الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٣

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٣

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-5662-47-8
ISBN الدورة:
964-5662-44-3

الصفحات: ٥٩٠

(الفصل * الثاني)

(في تعقيب الإقرار بما ينافيه)

وهو قسمان : مقبول ومردود (والمقبول منه الاستثناء إذا لم يستوعب) المستثنى منه ، سواء بقي أقلّ ممّا اُخرج أم أكثر أم مساوٍ؛ لأنّ المستثنى والمستثنى منه كالشيء الواحد فلا يتفاوت الحال بكثرته وقلّته ، ولوقوعه في القرآن (١) وغيره من اللفظ الفصيح العربي.

(و) إنّما يصحّ الاستثناء إذا (اتّصل) بالمستثنى منه (بما جرت به العادة) فيغتفر التنفّس بينهما والسعال وغيرهما ممّا لا يعدّ منفصلاً عرفاً.

ولمّا كان الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في اللفظ كان المستثنى والمستثنى منه متناقضين (فمن الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات) أمّا الأوّل : فعليه إجماع العلماء (٢) وأمّا الثاني : فلأ نّه لولاه لم يكن (لا إله إلّااللّٰه) يتمّ به

__________________

(*) لم يرد في (ق) ، وهكذا في (ع) و (ف) من الشرح.

(١) كما في الآية ٤٢ من سورة الحجر (إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلاّٰ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ).

(٢) اُنظر الإحكام في اُصول الأحكام للآمدي ٢ : ٥١٢ ـ ٥١٣ ، والتذكرة (الحجريّة) ٢ : ١٦٣ ، وجامع المقاصد ٩ : ٢٩٦.

٥٤١

التوحيد؛ لأنّه لا يتمّ إلّابإثبات الإلهيّة [للّٰه‌تعالى] (١) ونفيها عمّا عداه تعالى ، والنفي هنا حاصل ، فلو لم يحصل الإثبات لم يتمّ التوحيد.

وعلى ما ذكر من القواعد (فلو قال : له عليّ مئة إلّاتسعين فهو إقرار بعشرة) لأنّ المستثنى منه إثبات للمئة ، والمستثنى نفي للتسعين منها ، فبقي عشرة.

(ولو قال : إلّاتسعون) بالرفع (فهو إقرار بمئة) لأنّه لم يستثن منها شيئاً؛ لأنّ الاستثناء من الموجب التامّ لا يكون إلّامنصوباً ، فلمّا رفعه لم يكن استثناءً وإنّما «إلّا» فيه بمنزلة «غير» يوصف بها وبتاليها ما قبلها ، ولمّا كانت المئة مرفوعة بالابتداء كانت التسعون مرفوعة صفة للمرفوع ، والمعنى : له [عليّ] (٢) مئة موصوفة بأ نّها غير تسعين ، فقد وصف المُقَرّ به ولم يستثن منه شيئاً ، وهذه الصفة مؤكّدة صالحة للإسقاط؛ إذ كلّ مئة فهي موصوفة بذلك ، مثلها في (نفخة واحدة).

واعلم أنّ المشهور بين النحاة في «إلّاالوصفيّة» كونها وصفاً لجمع منكّر كقوله تعالى : (لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا) (٣) والمئة ليست من هذا الباب. لكن الذي اختاره جماعة من المتأخّرين عدم اشتراط ذلك (٤) ونقل في المغني عن سيبويه جواز «لو كان معنا رجل إلّازيد لغلبنا» (٥) أي غير زيد.

(ولو قال : ليس له عليَّ مئة إلّاتسعون فهو إقرار بتسعين) لأنّ

__________________

(١) و (٢) لم يرد في المخطوطات.

(٣) الأنبياء : ٢٢.

(٤) مثل المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٩ : ٣١٠.

(٥) مغني اللبيب ١ : ١٠٠.

٥٤٢

المستثنى من المنفيّ (١) التامّ يكون مرفوعاً ، فلمّا رفع التسعين عُلم أنّه استثناء من المنفيّ (٢) فيكون إثباتاً للتسعين بعد نفي المئة (ولو قال : إلّاتسعين) بالياء (فليس مقرّاً) لأنّ نصب المستثنى دليل على كون المستثنى منه موجباً ، ولمّا كان ظاهره النفي حمل على أنّ حرف النفي داخل على الجملة المثبتة المشتملة على الاستثناء أعني مجموع المستثنى والمستثنى منه وهي (٣) (له [عليّ] (٤) مئة إلّاتسعين) فكأ نّه قال : (المقدار الذي هو مئة إلّاتسعين ليس له عليّ) أعني (٥) العشرة الباقية بعد الاستثناء. كذا قرّره المصنّف في شرح الإرشاد على نظير العبارة (٦) وغيرُه (٧).

وفيه نظر؛ لأنّ ذلك لا يتمّ إلّامع امتناع النصب على تقدير كون المستثنى منه منفيّاً تامّاً ، لكن النصب جائز حينئذٍ اتّفاقاً وإن لم يبلغ رتبة الرفع. قال ابن هشام : النصب عربيّ جيّد (٨) وقد قُرئ به في السبع (٩) (مٰا فَعَلُوهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ) (١٠)

__________________

(١) و (٢) في (ف) و (ش) : النفي.

(٣) في (ع) : وهو.

(٤) لم يرد في المخطوطات.

(٥) في (ر) : يعني.

(٦) غاية المراد ٢ : ٢٧٦.

(٧) مثل الصيمري في غاية المرام ٣ : ٤٣٧ ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ٩ : ٣١٠.

(٨) لم نعثر على العبارة بعينها. نعم ، يوجد فيه ما يفيد هذا المعنى. اُنظر مغني اللبيب ١ : ١٠٠ ـ ١٠١ و ٢١٠ و ٢ : ٧١٥.

(٩) أي القراءات السبع.

(١٠) النساء : ٦٦.

٥٤٣

(وَلاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ) (١).

فالأولى في توجيه عدم لزوم شيء في المسألة أن يقال على تقدير النصب : يُحتمل كونُه على الاستثناء من المنفيّ ، فيكون إقراراً بتسعين. وكونُه من المثبت ، والنفي موجَّه إلى مجموع الجملة ، فلا يكون إقراراً بشيء فلا يلزمه شيء؛ لقيام الاحتمال واشتراك مدلول اللفظ لغة. مع أنّ حمله على المعنى الثاني مع جواز الأوّل خلاف الظاهر ، والمتبادر من صيغ الاستثناء هو الأوّل وخلافه يحتاج إلى تكلّف لا يتبادر من الإطلاق ، وهو قرينة ترجيح أحد المعنيين المشتركين ، إلّا أنّ فتواهم المنضمّ إلى أصالة البراءة وقيام الاحتمال في الجملة يعيّن المصير إلى ما قالوه.

(ولو تعدّد الاستثناء وكان بعاطف) كقوله : «له عليَّ عشرة إلّاأربعة وإلّا ثلاثة» «أو كان» الاستثناء (الثاني أزيد من الأوّل) كقوله : «له عليَّ عشرة إلّا أربعة إلّاخمسة» (أو مساوياً له) كقوله في المثال : «إلّاأربعة إلّاأربعة» (رجعا جميعاً إلى المستثنى منه).

أمّا مع العطف : فلوجوب اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم ، فهما كالجملة الواحدة ، ولا فرق بين تكرّر حرف الاستثناء وعدمه ، ولا بين زيادة الثاني على الأوّل ومساواته له ونقصانه عنه.

وأمّا مع زيادة الثاني على الأوّل أو (٢) مساواته : فلاستلزام عوده إلى الأقرب الاستغراق وهو باطل ، فيصان كلامه عن الهذر بعودهما معاً إلى المستثنى منه.

__________________

(١) هود : ٨١.

(٢) في مصحّحة (ع) : و.

٥٤٤

واعلم أنّه لا يلزم من عودهما معاً إليه صحّتهما ، بل إن لم يستغرق الجميع المستثنى منه صحّ كالمثالين ، وإلّا فلا ، لكن إن لزم الاستغراق من الثاني خاصّة كما لو قال : «له عليَّ (١) عشرة إلّاخمسة إلّاخمسة» لغا الثاني خاصّة؛ لأنّه هو الذي أوجب الفساد. وكذا مع العطف ، سواء كان الثاني مساوياً للأوّل كما ذُكر ، أم أزيد ك‍ «له عشرة إلّاثلاثة وإلّا سبعة» أم أنقص كما لو قدّم السبعة على الثلاثة.

(وإلّا) يكن بعاطف ولا مساوياً للأوّل ولا أزيد منه ، بل كان أنقص بغير عطف ، كقوله : «له عليَّ عشرة إلّاتسعة إلّاثمانية» (رجع التالي إلى متلوّه) لقربه؛ إذ لو عاد إلى البعيد لزم ترجيحه على الأقرب بغير مرجّح ، وعوده إليهما يوجب التناقض؛ إذ المستثنى والمستثنى منه متخالفان نفياً وإثباتاً كما مرّ (٢) فيلزمه في المثال تسعة؛ لأنّ قوله الأوّل إقرار بعشرة ، حيث إنّه إثبات والاستثناء الأوّل نفي للتسعة منها؛ لأنّه وارد على إثبات ، فيبقى واحد ، واستثناؤه الثاني إثبات للثمانية؛ لأنّه استثناء من المنفيّ فيكون مثبتاً ، فيضمّ ما أثبته وهو الثمانية إلى ما بقي وهو الواحد ، وذلك تسعة.

ولو أنّه ضمّ إلى ذلك قوله : (إلّاسبعة» «إلّاستّة» حتّى وصل إلى الواحد لزمه خمسة؛ لأنّه بالاستثناء الثالث نفى سبعة ممّا اجتمع وهو تسعة فبقي اثنان ، وبالرابع أثبت ستّة فبقي ثمانية ، وبالخامس يصير ثلاثة ، وبالسادس يصير سبعة ، وبالسابع أربعة ، وبالثامن ستّة ، وبالتاسع وهو الواحد ينتفي منها واحد فيبقى خمسة.

والضابط : أن تجمع الأعداد المثبتة وهي الأزواج على حدة ، والمنفيّة وهي

__________________

(١) لم يرد (عليّ) في (ع) و (ف).

(٢) مرّ في الصفحة ٥٤١.

٥٤٥

الأفراد كذلك ، وتسقط جملة المنفيّ من جملة المثبت ، فالمثبت ثلاثون ، والمنفيّ خمسة وعشرون ، والباقي بعد الإسقاط خمسة.

ولو أنّه لمّا وصل إلى الواحد قال : إلّااثنين ، إلّاثلاثة إلى أن وصل إلى التسعة ، لزمه واحد. ولو بدأ باستثناء الواحد وختم به لزمه خمسة. ولو عكس القسمَ الأوّل فبدأ باستثناء الواحد وختم بالتسعة ، لزمه واحد. وهو واضح بعد الإحاطة بما تقدّم من القواعد ورتّب عليه ما شئت من التفريع.

(ولو استثنى من غير الجنس صحّ) وإن كان مجازاً؛ لتصريحه بإرادته ، ولإمكان تأويله بالمتّصل بأن يضمر قيمة المستثنى ونحوها ممّا يطابق المستثنى منه (وأسقط) المستثنى باعتبار قيمته (من المستثنى منه فإذا بقي) منه (بقيّة) وإن قلّت (لزمت ، وإلّا بطل) الاستثناء؛ للاستغراق (كما لو قال : له عليَّ مئة إلّاثوباً) هذا مثال الاستثناء من غير الجنس مطلقاً ، فيصحّ ويطالب بتفسير الثوب ، فإن بقي من قيمته بقيّة من المئة بعد إخراج القيمة قُبل ، وإن استغرقتها (١) بطل الاستثناء على الأقوى واُلزم بالمئة. وقيل : يبطل التفسير خاصّة فيطالب بغيره (٢).

(و) الاستثناء (المستغرق باطل) اتّفاقاً (كما لو قال : له عليَّ مئة إلّا مئة) ولا يحمل على الغلط ، ولو ادّعاه لم يُسمع منه. هذا إذا لم يتعقّبه استثناء آخر يزيل استغراقه ، كما لو عقَّب ذلك بقوله : «إلّاتسعين» فيصحّ الاستثناءان ويلزمه تسعون؛ لأنّ الكلام جملة واحدة لا يتمّ إلّابآخره وآخره يصيّر الأوّل غير مستوعب ، فإنّ المئة المستثناة منفيّة؛ لأنّها استثناء من مثبت ، والتسعين

__________________

(١) في سوى (ش) : استغرقها.

(٢) قاله العلّامة في الإرشاد ١ : ٤١٥.

٥٤٦

مثبتة؛ لأنّها استثناء من منفيّ ، فيصير جملة الكلام في قوّة (له تسعون) وكأ نّه استثنى من أوّل الأمر عشرة.

(وكذا) يُبطل (الإضراب) عن الكلام الأوّل ب‍ «بل» (١) (مثل) له عليّ (مئة ، بل تسعون ، فيلزمه في الموضعين) وهما الاستثناء المستغرق ومع الإضراب (مئة) لبطلان المتعقّب في الأوّل للاستغراق ، وفي الثاني للإضراب الموجب لإنكار ما قد أقرّ به ، فلا يلتفت إليه ، وليس ذلك كالاستثناء؛ لأ نّه من متمّمات الكلام لغةً ، والمحكوم بثبوته فيه هو الباقي من المستثنى منه بعده. بخلاف الإضراب ، فإنّه بعد الإيجاب يجعل ما قبل (بل) كالمسكوت عنه بعد الإقرار به فلا يسمع ، والفارق بينهما اللغة.

(ولو قال : له عليّ عشرة من ثمن مبيع لم أقبضه اُلزم بالعشرة) ولم يُلتفت إلى دعواه عدم قبض المبيع؛ للتنافي بين قوله : «عليَّ» وكونه (لم يقبض المبيع) لأنّ مقتضاه عدم استحقاق المطالبة بثمنه مع ثبوته في الذمّة ، فإنّ البائع لا يستحقّ المطالبة بالثمن إلّامع تسليم المبيع.

وفيه نظر؛ إذ لا منافاة بين ثبوته في الذمّة وعدم قبض المبيع ، إنّما التنافي بين استحقاق المطالبة به مع عدم القبض وهو أمر آخر ، ومن ثَمّ ذهب الشيخ إلى قبول هذا الإقرار (٢) لإمكان (٣) أن يكون عليه العشرة ثمناً ولا يجب التسليم قبل القبض ، ولأصالة عدم القبض وبراءةِ الذمّة من المطالبة به ، ولأنّ للإنسان أن يخبر بما في ذمّته ، وقد يشتري شيئاً ولا يقبضه فيخبر بالواقع ، فلو اُلزم بغير ما أقرّ به

__________________

(١) لم يرد (ببل) في (ع).

(٢) المبسوط ٣ : ٣٤.

(٣) في (ع) : وإمكان.

٥٤٧

كان ذريعة إلى سدّ باب الإقرار ، وهو منافٍ للحكمة.

والتحقيق أنّ هذا ليس من باب تعقيب الإقرار بالمنافي ، بل هو إقرار بالعشرة؛ لثبوتها في الذمّة ، وإن سلم كلامه فهو إقرار منضمّ إلى دعوى عين من أعيان مال المُقَرّ له ، أو شيء في ذمّته ، فيسمع الإقرار ولا تُسمع الدعوى. وذكره في هذا الباب لمناسبة مّا.

(وكذا) يُلزم بالعشرة لو أقرّ بها ثمّ عقّبه بكونها (من ثمن خمر أو خنزير) لتعقيبه الإقرار بما يقتضي سقوطه؛ لعدم صلاحيّة الخمر والخنزير مبيعاً يستحقّ به الثمن في شرع الإسلام.

نعم ، لو قال المقرّ : «كان ذلك من ثمن خمر أو خنزير فظننته لازماً لي» وأمكن الجهل بذلك في حقّه توجّهت دعواه وكان له تحليف المقرّ له على نفيه إن ادّعى العلم بالاستحقاق ، ولو قال : «لا أعلم الحال» حلف على عدم العلم بالفساد ، ولو لم يمكن الجهل بذلك في حقّ المقرّ لم يُلتفت إلى دعواه.

(ولو قال : له) عليَّ (قفيز حنطة ، بل قفيز شعير لزماه) قفيز الحنطة والشعير؛ لثبوت الأوّل بإقراره والثاني بالإضراب.

(ولو قال) : له عليَّ (قفيز حنطة ، بل قفيزان حنطة ، فعليه قفيزان) وهما الأكثر خاصّة.

(ولو قال : له هذا الدرهم ، بل هذا الدرهم ، فعليه الدرهمان) لاعترافه في الإضراب بدرهم آخر مع عدم سماع العدول.

(ولو قال : له هذا الدرهم ، بل درهم ، فواحد) لعدم تحقّق المغايرة بين المعيّن والمطلق؛ لإمكان حمله عليه.

وحاصل الفرق بين هذه الصور يرجع إلى تحقيق معنى (بل) وخلاصته :

٥٤٨

أنّها حرف إضراب ، ثمّ إن تقدّمها إيجاب وتلاها مفرد جعلت ما قبلها كالمسكوت عنه ، فلا يحكم عليه بشيء وأثبتت الحكم لما بعدها ، وحيث كان الأوّل إقراراً صحيحاً استقرّ حكمه بالإضراب عنه. وإن تقدّمها نفيٌ فهي لتقرير ما قبلها على حكمه وجعل ضدّه لما بعدها.

ثمّ إن كانا مع الإيجاب مختلفين أو معيّنين لم يقبل إضرابه؛ لأنّه إنكار للإقرار الأوّل ، وهو غير مسموع. فالأوّل ك‍ «له قفيز حنطة ، بل قفيز شعير). والثاني ك‍ «له هذا الدرهم ، بل هذا الدرهم). فيلزمه القفيزان والدرهمان؛ لأنّ أحد المختلفين وأحد الشخصين غير داخل في الآخر.

وإن كانا مطلقين أو أحدهما لزمه واحد إن اتّحد مقدار ما قبل «بل» وما بعدها ك‍ «له درهم ، بل درهم» أو «هذا الدرهم بل درهم» أو «درهم ، بل هذا الدرهم» لكن يلزمه مع تعيين أحدهما المعيّن. وإن اختلفا كمّيّة ك‍ «له قفيز ، بل قفيزان» أو «هذا القفيز ، بل قفيزان» أو بالعكس ، لزمه الأكثر ، لكن إن كان المعيّن هو الأقلّ تعيّن ووجب الإكمال.

(ولو قال : هذه الدار لزيد ، بل لعمروٍ ، دُفعت إلى زيد» عملاً بمقتضى إقراره الأوّل «وغرم لعمرو قيمتَها» لأنّه قد حال بينه وبين المقَرّ به بإقراره الأوّل فيغرم له؛ للحيلولة الموجبة للغُرم «إلّاأن يصدّقه زيد» في أنّها لعمرو فتدفع إلى عمرو من غير غُرم.

(ولو أشهد) شاهدي عدل (بالبيع) لزيد (وقبض الثمن) منه (ثمّ ادّعى المواطاة) بينه وبين المقرّ له على الإشهاد من غير أن يقع بينهما بيع ولا قبض سُمعت دعواه؛ لجريان العادة بذلك و (اُحلف المقرّ له) على الإقباض أو على عدم المواطاة.

٥٤٩

ويحتمل عدم السماع فلا يتوجّه اليمين؛ لأنّه مكذِّب لإقراره.

ويضعَّف بأنّ ذلك واقع ، تعمّ البلوى به فعدم سماعها يفضي إلى الضرر المنفيّ (١) هذا إذا شهدت البيّنة على إقراره بهما (٢) أمّا لو شهدت بالقبض لم يلتفت إليه؛ لأنّه مكذّب لها طاعن فيها فلا يتوجّه بدعواه يمين.

__________________

(١) بقوله صلى الله عليه وآله : الوسائل ١٧ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٣ ـ ٥.

(٢) لم يرد (بهما) في (ع).

٥٥٠

(الفصل الثالث)

(في الإقرار بالنسب)

(ويشترط فيه أهليّة المقرّ) للإقرار ، ببلوغه وعقله (وإمكان إلحاق المُقَرّ به) بالمقرّ شرعاً (فلو أقرّ ببنوّة المعروف نسبه) أو اُخوّته أو غيرهما ممّا يغاير ذلك النسب الشرعي (أو) أقرّ (ببنوّة من هو أعلى سنّاً) من المقرّ (أو مساوٍ *) له (أو أنقص) منه (بما لم تجرِ العادة بتولّده منه بطل) الإقرار ، وكذا المنفيّ عنه شرعاً كولد الزنا وإن كان على فراشه ، وولد اللعان وإن كان الإبن يرثه.

(ويشترط التصديق) أي تصديق المُقَرّ به للمُقِرّ في دعواه النسب (فيما عدا الولد الصغير) ذكراً كان أم اُنثى (والمجنون) كذلك (والميّت) وإن كان بالغاً عاقلاً ولم يكن ولداً (١) أمّا الثلاثة فلا يُعتبر تصديقهم ، بل يثبت نسبهم بالنسبة إلى المقرّ بمجرّد إقراره؛ لأنّ التصديق إنّما يعتبر مع إمكانه وهو ممتنع منهما ، وكذا الميّت مطلقاً.

__________________

(*) في (ق) و (س) : مساوياً.

(١) سيأتي توضيحه.

٥٥١

وربما أشكل حكمه كبيراً ، ممّا تقدّم ، ومن إطلاق اشتراط تصديق البالغ العاقل في لحوقه ، ولأنّ تأخير الاستلحاق إلى الموت يوشك أن يكون خوفاً من إنكاره ، إلّاأنّ فتوى الأصحاب على القبول ، ولا يقدح فيه التهمةُ باستيثاق مال الناقص (١) وإرث الميّت.

والمراد بالولد هنا الولد للصلب فلو أقرّ ببنوّة ولد ولده فنازلاً اعتبر التصديق كغيره من الأقارب ، نصّ عليه المصنّف (٢) وغيره (٣).

وإطلاق «الولد» يقتضي عدم الفرق بين دعوى الأب والاُمّ ، وهو أحد القولين في المسألة (٤) وأصحّهما ـ وهو الذي اختاره المصنّف في الدروس (٥) ـ الفرق وأنّ ذلك مخصوص بدعوى الأب ، أمّا الاُمّ فيعتبر التصديق لها؛ لورود النصّ على الرجل (٦) فلا يتناول المرأة. واتّحاد طريقهما ممنوع؛ لإمكان إقامتها البيّنة على الولادة ، دونه ، ولأنّ ثبوت نسب غير معلوم على خلاف الأصل يُقتصر فيه على موضع اليقين.

(و) يشترط أيضاً في نفوذ الإقرار مطلقاً (عدم المنازع) له في نسب المُقَرّ به (فلو تنازعا) فيه (اعتبرت البيّنة) وحكم لمن شهدت له ،

__________________

(١) يعني الصغير والمجنون.

(٢) الدروس ٣ : ١٥٠.

(٣) مثل العلّامة في القواعد ٢ : ٤٣٨.

(٤) اختاره العلّامة في التحرير ٤ : ٢٠ و ٤٣٥ ، وهو المنسوب في مفتاح الكرامة ٩ : ٣٣٧ إلى اقتضاء إطلاق النهاية والمبسوط والوسيلة والسرائر والجامع والشرائع والنافع وغيرها.

(٥) الدروس ٣ : ١٥٠.

(٦) الوسائل ١٥ : ٢١٥ ، الباب ١٠١ من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث الأوّل.

٥٥٢

فإن فقدت فالقرعة؛ لأنّها لكلّ أمر مشكل ، أو معيّن عند اللّٰه مبهم عندنا وهو هنا كذلك.

هذا إذا اشتركا في الفراش على تقدير دعوى البنوّة ، أو انتفى عنهما كواطئ خاليةٍ عن فراش لشبهة ، فلو كانت فراشاً لأحدهما حكم له به خاصّة دون الآخر وإن صادقه الزوجان ، ولو كانا زانيين انتفى عنهما ، أو أحدهما فعنه. ولا عبرة في ذلك كلّه بتصديق الاُمّ.

(ولو تصادق اثنان) فصاعداً (على نسب غير التولّد) كالاُخوّة (صحّ) تصادقهما (وتوارثا) لأنّ الحقّ لهما (ولم يتعدّهما التوارث) إلى ورثتهما؛ لأنّ حكم النسب إنّما ثبت بالإقرار والتصديق ، فيقتصر فيه على المتصادقين إلّامع تصادق ورثتهما أيضاً.

ومقتضى قولهم : «غير التولّد» أنّ التصادق في التولّد يتعدّى ، مضافاً إلى ما سبق من الحكم بثبوت النسب في إلحاق الصغير مطلقاً والكبير مع التصادق. والفرق بينه وبين غيره من الأنساب مع اشتراكهما في اعتبار التصادق غير بيِّن.

(ولا عبرة بإنكار الصغير بعد بلوغه) نسبَ المعترف به صغيراً ، وكذا المجنون بعد كماله؛ لثبوت النسب قبلَه فلا يزول بالإنكار اللاحق. وليس له إحلاف المقرّ أيضاً؛ لأنّ غايته استخراج رجوعه أو نكوله وكلاهما الآن غير مسموع ، كما لا يسمع لو نفى النسب حينئذٍ صريحاً.

(ولو أقرّ العمّ) المحكوم بكونه وارثاً ظاهراً (بأخٍ) للميّت وارثٍ (دفع إليه المال) لاعترافه بكونه أولى منه بالإرث (فلو أقرّ العمّ بعد ذلك بولدٍ) للميّت وارثٍ (وصدّقه الأخ دفع إليه) المال؛ لاعترافهما بكونه أولى منهما. (وإن أكذبه) أي أكذب الأخُ العمَّ في كون المُقَرّ به ثانياً ولداً للميّت

٥٥٣

(لم يدفع إليه) لاستحقاقه المالَ باعتراف ذي اليد له ، وهو العمّ ، ولم تعلم أولويّة الثاني؛ لأنّ العمّ حينئذٍ خارج فلا يقبل إقراره في حقّ الأخ (وغرم العمّ له) أي لمن اعترف بكونه ولداً (ما دفع إلى الأخ) من المال؛ لإتلافه له بإقراره الأوّل مع مباشرته لدفع المال.

ونبّه بقوله : «غرم ما دفع» على أنّه لو لم يدفع إليه لم يغرم بمجرّد إقراره بكونه أخاً؛ لأنّ ذلك لا يستلزم كونه وارثاً بل هو أعمّ ، وإنّما يضمن لو دفع إليه المال لمباشرته إتلافَه حينئذٍ.

وفي معناه ما لو أقرَّ بانحصار الإرث فيه؛ لأنّه بإقراره بالولد بعد ذلك يكون رجوعاً عن إقراره الأوّل فلا يسمع ، ويغرم للولد لحيلولته بينه وبين التركة بالإقرار الأوّل ، كما لو أقرّ بمال لواحد ثمّ أقرّ به لآخر. ولا فرق في الحكم بضمانه حينئذٍ بين حكم الحاكم عليه بالدفع إلى الأخ وعدمه؛ لأنّه مع اعترافه بإرثه مفوِّت بدون الحكم.

نعم ، لو كان دفعه في صورة عدم اعترافه بكونه الوارث بحكم الحاكم اتّجه عدم الضمان؛ لعدم اختياره في الدفع ، وكذا الحكم في كلّ من أقرَّ بوارثٍ أولى منه ، ثمّ أقرَّ بأولى منهما. وتخصيص الأخ والولد مثال. ولو كان الإقرار (١) الأوّل بمساوٍ للثاني كأخ آخر ، فإن صدّقه تشاركا وإلّا غرم للثاني نصفَ التركة على الوجه الذي قرّرناه.

(ولو أقرّت الزوجة بولد) للزوج المتوفّى ووارثه ظاهراً إخوته (فصدّقها الإخوة) على الولد (أخذ) الولد (المالَ) الذي بيد الإخوة

__________________

(١) كذا في (ع) ، وفي سائر النسخ : إقرار.

٥٥٤

أجمع ونصفَ ما في يدها؛ لاعترافهم باستحقاقه ذلك.

(وإن أكذبوها دفعت إليه) ما بيدها زائداً عن نصيبها على تقدير الولد (١) وهو (الثُمن) لأنّ بيدها ربعاً نصيبَها على تقدير عدم الولد ، فتدفع إلى الولد نصفَه. ويحتمل أن تدفع إليه سبعة أثمان ما في يدها ، تنزيلاً للإقرار على الإشاعة ، فيستحقّ في كلّ شيءٍ سبعة أثمانه بمقتضى إقرارها.

(ولو انعكس) الفرض ، بأن اعترف الإخوة بالولد دونها (دفعوا إليه) جميع ما بأيديهم وهو (ثلاثة الأرباع. ولو أقرّ الولد بآخر دفع إليه النصف) لأنّ ذلك هو لازم إرث الولدين المتساويين ذكوريّةً واُنوثيّةً (فإن أقرّا) معاً (بثالث دفعا إليه الثلث) أي دفع كلّ واحد منهما ثلثَ ما بيده. وعلى هذا لو أقرّ الثلاثة برابع دفع إليه كلّ منهم ربعَ ما بيده.

(ومع عدالة اثنين) من الورثة المقرّين (يثبت النسب والميراث) لأنّ النسب ممّا يثبت بشاهدين عدلين ، والميراث لازمه (وإلّا) يكن في المعترفين عدلان (فالميراث حسبُ) لأنّه لا يتوقّف على العدالة بل الاعتراف كما مرّ (٢).

(ولو أقرّ بزوجٍ للميّتة أعطاه النصف) أي نصف ما في يده (إن كان المقرّ) بالزوج (غير ولدها) لأنّ نصيب الزوج مع عدم الولد النصف (وإلّا) يكن كذلك بأن كان المقرّ ولدها (فالربع) لأنّه نصيب الزوج معه.

والضابط : أنّ المقرّ يدفع الفاضل ممّا في يده عن نصيبه على تقدير

__________________

(١) في (ع) : عدم الولد.

(٢) في الأمثلة المتقدّمة من إقرار الزوجة أو الإخوة.

٥٥٥

وجود المُقَرّ به ، فإن كان أخاً للميّتة ولا ولد لها دفع النصف ، وإن كان ولداً دفع الربع.

وفي العبارة قصور عن تأدية هذا المعنى؛ لأنّ قوله : «أعطاه النصف إن كان المقرّ غير ولدها» يشمل إقرار بعض الورثة المجامعين للولد كالأبوين ، فإنّ أحدهما لو أقرّ بالزوج مع وجود ولد ، يصدق أنّ المقرّ غير ولدها ، مع أنّه لا يدفع النصف ، بل قد يدفع ما دونه ، وقد لا يدفع شيئاً ، فإنّ الولد إن كان ذكراً والمقرّ أحد الأبوين لا يدفع شيئاً مطلقاً؛ لأنّ نصيبه لا يزاد على السدس على تقدير وجود الزوج وعدمه ، وإنّما حصّة الزوج مع الابن ، وإن كان اُنثى والمقرّ الأب يدفع الفاضل ممّا في يده عن السدس ، وكذا إن كان الاُمّ وليس لها حاجب ، ومع الحاجب لا تدفع شيئاً؛ لعدم زيادة ما في يدها عن نصيبها.

ولو كان المقرّ أحدَ الأبوين مع عدم وجود الولد ـ الذي هو أحد ما تناولته العبارة ـ فقد يدفع نصف ما في يده ، كما لو لم يكن وارثاً غيرُه أو هو الأب مطلقاً (١) وقد لا يدفع شيئاً كما لو كان هو الاُمّ مع الحاجب.

وتنزيل ذلك على الإشاعة يصحّح المسألة ، لكن يفسد ما سبق من الفروع؛ لأ نّها لم تنزّل عليها.

ولقد قصر كثير من الأصحاب في تعبير هذا الفرع ، فتأمّله في كلامهم.

(وإن أقرّ) ذلك المقرّ بالزوج ولداً كان أم غيره (بآخر وأكذب نفسه في) الزوج (الأوّل اُغرم له) أي للآخر الذي اعترف به ثانياً؛ لإتلافه نصيبه بإقراره الأوّل (وإلّا) يكذب نفسه (فلا شيء عليه) في المشهور؛ لأنّ

__________________

(١) سواء كان وارثاً غيره أم لا (هامش ع).

٥٥٦

الإقرار بزوج ثان إقرار بأمر ممتنع شرعاً ، فلا يترتّب عليه أثر.

والأقوى أنّه يغرم للثاني مطلقاً لأصالة «صحّة إقرار العقلاء على أنفسهم» مع إمكان كونه هو الزوج ، وأ نّه ظنّه الأوّلَ فأقرّ به ثمّ تبيّن خلافه ، وإلغاء الإقرار في حقّ المقرّ مع إمكان صحّته منافٍ للقواعد الشرعيّة. نعم ، لو أظهر لكلامه تأويلاً ممكناً في حقّه كتزوّجه إيّاها في عدّة الأوّل فظنّ أنّه يرثها زوجان ، فقد استقرب المصنّف في الدروس القبول (١) وهو متّجه.

(ولو أقرّ بزوجة للميّت فالربع) إن كان المقرّ غيرَ الولد (أو الثمن) إن كان المقرّ الولدَ. هذا على تنزيله في الزوج. وعلى ما حقّقناه يتمّ في الولد خاصّة ، وغيرُه يدفع إليها الفاضل [ممّا] (٢) في يده عن نصيبه على تقديرها. ولو كان بيده أكثر من نصيب الزوجة اقتصر على دفع نصيبها.

فالحاصل : أنّ غير الولد يدفع أقلّ الأمرين من نصيب الزوجة وما زاد عن نصيبه على تقديرها إن كان معه زيادة ، فأحد الأبوين مع الذكر لا يدفع شيئاً ، ومع الاُنثى يدفع الأقلّ ، والأخ يدفع الربع ، والولد الثمن كما ذكر.

(فإن أقرّ باُخرى وصدّقته) الزوجة (الاُولى اقتسماه) الربع أو الثمن ، أو ما حصل (وإن أكذبتها غرم) المقرّ (لها نصيبها) وهو نصف ما غرم للاُولى إن كان باشر تسليمها كما مرّ (٣) وإلّا فلا.

(وهكذا) لو أقرّ بثالثة ورابعة ، فيغرم للثالثة مع تكذيب الاُوليين ثلث

__________________

(١) الدروس ٣ : ١٥٣.

(٢) لم يرد في المخطوطات.

(٣) مرّ في الصفحة ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

٥٥٧

ما لزمه دفعه ، وللرابعة مع تكذيب الثلاث ربعه.

ولو أقرّ بخامسة فكالإقرار بزوجٍ ثانٍ ، فيغرم لها مع إكذاب نفسه ، أو مطلقاً على ما سبق (١) بل هنا أولى؛ لإمكان الخامسة الوارثة في المريض إذا تزوّج بعد الطلاق وانقضاء العدّة ودخل ومات في سنته كما تقدّم (٢) ويمكن فيه استرسال الإقرار ، ولا يقف عند حدّ إذا مات في سنته مريضاً.

* * *

__________________

(١) في الصفحة ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

(٢) تقدّم في الصفحة ٣٦٦.

٥٥٨

كتاب الغصب

٥٥٩
٥٦٠