نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-272-7
الصفحات: ٥٩٦

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

ولكن محل الكلام كما عرفت حسب عنوانهم البحث بالاستثناء انما هو في فرض اتصال المخصص ، وعليه فلا كلام في مرجعية الأخيرة لكونها القدر المتيقن من التخصيص وانما الكلام في رجوعه إلى غيرها من الجمل الاخر ، والكلام فيه أيضا يقع تارة في أصل امكان رجوعه إلى الجميع ثبوتا ، وأخرى عن في وقوعه وترجيح احتمال الرجوع إلى الجميع على احتمال عدمه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوعه إلى الجميع ، فهنا مقامان :

اما المقام الأول : فقد يقال بعدم امكان رجوعه إلى الجميع باعتبار استلزامه لمحذور استعمال الا في اخراجات متعددة باستعمال واحد ، ولزوم هذا المحذور انما هو من جهة خصوصية الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف والهيئات. ولكن فيه انه مضافا إلى منع أصل المبني كما قررناه في محله من عموم الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف كالوضع لايكاد يتم فيما لو كان الاستثناء بغير الحروف من الأسماء الموضوعة للاخراج كغير وسوى وعدا وخلا ونحو ذلك ، حيث إنها باعتبار عمومية الموضوع له فيها يمكن رجوعهما إلى الجميع باستعمالها في طبيعة الاخراج غايته احتياجه في إرادة الخصوصيات إلى تعدد الدال والمدلول.

وعلى فرض كون الاستثناء بمثل الا وتسليم خصوص الموضوع له فيها نقول : بان ما ذكر من المحذور انما يتوجه إذا أريد كل واحدة من الإضافات الخروجية من اللفظ بالاستقلال والا ففي فرض لحاظ المجموع بلحاظ واحد فلا محذور يرد عليه ، وبيان ذلك هو ان المعاني الحرفية بعد ما كانت من سنخ النسب والإضافات المتقومة بالطرفين ففي مثل الفرض تارة يلاحظ في مقام الاستعمال الإضافة الخروجية بين شيء وبين أمور متعددة بنحو يكون كل واحد من تلك الأمور طرفا للإضافة في لحاظه بالاستقلال ويلزمه استقلال كل واحد من تلك الإضافات الاخراجية في مقام اللحاظ وأخرى يلاحظ الإضافة الاخراجية بينه وبين مجموع أمور متعددة بجعل المجموع طرفا للإضافة في لحاظه ، نظير ملاحظة نسبة التقابل بين الشيء وصف من العسكر من حيث لحاظ نسبة التقابل تارة بينه وبين كل واحد من افراد داك الصف بالاستقلال ، وأخرى لحاظها بينه وبين مجموع الصف.

وبعد ذلك نقول : بان الاشكال المزبور انما يتوجه على الفرض الأول من لحاظ اخراجات متعددة على الاستقلال ، والا فعلى الفرض الثاني من لحاظ الجمل المتعددة

٥٤١

بمجموعها طرفا للإضافة الاخراجية فلايتوجه الاشكال ، حيث إنه عليه لايكون في البين الا إضافة واحدة شخصية قائمة بالمخرج ومجموع الجمل ، ولايكون الأداة أيضا الا مستعملة في اخراج واحد شخصي ومجرد تعدد المخرج منه والمخرج مثلا خارجا حينئذ لايوجب تعددا في الإضافة الاخراجية القائمة بالمجموع ، كما هو واضح. وعليه فلا مجال للاشكال في امكان رجوع الاستثناء إلى الجميع بمثل البيان المزبور.

وحينئذ فالأولى في الاشكال في المقام هو الاشكال عليه من جهة المستثنى في مثل قوله : أكرم العلماء والشعراء والتجار الا زيدا ، مريدا به خروج زيد عن كل واحد من العمومات ، حيث إنه يلزمه حينئذ إرادة معان متعددة من لفظ واحد وهو زيد ، ومن هذه الجهة يتعين رجوعه إلى الأخيرة لا غيرها ، هذا.

ولكن يمكن ان يدفع ذلك أيضا بإرادة المسمى بزيد من اللفظ المزبور ولو كان بعيدا في نفسه ، حيث إنه عليه يكون زيد مستعملا في معنى كلي له مصاديق متعددة ، غايته انه يحتاج إلى توسيط دوال أخر على إرادة الخصوصيات ، ولكن مع ذلك كله يبعد جدا الحمل على المسمى ، فلا محيص في مثله بعد بعد الحمل المزبور من تعين رجوعه إلى خصوص الأخيرة.

ثم إن ذلك أيضا إذا لم يكن في البين من هو مجمع العناوين الثلاث ، والا فمع وجوده فلا بأس باخراجه من الجميع ، كما لو فرض كون المسمى بزيد منحصرا في زيد بن عمرو وكان ذلك مجمعا للعناوين الثلاث ، حيث إن في هذا الفرض يصح اخراجه من الجمل المتعددة ، من دون استلزامه لمحذور أصلا ولا احتياج إلى التأويل بالمسمى ، كما هو واضح.

ومن ذلك ظهر الحال أيضا فيما لو كان الاستثناء من قبيل الصنف كالفساق مثلا حيث يجوز رجوعه حينئذ إلى الجميع أيضا من غير استلزامه لمحذور استعمال اللفظ في أكثر من واحد.

ثم انه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوع الاستثناء المتعقب لجمل متعددة إلى الجميع يبقى الكلام في المقام الثاني في مقام اثبات ذلك واستظهاره ، وفي ذلك نقول : انه قد عرفت ان الأخيرة هي القدر المتيقن في المرجعية لأنه على كل تقدير يعلم بتخصيصها ، واما غير الأخيرة فلا ظهور للكلام يقتضى رجوعه إليه ، وفي مثله لو بنينا على حجية أصالة

٥٤٢

العموم من باب التعبد فلا اشكال في أن لازمه جريان أصالة العموم بالنسبة إلى ما عدا الأخيرة ، من جهة الشك في أصل التخصيص بالنسبة إليها. واما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور فيشكل جريان أصالة العموم فيها ، من جهة ان اتصالها بما يصلح للقرينية يوجب اجمالا فيها فلا يبقى لها ظهور حتى يتمسك بها عند الشك في تخصيصها ، فلابد حينئذ من الحكم عليها بالاجمال والرجوع فيها إلى ما تقتضيه الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، فيما لم تكن الدلالة في طرف العام بالوضع وفى المستثنى بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، والا فيؤخذ فيها بأصالة العموم ولا يعتنى إلى احتمال تخصيصها برجوع الاستثناء إلى الجميع.

وتوضيح ذلك هو ان الدلالة في كل من العمومات والاستثناء المتصل بها اما ان تكون بالوضع ، واما بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، وثالثة تكون الدلالة في العام بالوضع وفى الاستثناء بالاطلاق ، ورابعة بعكس ذلك.

فعلى الأولين تسقط العمومات عن الحجية ، لتصادم الظهورات ، ولابد من الرجوع إلى الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، من جهة اختلاف الحال حينئذ حسب اختلاف الحالة السابقة ، من حيث العلم بكونه محكوما بحكم العام تارة وبحكم الخاص أخرى والجهل بالحالة السابقة ثالثة.

وعلى الثالث لابد من الاخذ بالعام وعدم الاعتناء باحتمال رجوع الخاص إليه ، ولا مجال حينئذ أيضا لتوهم اجمال العام باتصاله بالخاص المحتمل رجوعه إليه ، من جهة ان ذلك انما هو في فرض صلاحية الخاص المتصل للقرينية عليه ، وبعد فرض كون الدلالة فيه من جهة الاطلاق لايكاد صلاحيته للقرينية على العام ، بل الامر حينئذ بالعكس ، فان العام من جهة كون الدلالة فيه بالوضع يصلح للبيانية عليه ، فينفي موضوع الاطلاق في طرف الخاص ، لكونه من قبيل الدليل بالنسبة إليه ، كما هو واضح.

ولئن شئت قلت بان ظهور العام في العموم بعد كونه بالوضع ظهور تنجيزي غير معلق على شيء بخلاف الخاص ، فان ظهوره لما كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة يكون تعليقيا منوطا بعدم ورود بيان على خلافه ، وفي مثله يكون الأثر قهرا للظهور التنجيزي ، فيقدم على الظهور التعليقي من جهة صلاحيته للبيانية عليه ، بخلاف العكس فان صلاحية هذا الظهور التعليقي للقرينية على الظهور التنجيزي دوري ، ففي مثله لايكاد تصل النوبة مع

٥٤٣

هذا العام إلى الظهور الاطلاقي في طرف الخاص ، حتى يجيء فيه احتمال الصلاحية للقرينية على العام ، وهو ظاهر.

وعلى الرابع يجيء فيه احتمال صلاحية الخاص للقرينية والبيانية للعمومات عند عدم ظهوره في الرجوع إلى الجميع ، فلابد من الحكم في غير الأخيرة من سائر الجمل بالاجمال والرجوع فيها إلى الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، هذا كله في الخاص المتصل بالجمل المتعددة.

واما الخاص المنفصل عنها فقد عرفت عدم تعين مرجعية الأخيرة في مثله ، من جهة تساوي الأخيرة وغيرها في المرجعية ، وعليه فعند الدوران في رجوعه إلى بعضها أو إلى الجميع يسقط الجميع عن الحجية ، من جهة العلم الاجمالي ، ولابد من الحكم عليها أي على الجميع بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، من غير فرق في ذلك بين كون الدلالة في كل واحد من العمومات والخاص المنفصل بالوضع ، أو بالاطلاق ، أو كون الدلالة في طرف العمومات بالوضع وفي طرف الخاص بالاطلاق ، أو بالعكس ، وذلك لما سيجيء انشاء الله تعالى من أن عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو عدم البيان في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان على الاطلاق ولو في كلام آخر منفصل عن الكلام الذي وقع به التخاطب ، فإذا فرض حينئذ وقوع العام والخاص في كلامين مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق منهما ، من غير صلاحية ما كان الوضع منهما للقرينية والبيانية عليه ، ومع استقرار الظهور فيه فقهرا بمقتضي العلم الاجمالي يتصادم الظهوران ويتساقطان عن الحجية ، ومعه لابد من الرجوع إلى ما يقتضيها الأصول العملية فتدبر.

الجهة السابعة

إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده فهل يوجب ذلك تخصيصه به أم لا؟ فيه خلاف بين الاعلام. وليكن الكلام فيما لو كان العام مستقلا فيما حكم عليه في الكلام كقوله سبحانه : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى قوله : وبعولتهن أحق بردهن ) والا فإذا لم يكن كك بان كان العام قد ذكر توطئة لحكم الضمير كقوله : والمطلقات أزواجهن أحق بردهن ، فلا شبهة في تخصيصه به ، كما أنه لابد وأن يكون محل

٥٤٤

الكلام فيما لو كان العام والكلام الذي يتصل به الضمير في كلام واحد ، على نحو كان الكلام المشتمل على الضمير من توابع ما اشتمل على العام ، من جهة عدم تصور فرض استقلال كل من العام والضمير الراجع إليه في الكلام ، على معنى كونهما في كلامين مستقلين ، نعم لا بأس بذلك في مثل أسماء الإشارة حيث أمكن فرض كونهما في كلامين مستقلين كامكان فرضهما في كلام واحد وقع به التخاطب.

وعلى أي حال فحيثما لايمكن ابقاء العام على ظهوره في العموم مع حفظ ظهور الضمير في المطابقة مع المرجع من جهة العلم بمخالفة أحد الظهورين للواقع يدور الامر بين التصرف في العام وتخصيصه بما أريد من الضمير الراجع إليه ، بحمله على خصوص الرجعيات لا الأعم منها ومن الباينات ، وبين التصرف في الضمير : اما بنحو الاستخدام بارجاعه إلى بعض ما هو المراد من المرجع ، واما بنحو المجاز في الاسناد بارجاعه إلى تمام المرجع توسعا.

وفي مثله قد يقال كما في الكفاية وغيرها بتقديم أصالة الظهور في العام على أصالة الظهور في الضمير في التطابق مع لمرجع ، لكونه أي العام مما شك فيه في المراد مع العلم بأصل الوضع ، حيث يحتمل فيه كون المراد منه هو خصوص الرجعيات أو الأعم منها ومن الباينات ، فيجرى فيه أصالة الظهور ، بخلافه في الضمير ، فإنه لاشك فيه في المراد من جهة العلم بإرادة خصوص الرجعيات ، وانما الشك في كيفية الاستعمال ، وفي مثله لا مجرى فيه لأصالة الظهور والحقيقة ، فان القدر المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية انما هو في صورة الشك في المراد لا في صورة الشك في كيفية الاستعمال مع القطع بالمراد ، ومن ذلك أيضا قلنا بعدم جريان أصالة الظهور والعموم لاخراج ما يقطع بخروجه عن حكم العام عن موضوعه ، اقتصارا على المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية ، وحينئذ فإذا لا يجري أصالة الظهور في طرف الضمير ، بملاحظة معلومية المراد منه بالإرادة الجدية من كونه خصوص الرجعيات ، فلا دوران في البين بين أصالة الظهورين ، فتجري أصالة الظهور حينئذ في طرف العام ، ويتصرف في الضمير اما بنحو الاستخدام أو بنحو المجاز في الاسناد. ولئن شئت قلت : ان عدم جريان أصالة الظهور في طرف الضمير انما هو من جهة انتفاء الأثر عليه بخلافه في طرف العام فإنه مما يترتب عليه الأثر فتجري أصالة الظهور فيه دون الضمير.

ولكن يدفع ذلك بأنه وان كان لا مجرى لأصالة الظهور في طرف الضمير، فلا دوران

٥٤٥

بين أصالة الظهور في الضمير في التطابق وبين أصالة الظهور في العام ، الا ان مجرد ذلك لايقتضي جريانها في طرف العام ، فإنه لا أقل من صلاحية الضمير باعتبار اتصاله بالكلام للقرينية على العام ، من جهة احتمال كون استعماله على طبق وضعه ، وفي مثله من المعلوم انه لايبقى مجال ظهور للعام في العموم ، حتى يجري فيه دليل التعبد بالظهور ، نعم لو كان العام والضمير في كلامين مستقلين كما قلنا بتصويره في مثل أسماء الإشارة ، أو قلنا بحجية أصالة العموم من باب التعبد المحض لكان للقول بجريان أصالة الظهور في العام كمال مجال ، ولكنك عرفت عدم تصور فرض استقلال العام والضمير في الكلام ، وعدم كون مدار الحجية في أصالة الحقيقة على التعبد ، بل على الظهور التصديقي النوعي ، وعليه فالضمير حسب اقترانه بالعام يكون مما يصلح للقرينية على العام ، ومعه فلايكون له ظهور في العموم حتى يشمله دليل التعبد الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، كما لايخفى.

الجهة الثامنة

اختلفوا في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف وعدم جوازه ، كقوله عليه‌السلام : ( خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء ) (١) وقوله عليه‌السلام : ( إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء ) (٢) وذلك بعد الوفاق منهم ظاهرا على تخصيصه بالمفهوم الموافق.

ولكن التحقيق القول فيه هو ان العام وما له المفهوم مطلقا تارة يكونان في كلام واحد وقع به التخاطب وأخرى في كلامين مستقلين ، وعلى التقديرين فالدلالة فيهما تارة تكون بالوضع وأخرى بالاطلاق وقرينة الحكمة ، وثالثة بالوضع في العام وبالاطلاق في المفهوم ، ورابعة بعكس ذلك.

فعلى الأولين لابد من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيقدم على الآخر ، من غير فرق في ذلك بين كون العام وماله المفهوم في كلام واحد وفي كلامين مستقلين ، إذ على الأول فظاهر ، لعدم استقرار الظهور في واحد منهما حينئذ بعد صلاحية كل منهما للقرينية على الآخر وتساويهما في الوضع

__________________

١ و ٢ ـ الوسائل ج ١ ، الباب ١ من الماء المطلق ، ص ١٠١ ح ٨ والباب ٩ منه ص ١١٧ ح ١ و ٢.

٥٤٦

والاطلاق ، وعلى الثاني أيضا كك من جهة تصادم الظهورين وصيرورتهما بحكم المجمل في عدم حجية واحد منهما ، حيث إنه لابد حينئذ من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان في البين ما يوجب قوة في أحدهما فيوجب استقرار ظهوره لو كانا في كلام واحد أو اقوائيته لو كانا في كلامين مستقلين. ولكن في مثل ذلك حيث لا ضابط كلي كذلك ، من جهة اختلافه باختلاف خصوصيات المقامات والمناسبات بين الاحكام وموضوعاتها ، لايمكن تأسيس قاعدة كلية سارية في جميع الموارد في تقديم أحدهما على الآخر ، بل لابد من لحاظ القرائن الخاصة وخصوصيات الموارد الخاصة من مناسبات الحكم والموضوع ونحوها ، فربما توجب قوة في العام ، وأخرى في المفهوم سواء في ذلك أيضا بين الموافق والمخالف.

وعلى الثالث من فرض كون الدلالة في العام بالوضع وفى المفهوم بالاطلاق : فان كانا في كلام واحد فلا اشكال في الاخذ بالعام ورفع اليد عن المفهوم ، بل لا دوران حينئذ حيث إنه مع الظهور الوضعي للعام لايبقى مجال للظهور الاطلاقي في المفهوم ، حتى يجيء فيه احتمال التخصيص ، فان الظهور الاطلاقي من جملة مقدماته عدم البيان على خلافه ، والعام بعد كون الدلالة فيه بالوضع صالح للبيانية ، فيرتفع به موضوع الاطلاق.

واما لو كانا في كلامين مستقلين فقد يقال : بأنه أيضا كذلك وانه يقدم العام الوضعي عليه نظراً إلى تنجيزية الظهور الوضعي في العام وتعليقيته في الخاص والمفهوم ، وإناطته بعدم البيان على خلافه.

ولكنه فاسد لما تقدم ، وسيجيء بان عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان بقول مطلق ولو إلى الأبد بكلام منفصل آخر عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مقام تخاطبه ، ومن ذلك ترى اخذ العرف وأهل المحاورة بظهور الكلام الملقى إليهم عند عدم نصب المتكلم قرينة على الخلاف في تخاطبه ، من غير حالة منتظرة منهم في الاخذ بالظهور الاطلاقي بأنه لعله يأتي البيان من قبله في الأزمنة الآتية بعد شهر أو شهرين أو سنة أو غير ذلك ، ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة استقرار الظهور الاطلاقي للمطلق عند عدم نصب المتكلم قرينة على المراد في كلامه الذي أوقع به التخاطب. وعليه فإذا فرض كون العام وماله المفهوم في كلامين مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق في قبال الظهور الوضعي للعام ، من غير

٥٤٧

صلاحية الظهور الوضعي في العام للقرينية والبيانية عليه بنحو يرتفع موضوع الاطلاق ، وفي مثله لا مجال لتقديم ظهور العام عليه بمقتضي البيان المزبور ، بل بعد استقرار الظهور في الطرفين يقع بينهما المزاحمة فلابد من الحكم عليهما بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ان لم يكن اقوائية في إحداهما ، والا فيؤخذ بما هو الأقوى والا ظهر منهما ، ويرفع اليد عن ظهور الآخر كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر حكم الفرض الرابع أعني فرض كون الدلالة في المفهوم بالوضع وفى العام بالاطلاق فإنه في فرض كونهما في كلام واحد يقدم المفهوم على العام ، من جهة تنجيزية ظهوره وتعليقية ظهور العام ، وفي فرض كونهما في كلامين مستقلين ، يحكم عليهما بحكم الاجمال بمقتضي البيان المتقدم ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيؤخذ به ويرفع اليد عن ظهور الآخر ، فتدبر.

الجهة التاسعة

اختلفوا في جواز تخصيص العموم الكتابي بالخبر الواحد وعدم جوازه بعد الاتفاق منهم على تخصيصه بالخبر المتواتر. ولكن التحقيق هو الجواز ، للسيرة المستمرة من الأصحاب من قديم الأزمان إلى زمانا هذا على تخصيص العمومات الكتابية بالخبر الواحد الغير المحفوف بالقرائن القطعية كتخصيص غيرها به ، وعدم صلاحية ما تمسك به المانعون للمانعية ، تارة بقطعية العام الكتابي سندا وظنية سند الخبر فلا دوران بينهما من جهة عدم مقاومة الظني مع القطعي ، وأخرى بما ورد من الأخبار الكثيرة القطعية على طرح ما لا يوافق الكتاب أو يخالفه من نحو قوله عليه‌السلام : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، (١) أو فاضربه على الجدار ، (٢) أو زخرف (٣) ) على اختلاف ألسنتها ، بدعوى ان المخالفة تعم المخالفة بنحو العموم من وجه والمطلق ، فيجب حينئذ طرح ما يخالف العموم الكتابي من الاخبار الآحاد ، إذ فيه

__________________

١ ـ أصول الكافي ج ١ ح ٥. وسائل الشيعة ، ج ١٨ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٥.

٢ ـ لم نعثر عليه في كتب الحديث.

٣ ـ أصول الكافي ج ١ ص ٦٩ ح ٣ و ٤ وسائل الشيعة ، ج ١٨ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٢ و ١٤.

٥٤٨

ما لايخفى :

اما الأول فبأنه لا دوران بين سند العام الكتابي وسند الخاص الظني حتى يقال بعدم مقاومة الظني للمعارضة مع القطعي ، بل ولا دوران أيضا بين دلالتهما ، من جهة معلومية اقوائية الدلالة في الخاص من العام في العموم ، كيف وان لازمه عدم جواز تخصيص العام المتواتر السند بالخبر الواحد ، مع أنه ليس كك قطعا ، بل وانما الدوران انما كان بين دلالة العام الكتابي وسند الخاص الظني ، وفي مثله يكون الدوران والمعارضة بين الظنيين من جهة ظنية دلالة العام أيضا ، لا بين القطعي والظني ، فكان الخاص حينئذ بسنده يعارض دلالة العام الكتابي لا سنده حتى يتوجه الاشكال المزبور ، ولا بدلالته من جهة ما عرفت من اقوائية ظهوره من ظهور العام ، ومن ذلك يقدم عليه بلا كلام مع القطع بصدوره ، كما يكشف عنه اطباقهم على جواز تخصيصه بالمتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعية.

واما الوجه الثاني ففيه أيضا منع اطلاق تلك النصوص وشمولها للمخالفة بنحو العموم المطلق بل ومن وجه أيضا ، بل نقول باختصاصهما بمقتضي الانصراف بخصوص المخالفة بنحو التباين الكلي ، كيف وانه من المقطوع صدور اخبار كثيرة مخالفة للكتاب بنحو العموم المطلق ومن وجه ، فلابد حينئذ من الالتزام بالتخصيص بما صدر عنهم عليهم‌السلام من الاخبار المخالفة بنحو العموم المطلق ومن وجه ، وهو كما ترى! من اباء هذه الأخبار بملاحظة ما اشتمل عليها من التعبيرات عن التخصيص ، فان قوله عليه‌السلام : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو فاضربه على الجدار ) ونحوها مما لايكاد يتحمل التخصيص ، فلا محيص حينئذ بقرينة صدور مثل هذه الأخبار المخالفة بنحو العموم من وجه والمطلق عنهم عليهم‌السلام من حملها على خصوص المخالفة بنحو التباين الكلي لو فرض اطلاق فيها.

كما أن ما دل منها على طرح ما لا يوافق أيضا لابد من الحمل على ذلك ، لو لم نقل باختصاصها بمورد تعارض الخبرين ومقام ترجيح أحدهما على الآخر.

ثم إن كل ذلك أيضا في فرض صدق المخالفة عرفا على المخالفة بنحو العموم المطلق ، والا فمع عدم صدق المخالفة على مثل ذلك عرفا يخرج موضوعا عن تلك الأخبار.

وحينئذ فعلى كل حال لا مجال للتشكيك في جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر الواحد بمثل البيانات المزبورة بل لابد بمقتضي القواعد المقررة في محله من تخصيصه به كتخصيصه

٥٤٩

بالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية.

نعم بعد ما ظهر ان الدوران في المقام كان بين سند الخاص الظني وبين دلالة العام الكتابي لابين سنديهما ولا بين دلالتيهما يبقى الكلام في ترجيح أصالة التعبد بالسند في الخاص على أصالة التعبد بالدلالة في طرف العام القطعي ، ووجه تقديمه عليه بأنه من جهة الحكومة كما قيل بدعوى مسببية الشك في حجية الظهور في العام عن الشك في صدور الخاص الا ظهر في قباله ، باعتبار ان موضوع الحجية في أصالة الظهور هو الظهور الذي لم يرد أظهر في قباله أو من جهة الورود بمناط المزاحمة وتقديم أقوى الحجتين أو بمناط آخر. وقد أشبعنا الكلام في ذلك مفصلا في مبحث التعادل والترجيح فراجع هناك تعرف.

الجهة العاشرة

إذا ورد عام وخاص متخالفان ، ففي كون الخاص ناسخا أو منسوخا أو مخصصا للعام وجوه.

وقد يقرب قاعدة كلية في تنقيح ذلك وتعيين كونه ناسخا للعام أو منسوخا به أو مخصصا له ، وهي اعتبار كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام واعتبار كون الناسخ واردا بعد حضور وقت العمل بالعام لاقبله حيث يقال حينئذ بان الخاص ان كان مقارنا مع العام أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه مخصصا للعام وبيانا له ، لا ناسخا له ، من جهة انه يعتبر في النسخ ان يكون رافعا لحكم ثابت فعلى من جميع الجهات ، وقبل حضور وقت العمل بالعام لايكون حكم فعلى في البين حتى يكون قضيته رفع الحكم الثابت ، فمن ذلك يتعين فيه كونه مخصصا للعام وبيانا له لا ناسخا. واما ان كان وروده بعد حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه ناسخا له ، لا مخصصا وبيانا له ، فان مقتضى كونه بيانا هو لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح بل محال ، لأنه نقض للغرض الذي هو محال من الحكيم واما لو كان ورود الخاص قبل ورود العام ففيه يحتمل الأمران ، حيث يحتمل كونه مخصصا للعام ويحتمل كونه منسوخا به. هذا ملخص ما أفيد في وجه التفصيل بين صورة ورود الخاص قبل

٥٥٠

حضور وقت العمل بالعام أو بعده.

وقد عرفت ابتنائه على تسليم مقدمتين : الأولى قبح تأخير البيان عن وقت حضور عمل المكلف بالعام ، والثانية اعتبار كون السنخ رفعا للحكم الفعلي على الاطلاق ، حيث إنه على تقدير تمامية هاتين المقدمتين لابد من التفضيل المزبور وملاحظة كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، بالالتزام بالتخصيص في الأول وبالسنخ في الثاني.

ولكن كلتا المقدمتين ممنوعة وذلك : اما المقدمة أولى وهي قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فان أريد من وقت الحاجة وقت حاجة المولى إلى بيان مرامه فقبحه مسلم لا اشكال فيه بل هو محال ، من جهة استلزامه نقض الغرض الذي هو من المستحيل في حق الحكيم ، ولكن صغراه في المقام ممنوعه ، حيث نمنع تعلق غرض الشارع في مثل تلك العمومات ببيان المرام الواقعي ، ومجرد احتياج المكلف إلى العمل لايقتضي كون وقت حاجته هو وقت حاجة المولى ، من جهة جواز التفكيك بينهما. وان أريد بذلك وقت حاجة المأمور والمكلف ولو لم يكن وقتا لحاجة المولى إلى البيان فقبحه غير معلوم بل معلوم العدم ، حيث إنه من الممكن كون المصلحة في القاء ظهور العام إلى المكلف عن خلاف المرام الواقعي ليأخذ به ويتكل عليه حجة وبيانا إلى أن يقتضى المصلحة بيان المرام الواقعي ، كيف وانه كفاك في ذلك ما في موارد التعبد بالأصول والامارات المؤدية على خلاف الواقعيات مع تمكن المكلف من تحصيلها بالاحتياط أو بالسؤال عن الأئمة عليهم‌السلام بل وكثير من الاحكام التي بقيت تحت الحجاب إلى قيام الحجة عجل الله فرجه مع احتياج العباد إليها ، ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك واحتمال وجود المانع عن ابراز المرام النفس الأمري اما مطلقا أو إلى وقت خاص أو قيام المصلحة الأهم في عدم الابراز لا مجال لاثبات كون الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام ناسخا لا مخصصا ، بل حينئذ كما يحتمل فيه كونه ناسخا يحتمل أيضا كونه مخصصا. نعم لو قيل بان وقت حاجة المأمور ووقت العمل بالعام هو بعينه وقت حاجة المولى إلى بيان المرام النفس الأمري وهو الخصوص لاتجه الحمل على النسخ في الخاص المتأخر ، ولكن ودن اثباته خرط القتاد ، لما عرفت من عدم السبيل إلى هذه الدعوى بعد احتمال وجود مانع أو مزاحم أقوى في البين اقتضى اخفاء الواقعيات بالقاء الظهور إلى المكلف على خلافها اما إلى

٥٥١

الأبد أو إلى وقت خاص بعد العمل بالعام.

واما المقدمة الثانية ففيها أيضا ان كون النسخ رفعا للحكم الثابت وان كان لا سبيل إلى انكاره ، ولكن نقول بأنه لايلزمه كون ذلك الحكم الثابت فعليا على الاطلاق ، بل يكفي في صحته كونه رفعا لحكم ثابت في الجملة ولو بمرتبة انشائه الحاصل بجعل الملازمة بينه وبين شرطه وسببه ، كما في الواجبات المشروطة ، كيف وان النسخ في الشرعيات كالبداء في التكوينيات المتصور في الموقتات والمشروطات بالنسبة إلى المخلوقين ، وحينئذ فكما انه يصح في الاحكام العرفية نسخ الحكم في الموقتات والمشروطات قبل حصول شرطها ، ويكفي في صحته مجرد كونه رفعا لما هو المنشأ بالانشاء السابق ، ولو كان ذلك مجرد احداث الملازمة بين الامرين ، كك في الأحكام الشرعية ، فيكفي في صحته أيضا مجرد كونه رفعا لما تحقق بالانشاء السابق ولو لم يكن حكما فعليا على الاطلاق ، بل كان عبارة عن صرف قضية تعليقية ومحض الملازمة بين وجود شيء ووجوب امر كذا ، إذ لا فرق بينهما الا من جهة انه في العرفيات عبارة عن ظهور الواقع بعد خفائه من جهة ما يبدو لهم لما يرون فيه من المفاسد أو المزاحمة لما هو الأهم بخلافه في الشرعيات فإنه من جهة علمه سبحانه بعواقب الأمور واحاطته بالواقعيات عبارة عن اظهار الواقع بعد اختفائه لمصلحة تقتضيه. ومن ذلك نقول : بان باب النسخ أشبه شيء بباب التورية والتقية ، في كونه من باب التصرف في الجهة ، من حيث اظهاره سبحانه حكما بنحو الدوام والاستمرار لمصلحة تقتضيه ، مع علمه سبحانه بنسخه فيما بعد حسب ما يرى في علمه من المصالح المقتضية لذلك ، وعليه فصح ان يقول : ان جاء وقت كذا يجب كذا ، ثم يقول بعد حين قبل مجيء الوقت : نسخت ذلك الحكم ، فكان المرفوع هو تلك الملازمة الثابتة بين وجوب شيء ومجيء وقت كذائي ، ونتيجة ذلك هو عدم وجوب ذلك الشيء عليه عند تحقق الوقت الكذائي. ثم إن ذلك أيضا بناء على المشهور في المشروطات من عدم فعلية التكليف فيها الا بعد حصول المنوط به والشرط خارجا ، والا فبناء على ما اخترناه من فعلية الإرادة والتكليف فيها بجعل المنوط به هو الشيء في فرضه ولحاظه طريقا إلى الخارج فلايحتاج إلى جعل المرفوع هو الملازمة ، حيث كان المرفوع حينئذ هو الحكم الفعلي المنوط ، بل لو قلنا برجوع المشروطات إلى المعلقات بارجاع القيود الواقعة في الاحكام إلى الواجب والمأمور به كان الامر أظهر ، من جهة فعلية الإرادة المطلقة الغير المنوطة بشيء حتى في فرضه ولحاظه

٥٥٢

فتأمل.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال للتفصيل المزبور بين فرض ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، فإنه على كل تقدير يتأتى فيه احتمال النسخ والتخصيص كما في الفرض الثالث ، فلابد حينئذ بعد جريان احتمال النسخ والتخصيص في كل من الفروض الثلاثة من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

وقبل الشروع في بيان ترجيح أحد الامرين نذكر ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة عند الشك فنقول : أما إذا كان الخاص مقدما على العام بحيث يحتمل كونه منسوخا بالعام الوارد بعده أو مخصصا وبيانا له ، فمع الدوران يجري استصحاب حكم الخاص ، من جهة الشك في ارتفاعه لاحتمال كونه مخصصا للعام لا منسوخا به ، فيستصحب ، وأما إذا كان الخاص واردا بعد العام ، بحيث يحتمل فيه الناسخية والمخصصية ، فتارة يكون حكم الخاص المتأخر نقيضا لحكم العام ، كما لو كان حكم العام هو وجوب اكرام العلماء ، وكان حكم الخاص عدم وجوب اكرام الفساق منهم ، وأخرى يكون حكمه ضدا لحكم العام ، كان كان حكم الخاص في الفرض المزبور حرمة اكرام الفساق منهم أو كراهته. فعلى الأولى يجرى فيه أيضا حكم التخصيص بمقتضي الأصل العدمي قبل ورود العام ، من جهة انه قبل ورود العام يعلم بعدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ، وبورود العام وهو قوله : اكرام العلماء يشك في وجوب اكرامهم ، من جهة احتمال كون الخاص المتأخر مخصصا للعام وبيانا له في عدم دخول الفساق منهم من الأول تحت حكم وجوب الاكرام ، فيستصحب الحالة السابقة وهي عدم وجوب اكرامهم فينتج حكم التخصيص دون النسخ. واما على الثاني فلا أصل يجرى في البين من جهة القطع التفصيلي بانتقاض الحالة السابقة على كل تقدير اما بوجوب الاكرام بمقتضي العام على فرض الناسخية واما بحرمة الاكرام الثابت للخاص على فرض المخصصية ، فعلى كل تقدير فلا شك فيه في البقاء حتى يجرى استصحاب العدم السابق على العام ، كما أنه بالنسبة إلى حكمه الفعلي أيضا مقطوع بحرمته على تقدير المخصصية والناسخية. نعم لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام أو حرمته وكان مفاد الخاص المتأخر استحباب الاكرام أو كراهته أمكن دعوى جريان حكم التخصيص بمقتضي استصحاب عدم المنع السابق ، حيث إنه بالأصل المزبور مع ضميمة رجحانه الفعلي أو المرجوحية الفعلية أمكن اثبات الكراهة أو الاستحباب ، فتأمّل.

٥٥٣

هذا هو مقتضي الأصول العملية عند الشك وعدم ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ، ولقد عرفت ان مقتضاها جريان حكم التخصيص في جميع صور المسألة عدا فرض تضاد الحكم الثابت للخاص مع الحكم الثابت للعام.

واما مقام الترجيح فقد يقال : بترجيح احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، بتقريب ان التخصيص أكثر وأشيع من النسخ حتى قيل من جهة كثرته وشيوعه : بأنه ما من عام الا وقد خص ، وبان النسخ في الحقيقة تخصيص في الأزمان قبال التخصيص في الافراد ، ومع الدوران يقدم الثاني على الأول لكونه كثيرا من تخصيص الأزمان. ولكن فيه ما لايخفى ، فإنه أولا نمنع كون النسخ من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى باب التصرف في الدلالة ، بل هو كما عرفت أشبه شيء بباب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة قبال التخصيص الراجع إلى مقام التصرف في الدلالة ، كما يكشف عنه أيضا صحة النسخ بزمان يسير عقيب قوله : أكرم زيدا في كل زمان ، مصرحا بعمومه الأزماني ، حيث يرى بالوجدان انه يصح له نسخ ذلك الحكم بعد يوم أو ساعة ، بقوله : نسخت ذلك الحكم ، من دون استهجان أصلا ، مع عدم صحة ذلك بنحو التخصيص من جهة كونه من تخصيص الأكثر المستهجن ، حيث إن نفس ذلك أقوى شاهد وأعظم بيان على عدم ارتباط النسخ بباب التخصيص في الأزمان وكونه من سنخ الأكاذيب والتقية الراجعة إلى مقام التصرف في الجهة دون الدلالة ، وثانيا منع اقتضاء مجرد الشيوع والأكثرية لترجيح التخصيص والتصرف الدلالي على النسخ والتصرف الجهتي ، والا لاقتضى ذلك تقديم التقية على غيرها عند الدوران بينها وبين غيرها ، نظراً إلى شيوع التقية في زمان صدور هذه الأخبار ، مع أنه لايكون كك ، حيث إن بنائهم على عدم الاعتناء باحتمال صدور الخطاب تقية الا في بعض الموارد الخاصة التي كان الأصل الجهتي فيها موهونا في نفسه ، كما في مسألة طهارة الكتابي ، ومسألة حلية اكل ذبائحهم وطهارتهم ، ومسألة عدم تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بل ومنع أصل أكثرية التخصيص من غيره أيضا ، فان لنا فرض الكلام في الخصوصيات الواردة في صدر الشريعة وبدوها ، ولئن قيل بان الأكثرية والأشيعية انما هي بلحاظ الاحكام العرفية لا بلحاظ خصوص الخطابات الشرعية حتى يتوجه الاشكال المزبور ، يقال انه من الممنوع أيضا أكثرية التخصيص في الاحكام العرفية من السنخ لولا دعوى أكثرية السنخ فيها بلحاظ جهلهم بالموانع

٥٥٤

والمزاحمات الواقعية النفس الامرية ، ولا أقل من عدم كون التخصيص فيها في الكثرة بمثابة يوجب انس الذهن به كي يوجب الحمل عليه في الخطابات الشرعية عند الدوران والترديد. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو المنع عن كون وجه تقديم التخصيص على النسخ من باب الأكثرية والأشيعية ، والا فربما نحن نساعد أيضا على أصل المدعى من تقديم التخصيص على النسخ عند العرف والعقلاء بحسب ارتكازاتهم في الخطابات الشرعية والاحكام العرفية الجارية بنياتهم.

وقد يقرب وجه تقديم التخصيص على النسخ بما قرب في وجه تقديم أصالة السند والجهة على أصالة الظهور والدلالة ، من دعوى ان الأصل الجاري في السند كما كان في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور لكونها منقحة موضوعها ، كك الأصل الجاري في الجهة أيضا ، بلحاظ ان موضوع الجهة في الظهور هو الكلام الصادر عن المعصوم عليه‌السلام عن داعي الجد لبيان حكم الله الواقعي ، لا للتقية ونحوها ، وانه لولا احراز أصل صدور الكلام عن الإمام عليه‌السلام واحراز جهة صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا ينتهى النوبة إلى مقام التعبد بظهوره ، ودلالته ، فبذلك يكون أصالة التعبد بالصدور والجهة في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور والدلالة ، لكونهما منقحتي موضوعها ، باعتبار كون الأول مثبتا لأصل الموضوع وهو كون الكلام صادرا عن الإمام عليه‌السلام ، والثاني لكيفية صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها ، وعليه فعند الدوران بين التصرف الدلالي والتصرف الجهتي يقدم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي ، من جهة تقدمه عليه رتبة في المشمولية لدليل الاعتبار. وبذلك يقال في المقام أيضا بان النسخ بعد أن كان سنخه من باب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة ، لا من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى التصرف الدلالي ، فمع الدوران في العام بين كونه منسوخا بالخاص المتأخر أو مخصصا به يقدم الأصل الجاري في جهته على الأصل الجاري في ظهوره ودلالته ، من جهة جريان أصالة الجهة فيه حينئذ في الرتبة السابقة بلا مزاحم ، ومعه لابد من رفع اليد عن ظهوره ودلالته في العموم بمقتضي ما في القبال من الخاص الأظهر ، من غير فرق في ذلك بين ظهور الخاص في ثبوت حكمه على فرض المخصصية من بدو الشريعة أو عدم ظهوره فيه بل ظهوره في ثبوت حكمه في زمان صدوره ، وان كان على الأخير لا ثمرة عملية في البين ، من جهة القطع بحجية العام على كل تقدير إلى زمان

٥٥٥

صدور الخاص ولزوم الاخذ بالخاص من حينه ورفع اليد عن العام على كل تقدير أيضا سواء على الناسخية أو المخصصية ، هذا.

ولكن قد يورد على هذا التقريب بعدم اجداء هذا المقدار من الترتب والطولية لتقديم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي عند الدوران ، بدعوى انه كما لا مجال للتعبد بظهور الكلام بدون احراز أصل صدوره وجهته كك لا مجال أيضا للتعبد بسنده وجهته مع عدم ظهوره ، واجماله ، حيث لايترتب عليهما اثر عملي في البين حتى يجري فيهما أصالة التعبد ، بل وانما ترتبه على ظهور الكلام الصادر عن الإمام عليه‌السلام لأجل بيان الحكم الواقعي ، وعلى ذلك فكان كل من السند والجهة والدلالة مما له الدخل في ترتب الأثر على الخبر في عرض واحد ، حيث كان ترتب الأثر عليه ووجوب المعاملة معه معاملة الواقع منوطا بسد أمور ثلاثة : أحدها احتمال عدم صدوره ، وثانيها احتمال صدوره لا لأجل بيان حكم الله الواقعي بل لأجل التقية ونحوها ، وثالثها احتمال كون المراد غير ما هو ظاهره ، وفي ذلك يكون مجموع الأمور الثلاثة من قبيل العلة المركبة لترتب الأثر وهو وجوب العمل ، بحيث بانتفاء أحدها ينتفى الأثر المقصود من التعبد بالبقية ، وحينئذ فإذا كان كل من أصالة السند والجهة والدلالة في عرض واحد بالنسبة إلى ترتب الأثر والنتيجة فقهرا لايبقى مجال تقديم أحدها على الآخر في المشمولية لدليل الاعتبار بمحض تقدمها الطبعي.

ولكن يمكن دفع ذلك بان الامر وان كان كما ذكر من احتياج كل من التعبد بالسند والجهة والدلالة في الجريان التعبد بالآخر ، ولكن نقول : بان ذلك غير قادح في تقدم الأصل الجهتي على أصالة الظهور بعد اختلاف نحوي التوقف والاحتياج فيهما ، وكون التوقف والاحتياج في بعضها من جهة عدم احراز الموضوع ، وفى البعض الآخر من جهة عدم الأثر ولغوية التعبد بدونه ، حيث إن من المعلوم حينئذ ان الأصل الجهتي لكونه منقح موضوع الأصل الدلالي وفي رتبة سابقة عليه مقدم لا محالة على الأصل الدلالي في مقام الدوران في المشمولية لدليل الاعتبار ، فلابد حينئذ من رفع اليد عن أصالة الظهور والدلالة ، وذلك أيضا ينطبق على ما عليه ديدن الأصحاب من تقديم التصرف الدلالي على التصرف الجهتي ولو بنحو التقية مع كثرتها وشيوعها في زمن الأئمة عليهم‌السلام. وعليه فحيث ان باب النسخ كان من سنخ التورية والتقية في كونه من قبيل التصرف في الجهة لا من قبيل التصرف في الدلالة فعند الدوران بين كون الخاص مخصصا للعام أو ناسخا

٥٥٦

له يقدم التخصيص على النسخ ويحكم بكونه مخصصا له لا ناسخا ، هذا.

ولكن مع ذلك كله فالتحقيق هو عدم اثمار هذا الترتب والطولية بين الأصل الجهتي والدلالي لشيء بوجه أصلا ، وذلك :

اما في مقام الدوران بين التصرف الدلالي والتقية : فمع استلزام الأصل الجهتي لطرح الدلالة رأسا فظاهر ، من جهة لغوية التعبد بالجهة حينئذ مع انتفاء أصل الدلالة ، واما مع عدم استلزامه لذلك وامكان الاخذ بالعام ولو ببعض مدلوله فبأنه وان كان يجري الأصل الجهتي ويؤخذ بالعام مثلا في بعض مدلوله بلا كلام لكنه لا يتوقف هذا المقدار على ما ذكر من الترتب والطولية بينهما ، من جهة وضوح كون الامر كك ولو على القول بالعرضية ، من جهة العلم التفصيلي حينئذ بخروج مقدار من المدلول عن تحت الحجية سواء على تقدير التخصيص أو التقية ، واما فيما عدا هذا المقدار من المدلول فحيثما لا تنافي بين الأصلين يؤخذ بهما ، فيترتب عليهما وجوب العمل على طبقه سواء فيه بين طولية الأصلين أو عرضيتهما هذا إذا كان الدوران بين التقية والتخصيص.

وأما إذا كان الدوران بين النسخ والتخصيص كما في المقام ، فان كان الخاص مقدما على العام وقد احتمل فيه كونه مخصصا للعام أو منسوخا به ، ففي ذلك يقع التعارض بين الأصل الجهتي في الخاص وبين الأصل في العام المتأخر ، وحيث انه لايكون لأحدهما تقدم رتبي على الآخر كما في فرض اعتبارهما في دليل واحد فلا جرم ينتهي الامر فيهما بعد المعارضة إلى التساقط ، وفي مثله يكون المرجع هو استصحاب حكم الخاص. واما ان كان الخاص متأخرا عن العام فان كان ذلك قبل حضور وقت العمل بالعام فلا ثمرة تترتب على كونه ناسخا أو مخصصا ، من جهة انه على كل تقدير يكون العمل على طبق الخاص المتأخر من حين صدوره ، وأما إذا كان صدوره بعد حضور وقت العمل بالعام بمدة فتارة لايكون له ظهور في ثبوت مدلوله من الأول من حين ورود العام وأخرى كان له هذا الظهور ، فعلى الأول فلا دوران في البين بين الأصلين إذا كما أنه يجري فيه الأصل الجهتي كك يجري فيه الأصل الدلالي أيضا إلى حين ورود الخاص ، ومعه يكون المتبع هو أصالة العموم إلى حين ورود الخاص ، ومن حين ورود الخاص يكون العمل على طبق الخاص المتأخر سواء كان ناسخا أو مخصصا ، واما على الثاني من فرض اقتضاء الخاص المتأخر على تقدير كونه مخصصا ولو من جهة اطلاقه لثبوت حكمه من حين ورود

٥٥٧

العام ، كما كان ذلك شأن أغلب الخصوصات ، ففي مثله وان دار الامر بين التصرف في ظهور العام وبين التصرف في جهته وكان يثمر أيضا فيما قبل ورود الخاص منه الأزمنة المتقدمة من جهة القضاء والكفارة لو كان الواجب مما يترتب على تركه ذلك ، الا ان طرف المعارضة بدوا لما كان هو اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت مفاده من أول الامر ، من جهة منافاته بالضرورة مع قضية ظهور العام في العموم ، فلا جرم ينتهى الامر فيهما إلى التساقط ، ومع سقوط أصل الظهور في العام عن الحجية في العموم يجرى عليه قهرا حكم التخصيص. ولئن شئت قلت بان أصل الجهة في العام في مثل الفرض من جهة اناطته بجريان أصالة الظهور في العام وشمول عمومه لزيد أيضا في نحو قوله : أكرم كل عالم إناطة الشيء بموضوعه كان غير جار على كل تقدير من جهة وضوح عدم المجال للتعبد بالجهة بالنسبة إلى زيد مع عدم التعبد بعموم العام وشموله له ، فيكون حينئذ طرف المعارضة قضية اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت حكمه على تقدير التخصيص من حين ورود العام ، ومع التعارض وسقوط أصالة الظهور في العام عن الحجية فقهرا يجرى عليه حكم التخصيص ، ولابد فيه من الرجوع إلى الأصول التي توافق بحسب النتيجة مع التخصيص تارة كما في فرض كون مفاد العام هو وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص عدم وجوب اكرام زيد العالم ، وأخرى مع النسخ ، كما في فرض كون مفاد العام عدم وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص وجوب اكرام زيد حيث إن قضية البراءة عن القضاء مثلا حينئذ توافق النسخ ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب عدم ترتب اثر عملي على مثل هذا الفرض بالنسبة إلينا بعد تأخر زماننا عن زمان العام والخاص ، من جهة وضوح انه على كل تقدير كان الواجب علينا الاخذ بالخاص والعمل على طبقه ناسخا كان أو مخصصا. نعم في الخاص المتقدم كان له ثمرة مهمة من حيث كونه مخصصا للعام المتأخر أو منسوخا به ، ولكنك عرفت فيه أيضا ان اللازم فيه هو الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص من جهة معارضة الأصل الجهتي في الخاص حينئذ مع الأصل الدلالي في العام المتأخر وتساقطهما فتدبر. هذا تمام الكلام في العام والخاص.

٥٥٨

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

وقد عرفت المطلق بأنه ما دل على شايع في جنسه ، والظاهر أن المراد من الجنس في المقام هو السنخ ، لا الجنس المصطلح عند المنطقيين : أي الكلي المقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو ، قبال النوع ، ولا ما هو المصطلح منه عند النحويين : أي الماهيات الكلية المقصورة بأسامي الأجناس ، كيف وان من المعلوم صحة اطلاقه على الافراد المعينة الشخصية بلحاظ الحالات الطارية عليها ، كما في زيد ، حيث إنه مع شخصيته يكون مطلقا بلحاظ حال القيام والقعود والمجيء وغيرها من الحالات ، فكان ذلك حينئذ شاهدا على أن المراد من الجنس المأخوذ في تعريفه هو مطلق السنخ الصادق على الذوات الشخصية الخارجية ولو بلحاظ تحليل الذوات الشخصية إلى حصص سارية في ضمن الحالات المتبادلة ، وعلى الحصص السارية في ضمن افراد الطبيعي كالحيوان والانسان مثلا ، غير أن الفرق بينهما هو استقلال كل حصة من حصص الطبيعي في عالم الوجود ، بخلافه في الحصص السارية من الذوات الشخصية بلحاظ الحالات المتبادلة حيث إنها موجودات بوجود واحد ومجتمعات تحت حد واحد في الخارج ، ولايكون التعدد فيها الا بحسب التحليل ، ولكن مجرد هذا المقدار من الفرق لا يضر بما هو المطلوب من شمول تعريف المطلق لمثله ، كما لايخفى ، فكان المراد من المطلق حينئذ في المقام ما هو المعبر عنه بالفارسية ب‍ ( رهاى در مقام انطباق ) الغير الممنوع عن الصدق على ما هو من سنخه ، في قبال المقيد المعبر عنه بالفارسية ب‍ ( بسته در مقام انطباق ) الممنوع على الصدق على هو من سنخه ، فان تقيد الشيء ببعض القيود كتقيد زيد بالقيام يمنع عن شيوع الحصة المحفوظة

٥٥٩

في ضمنه بالنسبة إلى ما كان من سنخه من بقية الحصص ، ومن ذلك لا يصدق زيد القائم بلحاظ توصيفه بالقيام على زيد القاعد ، وان كان هو أيضا مطلقا باعتبار ما في ضمنه من الحصص بلحاظ الحالات المتبادلة الطارية كالضحك والتكلم والكتابة وغيرها ، وهو واضح.

واما الشياع فالمراد به تارة هو سريان الطبيعة في ضمن جميع الافراد ، وهو المعبر عنه في اصطلاح بعضهم بالعموم السرياني ، وأخرى قابلية الطبيعي للانطباق على القليل والكثير انطباقا عرضيا. والمطلق بالمعنى الأول يطلق غالبا على المواد المأخوذة في طي النواهي النفسية ، كقوله : لا تشرب الخمر ، وفي طي الأحكام الوضعية ، كقوله : أحل الله البيع ونحوه ، حيث إنه وان كان نحو ضيق في الطبيعة حينئذ باعتبار عدم الانطباق الا على الكثير ، والا انه من جهة لحاظ سريانها في ضمن الافراد كان له اطلاق ، في قبال المقيد بقيد خاص غير قابل للانطباق الا على المقيد. وبالمعنى الثاني يطلق غالبا على المواد المأخوذة في طي كثير من الأوامر ، والمطلق بهذا المعنى أوسع دائرة من المطلق بمعنى السريان ، من جهة عدم اعتبار تقيده بشيء من الخصوصيات حتى خصوصية السريان ، فكان من جهة ارساله وعدم تقيده بشيء من الخصوصيات الوجودية والعدمية مجامعا مع كل خصوصية ونقيضها وقابلا للانطباق على القليل والكثير ، ومثل هذا المعنى هو المعروف عندهم باللابشرط المقسمي.

ثم انه بعد ما اتضح لك هذه الجهة ، يبقى الكلام فيما هو مركز التشاجر والنزاع في مداليل أسماء الأجناس بين المشهور من القدماء وبين السلطان في أنها هل هي الطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط وعلى وجه الارسال؟ أو هي الطبيعة المهملة المجامعة مع التقيد والاطلاق كما عليه السلطان؟ وفى ان المراد من الطبيعة المهملة ما هو؟ وقبل الخوض في المقصود ينبغي بيان أمرين لكي ينكشف بهما الحجاب عن وجه المرام :

الأول انه لا شبهة في أن للماهية تصورات بحسب التعقل الأولى : منها : تعلقها مقيدة ومع الضميمة والشرط ، كالانسان الملحوظ معه خصوصية الزيدية وكالرقبة الملحوظ معها خصوصية الايمان مثلا ونحو ذلك من الخصوصيات والضمائم ، وقد شاع التعبير عن ذلك بالمهية بشرط شيء ، وربما عبر عنه أيضا بالمخلوطة قبال المجردة. ومنها : تعلقها مجردة وبلا شرط وضميمة ، وهذا على قسمين : تارة اعتبارها بقيد التجرد عن جميع القيود والخصوصيات ، وأخرى اعتبارها بنفسها مجردة من غير اعتبار قيد التجرد عن الخصوصيات

٥٦٠