إعجاز القرآن

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني


المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0344-X
الصفحات: ١٩١

وليس يكون ذلك معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا. فإذا تحداهم وبان عجزهم صار ذلك معجزا. وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي ؛ لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا ، فإنما يعرف أولا إعجازه بطريقه ، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته. وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا. فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف هذا ، حتى يمكنه أن يستدل به. ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه والتقريع به ، والتمكين منه ، صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء ، وانقلاب العصا ثعبانا تتلقف ما يأفكون.

وأما ما كان من أهل صنعة العربية ، والتقدم في البلاغة ، ومعرفة فنون القول ، ووجوه المنطق ، فإنه يعرف حين يسمعه عجزه عن الإتيان بمثله. ويعرف أيضا أهل عصره ممن هو في طبقته ، أو يدانيه في صناعته عجزهم عنه. فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا.

ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزا حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه ، لم يجز أن يعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن القرآن معجز ، حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه. وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم ، وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه. ثم يعرف حينئذ كونه معجزا.

وهذا القول إن قيل أفحش ما يكون من الخطأ. فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء ، وفلق البحر ، بأن ذلك معجز.

وأما من لم يكن من أهل الصنعة ، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة ، يعرف بها كونه معجزا ، فيساوي حينئذ أهل الصنعة ، فيكون استدلالها في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه سواه ، إذا ادعاه ، دلالة على نبوته ، وبرهانا على صدقه.

فأما من قدّر أن القرآن لا يصير معجزا إلا بالتحدي إليه ، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى عليهما‌السلام ، ليست بآيات حتى يقع التحدي إليها والحض عليها ، ثم يقع العجز عنها فيعلم حينئذ أنها معجزات. وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة.

ويبين ما ذكرناه في غير البليغ أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهدا له. لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولا أن العرب عجزوا عنه. وإنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تحدى العرب إليه ، فعجزوا عنه. ويحتاج في النقل إلى شروط وليس يصير القرآن بهذا

١٦١

النقل معجزا. كذلك لا يصير معجزا بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأبلغهم ، بل هو معجز في نفسه. وإنما طريق معرفة هذا وقوعهم على العلم بعجزهم عنه.

قدر المعجز من القرآن

الذي ذهب إليه عامة أصحابنا ، وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه ، أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة ، أو ما كان بقدرها. قال : فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة ، وإن كانت سورة الكوثر فذلك معجز.

قال : ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر. وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة. وقد حكى عنهم نحو قولنا ، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة بل شرط الآيات الكثيرة. وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها ، ولم يخصّ. ولم يأتوا الشيء منها بمثل. فعلم أن جميع ذلك معجز.

وأما قوله عزوجل : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (١) فليس بمخالف لهذا. لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة. وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ، ويؤيده. وإن كان قد يتأول قوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (٢) على أن يكون راجعا إلى القبيل دون التفصيل.

وكذلك يحمل قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٣) على القبيل. لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره.

فإن قيل : هل تعرفون إعجاز السور القصار ، بما تعرفون به إعجاز السور الطوال؟ وهل تعرفون إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفوه إعجاز سورة البقرة ونحوها؟

فالجواب : أن أبا الحسن (٤) الأشعري ـ رحمه‌الله ـ أجاب عن ذلك : بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها. وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول : إنّ ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفا.

__________________

(١) آية (٣٤) سورة الطور.

(٢) سبقت.

(٣) آية (٨٨) سورة الإسراء.

(٤) سبقت ترجمته.

١٦٢

والطريقة الأولى أسدّ. وليس هذا الذي ذكرناه أخيرا بمناف له ، لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة تتوافى عليه ، وتجتمع فيه.

واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضربا من الفائدة ، لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا. موجود في كل سورة صغرت أو كبرت. فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا.

والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها في بناء من التفصيل الذي بينا ، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة ، وتتبين به البلاغة ، حتى يعلم ذلك بوجه آخر ، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزا ، حتى يستدلّ به من وجه آخر ، سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة ، وهذا غير ممتنع.

ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر ، وفي بعضها أغمض وأدق ، فلا يفتقر البليغ في النظر في حال بعضها إلى تأمّل كثير ، ولا بحث شديد ، حتى يتبين له الإعجاز ، ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق ، وبحث لطيف ، حتى يقع على الجليّة ، ويصل إلى المطلب. ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور ، فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف ، أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه. فإن ادّعى ملحد ، أو زعم زنديق أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار ، قلنا له : إن الإعجاز قد حصل بما بيناه ، وعرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه.

ثم فيه شيء آخر ، وهو : أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد ، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز. فكيف يجوز أن يناظره؟! على تفصيله ، وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال ، قامت الحجة عليه ، وثبتت المعجزة. ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات. ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه ، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل ، لم يبق بعد ذلك إلا قولنا ، لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا. ثم عرفنا في الباقي بالتّوقيف ونحو ذلك ، وليس بممتنع اختلاف حال الكلام حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر ، وفي بعضه أغمض ، ومن آمن ببعض دون بعض ، كان مذموما على ما قال الله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (١) وقال : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه أوقع ، وإن كنا نقول إنه يدل على أن الشفاء في جميعه. واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ

__________________

(١) آية (٨٥) سورة البقرة.

(٢) آية (٨٢) سورة الإسراء.

١٦٣

والبليغ ، ولذلك كانوا يسمون الكلمة يتيمة ، ويسمون البيت الواحد يتيما.

سمعت إسماعيل بن عباد يقول : سمعت أبا بكر بن مقسم يقول : سمعت ثعلبا (١) يقول : سمعت الفراء (٢) يقول : العرب تسمي البيت الواحد يتيما ، وكذلك يقال : الدرة اليتيمة لانفرادها. فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة ، وإلى العشرة تسمى قطعة ، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدا. وذلك مأخوذ من المخ القصيد ، وهو المتراكم بعضه على بعض. وهو ضد الرار ومثله الرثيد. انتهت الحكاية. ثم استشهد بقول لبيد :

فتذكرا ثقلا رثيدا بعد ما

ألقت ذكاء يمينها في كافر

يريد بيض النعام لأنه ينضد بعضه على بعض ، وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر ، والمثل السائر ، والمعنى الغريب ، والشيء الذي لو اجتهد له لم يقع عليه فيتفق له ويصادفه. قال لي بعض علماء هذه الصنعة وجاريته في ذلك : إن هذا مما لا سبب له يخصه ، وإنما سببه القرارة في أصل الصنعة ، والتقدم في عيون المعرفة. فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب وما يشذ عن تفصيل الحساب ، فأما ما قلنا من أن ما بلغ قدر السورة معجز فإن ذلك صحيح.

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) الفراء هو : أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء الديلمي ، كان إماما ثقة له شأن عظيم في اللغة. قال ثعلب : لو لا الفراء لما كانت لغة ، ولو لا الفراء لسقطت العربية ، مات سنة (٢٠٧ ه‍). له ترجمة في : وفيات الأعيان ٢ / ٢٢٨ ، وطبقات الأدباء (١٢٦) ، ومعجم الأدباء ٢٠ / ٩.

١٦٤

فصل :

في أنه هل العلم بإعجاز القرآن ضرورة؟

ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ضرورة. وكونه معجزا يعلم باستدلال. وهذا المذهب محكي عن المخالفين. والذي نقوله في هذا : إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا. وكذلك من لم يكن بليغا. فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية وغرائب الصنعة ، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الإتيان بمثله. ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه. كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك فهو يعلم عجز غيره استدلالا.

١٦٥

فصل :

فيما يتعلق به الإعجاز

إن قال قائل : بيّنوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه؟ أهو الحروف المنظومة؟ أو الكلام القائم بالذات أو غير ذلك؟ قيل : الذي تحداهم به : أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن ، منظومة كنظمها ، متتابعة كتتابعها ، مطّردة كاطّرادها ، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.

وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة ، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها. وهي حكاية لكلامه ودلالات عليه ، وأمارات له ، على أن يكونوا مستأنفين لذلك ، لا حاكين بما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولا يجب أن يقدّر مقدر ، أو يظن ظانّ أنا حين قلنا : إن القرآن معجز ، وإنّه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله ، أردنا غير ما فسرناه من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات.

وقد بينا قبل هذا أنه لم يكن ذلك معجزا ، لكونه عبارة عن الكلام القديم ؛ لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم ، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وكذلك ما دون الآية ، كاللفظة عبارة عن كلامه ، وليست بمنفردها بمعجزة.

وقد جوز بعض أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه ، والذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره. وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس. ولم يجب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه وما يتصل به ؛ لأنه خارج عن غرض كتابنا ، لأن الإعجاز وقع في نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلامه. وإلى مثل هذا النظم وقع التحدي ، فبيّنا وجه ذلك ، وكيفية ما يتصور القول فيه ، وأزلنا توهم من يتوهم أن الكلام القديم حروف منظومة ، أو حروف غير منظومة ، أو شيء مؤلّف أو غير ذلك مما يصح أن يتوهّم على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.

١٦٦

فصل :

في وصف وجوه من البلاغة

ذكر بعض أهل الأدب والكلام : أن البلاغة على عشرة أقسام : الإيجاز ، والتشبيه ، والاستعارة ، والتلاؤم ، والفواصل ، والتجانس ، والتصريف ، والتضمين ، والمبالغة ، وحسن البيان.

فأما الإيجاز فإنما يسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى. فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة. وذلك ينقسم إلى حذف وقصر. فالحذف : الإسقاط للتخفيف كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) وقوله : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) (٢) وحذف الجواب كقوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (٣) كأنه قيل : لكان هذا القرآن ، والحذف أبلغ من الذكر ، لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب. والإيجاز بالقصد كقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٤) وقوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) (٥) وقوله : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) (٦) وقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٧).

والإطناب فيه بلاغة ، فأما التطويل ففيه عيّ.

وأما التشبيه بالعقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل ، كقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (٨) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (٩)

__________________

(١) آية (٨٢) سورة يوسف.

(٢) آية (٢١) سورة محمد.

(٣) آية (٣١) سورة الرعد.

(٤) آية (١٧٩) سورة البقرة.

(٥) آية (٤) سورة المنافقون.

(٦) آية (٢٣) سورة يونس.

(٧) آية (٤٣) سورة فاطر.

(٨) آية (٣٩) سورة النور.

(٩) آية (١٨) سورة إبراهيم.

١٦٧

وقوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (١) وقوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) (٢) وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٣) وقوله : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٤) وقوله : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) (٥) وقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٦) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (٧) وقوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) (٨) وقوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٩) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) (١٠) وقوله : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (١١) وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (١٢) ونحو ذلك.

ومن ذلك باب الاستعارة : وهو بيان التشبيه كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (١٣) وكقوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٤) وكقوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (١٥) وقوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى

__________________

(١) آية (١٧١) سورة الأعراف.

(٢) آية (٢٤) سورة يونس.

(٣) آية (١٩ ، ٢٠) سورة القمر.

(٤) آية (٣٧) سورة الرحمن.

(٥) آية (٢٠) سورة الحديد.

(٦) آية (٢١) سورة الحديد.

(٧) آية (٤) سورة الجمعة.

(٨) آية (١٧٦) سورة الأعراف.

(٩) آية (٧) سورة الحاقة.

(١٠) آية (٤١) سورة العنكبوت.

(١١) آية (٢٤) سورة الرحمن.

(١٢) آية (١٤) سورة الرحمن.

(١٣) آية (٢٣) سورة الفرقان.

(١٤) آية (٩٤) سورة الحجر.

(١٥) آية (١١) سورة الحاقة.

١٦٨

الْغَضَبُ) (١) وكقوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (٢) وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (٣) فالدمغ والقذف مستعار ، وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (٤) وقوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (٥) وقوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٦) وقوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (٧) وقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (٨) وقوله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) (٩) وقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) (١٠) وقوله : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) (١١) وقوله : (حَصِيداً خامِدِينَ) (١٢) وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (١٣) وقوله : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (١٤) وقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) (١٥) وقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) (١٦) وقوله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) (١٧) يريد أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم. وقوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) (١٨).

وهذا أوقع من اللفظ الظاهر ، وأبلغ من الكلام الموضوع.

وأما التلاؤم فهو تعديل الحروف في التأليف ، وهو نقيض التنافر. كقول الشاعر :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

__________________

(١) آية (١٥٤) سورة الأعراف.

(٢) آية (١١) سورة الإسراء.

(٣) آية (١٢) سورة الأنبياء.

(٤) آية (٣٧) سورة يس.

(٥) آية (٧) سورة الأنفال.

(٦) آية (٥١) سورة فصلت.

(٧) آية (٤) سورة محمد.

(٨) آية (١٨) سورة التكوير.

(٩) آية (٢١٤) سورة البقرة.

(١٠) آية (١٧٨) سورة آل عمران.

(١١) آية (٢٤) سورة يونس.

(١٢) آية (١٥) سورة الأنبياء.

(١٣) آية (٢٢٥) سورة الشعراء.

(١٤) آية (٤٦) سورة الأحزاب.

(١٥) آية (٢٩) سورة الإسراء.

(١٦) آية (٢١) سورة السجدة.

(١٧) آية (١١) سورة الكهف.

(١٨) آية (١٤٩) سورة الأعراف.

١٦٩

قالوا : هو من شعر الجن ، حروفه متنافرة ، لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه. والتلاؤم على ضربين أحدهما : في الطبقة الوسطى ، كقوله :

رمتني وستر الله بيني وبينها

عشية آرام الكناس رميم

رميم التي قالت لجارات بيتها

ضمنت لكم أن لا يزال يهيم

ألا ربّ يوم لو رمتني رميتها

ولكن عهدي بالنضال قديم

قالوا : والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله ، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا من بعض ، كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض.

والتلاؤم حسن الكلام في السمع ، وسهولته في اللفظ ، ووقع المعنى في القلب. وذلك كالخط الحسن ، والبيان الشافي ، والمتنافر كالخط القبيح. فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان ، وصحة البرهان في أعلى الطبقات ، ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع ، وبصيرا بجودة الكلام ، كما يظهر له أعلى طبقة الشعر.

«والمتنافر» : ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد ، أو قرب شديد ، فإذا بعد فهو كالظّفر. وإذا قرب جدا كان بمنزلة مشي المقيد. ويبين ذلك بقرب مخارج الحروف وتباعدها.

وأما الفواصل فهي حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعاني ، وفيها بلاغة ، والإسجاع عيب ؛ لأن السجع يتبع المعنى. والفواصل تابعة للمعاني. والسجع كقول مسيلمة.

ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة ، كما قد تقع على حروف متقاربة. ولا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل ؛ لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة. لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافي ، وإقامة الوزن.

وأما التجانس فإنه بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد. وهو على وجهين مزاوجة ومناسبة. فالمزاوجة كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٢) وكقول عمرو بن كلثوم (٣) :

__________________

(١) آية (١٩٤) سورة البقرة.

(٢) آية (٥٤) سورة آل عمران.

(٣) عمرو بن كلثوم التغلبي ، كان شاعرا مطبوعا ، وكان أعز الناس نفسا ، وأكثرهم امتناعا وأنفة ولقد ساد قومه وهو في الخامسة عشرة. مات سنة (٦٠٠ م). له ترجمة في : الأغاني ٩ / ١٨١ ، والشعر والشعراء (١١٧) ، والجمهرة (٧٤).

١٧٠

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وأما المناسبة فهي كقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) وقوله : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٢).

وأما «التصريف» فهو تصريف الكلام في المعاني ، كتصريفه في الدلالات المختلفة ، كتصريف «الملك» في معاني الصفات ، فصرّف في معنى «مالك» ، و «ملك» ، و «ذي الملكوت» ، و «المليك». وفي معنى : «التمليك» و «التملك» ، و «الإملاك». وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة. كما كرر من قصة موسى في مواضع.

وأما التضمين فهو حصول معنى فيه ، من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه.

وذلك على وجهين : تضمين توجيه البنية. كقولنا : معلوم يوجب أنه لا بد من عالم. وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به ؛ كالصفة بضارب يدل على مضروب.

والتضمين كله إنجاز. والتضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضا إنجاز وذكر أن : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تبارك وتعالى ، أو التبرك باسمه.

وأما «المبالغة» فهي الدلالة على كثرة المعنى ، وذلك على وجوه منها مبالغة في الصفة المبينة. لذلك كقولك : «رحمن» عدل عن ذلك للمبالغة ، وكقوله : (لَغَفَّارٌ) وكذلك فعّال وفعول كقولهم «شكور وغفور» وفعيل كقوله : (الرَّحِيمِ) و (قَدِيرٌ) ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة كقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) وكقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) (٤) وكقوله : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (٥) وكقوله : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦) وقد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة ، وأما حسن البيان فالبيان على أربعة أقسام : كلام ، وحال ، وإشارة ، وعلامة.

ويقع التفاضل في البيان ، ولذلك قال عز من قائل : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ

__________________

(١) آية (١٢٧) سورة التوبة.

(٢) آية (٣٧) سورة النور.

(٣) آية (٦٢) سورة الزمر.

(٤) آية (٢٦) سورة النحل.

(٥) آية (٤٠) سورة الأعراف.

(٦) آية (٢٤) سورة سبأ.

١٧١

الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (١) وقيل : «أعيا من باقل» سئل عن ظبية في يده ، بكم اشتراها فأراد أن يقول : بأحد عشر ، فأشار بيديه مادا أصابعه العشر ، ثم أدلع لسانه وأفلت الظبي من يده.

ثم البيان على مراتب : قلنا قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب مما مضت أمثلته في الشعر.

ومن الناس من زعم : أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في الفضل. واعلم أن الذي بيناه قبل هذا ، وذهبنا إليه هو سديد. وهو أن هذه الأمور تنقسم. فمنها ما يمكن الوقوع عليه والتعمل له ، ويدرك بالتعلم. فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به.

وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات ، فذلك هو الذي يدل على إعجازه ، ونحن نضرب لذلك أمثلة لتقف على ما ذهبنا إليه.

وذكرنا في هذا الفصل عن هذا القائل : إن التشبيه تعرف به البلاغة. وذلك مسلّم ، ولكن إن قلنا ما وقع من التشبيه في القرآن معجز ، عرض علينا من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك. وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر ، وقد تتبّع في هذا ما لم يتتبع غيره ، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء. وكذلك كثير من وجوه البلاغة قد بيّنا أن تعلمها يمكن ، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره.

فإن كان إنما يعني هذا القائل أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية. ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض ، وينتهي منه إلى متصرفاته على أتم البلاغة ، وأبدع البراعة. فهذا مما لا نأباه بل نقول به.

وإنما ننكر أن يقول قائل : إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يتصل به الكلام ، ويفضي إليه. مثل ما يقول : إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز ، وإن التشبيه معجز ، وإن التجنيس معجز ، والمطابقة بنفسها معجزة.

فأما الآية التي فيها ذكر للتشبيه ، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها ، فإني لا أدفع ذلك وأصححه ، ولكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه.

وصاحب «المقالة» التي حكيناها ، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه ، وما قرن به من الوجوه. ومن تلك الوجوه ما قد بيّنا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان. وذلك لا يختص بجنس

__________________

(١) آية (١ : ٤) سورة الرحمن.

١٧٢

من المبيّن دون جنس. ولذلك قال : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) (١) وقال : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) وقال : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٣) فكرر في مواضع ذكره أنه مبين.

فالقرآن أعلى منازل البيان ، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه ، من تعديل النظم وسلامته ، وحسنه وبهجته ، وحسن موقعه في السمع ، وسهولته على اللسان ، ووقوعه في النفس موقع القبول ، وتصوره تصور المشاهد ، وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف ، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة.

وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ، ما يذهل ويبهج ، ويقلق ويؤنس ، ويطمع ويؤيس ، ويضحك ويبكي ، ويحزن ويفرح ، ويسكن ويزعج ، ويشجي ويطرب ، ويهز الأعطاف ، ويستميل نحوه الأسماع ، ويورث الأريحيّة والعزّة. وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا ، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا. وله مسالك في النفوس لطيفة ، ومداخل إلى القلوب دقيقة.

وبحسب ما يترتب في نظمه ، ويتنزل في موقعه ، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه يكون عجيب تأثيراته ، وبديع مقتضياته. وكذلك على حسب مصادره ، يتصور وجوه موارده.

وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه ، ويدل على مكان متكلمه ، وينبه على عظيم شأن أهله ، وعلى علو محله.

ألا ترى أن الشعر في الغزل ، إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن ، وإذا صدر عن متغزل وحصل من متصنع نادى على نفسه بالمداجاة ، وأخبر عن خبيئه في المراءاة. وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع ، فيعلم وجه صدوره ، ويدل على كنهه وحقيقته.

وقد يصدر عن المتشبه ، ويخرج عن المتصنع ، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه ، ويظهر من أمره خلاف ما يبديه ، وأنت تعرف قول المتنبي (٤) :

فالخيل والليل والبيداء تعرفني

والحرب والطّعن والقرطاس والقلم

__________________

(١) آية (١٣٨) سورة آل عمران.

(٢) آية (٨٩) سورة النحل.

(٣) آية (١٩٥) سورة الشعراء.

(٤) سبقت ترجمته.

١٧٣

من الواقع في القلب لما يعلم أنه من أهل الشجاعة ما لا تجده للبحتري (١) في قوله :

وأنا الشجاع وقد بدا لك موقفي

بعقرقس والمشرفية مشهدي

وتجد لابن المعتز (٢) في موقع شعره من القلب في الفخر وغيره ما لا تجده لغيره لأنه إذا قال :

إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا

وسارت ورائي هاشم ونزار

وعمّ سماء النّقع حتى كأنه

دخان وأطراف الرماح شرار

وقال :

قد تردّيت بالمكارم دهرا

وكفتني نفسي من الافتخار

أنا جيش إذا غزوت وحيدا

ووحيد في الجحفل الجرّار

وقال :

أيها السائلي عن الحسب الأط

يب ما فوقه لخلق مزيد

نحن آل الرسول والعترة الح

ق وأهل القربى فما ذا تريد ..؟

ولنا ما أضاء صبح عليه

وأتته رايات ليل سود

وكما أنشدني الحسن بن عبد الله قال : أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها :

أنا ابن الذي سادهم في الحيا

ة وسادهم بي تحت الثّرى

وما لي في أحد مرغب

بلى فيّ يرغب كلّ الورى

واسهر للمجد والمكرمات

إذا اكتحلت أعين بالكرى

فانظر في القصيدة كلّها ، ثم في جميع شعره ، تعلم أنه ملك الشعر ، وأنه يليق به من الفخر خاصة. ثم مما يتبعه مما يتعاطاه مما لا يليق بغيره. بل ينفر عن سواه. ولم أحب أن أكثر عليك فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه. وكما ترى من قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال :

ولا أصبح الحيّ الخلوف بغارة

ولا الجيش ما لم يأته قبلي النّذر

ويا رب دار لم تخفني منيعة

طلعت عليها بالرديء أنا والفجر

وساحبة الأذيال نحوي لقيتها

فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر

وهبت لها ما حازه الجيش كله

وأبت ولم يكشف لأبياتها ستر

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) سبقت ترجمته.

١٧٤

وما راح يطغيني بأثوابه الغنى

ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر

وما حاجتي في المال أبغي وفوره

إذا لم أفر وفري فلا وفر الوفر

والشيء إذا صدر من أهله ، وبدا من أصله ، وانتسب إلى ذويه سلم في نفسه ، وبانت فخامته ، وشواهد أثر الاستحقاق فيه.

وإذا صدر من مكلف وبدا من متصنع بان أثر الغرابة عليه ، وظهرت مخايل الاستنحاس فيه ، وعرف شمائل التخير منه.

إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة ، وتمكن البطالة ، وموقع كلامه في وصف ما هو بسبيله من أمر العبارة ، ووصف الخمر والخمار. كما نعرف موقع كلام ذي الرّمّة في وصف المهامة والبوادي ، والجمال والاتساع والأزمّة.

وعيب أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرّباع والوحش. ففكر في قوله :

ودع الأطلال تسقيها الجنوب

وتبلي عهد جدّتها الخطوب

وخلّ لراكب الوجناء أرضا

تخبّ به النّجيبة والنجيب

بلاد نبتها عشر وطلح

وأكثر صيدها ضبع وذيب

ولا تأخذ عن الأعراف لهوا

ولا عيشا ، فعيشهم جديب

دع الألبان يشربها رجال

رقيق العيش عندهم غريب

إذا راب الحليب فبل عليه

ولا تحرج فما في ذاك حوب

فأطيب منه صافية شمول

يطوف بكأسها ساق أديب

كأنّ هديرها في الدّنّ يحكي

قراءة القس قابله الصّليب

أعاذل أقصري عن طول لومي

فراجى توبتي عندي يخيب

تعيبين الذنوب وأي حرّ

من الفتيان ليس له ذنوب؟!

وقوله :

صفة الطلول بلاغة القدم

فاجعل صفاتك لابنة الكرم

وسمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول : سمعت براكويه الزنجاني يقول : أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى (١) :

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل ..؟

__________________

(١) سبقت ترجمته.

١٧٥

وكان وصف فيها الطلل ، قال براكويه : فقال لي هلال : فقلت بديها :

إذا سمعت فتى يبكي على طلل

من أهل زنجان فاعلم أنه طلل

وإنما ذكرت لك هذه الأمور ، لتعلم أن الشيء في معدنه أعز ، وفي مظانه أحسن ، وإلى أصله أنزع ، وبأسبابه أليق. وهو يدل على ما صدر منه ، وينبه ما أنتج عنه ، ويكون قراره على موجب صورته وأنواره على حسب محله. ولكل شيء حد ومذهب. ولكل كلام سبيل ومنهج.

وقد ذكر أبو بكر (١) الصديق رضي الله عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به ، فقال : (إن هذا كلام لم يخرج من إله) فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة الإلهية يتميز عما لم يكن كذلك.

ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان. ولو لم يكن فيه إلا ما منّ به الله على خلقه بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٢) فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان ، وأهداه وأكمله .. وأعلاه وأبلغه وأسناه.

تأمل قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٣) في شدة التنبيه على تركهم الحق ، والإعراض عنه. وموضع امتنانه بالذكر والتحذير.

وقوله : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٤) وهذا بليغ في التحسير وقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٥) وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر ، معوّدين لمخالفة النهي والأمر ، وقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦) هو في نهاية الوضع من الخلة الأعلى التقوى.

وقوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٧) وهذا نهاية في التحذير من التفريط.

وقوله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) آية (٣ ، ٤) سورة الرحمن.

(٣) آية (٥) سورة الزخرف.

(٤) آية (٣٩) سورة الزخرف.

(٥) آية (٢٨) سورة الأنعام.

(٦) آية (٦٧) سورة الزخرف.

(٧) آية (٥٦) سورة الزمر.

١٧٦

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١) هو النهاية في الوعيد والتهديد.

وقوله : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) (٢) نهاية في الوعيد. وقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣) نهاية في الترغيب.

وقوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٤) وكذلك قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٥) نهاية في الحجاج ، وقوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٦) نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات.

ولا وجه للتطويل ، فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء. وقد ذكرنا من قبل : أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز ، وهو معجز من القرآن.

وما حكينا عن صاحب الكلام من المبالغة في اللفظ. فليس ذلك بطريق الإعجاز ، لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره ، وليس ذلك بمعجز. بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة ، وجوه من اللفظ يثمر الإعجاز.

و «تضمين المعاني» أيضا ، قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها.

وأما «الفواصل» فقد بيّنا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز ، وكذلك قد بيّنا في المقاطع والمطالع نحو هذا. وبيّنا في تلاؤم الكلام ما سبق من صحة تعلق الإعجاز به.

والتصرّف في «الاستعارة» البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز ، كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام ، لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجري مجرى واحدا ، وتأخذ مأخذا مفردا.

وأما «الإيجاز والبسط» فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز كما يتعلق بالحقائق. و «الاستعارة» و «البيان» في كل واحد منهما ما لا يضبط حدّه ، ولا يقدّر قدره ، ولا يمكن

__________________

(١) آية (٤٠) سورة فصلت.

(٢) آية (٤٤ ، ٤٥) سورة الشورى.

(٣) آية (٧١) سورة الزخرف.

(٤) آية (٩١) سورة المؤمنون.

(٥) آية (٢١) سورة الأنبياء.

(٦) آية (١٣ ، ١٤) سورة الملك.

١٧٧

التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم ، ولا يتطرّق إلى غوره بالتسبّب. وكلّ ما يمكن تعلمه ، ويتهيأ تلقنه ، ويمكن تخليصه ، ويستدرك أخذه فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به.

ولذلك قلنا : «السجع» مما ليس يلتمس فيه الإعجاز ؛ لأن ذلك أمر محدود وسبيل مورود. ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه.

وكذلك «التجنيس» و «التطبيق» متى أخذ أحدهما وطلب وجههما استوفى ما شاء ، ولم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه ، كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري. وإن كان البحتري أشغف بالمطابق ، وأقل طلبا للمجانس.

فإن قال قائل : هلا قلت : إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية ، لا يوصل إليها بالتعلّم ، ولا تملك بالتعمّل ؛ كما ذكرتم في البيان وغير ذلك؟

قلنا : لو عمد إلى كتاب «الأجناس» ، ونظر في كتاب «العين» ، لم يتعذر عليه التجنيس الكثير.

فأما «الإطباق» فهو أقرب منه ، وليس كذلك البيان. والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها ؛ لأنها لا تستوفي بالتعلم. فإن قيل : فالبيان قد يتعلم؟ قيل : إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتفاوت فيه الناس ، وتتناهى فيه العادات. وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل. وأن الناس يتقاربون في ذلك فيرمون فيه إلى حد ، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي ، ولم يقدروا على التعدي إلا أن يحصل ما يخرق العادة وينقض العرف. ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات على شروط في ذلك.

والقدر الذي يفوت الحد في البيان ، ويتجاوز الوهم ، ويشذ عن الصنعة ، ويقذفه الطبع في النادر القليل ، كالبيت البديع ، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر ، والفقرة تتفق في رسالة كاتب. حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين أو قطعة أو قطعتين ، والأديب شهيد كلمة أو كلمتين. وذلك أمر قليل.

ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك ، ويستمر على ذلك المنهج ، أمكن أن يدّعى فيه الإعجاز.

ولكنك إن كنت من أهل الصنعة تعلم قلة الأبيات الشوارد ، والكلمات الفرائد ، وأمهات القلائد.

فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية ، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية ، لم تجد ذلك في الدواوين ، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين.

١٧٨

ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة ، ولفظة بديعة ، وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها. وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة ومقدار في الخطابة. وهذا كما قلناه من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن وإن لم يكن له حكم الشعر.

فأما قدر المعجز فقد بيّنا أنها السورة طالت أو قصرت. وبعد ذلك خلاف من الناس ، من قال مقدار كل سورة أو أطول آية فهو معجز. وعندنا كل واحد من الأمرين معجز ، والدلالة عليه ما تقدم ، والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك. فلذلك لم نحكم بإعجازه ، وما صح أن تتبين فيه البلاغة ، ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى ، وأجزل لفظ ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام.

فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى ، كان بالغا وبليغا. فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة ، وانتهى إلى أمر يعجز عنه الكامل في البراعة ، صح أن يكون له حكم المعجزات ، وجاز أن يقع موقع الدلالات.

وقد ذكرنا أنه بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم. ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي يقدر عليه البشر.

فإن قيل : فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة ، تباين جميع ديوانه في البلاغة ، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه ، ولا يكون سبب ذلك البيت ، ولا تلك القطعة في التفصيل ، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك ويجعل جميع كلامه من ذلك النمط ، لم يجد إلى ذلك سبيلا. وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة ، لأنه يتفق من المتأخر فيها. فهلّا قلتم : إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغة القصوى ، كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة؟ وهلا قلتم : إن القرآن من هذا الباب؟

فالجواب : إنا لم نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة ، وهؤلاء الناس أهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة ، وخطبهم منقولة ، ورسائلهم مأثورة ، وبلاغاتهم مروية ، وحكمهم مشهورة. وكذلك أهل الكهانة والبلاغة مثل قسّ بن ساعدة ، وسحبان وائل ، ومثل : شقّ وسطيح وغيرهم. كلامهم معروف عندنا ، وموضوع بين أيدينا ، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ ، ولا خطابة خطيب ، ولا براعة شاعر مفلق ، ولا كتابة كاتب مدقق.

فلما لم نجد في شيء من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة ، أو يشاكله في الإعجاز مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة. وتقدّم من التقريع والمجازاة الأمد المديد ، وثبت له وحده خاصة قصب السبق ، والاستيلاء على الأمر ، وعجز الكل عنه ، ووقفوا دونه حيارى ، يعرفون عجزهم وإن جهل قوم سببه ، ويعلمون نقصهم وإن أغفل قوم وجهه.

١٧٩

رأينا أنه ناقض للعادة ، ورأينا أنه خارق للمعروف في الجبلّة. وخرق العادة إنما تقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات ، وعلى أن من ظهرت عليه ، ووقعت موقع الهداية إليه. صادق فيما يدعيه من نبوته ، ومحق في قوله ، ومصيب في هديه ، قد سادت له الحجة البالغة ، والكلمة التامة ، والبرهان النير ، والدليل البين.

١٨٠