إعجاز القرآن

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني


المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0344-X
الصفحات: ١٩١

ثم نقول أنت تعلم أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة ، به من الشغل في تفضيله على ابن الرّومي ، أو تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس ومن في طبقته.

وكذلك أبو نواس إنما يعدل شعره بشعر أشكاله ، ويقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره. وإنما يقع بينهم التباين اليسير والتفاوت القليل. فأما يظنّ ظانّ أو يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (١) وإنما هي خواطر يغير بعضها على بعض ، ويقتدى فيها بعض ببعض ، والغرض الذي يرمي إليه ويصح التوافي عليه ، في الجملة ، فهو قبيل متداول ، وجنس متنازع ، وشريعة مورودة ، وطريقة مسلوكة.

ألا ترى إلى ما روي عن الحسين (٢) بن الضحاك قال : أنشدت أبا نواس (٣) قصيدتي التي فيها :

وشاطريّ اللسان مختلق التّك

ريه زان المجون بالنّسك

كأنه نصب كأنه قمر

يكرع في بعض أنجم الفلك

قال : فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها :

أعاذل أعتبت الإمام واعتبا

وأعربت عما في الضمير وأعربا

وقلت لساقيها أجزها فلم أكد

ليأبى أمير المؤمنين وأشربا

فجوّزها عني عقارا ترى لها

إلى الشّرف الأعلى شعاعا مطنبا

إذا عبّ فيها شارب القوم خلّته

يقبّل في داج من الليل كوكبا

قال : فقلت له : يا أبا علي هذه مقالتي ، فقال : أتظن أنه يروى لك معنى وأنا حي ..؟ فتأمل هذا الأخذ ، وهذا الوضع ، وهذا الاتباع. أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى. فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنّه ؛ لأن قوله : يكرع ليس بصحيح ، وفيه ثقل بيّن وتفاوت ، وفيه إحالة ؛ لأن القمر لا يصح تصوّرا أن يكرع في نجم.

وأما قول أبي نواس : إذا عب فيها ، فكلمة قد قصد فيها المتانة ، وكان سبيله أن يختار

__________________

(١) آية (٢١) سورة الحج.

(٢) الحسين بن الضحاك ، ولد في البصرة ، ونشأ فيها ، ونادم الخلفاء من بني العباس ، وكان خليعا فاسدا ، وهو أول من نادم الأمين ، وله فيه مدائح كثيرة. مات سنة (٢٥٠ ه‍). له ترجمة في : الأغاني ٦ / ١٧٠ ، ووفيات الأعيان ١ / ١٥٤ ، وشذرات الذهب ٢ / ١٢٣.

(٣) سبقت ترجمته.

١٤١

سواها من ألفاظ الشرب ، ولو فعل ذلك كان أملح. وقوله شارب القوم فيه ضرب من التكلف الذي لا بد له منه ، أو من مثله ، لإقامة الوزن.

ثم قوله : «خلته يقبل في داج من الليل كوكبا» تشبيه بحالة واحدة من أحواله ، وهي أن يشرب حيث لا ضوء هناك ، وإنما يتناوله ليلا فليس بتشبيه مستوفي على ما فيه من الوقوع والملاحة. وقد قال ابن الرومي (١) ما هو أوقع منه وأملح وأبدع :

ومهفهف تمّت محاسنه

حتى تجاوز منية النّفس

تصبو الكئوس إلى مراشفه

ونحن في يده إلى الحبس

أبصرته والكأس بين فم

منه وبين أنامل خمس

وكأنها وكأن شاربها

قمر يقبّل عارض الشمس

ولا شك في أن تشبيه ابن الرومي أحسن وأعجب ، إلا أنه تمكن من إيراده في بيتين وهما مع سبقهما إلى المعنى أتيا به في بيت واحد.

وإنما أردت بهذا أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة ، يقع فيها التنافس والتعارض والأطماع ، متعلقة بها ، والهمم تسمو إليها. وهي ألف طباعنا ، وطوع مداركنا ، ومجانس لكلامنا.

وإعجاب قوم بنحو هذا وما يجري مجراها ، وإيثار أقوام لشعر البحتري على أبي تمام ، وعبد الصمد ، وابن الرومي ، وتقديم قوم كل هؤلاء أو بعضهم عليه ، وذهاب قوم عند التفرقة ليس بأمر يضرّ بنا ، ولا سبب يعترض على أفهامنا.

ونحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري فنتكلم عليها كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس ، ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة ، ويستخلص من سر المعرفة سريرة ، ويعلم كيف تكون الموازنة ، وكيف تقع المشابهة والمقاربة ، ونجعل تلك القصيدة التي نذكرها أجود شعره.

سمعت الصّاحب إسماعيل بن عباد يقول : سمعت أبا الفضل بن العميد يقول : سمعت أبا مسلم الرّستمي يقول : سمعت البحتري يذكر أن أجود شعر قاله :

«أهلا بذلكم الخيال المقبل».

قال : وسمعت أبا الفضل بن العميد يقول : أجود شعره هو قوله :

«في الشيب زجر له لو كان ينزجر».

__________________

(١) سبقت ترجمته.

١٤٢

قال : وسئلت عن ذلك فقلت : البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره. فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما يصلح في مثل هذا قوله :

أهلا بذلكم الخيال المقبل

فعل الذي نهواه أو لم يفعل

برق سرى في بطن وجرة فاهتدت

بسناه أعناق الرّكاب الضّلّل

البيت الأول في قوله : ذلكم الخيال ، ثقل روح ، وتطويل وحشو ، وغيره أصلح له ، وأخف منه قول الصّنوبري :

أهلا بذاك الزّور من زور

شمس بدت في فلك الدّور

وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف ، فيصير إلى الكزازة ، وتعود ملاحته بذلك ملوحة ، وفصاحته عيا ، وبراعته تكلفا ، وسلاسته تعسفا ، وملامسته تلويا وتعقدا. فهذا فصل وفيه شيء آخر ، وهو : أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال ، حال إقباله. فأما أن يحكى الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة ، ففيه عهدة. وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة ، وهو لبراعته وحذقه في هذه الصنعة يعلق نحو هذا الكلام ، ولا ينظر في عواقبه ، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور.

ثم قوله : «فعل الذي نهواه أو لم يفعل» ليست بكلمة رشيقة ، ولا لفظة ظريفة ، وإن كانت كسائر الكلام.

فأما بيته الثاني فهو عظيم الموقع في البهجة وبديع المأخذ ، حسن الرواء ، أنيق المنظر والمسمع ، يملأ القلب والفهم ويفرح الخاطر. وترى بشاشته في العروق ، وكان البحتري يسمي نحو هذه الأبيات : «عروق الذهب». وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة ، وحذقه في البلاغة.

ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل ، مع الديباجة الحسنة ، والرونق المليح. وذلك أنه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه ، كما يقال : إنه يسري كنسيم الصبا فيطيب ما مر به. كذلك يضيء ما مر حوله وينور ما مر به. وهذا غلوّ في الصنعة ، إلا أن ذكره : «بطن وجرة» حشو ، وفي ذكره خلل ؛ لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها ، بخلاف ما يؤثر في غيرها. فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة ، وتحديده المكان على الحشو أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر : «سقط اللوى بين الدخول فحومل ، فتوضح فالمقراة» لم يقنع بذكر حد حتى حده بأربع حدود. كأنه يريد بيع المنزل ، فيخشى إن أخل بحد أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا. فهذا باب.

١٤٣

ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر ودقة المطلب ولطف المسلك. وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه ، ويخالف ما يوضع عليه أصل الباب.

ولا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه ، من جهة بطن وجرة ، لأن هذا القطع إن كان فعله كان خارجا به عن النظم المحمود ، ولم يكن مبدعا. ثم كان لا تكون فيه فائدة ، لأن كل برق شعل وتكرر وقع الاهتداء به في الظلام. وكان لا يكون بما نظمه مفيدا ، ولا متقدما ، وهو على ما كان من مقصده ، فهو ذو لفظ محمود ، ومعنى مستحب غير مقصود. ويعلم بمثله أنه طلب العبارات ، وتعليق القول بالإشارات.

وهذا من الشعر الحسن الذي يحلو لفظه وتقل فوائده كقول القائل :

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح

وشدّت على حدب المهارى رحالنا

ولا ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

هذه ألفاظ بعيدة المطالع والمقاطع ، حلوة المجاني والمواقع ، قليلة المعاني والفوائد. فأما قول البحتري بعد ذلك :

من غادة منعت وتمنع نيلها

فلو أنها بذلت لنا لم تبذل

كالبدر غير مخيل والغصن غ

ير مميل والدّعص غير مهيّل

فالبيت الأول على ما تكلف فيه من المطابقة وتجشم الصنعة ألفاظه أوفر من معانيه ، وكلماته أكثر من فوائده. وتعلم أن القصد وضع العبارات في مثله. ولو قال : هي ممنوعة مانعة ، كان ينوب عن تطويله ، وتكثيره الكلام وتهويله ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان.

وأما البيت الثاني فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص أمر منقول متداول ولا فضيلة في التشبيه بنحو ذلك. وإنما يبقى تشبيهة ثلاثة أشياء في البيت ، وهذا أيضا قريب لأن المعنى مكرر ويبقى له بعد ذلك شيء آخر ، وهو تعلمه للترصيع في البيت كله.

إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف ، لأن التشبيه بالغصن كاف. فإذا زاد فقال كالغصن غير معوج ، كان ذلك من باب التكلف خللا. وكان ذلك زيادة يستغنى عنها.

وكذلك قوله : كالدعص غير مهيل ، لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفا إليه. فلا يكون لتقييده معنى وأما قوله :

ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن

فيما أتاه ولا الجمال بمجمل

١٤٤

عذل المشوق وإن من سيما الهوى

في حيث يجهله لجاج العذّل

قوله في البيت الأول : عندك حشو. وليس بواقع ولا بديع ، وفيه كلفة. والمعنى الذي قصده أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء.

وفيه شيء آخر لأنه يذكر أن حسنا لم يحسن في تهييج وجده ، وتهييم قلبه. وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب. وبيت كشاجم أسلم من هذا وأبعد من الخلل وهو قوله :

بحياة حسنك أحسنى ، وبحق من

جعل الجمال عليك وقفا أجملي

وأما البيت الثاني فإن قوله : في حيث حشا بقوله : في ، ووقع ذلك مستنكرا وحشيا نافرا عن طبعه ، جافيا في وضعه ، فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن. فهو يمحو حسنه ، ويأتي على جماله.

ثم في المعنى شيء ، لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول ولو كان مجهولا لم يهتد. والعذل عليه ، فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني. ثم لو سلم من هذا الخلل ، لم يكن في البيت معنى بديع ولا شيء يفوت قول الشعراء في العذل ، فإن ذلك جملهم الذلول ، وقولهم المكرر ، وأما قوله :

ما ذا عليك من انتظار متيّم؟

بل ما يضرّك وقفة في منزل؟

إن سيل عيّ عن الجواب فلم يطق

رجعا فكيف يكون إن لم يسأل؟

لست أنكر حسن البيتين وظرفهما ، ورشاقتهما ولطفهما وماءهما وبهجتهما ، إلا أن البيت الأول منقطع عن الكلام المتقدم ضربا من الانقطاع ، لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر ، وإنما جرى ذكر العذّال على وجه لا يتصل هذا البيت به ولا يلائمه.

ثم الذي ذكره من الانتظار وإن كان مليحا في اللفظ فهو في المعنى متكلف ، لأن الواقف في الدار لا ينتظر أمرا ، وإنما يقف تحسرا وتذللا وتحيرا.

والشطر الأخير من البيت واقع ، والأول مستجلب ، وفيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر. لأن وضع البيت يقتضي تقدم عذل على الوقوف ، ولم يحصل ذلك مذكورا في شعره من قبل.

وأما البيت الثاني : فإنه معلق بالأول لا يستقل إلا به. وهم يعيبون وقوف البيت على غيره ، ويرون أن البيت التام هو المحمود ، والمصراع التام بنفسه بحيث لا يقف على المصراع الآخر أفضل وأتم وأحسن.

١٤٥

وقوله : فكيف يكون إن لم يسأل ، مليح جدا ، ولا تستمر ملاحة ما قبله عليه ، ولا يطرد فيه الماء اطراده فيه.

وفيه شيء آخر ، لأنه لا يصلح أن يكون السؤال سببا لأن يعيا عن الجواب. وظاهر القول يقتضيه ، فأما قوله :

لا تكلفنّ لي الدموع فإن لي

دمعا ينمّ عليه إن لم يفضل

ولقد سكنت إلى الصدود من النوى

والشّري أري عند طعم الحنظل

وكذاك طرفه حين أوجس ضربة

في الرأس هان عليه فصد الأكحل

فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم في طلب الإسعاد بالدموع والإسعاف بالبكاء. ومخالف لأول كلامه لأنه يفيد مخاطبة العذل. وهذا يفيد مخاطبة الرفيق. وقد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها.

ولذلك قال الله عزوجل : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (١) فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم ، واللفظ كيف أطاعهم ، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم. وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب. ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن ، فصار بهذا أبلغ خطابهم. ثم لو أن هذا البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا ، لم يكن في ذلك شيء يفوت شعر شاعر ، أو كلام متكلم.

وأما قوله : والشرى أرى ، فإنه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق ، ومن جهة التجنيس المقارب ، فهي كلمة ثقيلة على اللسان ، وهم يذمون نحو هذا. كما عابوا على أبي تمام قوله :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي

ومتى ما لمته لمته وحدي

ذكر لي الصاحب بن عباد : أنه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن القصيدة ، حتى انتهى إلى هذا البيت ، فذكر له أن قوله : أمدحه ، أمدحه ، معيب لثقله من جهة تدارك حروف الحلق.

ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة ، فعلمت أن ذلك شيء عند أهل الصنعة معروف. ثم إن قوله : عند أكل الحنظل ليس بحسن ولا واقع.

__________________

(١) آية (٢٢٤ : ٢٢٦) سورة الشعراء.

١٤٦

وأما البيت الثالث فهو أجنبي من كلامه ، غريب في طباعه ، نافر من جملة شعره ، وفيه كزازة وفجاجة ، وإن كان المعنى صالحا. فأما قوله :

وأغرّ في الزمن البهيم محجّل

قد رحت منه على أغرّ محجّل

كالهيكل المبنيّ إلا أنه

في الحسن جاء كصورة في هيكل

فالبيت الأول لم يتفق له فيه خروج حسن ، بل هو مقطوع عما سلف من الكلام. وعامّة خروجه نحو هذا ، وهو غير بارع في هذا الباب ، وهذا مذموم معيب منه ، لأن من كان صناعته الشعر وهو يأكل به ، وتغافل عما يدفع إليه في كل قصيدة ، واستهان بأحكامه وتجويده مع تتبعه لأن يكون عامة ما يصدر به أشعاره من النسيب عشرة أبيات ، وتتبعه للصنعة الكثيرة ، وتركيب العبارات وتنقيح الألفاظ وتزويرها ، كان ذلك أدخل في عيبه ، وأدل على تقصيره أو قصوره ، وإنه لا يقع له الخروج منه.

وأما قوله : «وأغرّ في الزمن البهيم محجل» فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب ، وليس بجيد. وقد يمكن أن يقال : بأنه إذا قرن بالأغر حسن وجرى مجراه ، وانخرط في سلكه ، وأهوى إلى مضماره ، ولم ينكر لمكانه من جواره. فهذا عذر ، والعدول عنه أحسن.

وإنما أراد أن يرد العجز على الصدر ، ويأتي بوجه في التجنيس. وفيه شيء ؛ لأن ظاهر كلامه يوهم أنه قد صار ممتطي الأغر الأول ، ورائحا عليه. ولو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود الشعراء وأقاويل الناس. فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني ورده عجز البيت عليه ، وظنه أنه قد ظفر بهذه اللفظة ، وعمل شيئا حتى كررها ، فهي كلمة فيها ثقل ، ونحن نجدهم إذا أرادوا أن يصنعوا نحو هذا قالوا : ما هو إلا صورة ، وما هو إلا تمثال ، وما هو إلا دمية ، وما هو إلا ظبية ، ونحو ذلك من الكلمات الخفيفة على القلب واللسان.

وقد استدرك هو أيضا على نفسه فذكر أنه كصورة في هيكل ، ولو اقتصر على ذكر الصورة وحذف الهيكل كان أولى وأجمل. ولو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين لراعوهم بها وأفزعوهم بذكرها وذلك من كلامهم ، وشبيه بصناعتهم ، وأما قوله :

وافي الضّلوع يشدّ عقد حزامه

يوم اللقاء على معمّ مخول

أخواله للرّستمين بفارس

وجدوده للتّبّعين بموكل

نبل المحزم مما يمدح به الخيل ، فهو لم يأت فيه ببديع. وقوله : يشد عقد حزامه داخل في التكلف ، والتعسف لا يقبل من مثله. وإن قبلناه من غيره لأنه يتتبع الألفاظ وينقدها نقدا شديدا. فهلا قال : يشد حزامه ، أو يأتي بحشو آخر سوى العقد. فقد عقد هذا

١٤٧

البيت بذكر العقد. ثم قوله : «يوم اللقاء» حشو آخر لا يحتاج إليه. وأما البيت الثاني : فمعناه أصلح من ألفاظه ، لأنها غير مجانسة لطباعه ، وفيها غلظ ونفار وأما قوله :

يهوى كما تهوى العقاب وقد رأت

صيدا وينقض انقضاض الأجدل

متوجس برقيقتين كأنما

تريان من ورق عليه موصل

ما إن يعاف قذى ولو أوردته

يوما خلائق حمدويه الأحول

البيت الأول صالح وقد قاله الناس ، ولم يسبق إليه ، ولم يقل ما لم يقولوه ، بل هو منقول. وفي سرعة عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها ، وقد يقولون : يفوت الطرف ويسبق الريح ، ويجاري الوهم ، ويكدّ النظر ، ولو لا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج الكلام عن غرض الكتاب ، نقلت لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى ، فتتّبع تعلم أنه لم يأت فيها بما يجل عن الوصف ، أو يفوت منتهى الحد.

على أن الهوىّ يذكر عند الانقضاض خاصة ، وليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة إلا أن يشبه جده في العدو بحالة انقضاض البازي والعقاب. وليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها.

وأما البيت الثاني فقوله : إن الأذنين كأنهما من ورق موصل ، وإنما أراد بذلك حدتهما ، وسرعة حركتهما ، وإحساسهما بالصوت ، كما يحس الورق بحفيف الريح. وظاهر التشبيه غير واقع ، وإذا ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسنا. ولكن لا يدل عليه اللفظ ، وإنما يجري مجرى المضمن. وليس هذا البيت برائق اللفظ ، ولا مشاكل فيه لطيفة غير قوله : متوجس برقيقتين. فإن هذا القدر هو حسن.

وأما البيت الثالث : فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أنه من باب الاستطراد ، ونقلنا نظائر ذلك من قول أبي تمام وغيره. وقطعة أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى. والذي وقع للبحتري في هذا البيت عندي ليس يجيد في لفظ ولا معنى. وهو بيت وحش جدا ، قد صار قذى في عين هذه القصيدة ، بل وخزا فيها ووبالا عليها ، قد كدر صفاءها ، وأذهب بهاءها وماءها ، وطمس بظلمته سناها.

وما وجه مدح الفرس بأنه لا يعاف قذى من المياه إذا وردها؟ كأنه أراد أن يسلك مسلك بشار في قوله : «ولا يشرب الماء إلا بدم» وإذا كان لهذا الباب مجانبا ، وعن هذا السمت بعيدا ، فهلا وصفها بعزة الشرب كما وصفها المتنبي في قوله :

وصول إلى المستصعبات بخيله

فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا

١٤٨

وهلا سلك فيه مسلك القائل :

وإني للماء الذي شابه القذى

إذا كثرت ورّاده لعيوف

ثم قوله : «ولو أردته يوما حشو بارد» ثم قوله : «حمدويه الأحول» وحش جدا فما أمقت هذا البيت وأبغضه وما أثقله وأسخفه. وإنما غطى على عينه عيبه ، وزين له إيراده طمعه في الاستطراد. وهلا طمع فيه على وجه لا يفض من بهجة كلامه ، ولا معنى ألفاظه. فقد كان يمكن ذلك ولا يتعذر. فأما قوله :

ذنب كما سحب الرداء يذبّ عن

عرف وعرف كالقناع المسبل

تتوهم الجوزاء في أرساغه

والبدر فوق جبينه المتهلل

فالبيت الأول : وحش الابتداء ، منقطع عما سبق من الكلام. وقد ذكرنا أنه لا يهتدي لوصل الكلام ونظام بعضه إلى بعض. وإنما يتصنع لغير هذا الوجه ، وكان يحتاج أن يقول : ذنب كالرداء ، فقد حذف الوصل غير متسق ولا مليح ، وكان من سبيله أن لا يخفى عليه ، ولا يذهب عن مثله. ثم قوله : «كما سحب الرداء» قبيح في تحقيق التشبيه ، وليس بواقع ولا مستقيم في العبارة إلا على إضمار أنه ذنب يسحبه كما يسحب الرداء. وقوله : «يذب عن عرف» ليس بحسن ولا صادق ، والمحمود ما ذكره امرؤ القيس وهو قوله : «فويق الأرض ليس بأعزل» وأن قوله : «تتوهم الجوزاء في أرساغه» فهو تشبيه مليح ، ولكنه لم يسبق إليه ولا انفرد به.

ولو نسخت لك ما قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال ، والبدر والنجم ، وغير ذلك من الأمور ، وتشبيه الحجول ، لتعجبت من بدائع قد وقعوا عليها ، وأمور مليحة قد ذهبوا إليها. وليس ذلك موضع كلامنا ، فتتبع ذلك في أشعارهم تعلم ما وصفت لك.

واعلم أنا تركنا بقية كلامه في وصف الفرس ، لأنه ذكر عشرين بيتا في ذلك. والذي ذكرناه في هذا المعنى يدل على ما بعده ، ولا يعدو ما تركناه أن يكون متوسطا إلى حد لا يفوت طريقة الشعراء.

ولو تتبعت أقاويل الشعراء في وصف الخيل علمت أنه وإن جمع فأوعى وحشر فنادى ، ففيهم من سبقه في ميدانه ، ومنهم من ساواه في شأوه ، ومنهم من داناه. فالقبيل واحد ، والنسيج متشاكل ، ولو لا كراهة التطويل ، لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك لتقف على ما قلت. فتجاوزنا إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة قال :

لمحمد بن عليّ الشرف الذي

لا يلحظ الجوزاء إلا من عل

وسحابة لو لا تتابع مزنها

فينا لراح المزن غير مبخّل

١٤٩

والجود يعذله عليه حاتم

سرفا ولا جود لمن لم يعذل

البيت الأول منقطع عما قبله ، على ما وصفنا به شعره : من قطعه المعاني ، وفصله بينها ، وقلة تأنيه لتجويد الخروج والوصل. وذلك نقصان في الصناعة ، وتخلف في البراعة ، وهذا إذا وقع في مواضع قليلة عذر فيها. وأما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا فلا عذر له.

وأما المعنى الذي ذكره فليس بشيء مما سبق إليه. وهو شيء مشترك فيه. وقد قالوا في نحوه وإن مجده سماء المساء ، وقالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه ، وكما قال المتنبي :

وعزمة بعثتها همّة زحل

من تحتها بمكان الترب من زحل

وحدثني إسماعيل بن عباد أنه رأى أبا الفضل بن العميد قام لرجل قال لمن حضره : أتدري من هذا؟ هو الذي قال فيه أبيه البحتري :

«لمحمد بن القاسم الشرف الذي».

فذلك يدل على استعظامه للميت بما مدح به من البيت.

والبيت الثاني في تشبيه جوده بالسحاب قريب. وهو حديث مكرر ليس ينفك مديح شاعر منه. وكان من سبيله أن يبدع فيه زيادة إبداع كما قد يقع لهم في نحو هذا. ولكنه لم يتصنع له وأرسله إرسالا.

وقد وقع في المصراع الثاني ضرب من الخلل ، وذلك أن المزن إنما يبخل إذا منع نيله. فذلك موجود في كل نيل ممنوع ، وكلاهما محمود مع الإسعاف. فإن أسعف أحدهما ومنع الآخر لم يمكن التشبيه. وإن كان إنما شبه غالب أحدهما بالآخر. وذكر قصور أحدهما عن صاحبه ، حتى أنه قد يبخل في وقت والآخر لا يبخل بحال ، فهذا جيد وليس في حمل الألفاظ على الإشارة إلى هذا شيء.

والبيت الثالث : وإن كان معناه مكررا فلفظه مضطرب بالتأخير والتقديم. يشبه ألفاظ المبتدئين وأما قوله :

فضل وإفضال وما أخذ المدى

بعد المدى كالفاضل المتفضّل

سار إذا ادّلج العفاة إلى الندى

لا يصنع المعروف غير معجّل

فالبيت الأول منقطع عما قبله ، وليس فيه شيء غير التجنيس ، الذي ليس ببديع لتكرره على كل لسان. وقوله : ما أخذ المدى فإنه لفظ مليح وهو كقول القائل :

«قد أركب الآلة بعد الآلة» ، وروي : «الحالة بعد الحالة».

١٥٠

وكقول امرئ القيس : «سموّ حباب الماء حالا على حال» ولكنها طريقة مذلّلة. فهو فيها تابع. وأما البيت الثاني فقريب في اللفظ والمعنى. وقوله : «لا يصنع المعروف» ليس بلفظ محمود ، وأما قوله :

عال على نظر الحسود كأنما

جذبته أفراد النجوم بأحبل

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ثمّ لم يتحوّل

فالبيت الأول منكر جدا في جر النجوم بالأرسان موضعه إلى العلو. والتكلف فيه واقع.

والبيت الثاني أجنبي عنه ، بعيد منه. وافتتاحه رديء ، وما وجه الاستفهام والتقرير والاستبانة والتوقيف؟ والبيتان أجنبيان من كلامه ، غريبان في قصيدته ، ولم يقع له في المدح في هذه القصيدة شيء جيد. ألا ترى أنه قال بعد ذلك :

نفسي فداؤك يا محمد من فتى

يوفى على ظلم الخطوب فتنجلي

إني أريد أبا سعيد والعدا

بيني وبين سحابه المتهلّل

كأن هذا ليس من طبعه ولا من سبكه وقوله :

مضر الجزيرة كلّها وربيعة ال

خابور توعدني وأزد الموصل

قد جدت بالطرف الجواد فثنه

لأخيك من أدد أبيك بمنصل

البيت الأول حسن المعنى ، وإن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين. وهذا المعنى قد يمكن إيراده بأحسن من هذا اللفظ وأبدع منه وأرق منه كقوله :

إذا أغصبت عليك بنو تميم

رأيت الناس كلّهم غضابا

والبيت الثاني قد تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف ، وهو قبيح اللفظ ، حيث يقول فيه : فثنّه لأخيك من أدد أبيك. ومن آخذه بهذا التعرض لهذا السجع وذكر هذا النسب حتى أفسد به شعره.

وأما قوله بعد ذلك في وصف السيف يقول :

يتناول الروح البعيد مثالها

عفوا ويفتح في القضاء المقفل

بإبانة في كل حتف مظلم

وهداية في كل نفس مجهل

ماض وإن لم تمضه يد فارس

بطل ومصقول وإن لم يصقل

ليس لفظ البيت الأول بمضاه لديباجة شعره ، ولا له بهجة نظمه ، لظهور أثر التكلف عليه ، وتبين ثقل فيه.

١٥١

وأما «القضاء المقفل» وفتحه ، فكلام غير محمود ولا مرضي! واستعارة لو لم يستعرها كانت أولى به! وهلّا عيب عليه كما عيب على أبي تمام قوله :

فضربت في أخدعيه

ضربة غادرته عودا ركوبا

وقالوا : يستحق بهذه الاستعارة أن يصفع في أخدعيه! وقد اتبعه البحتري في استعارة الأخدع ولوعا باتباعه ، فقال في الفتح :

وإني وقد بلغتني الشرف العلى

وأعتقت من ذلّ المطامع أخدعي

إن شيطانه ، حيث زين له هذه الكلمة ، تابعه حين حسن عنده هذه اللفظة ، لخبيث مارد ورديء معاند ، أراد أن يطلق أعنة الذم فيه ، ويسرّح جيوش العتب إليه. ولم يقع بقفل القضاء ، حتى جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف ، وجعل السيف هاديا في النفس المجهل الذي لا يهتدي إليه! وليس في هذا مع تحسين اللفظ وتنميقه شيء. لأن السلاح وإن كان معيبا فإنه يهتدي إلى النفس. وكان يجب أن يبدع في هذا إبداع المتنبي في قوله :

كأنّ إلهام في الهيجا عيون

وقد طبعت سيوفك من رقاد

وقد صغت الأسنة من هموم

فما يخطرن إلا في فؤاد

فالاهتداء على هذا الوجه في التشبيه بديع حسن ، وفي البيت الأول شيء آخر ، وذلك أن قوله : «ويفتح في القضاء» في هذا الموضع حشو رديء يلحق بصاحبه اللكنة ، ويلزمه الهجنة.

أما البيت الثالث : فإنه أصلح هذه الأبيات. وإن كان ذكر الفارس حشوا وتكلفا ولغوا. لأن هذا لا يتغير بالفارس والراجل. على أنه ليس فيه بديع ، وأما قوله :

يغشى الوغى والتّرس بجنة

من حدّه والدّرع ليس بمعقل

مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى

لم يلتفت ، وإذا قضى لم يعدل

متوقد يبري بأوّل ضربة

ما أدركت ، ولو أنها في يذبل

البيتان الأولان من الجنس الذي يكثر كلامه عليه ، وهي طريقه الذي يجتنبها ، وذلك من السبك الكتابي ، والكلام المعتدل. إلا أنه لم يبدع فيها بشيء ، وقد زيد عليه فيها ومن قصد إلى أن يكمل عشرة أبيات في وصف السيف فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة ، وأمور مذكورة. وسبيله أن يغرب ويبدع كما أبدع المتنبي في قوله :

سلّه والركض بعد وهن بنجد

فتصدّى للغيث أهل الحجاز

١٥٢

هذا في باب صقاله ، وأضوائه وكثرة مائه ، وكقوله :

ريان لو قذف الذي أسقيته

لجرى من المهجات بحر مزبد

وقوله : «مصغ إلى حكم الردى إن تأملته» مقلوب كان ينبغي أن يقول يصغي الردى إلى حكمه كما قال الآخر : «فالسيف يأمر والأقدار تنتظر». وقوله : «وإذا قضى لم يعدل» متكرر على ألسنتهم في الشعر خاصة في نفس هذا المعنى. والبيت الثالث سليم ، وهو كالأولين في خلوه عن البديع ، فأما قوله :

فإذا أصاب فكلّ شيء مقتل

وإذا أصيب فما له من مقتل

وكأنما سود النمال وحمرها

دبّت بأيد في قراه وأرجل

البيت الأول يقصد به صنيعة اللفظ ، وهو في المعنى متفاوت ، لأن المضرب قد لا يكون مقتلا. وقد يطلق الشعراء ذلك ، ويرون أن هذا أبدع من قول المتنبي ، وإنه بضده :

يقتل السيف في جشم القتيل به

وللسّيوف كما للنّاس آجال

وهذه طريقة لهم يتمدحون بها في قصف الرمح طعنا ، وتقطيع السيف ضربا ، وفي قوله : «وإذا أصيب فما له من مقتل» ، تعسف لأنه يريد بذلك أنه لا يتكسر. فالتعبير بما عبر به عن المعنى الذي ذكرناه يتضمن ضربا من التكلف ، وضربا من المحال. وليس بالنادر ، والذي عليه الجملة ما حكيناه عن غيره ونحوه. قال بعض أهل الزمان :

يقصّف في الفارس السّمهريّ

وصدر الحسام فريقا فريقا

البيت الثاني أيضا : هو معنى مكرر على ألسنة الشعراء ، وأما تصنيعه بسود النمال وحمرها ، فليس بشيء ؛ ولعله أراد بالحمر الذّرّ. والتفصيل بارد! والإعراب به منكر! وهو كما حكى عن بعضهم أنه قال : كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء ، أو منحرفا قدر شبر أو نصف شبر ، أو إصبع أو ما يقارب ذلك. فقيل له : هذا من الورع الذي يبغضه الله ، ويمقته الناس ، ورب زيادة كانت نقصانا. وصفه النمل بالسواد والحمرة في هذا من ذلك الجنس ، وعليه خرج بقية البيت في قوله : «دبّت بأيد في قراه وأرجل».

وكان يكفي ذكره الأرجل عن ذكر الأيدي ، ووصف الفرند بمدبّ النمل شيء لا يشذّ عن أحد منهم ، وأما قوله :

وكأن شاهره إذا استضوي به الزّ

حفان يعصى بالسّماك الأعزل

حملت حمائله القديمة بقلة

من عهد عاد غضّة لم تذبل

البيت الأول منهما فيه ضرب من التكلف ، وهو منقول من أشعارهم وألفاظهم ، وإنما

١٥٣

يقول : «قمر يشد على الرجال بكوكب» فجعل ذلك الكوكب السماك واحتاج إلى أن يجعله أعزل للقافية.

ولو لم يحتج إلى ذلك كان خيرا له ؛ لأن هذه الصفة في هذا الموضع تفضه من الموضع. وموضع التكلف الذي ادعيناه الحشو الذي ذكره من قوله : «إذا استضوى به الزحفان». وكان يكفي أن يقول كان صاحبه يعصي بالسماك ، وهذا وإن كان قد تعمل فيه للفظ ، فهو لغو على ما بينا.

وأما البيت الثاني. ففيه لغو من جهة قوله : حمائله قديمة ، ولا فضيلة له في ذلك. ثم تشبيه السيف بالبقلة من تشبيهات العامة ، والكلام الرّذل النّذل ؛ لأن العامة قد يتفق منها تشبيه واقع حسن.

ثم انظر إلى هذا المقطع الذي هو بالعيّ أشبه منه بالفصاحة ، وإلى اللكنة أقرب منه إلى البراعة. وقد بينا أن مراعاة الفواتح ، والخواتم ، والمطالع ، والمقاطع ، والفصل ، والوصل بعد صحة الكلام ، ووجود الفصاحة فيه ، مما لا بد منه. وأن الإخلال بذلك يخل بالنظم ، ويذهب رونقه ، ويحيل بهجته ، ويأخذ ماءه وبهاءه.

وقد اطلعت عليك فيما نقلت ، وتكلفت ما سطرت ، لأن هذا القبيل ، قبيل موضوع متعمل مصنوع. وأصل الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة ، ثم يتأمل الألفاظ ولا ينظر بعد ذلك إلى مواقعها ولا يتأمل مطارحها ، وقد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض وتصوير المعاني التي في النفوس. ولكنه يلحق بأصل بابه ، ويميل بك إلى موضعه ، ويحسب الاهتمام بالصنعة يقع فيها التفاضل.

وإن أردت أن تعرف أوصاف الفرس فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك إن كنت من أهل الصنعة ، مما يطول على نقله ، وكذلك في السيف. وذكر لي بعض أهل الأدب أن أحسن قطعة في السيف قول أبي الهول الحميري :

حاز صمصامة الزّبيدي من بي

ن جميع الأنام موسى الأمين

سيف عمرو وكان فيما سمعنا

خير ما أطبقت عليه الجفون

أخضر اللّون بين برديه حدّ

من ذعاف تميس فيه المنون

أوقدت فوقه الصواعق نارا

ثمّ شابت له الذّعاف القيون

فإذا ما شهرته بهر الشّم

س ضياء فلم تكد تستبين

يستطير الأبصار كالقبس المش

عل لا تستقيم فيه العيون

وكأنّ الفرند والرّونق الجا

ري في صحفتيه ماء معين

١٥٤

نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي

جاء يعصي به ونعم القرين

ما يبالي إذا انتحاه بضرب

أشمال سطت به أم يمين

وإنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته ، ومن أهل عصره ، ومن هو في مضماره ، أو في منزلته ، ومعرفته أجناس الكلام ، والوقوف على أسراره ، والوقوع على مقداره شيء. وإن كان عزيزا ، وأمر وإن كان بعيدا فهو سهل على أهله ، مستجيب لأصحابه ، مطيع لأربابه ، ينقدون الحروف ، ويعرفون الصروف ، وإنما يتقي الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري وأبي تمام وابن الرومي وغيره.

ونحن وإن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره على ابن الرومي وغيره من أهل زمانه ، ونقدمه بحسن عبارته وسلاسة كلامه ، وعذوبة ألفاظه ، وقلة تعقد قوله.

والشعر قبيل ملتمس مستدرك ، وأمر ممكن منطبع. ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم ، أو يسمو إليه الفكر ، أو يطمع فيه طامع ، أو يطلبه طالب. (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١) وكنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدربا ، وفيه متوجها متقدما ، أمكنك الوقوف على ما ذكرنا ، والنفوذ فيما وصفنا. وإلا فاجلس في مجلس المقلدين ، وارض بمواقف المتحيرين.

ونصحت لك حيث قلت ؛ انظر ، هل تعرف عروق الذهب ، ومحاسن الجوهر ، وبدائع الياقوت ، ودقائق السحر ، من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها؟ وهل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء فيها؟

ولكل شيء طريق يتوصل إليه به ، وباب يؤخذ نحوه فيه ، ووجه يؤتى منه. ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك ، وأغمض وأدق وألطف. وتصوير ما في النفس وتشكيل ما في القلب حتى تعلمه وكأنك مشاهده وإن كان قد يقع بالإشارة ويحصل بالدلالة والإمارة ، كما يحصل بالنطق الصريح ، والقول الفصيح. فللإشارة أيضا مراتب ، وللسان منازل. رب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته ، لا خلف فيه. ورب وصف يربو عليه ويتعداه ورب وصف يقصر عنه.

ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان ، وحسن وإحسان ، وإلى إجمال وشرح ، وإلى استيفاء وتقريب ، وإلى غير ذلك من الوجوه.

وكل مذهب وطريق له باب وسبيل ، فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى : (لَوِ

__________________

(١) آية (٤٢) سورة فصلت.

١٥٥

اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١) والتفسير كقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢) إلى آخر الآيات في هذا المعنى.

وكنحو قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٣) هذا مما يصور الشيء على جهته ويمثل أهوال ذلك اليوم ، ومما يصور لك الكلام الواقع في الصفة كقوله حكاية عن السحرة ، لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا قالوا : (إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤).

وقال في موضع آخر : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ، رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (٥) وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله ، الجازع لما مسه.

ومن باب التسخير والتكوين قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦) وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٧) وكقوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٨) وتقصي أقسام ذلك مما يطول ، ولم أقصد استيفاء ذلك ، وإنما ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل ، وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل.

وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري لأن الكتاب يفضلونه على أهل دهره ، ويقدمونه على من في عصره. ومنهم من يدّعى له الإعجاز غلوا ، ويزعم أنه يناجي النجم في قوله علوا. والملحدة تستظهر بشعره ، وتتكثر بقوله ، وتدّعى كلامه من شبهاتهم ، وعباراته مضافا إلى ما عندهم من ترهاتهم. فبيّنا قدر درجته ، وموضع رتبته ، وحد كلامه.

__________________

(١) آية (١٨) سورة الكهف.

(٢) آية (٤٧) سورة الكهف.

(٣) آية (١ ، ٢) سورة الحج.

(٤) آية (٥١ ، ٥٢) سورة الشعراء.

(٥) آية (١٢٥ ، ١٢٦) سورة الأعراف.

(٦) آية (٨٢) سورة يس.

(٧) آية (٦٥) سورة البقرة.

(٨) آية (٦٣) سورة الشعراء.

١٥٦

وهيهات أن يكون المطموع فيه كالميئوس منه. وأن يكون الليل كالنهار ، والباطل كالحق ، وكلام رب العالمين ككلام البشر.

فإن قال قائل : فقد قدح الملحد في نظم القرآن ، وادّعى عليه الخلل في البيان ، وأضاف إليه الخطأ في المعنى واللفظ ، وقال ما قال فهل من فصل؟

قيل : الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن ، مما قد سبقنا إليه ، وصنّف أهل الأدب في بعضه فكفوا. وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم فشفوا ، ولو لا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا.

وأما الغرض الذي صنفنا فيه في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن ، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا ، وقد رجونا أن يكون ذلك مغنيا ووافيا ، وإن سهّل الله لنا ما نويناه من إملاء معاني القرآن ، ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه ، لأن أكثر ما يقع من الطعن عليه ، فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني أو بطريقة كلام العرب.

وليس ذلك من مقصود كتابنا هذا ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) (١) وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار ، ومهدنا الطريق ، فمن كمل طبعه للوقوف على فصل أجناس الكلام استدرك ما بينا ، ومن تعذر عليه الحكم بين شعر جرير والفرزدق والأخطل ، والحكم بين فضل زهير والنابغة أو الفضل بين البحتري وأصحابه ، ولم يعرف سخف مسيلمة في نظمه ، ولم يعلم أنه من الباب الذي يهزأ به ويسخر منه كشعر أبي العيس في جملة الشعر ، وشعر علي بن صلاة فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا ، والحكم على ما بينا؟

فإن قال قائل : فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر ، والأبلغ ، قيل له : هذا أيضا خارج عن غرض هذا الكتاب ، وقد تكلم فيه الأدباء ويحتاج أن يجدد لنحو هذا كتاب ، ويفرد له باب ، وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل.

وليس لقائل أن يقول : قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب ، ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب ، ولا يبلغ عندكم حد المعجز ، فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام؟

وإنما لم يصح هذا السؤال ، وما نذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن ، وخطب

__________________

(١) الترمذي (٢٩٢٦) ، والترغيب ٢ / ٤٣٥ ، والأسماء والصفات (٢٣٨) ، وفتح الباري ٩ / ٦٦ ، والقرطبي ١ / ٤.

١٥٧

ورسائل في غاية الفضل ، لأنا قد بينا أن هذه الأجناس قد وقع النزاع فيها ، والمساماة عليها ، والتنافس في طرقها ، والتنافر في بابها. وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا ، والتفاوت خفيفا ، وذلك القدر من السبق إن ذهب عند الواحد لم ييأس منه الباقون ، ولم ينقطع الطمع في مثله.

وليس كذلك سمت القرآن ، لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته ، والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته ، وأن الكل في العجز عنه على حد واحد. وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يأخذ فيه ، والباب الذي لا يذهب عنه. وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا حتى يستعين بكلام غيره ، ويفرغ إلى ما يوشح به كلامه من بيت سائر ، ومثل نادر ، وحكمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة مأثورة.

وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة ، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شيء يستعين به فيخلطه بقوله من قول غيره كان كلاما ككلام غيره.

فإن أردت أن تحقق هذا ، فانظر في كتبه في نظم القرآن ، وفي الرد على النصارى ، وفي خبر الواحد ، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. هل تجد في ذلك كله ورقة تشتمل على نظم بديع؟ أو كلام مليح؟ على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته. وجاذبوه على منهجه. فمنهم من ساواه حين ساماه ، ومنهم من أبر عليه إذا باراه. هذا أبو الفضل بن العميد قد سلك مسلكه ، وأخذ طريقه ، فلم يقصر عنه ، ولعله قد بان تقدمه عليه لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ، ويكملها على شروط صنعته ، ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه ، كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه ، متى ذكر من كلامه سطرا اتبعه من كلام الناس أوراقا. وإذا ذكر منه صفحة بني عليه من قول غيره كتابا.

وهذا يدلك على أن الشيء إذا استحسن اتبع ، وإذا استملح قصد له وتعمّد ، وهذا الشيء يرجع إلى الأخذ بالفضل والتنافس في التقدم.

فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده ، لكثرت المعارضات ، ودامت المنافسات.

فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها ، وجوالب لا حد لكثرتها ؛ لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه ، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه ، أو تنفيرهم عليه ، وإدخال الشبهات على قلوبهم. وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل النفوس ، ونصب الأرواح ، والأخطار بالأموال والذراري في وجه عدواته. ويستغنون بكلام هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم عن

١٥٨

محاربته ، وطول منافسته ومجاذبته. وهذا الذي عرضناه على قلبك يكفي إن هديت لرشدك. ويشفي إن دللت على قصدك ، ونسأل الله حسن التوفيق والعصمة والتسديد ، إنه لا معرفة إلا بهدايته ، ولا عصمة إلا بكفايته ، وهو على ما يشاء قدير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

١٥٩

فصل :

في جوانب إعجاز القرآن

فإن قال قائل : قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وإن كان من بعدهم من أهل الأعصار لم يعجزوا ، قيل : هذا سؤال معروف ، وقد أجيب عنه بوجوه ، منها ما هو صواب ، ومنها ما فيه خلل.

لأن من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الإخبار عن الغيوب ، إن قدروا على مثل نظمه ، فقد سلّم المسألة. لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه. فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل عن مراده ، والوجه أن يقال : فيه طرق ، منها أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله ، فمن بعدهم أعجز ؛ لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول ، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم ، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم. فأمّا أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا.

ومنها أنا قد علمنا عجز أهل سائر الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول. والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد ، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة ، والتنافر في الطباع على حد. والتكلف على منهاج لا يختلف. ولذلك قال الله تبارك وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١)

التحدي

يجب أن تعلم أنّ من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدّعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم ، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ، ويؤيّد بآية. لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ، ولا بقول نفسه ، ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه ، فيستدل به على صدقه.

فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي ، وكانوا عاجزين عنها ، صح له ما ادعاه. ولو كانوا غير عاجزين عنها ، لم يصح أن يكون برهانا له.

__________________

(١) آية (٨٨) سورة الإسراء.

١٦٠