخر ما نزل سورة براءة ، وقال سعيد (٦) بن جبير آخر ما أنزل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (٧) وقال السّدّيّ آخر ما أنزل : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) (٨)

ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف ، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع. ولو كان القرآن من كلامه ، لكان البون بين كلامه وبينه ، مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئها رجل واحد ، وكانوا يعارضونه لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم ، وبين كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخرج إلى حد الإعجاز ، ولا يتفاوت التفاوت الكثير. ولا يخفى كلام من جنس أوزان كلامهم. وليس كذلك نظم القرآن. لأنه خارج من جميع ذلك.

فإن قيل : لو كان غير ما ادعيتم لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره ، قبل معرفة الفصل من وزن الشعر ووزنه ، والفرق بينه وبين غيره من الأوزان إلى نظر وتأمل ، وفكر وروية

__________________

(١) آية (١) سورة العلق.

(٢) آية (١) سورة المدثر.

(٣) سبقت ترجمته.

(٤) آية (١) سورة النصر.

(٥) البراء بن عازب أبو عمارة الأنصاري الأوسي الحارثي ، استصغر يوم بدر فلم يشهدها ، وشهد أحدا وما بعدها ، وشهد بيعة الرضوان. مات بعد سنة (٧٠). له ترجمة في : الرياض المستطابة ص (٣٧).

(٦) سعيد بن جبير بن هشام الأسدي. كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه ، يقول : أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعنيه. قتله الحجاج سنة (٩٢). له ترجمة في : شذرات الذهب ١ / ١٠٨ ، ووفيات الأعيان ١ / ٢٠٤ ، وتذكرة الحفاظ ١ / ٧٦.

(٧) آية (٢٨١) سورة البقرة.

(٨) آية (١٢٩) سورة التوبة.

١٨٤

واكتساب .. وإن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة ، إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل.

فإن قيل : لو كان معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه؟ قيل : قد يثبت الشيء دليلا وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان ، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق.

فأما المخالفون ، فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله ؛ لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عزوجل في كونه معجزا ؛ لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله ، أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة. وكان متعذرا على غيره لفقد علمه بكيفية النظم.

وليس القوم بعاجزين عن الكلام ، ولا عن النظم والتأليف. والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا : فقد العلم بكيفية النظم. وقد بيّنا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه. والمفحم قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها ، وكيفية التركيب. وهو لا يقدر على نظم الشعر.

وقد يعلم الشاعر وجوه الفصاحة. وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة.

وقد يطّرد في شعر المبتدى والمتأخر في الحذق القطعة الشريفة والبيت النادر ، ومما لا يتفق للشاعر المتقدم.

والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني ، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع ، وتوفيق من الأصل.

وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنّساجة ، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ، ما لا يتفق في الآخر.

وكذلك أهل نظم الكلام يتفاضلون مع العلم بكيفية النظم. وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة ، مع العلم بكيفية الإصابة.

وإذا وجدت للشاعر بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس ، لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه. لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد.

ويحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة ، ولا يجوز أن يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها. وإن كان كذلك علم أن هذا لا يرجع إلى ما قدروه من العلم. أو لسنا نقول إنه يستغني عن العلم في النظم ، بل يكفي علم به في الجملة ، ثم يقف الأمر على القدرة.

١٨٥

وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطرا ، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذّر. والعلم حاصل.

وكذلك قد يحسن كيفية الخط ، والجيد منه من الردىء. ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد.

وقد يعلم قوم كيفية إدارة الأقلام ، وكيفية تصور الخطّ. ثم يتفاوتون في التفصيل ، ويختلفون في التصوير.

وألزمهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام ، وإنما يتعذر وقوع ذلك منا لأنا لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام.

وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل ، فصار القرآن معجزا لنزوله على هذا الوجه. ومن قبله لم يكن معجزا.

وهذا قول أبي هاشم ، وهو الظاهر الخطأ ، لأنه يلزم أن يكونوا قادرين على مثل القرآن ، وإن لم يتعذر عليهم فعل مثله. وإنما تعذر بإنزاله ، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك ، كان قد اتفق مع بعضهم مثله.

وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله ولا بعده على مثله فهو قولنا.

وأما قول كثير من المخالفين فهو على ما بيّنا ، لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله. وكان ذلك متعذرا قبل نزوله وبعده. فأما الكلام في أن التأليف ، هل له نهاية؟ فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه. فمنهم من قال : ليس لذلك نهاية ، كالعدد ، فلا يمكن أن يقال : إنه لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل.

ومنهم من قال : إن ما جرت به العادة فله نهاية ، وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن نعلم نهاية الرتبة فيه. وقد بيّنا أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا حد في العادة ، ولا سبيل إلى تجاوزه ، ولا يقدر. فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها.

فصل : إن قيل هل من شرط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه؟ قيل : لا بد من ذلك. لأنا لو نعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أتى بالقرآن وظهر ذلك من جهته ، لم يمكن أن يستدل به على نبوته. وعلى هذا ، لو تلقى رجل منه سورة ، فأتى بها بلدا وادعى ظهورها عليه ، وأنها معجزة له ، لم تقم الحجة عليهم ، حتى يبحثوا أو يتبينوا أنها ظهرت عليه. وقد تحققنا أن القرآن أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهر من جهته ، وجعله علما على نبوته ، وعلمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا.

١٨٦

خاتمة

قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزا من القول ، رجونا أن يكفي ، وأمّلنا أن يقنع. والكلام في أوصافه إن استقصي بعيد الأطراف ، واسع الأكناف ، لعلو شأنه ، وشريف مكانه.

والذي سطرناه في الكتاب ، وإن كان موجزا ، وأمليناه فيه ، وإن كان خفيفا ، فإنه ينبه على الطريقة ، ويدل على الوجه ، ويهدي إلى الحجة.

ومتى عظم محل لشيء فقد يكون الإسهاب فيه عيّا ، والإكثار في وصفه تقصيرا.

وقد قال الحكيم ، وقد سئل عن البليغ ، متى يكون عيبا؟ فقال : متى وصف هوى أو حبيبا.

وضلّ أعرابي في سفر له ليلا وطلع القمر فاهتدى به ، فقال : ما أقول لك؟ أقول : رفعك الله؟ وقد رفعك ، أم أقول : نورك الله؟ وقد نورك ، أم أقول : أجملك الله؟ وقد جملك!

ولو لا أن العقول تختلف ، والأفهام تتباين ، والمعارف تتفاضل ، لم نحتج إلى ما تكلفنا. ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة ، ولو اتفقوا فيها ، لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن ، أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم لاتصاله بأسباب ، وتعلقه بعلوم غامضة الغور ، عميقة القعر ، كثيرة المذاهب ، قليلة الطلاب ، ضعيفة الأصحاب ، وبحسب تأتّي مواقعه ، يقع الإفهام دونه. وعلى قدر لطف مسالكه ، يكون القصور عنه.

أنشدني أبو القاسم الزعفراني قال : أنشدني المتنبي لنفسه ، القطعة التي يقول فيها :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

ولكن تأخذ الآذان منه

على قدر القرائح والعلوم

وأنشدني الحسن بن عبد الله قال : أنشدنا بعض مشايخنا للبحتري :

أهزّ بالشعر أقواما ذوي سنة

لو أنهم ضربوا بالسيف ما شعروا

عليّ نحت القوافي من مقاطعها

وما عليّ لهم أن تفهم البقر

فإذا كان نقد الكلام كله صعبا ، وتمييزه شديدا ، والوقوع على اختلاف فنونه متعذرا ، وهذا في كلام الآدمي. فما ظنك بكلام رب العالمين؟

١٨٧

قد أبنّا لك أن من قدّر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام ، لا يعرف من البلاغة إلا القليل ، ولا يفطن منها إلا اليسير.

ومن زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر ، فهو متطرّف.

بلى إن كانوا يقولون إن هذه من وجوه البلاغة وغرر البديع ، وأصول اللطيف. وإن ما يجري مجرى ذلك ويشاكله ملحق بالأصل ومردود على القاعدة. فهذا قريب.

وقد بيّنا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة ، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف.

ثم الفواتح والخواتم ، والمبادي والمثاني ، والطوالع والمقاطع ، والوسائط والفواصل.

ثم الكلام في نظم السور والآيات ، ثم في تفاصيل التفاصيل. ثم في الكثير والقليل ، ثم الكلام الموشح والمرصع ، والمفصّل والمصرّع ، والمجنس والموشى ، والمحلى والمكلل ، والمطوق والمتوج ، والموزون والخارج عن الوزن ، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه.

ثم الخروج من فصل إلى فصل ، ووصل إلى وصل ، ومعنى إلى معنى ، ومعنى في معنى ، والجمع بين المؤتلف والمختلف ، والمتفق والمتسق ، وكثرة التصرف ، وسلامة القول في ذلك كله من التعسف ، وخروجه عن التعمق والتشدق ، وبعده عن التعمل والتكلف. والألفاظ المفردة والإبداع في الحروف والأدوات ، كالإبداع في المعاني والكلمات. والبسط والقبض ، والبناء والنقض ، والاختصار والشرح ، والتشبيه والوصف ، وتميز الإبداع من الاتباع ؛ كتميز المطبوع عن المصنوع.

والقول الواقع عن غير تكلف ، ولا تعمّل. وأنت تتبينه في كل ما تصرف فيه من الأنواع أنه على سمت شريف ، ومرقب منيف ، يبهر إذا أخذ في النوع الربي ، والأمر الشرعي ، والكلام الإلهي الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت ، وشرف الجبروت ، وما لا يبلغ الوهم مواقعه من حكمة وأحكام ، واحتجاج وتقرير واستشهاد ، وتقريع وإعذار وإنذار ، وتبشير وتحذير وتنبيه ، وتلويح وإشباع وتصريح ، وإشارة ودلالة ، وتعلم أخلاق زكية ، وأسباب رضية ، وسياسات جامعة ، ومواعظ نافعة ، وأوامر صادعة ، وقصص مفيدة ، وثناء على الله عزوجل بما هو أهله ، وأوصاف كما يستحقه ، وتحميد كما يستوجبه ، وأخبار عن كائنات في التأني صدقت ، وأحاديث عن المؤتنف تحققت ، ونواه زاجرة عن القبائح والفواحش ، وإباحة الطيبات وتحريم المضار والخبائث ، وحث على الجميل والإحسان.

١٨٨

تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب ، مجلوة عليك في منظر بهيج ، ونظم أنيق ، ومعرض رشيق ، غير متعاص على الأسماع ، ولا متلو على الأفهام ، ولا مستكره في اللفظ ولا متوحش في المنظر غريب في الجنس ، غير غريب في القبيل ، ممتلئ ماء ونضارة ولطفا وغضارة ، يسري في القلب كما يسري السرور ، يمر إلى مواقعه كما يمر السهم ، ويضيء كما يضيء الفجر ، ويزخر كما يزخر البحر ، طموح العباب ، جموح على المتناول المنتاب ، كالروح في البدن ، والنور المستطير في الأفق ، والغيث الشامل ، والضياء الباهر. (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١).

من توهم أن الشعر يلحق شأوه بان ضلاله. وصح جهله. إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن ، وتداولته القلوب ، وانثالت عليه الهواجس ، وضرب الشيطان فيه بسهمه ، وأخذ منه بحظه. وما دونه من كلامهم ، فهو أدنى محلا ، وأقرب مأخذا ، وأسهل مطلبا. ولذلك قالوا : فلان مفحم ، فأخرجوه مخرج العيب. كما قالوا : فلان عيي ، فأوردوه مورد النقص.

والقرآن كتاب دل على صدق متحمله ، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها ، وبرهان شهد له برهان الأنبياء المتقدمين. وبينة على طريقة من سلف من الأولين ، حيرهم به إذا كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية. وبلغوا فيه الغاية. فعرفوا عجزهم ، كما عرف قوم عيسى نقصانهم. فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج ، والوصول إلى أعلى مراتب الطب. فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص. وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دققوا فيه من سحرهم ، وأتت على ما أجمعوا عليه من أمرهم. وكما سخّر لسليمان من الرياح والطير والجن حين كانوا يولعون بدقائق الحكمة ، وبدائع من اللطف. ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليه الأول والآخر وقوفا واحدا. وبقى حكمها إلى يوم القيامة.

انظر وفقك الله لما هديناك إليه ، وفكر في الذي دللناك عليه ، فالحق منهج واضح ، والدين ميزان راجح ، والجهل لا يزيد إلا غما ، ولا يورث إلا ندما. قال الله عزوجل : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢) وقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (٣) وقال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ

__________________

(١) آية (٤٢) فصلت.

(٢) آية (٩) سورة الزمر.

(٣) آية (٥٢) سورة الشورى.

١٨٩

كَثِيراً) (١) على حسب ما آتى من الفضل ، وأعطى من الكمال والعقل ، تقع الهداية والتبيين. فإن الأمور تتم بأسبابها ، وتحصل بآلتها ، ومن سلبه التوفيق وحرمه الإرشاد والتسديد فكأنما : (خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٢) لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاحمد الله على ما رزقك من الفهم إن فهمت. وقل : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٣) وقل : (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٤) وإن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة ، وتقدم في المعرفة الأرشد ، ويقف بك على الوجه الأحمد. فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علما ، وتيقنت فهما.

ولا يوسوس إليك الشيطان بأنه قد كان من هو أعلم منك بالعربية ، وأرجح منك في الفصاحة أقوام وأقوام ، ورجال ورجال ، فكذبوا وارتابوا لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز. ولكن اختلفت أحوالهم ، فكانوا بين جاهل وجاحد. وبين كافر نعمة وحاسد ، وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات ، وحائد عن النظر في الدلالات ، وناقص في باب البحث ، ومختل الآلة في وجه الفحص ، ومستهين بأمر الأديان ، وغاو تحت حبالة الشيطان ، ومقذوف بخذلان الرحمن. وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة ، ودرجات الحرمان مختلفة.

وهلا جعلت بإزاء الكفرة مثل : «لبيد (٥) بن ربيعة العامري» في حسن إسلامه ، و «كعب (٦) بن زهير» في صدق إيمانه ، و «حسان (٧) بن ثابت» وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أسلموا؟

على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر ، أو بحر زاخر. وقد بينا أن لا اعتصام إلا بهداية الله ، ولا توفيق إلا بنعمة الله ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (٨) ، فتأمّل ما عرّفناك في كتابنا ، وفرغ له قلبك ، واجمع له لبك ، ثم اعتصم بالله يهدك ، وتوكل عليه يغنك ويجرك ، واسترشده يرشدك ، وهو حسبي وحسبك ونعم الوكيل.

__________________

(١) آية (٢٦) سورة البقرة.

(٢) آية (٣١) سورة الحج.

(٣) آية (١١٤) سورة طه.

(٤) آية (٩٧) سورة المؤمنون.

(٥) سبقت ترجمته.

(٦) كعب بن زهير ، كان من المخضرمين ، وكان هجا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أسلم ومدحه. مات سنة (٢٤ ه‍). له ترجمة في : الأغاني ١٥ / ١٤٧. والجمهرة (١٤٨) ، والشعر والشعراء (٥٨ ، ٦٧).

(٧) سبقت ترجمته.

(٨) آية (٤) سورة الجمعة.

١٩٠

فهرس الكتاب

الموضوع

الصفحة

ترجمة المؤلف..................................................................... ٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم............................................................ ٥

في أن نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.............................................................. ٩

معجزتها القرآن................................................................... ٩

في الدلالة على أنّ.............................................................. ١٥

القرآن معجزة.................................................................. ١٥

في جملة وجوه إعجاز القرآن...................................................... ٢٨

في شرح ما بيّنا من.............................................................. ٤٠

وجوه إعجاز القرآن............................................................. ٤٠

في نفي الشعر من القرآن........................................................ ٤٣

في نفي السجع من القرآن....................................................... ٤٨

في ذكر البديع من الكلام........................................................ ٥٥

في كيفية الوقوف............................................................... ٨٢

على إعجاز القرآن.............................................................. ٨٢

باب : أيهما أبلغ .. الشعر أم النثر؟!........................................... ١٠٤

في جوانب إعجاز القرآن....................................................... ١٦٠

في أنه هل العلم بإعجاز القرآن ضرورة؟.......................................... ١٦٥

فيما يتعلق به الإعجاز......................................................... ١٦٦

في وصف وجوه من البلاغة..................................................... ١٦٧

في حقيقة المعجز.............................................................. ١٨١

في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمور تتصل بالإعجاز........................................ ١٨٣

خاتمة........................................................................ ١٨٧

١٩١