نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-272-7
الصفحات: ٥٩٦

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

بجهتين تعليليتين واجدا للمصلحة والمفسدة ، فيكون ذا مصلحة من جهة وذا مفسدة من جهة أخرى ، وأمثلته كثيرة جدا ، ومعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك ثبوتا لايبقى مجال دعوى العقد السلبي للخطابين حتى ينتهى الامر إلى معارضته مع العقد الايجابي في الآخر. وحينئذ فالعمدة في الفرق بين الفرضين هو ما ذكرنا من كون منع العقل بدويا في فرض وحدة عنوان لمأمور به والمنهى عنه بخلافه في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه ، فان منعه انما يكون بملاحظة مقام تطبيق العنوانين على المجمع الوحداني لا ان منعه يكون بدويا كما في الفرض الأول.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا في العامين من وجه مع وحدة عنوان المأمور به ظهر لك الحال في صورة الامر بالمطلق والنهى عن المقيد كقوله : صل ، وقوله : لا تصل في الدار المغصوبة ، حيث إنه ثبوتا وان أمكن كونه من باب التزاحم الا انه اثباتا لابد فيه من اعمال قواعد التعارض نظراً إلى كشف دليل الخاص حينئذ في فرض اقوائية عن تضيق دائرة التكليف في طرف العام بغير المقيد بجميع مراتبه ، فتدبر.

واما لوازم البابين : فمنها كما عرفت هو الرجوع في باب التعارض بعد الياس عن الجمع إلى قواعد التعادل والترجيح بخلافه على التزاحم فإنه فيه لابد من ملاحظة ما هو الأهم مصلحة كانت أو مفسدة فيقدم الأقوى ملاكا على غيره وان أضعف سندا من غير أن يلاحظ فيه جهة اقوائية السند بل ولا الدلالة أيضا الا إذا فرض كون الأقوى دلالة أقوى ملاكا أيضا فيقدم حينئذ ما هو الأقوى دلالة على غيره لمكان كشف قوة دلالته حينئذ عن قوة ملاكه ، فتدبر.

ومن لوازم التعارض والتخصيص أيضا هو عدم قيام المصلحة واقعا الا بالمقيد ويتبعه أيضا فساد العمل الفاقد لقيد واقعا من دون إناطة بالعلم بالمصلحة أو الجهل بها ، بخلافه على التزاحم فان من لوازمه قيام المصلحة واقعا بنفس المطلق وان كان حكمه الفعلي مقيدا بعدم وجود المزاحم الأهم ، ومن لوازم هذا المعنى هو عدم تبعية الفساد واقعا مدار فقد قيد الحكم الفعلي بل يكون تبعيته حينئذ مدار العلم به وعدمه ، فمع الجهل يكون المأتى به صحيحا واقعا من جهة وجدانه لما هو الملاك والمصلحة ووفائه بغرض المولى ، ومن ذلك أيضا بنوا في مثل الغصب والصلاة ولو على الامتناع وتغليب النهى على صحة العبادة مع الجهل بالغصبية مطلقا أو الجهل بالحرمة إذا كان عن قصور ، ومعلوم انه لايكون ذلك

٤٤١

الا من جهة واجدية المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة إذا المانع عن صحته حينئذ انما كان هو فعلية نهيه وتنجزه عليه وتأثيره في مبعدية الفاعل وبعد فرض معذورية المكلف من جهة جهله يقع العمل صحيحا قهرا.

لايقال : هذا كك في غير العبادات واما فيها فبملاحظة احتياج صحتها إلى قصد القربة المنوط بوجود الامر الفعلي القائم بالعمل المأتي به بداعية ومحبوبيته فلا يتم ذلك حتى في ظرف الجهل المزبور ، وذلك لان الجهل المزبور حينئذ غير رافع لتأثير المفسدة الأهم في المبغوضية الفعلية ومع هذه الجهة من التأثير لايبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة في رجحان العمل ومحبوبيته وفعلية الامر المتعلق به ، ومعه فأين امر فعلي قائم بالمأتى به يوجب التقرب به كي يصير العمل لأجله صحيحا؟ ففي الحقيقة تمام المنشأ للفساد حينئذ انما هو من جهة انتفاء مقتضي الصحة وهو التقرب لا من جهة وجود المانع وهو فعلية النهى وتنجزه حتى يقال : بأنه في ظرف الجهل المزبور لا تأثير للنهي في المنجزية ومبعدية الفاعل عن ساحة القرب إلى المبدء الاعلى عز شانه.

فإنه يقال : نعم ان ذات العمل حينئذ وان كان مبغوضا فعلا بمقتضي تأثير المفسدة الأهم ومع هذه الجهة من التأثير لايبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة فيه في المحبوبية الفعلية ، الا انه نقول : بأنه لا باس حينئذ في تأثير المصلحة المهمة في حسنه من حيث صدوره عن الفاعل ، إذا المانع عن تأثيره في حسنه حتى من حيث صدوره عن الفاعل انما كان هو حيث تنجز نهيه وبعد سقوط تنجزه لمكان جهله فقهرا تؤثر المصلحة في حسنه من تلك الجهة ويتبعه أيضا الامر الفعلي فيتقرب حينئذ بداعي امره ولو من حيث إضافة صدوره إلى الفاعل. ولئن خودش فيه أيضا بامتناع موردية العمل ولو بلحاظ إضافة صدوره إلى الفاعل لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية الفعلية مع كونه مبغوضا بالبغض الفعلي بمقتضي تأثير المفسدة الأهم الغالبة ، نظراً إلى استلزامه لاجتماع الضدين فيه من المحبوبية والمبغوضية بملاحظة اتحاد الوجود والايجاد حقيقة ، وان ما هو الصالح لان يكون موردا لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية انما هو حيث إضافة العمل إلى الفاعل فقط مع خروج المضاف عن مورديته لتأثير المصلحة ، ومثل هذا المقدار غير واف بالتقرب المعتبر في صحة العبادة من جهة ان ظاهرهم هو احتياج العبادة في صحتها إلى التقرب بذات العمل لا بحيث اضافته إلى الفاعل ، نقول : بأنه نمنع توقف القرب على فعلية الامر بالمأتى به و

٤٤٢

رجحانه الفعلي ، إذ نقول بان من أنحاء القرب أيضا اتيان العمل بقصد التوصل به إلى غرض المولى. ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذا المعنى مما يتمشى من المكلف حتى مع الجزم بعدم الامر الفعلي بل ومع الجزم بكونه مبغوضا فعلا ما لم يكن العمل مبعدا له ، كما في المضطر بالغصب لا عن سوء الاختيار ، وحينئذ فإذا اتى بالعمل في ظرف الجهل المزبور بداعي التوصل به إلى غرض المولى وكان العمل أيضا من جهة وجدانه للمصلحة وافيا بغرض المولى فقهرا بنفس اتيانه بالقيد المزبور يتحقق القرب ويصح منه العبادة. مع أنه على فرض الاحتياج إلى الامر الفعلي أيضا نقول : بأنه بعد احتمال فعلية الامر ومطلوبيته يكفي في التقرب بالعمل اتيانه برجاء كونه مأمورا به بالايجاد من دون احتياج إلى الجزم بالامر أصلا ، كما هو واضح. هذا في الجهل البسيط.

واما في مورد الجهل المركب فيكفي أيضا في الداعوية وفي تحقق القرب اعتقاد الامر الفعلي وان لم يكن في الواقع امر أصلا فان ماله الدخل بتمامه في الداعوية والمحركية انما كان هو العلم بالامر لا هو بوجوده الواقعي ، وحينئذ فإذا علم بالامر وجدانا أو تعبدا لقيام امارة عليه كان علمه ذلك تمام العلة لتحقق الدعوة ، ومع اتيانه بالعمل بداعية يتحقق القرب المتوقف عليه صحة العبادة قهرا ، من جهة تحقق ما هو علته وهي الدعوة ، فيترتب عليه حينئذ صحة العبادة وان لم يكن هناك امر فعلي متعلق بالعمل في الواقع.

لايقال : كيف ذلك مع أنه خلاف ما بنوا عليه من احتياج العبادة في صحتها إلى قيام الامر الفعلي بها في الواقع كما يشهد عليه حكمهم بفساد العبادة عند خلوها عن الامر واقعا.

فإنه يقال : كلا ، وان اعتبارهم لوجود الامر انما هو باعتبار كشفه عن وجود المصلحة في متعلقه وبلوغه إلى مرحلة الوفاء بالغرض الفعلي نظراً إلى عدم طريق آخر إلى كشف المناط والمصلحة فيه الا امره وبعثه لا من جهة دخله في التقرب المعتبر في صحة العبادة ، كما هو واضح.

الامر الثالث في الاضطرار إلى الغصب فنقول : الاضطرار إلى الغصب تارة يكون لا عن سوء اختيار وأخرى يكون عن سوء اختياره ، وعلى التقديرين تارة يقطع بزوال العذر قبل خروج الوقت وأخرى يقطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت وثالثة يشك في ذلك ، وعلى التقادير تارة يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض وأخرى يكون الغصب

٤٤٣

هو خصوص الأرض دون الفضاء وثالثة بالعكس ، فهذه صور متصورة في الاضطرار إلى الغصب ، وبعد ذلك نقول :

اما الصورة الأولى وهي ما لو كان الاضطرار إلى الغصب لا عن سوء اختياره ، فبناء على جواز الاجتماع لا اشكال ، حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط مطلقا ، سواء فيه بين علمه ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت أو علمه بزواله قبل خروج الوقت ، وسواء فيه بين كون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو الأرض خاصة دون الفضاء أو العكس ،

واما على الامتناع وتقديم جانب النهى ولو لكونه من حقوق الناس فان كان الغصب مجموع الأرض والفضاء وقد علم أيضا ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال أيضا حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة في الغصب بما لها من الاجزاء والشرائط نظراً إلى معلومية عدم استلزام صلاته حينئذ لزيادة تصرف في الغصب غير ما اضطر إليه وهذا واضح بعد وضوح عدم التفاوت في شاغليته للمكان بين حالة سكونه وحركته وقيامه وقعوده ، نعم قد يناقش في المقام أيضا في أصل صحة الصلاة بنحو ما مر في صورة الجهل بالغصبية ولكنك عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه هذا إذا كان الغصب هو مجموع الفضاء والأرض.

واما لو كان الغصب هو خصوص الأرض دون الفضاء فمقتضى القاعدة في هذا الفرض هو تقليل الغصب مهما أمكن ولازمه هو وجوب الاتيان بالصلاة حينئذ قائما موميا لسجوده نظراً إلى ما يلزم من وضع جبهته على الأرض من الغصب الزائد ، بل ذلك أيضا هو الذي يقتضيه الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على حرمة التصرف في مال الغير ، بل ولولا استلزام العسر والحرج لكان اللازم هو الاقتصار في قيامه على رجل واحد من جهة كونه أقل تصرفا من القيام على رجلين.

ومن ذلك ظهر الحال في فرض كون الغصب هو خصوص الفضاء دون الأرض حيث إن اللازم بمقتضي القاعدة هو وجوب الاتيان بصلاته مستلقيا على ظهره جمعا بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين عموم حرمة التصرف في مال الغير ، هذا.

ولكن ظاهر الأصحاب رضوان الله عليهم هو وجوب الاتيان بصلاة المختار عند كون الاضطرار لا عن سوء اختياره حيث إن ظاهرهم هو عدم الفرق بين فرض كون الغصب

٤٤٤

مجموع الفضاء والأرض وبين كونه خصوص الأرض أو الفضاء وان له في جميع الفروض المزبورة الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط من القيام والركوع والسجود والتشهد ، ولعل ذلك منهم لمكان قيام السيرة على كونه مختارا حينئذ في قيامه وقعوده واضطجاعه واستلقائه خصوصا مع ما يلزم من العسر والحرج من بقائه على كيفية واحدة من القيام أو القعود ، كما أنه يشهد لذلك أيضا خلو كلمات الأصحاب عن التعرض حينئذ لمقدار الجائز من الحركات والسكنات والا لكان اللازم عليهم الغرض لذلك وبيان مقدار الجائز من الحركات والسكنات ، خصوصا في فرض كون الغصب هو الأرض خاصة دون الفضاء أو العكس ، هذا. ولكن مع ذلك في غير صورة الحرجية يشكل الحكم بجواز الاتيان بصلاة المختار حتى في فرض غصبية الأرض وإباحة المكان في قبال عموم حرمة التصرف في مال الغير ، خصوصا مع امكان حمل كلامهم على ما هو الغالب من فرض غصبية الأرض والفضاء معا ، كامكان منع قيام السيرة أيضا على الاطلاق على كونه مختارا في الحركات والسكنات حتى في غير صورة الحرجية ، فتأمل. ثم إن هذا كله في فرض العلم ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت.

واما لو فرض علمه بزوال اضطراره قبل خروج الوقت وتمكنه من الاتيان بالصلاة في مكان مباح ففي جواز بداره بالصلاة حينئذ والاكتفاء بها وعدم جوازه اشكال ، أقواه العدم ، نظراً إلى تمكنه حينئذ من الاتيان بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط في غير الغصب. نعم في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض لا باس بجواز بداره واتيانه بصلاة المختار قاصدا التقرب به بقصد التوصل به إلى غرض المولى بناء على كفاية ذلك في القرب المعتبر في العبادة ، وهذا بخلافه في فرض غصبية خصوص الأرض أو الفضاء حيث إنه حينئذ لا مجال لاتيانه بصلاة المختار في مكان مغصوب ، لما عرفت من استلزامه لازدياد التصرف في مال الغير. واما الاجماع المدعى سابقا فغير جار في الفرض أيضا من جهة اختصاصه بفرض عدم تمكنه من الاتيان بالصلاة في غير الغصب ، ولا أقل من كونه هو القدر المتيقن منه فيبقى الفرض تحت القواعد التي مقتضاها وجوب الاتيان مهما أمكن بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط ، وحينئذ فإذا فرض عدم تمكنه من الاتيان بصلاة المختار في الغصب يجب عليه الصبر والآتيان بها في غير الغصب.

بل ومن ذلك البيان ظهر الاشكال في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض أيضا

٤٤٥

بناء على عدم كفاية مجرد الاتيان بالعمل بقصد التوصل به إلى غرض المولى في القرب المعتبر في العبادة واحتياجه إلى التقرب بالعمل بقصد الامر الفعلي أو رجحانه الفعلي ، إذ حينئذ من جهة خروج الأكوان عن دائرة المحبوبية بمقتضى أهمية مفسدة الغصب لايكاد تمكنه من التقرب بتمام العمل فمن ذلك لابد له من الصبر إلى أن يزول اضطراره فيتمكن من التقرب بالعمل بداعي امره ورجحانه الفعلي ، كما هو واضح.

واما صورة الشك في زوال اضطراره قبل الوقت فيلحق بالعلم ببقائه إلى آخر الوقت بمقتضي الاستصحاب فيما لو كان اضطراره الموجب لسقوط التكليف عنه شرعيا بمقتضي حديث الرفع لا عقليا محضا ، والا فلا مجال للاستصحاب لانتفاء الأثر الشرعي حينئذ ، كما هو واضح.

بقى الكلام فيما لو تمكن من الخروج وقد كان الوقت مضيقا أيضا بنحو لا يتمكن من ايجاد الصلاة في خارج الغصب في أنه هل يجب عليه الاتيان بصلاته حينئذ في حال الخروج بحيث لو ترك الخروج واتى بصلاته في حال استقراره تبطل صلاته ، أو لا ، بل كان له الاتيان بصلاته أيضا في غير حال الخروج وان اثم بتركه للخروج بملاحظة ما يترتب عليه من الغصب الزائد عن المقدار المضطر إليه؟ فيه وجهان : أقربه الثاني ، وذلك انما هو لوجود المقتضي لصحة صلاته وانتفاء المانع ، اما الأول فواضح من جهة فرض وجدان المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة ، واما الثاني فكك أيضا إذ المانع المتصور حينئذ لايكون الا فعلية نهيه وتنجزه وهو بالفرض ساقط حسب اضطراره في تلك الساعة سواء على تقدير اختيار الخروج في تلك الساعة أو البقاء في الغصب ، وبالجملة نقول بأنه بعد اضطراره في تلك الساعة إلى ارتكاب الغصب وعدم التفاوت في شاغليته للمكان في تلك الساعة بين حال سكونه وبقائه وبين حال حركته وخروجه كان له اختيار البقاء في تلك الساعة وجعل كونه كونا صلاتيا. نعم في فرض اختيار البقاء يلازم بقائه فيه الغصب الزائد في الساعة الثانية ، ولكن مجرد ذلك غير مقتض للنهي عن كونه البقائي في الساعة الأولى كي يقع بذلك مبعدا له ، الا على القول باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده :

واما توهم مقدمية البقاء حينئذ لارتكاب الغصب الزائد فمدفوع بمنع المقدمية فان البقاء انما هو ملازم للغصب الزائد بلحاظ المضادة بين الكونين أي الكون في الغصب

٤٤٦

والكون في خارجه لا انه مقدمة له ، وعليه فلايكون استتباع البقاء للغصب الزائد الا بصرف الملازمة الخارجية ، وإذا فرضنا حينئذ عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وملازمه فقهرا لا يقع الكون البقائي منه حراما ولا مبعدا له.

واما توهم ان البقاء وان لم يكن مقدمة للغصب الزائد الا ان له نحو تقدم عليه ولو ذاتا نظير تقدم حدوث الشيء على بقائه وهذا المقدار كان يكفي في المقدمية وفي نيل العقل الحرمة بالنسبة إليه ، فمدفوع بأنه لو سلم ذلك نمنع كفايته في ترشح الحرمة إليه حيث لا عموم لكبري الملازمة يعم مطلق ما هو مقدم على الشيء ولولا يكون من علل وجوده.

وعليه فلا مانع عن صحة صلاته فيما لو ترك الخروج واتى بالصلاة في حال الاستقرار وان اثم على ما يلزمه من الغصب الزائد في الساعة الثانية.

اللهم الا ان يمنع عما ذكرنا بالمنع عن أصل جواز تطبيق اضطراره على الكون البقائي ، بدعوى انه انما يكون له الخيار في تطبيق اضطراره على أي فرد شاء فيما لم يكن هناك ما يقتضي تعين تطبيقه على فرد خاص والا فلا مجال لتطبيقه الا على ما تعين تطبيقه عليه ، وفى المقام حيث ما كان يستتبع الكون البقائي لازدياد الغصب فقهرا مثل هذا المعنى موجب لترجيح الكون الخروجي عليه بحكم العقل ومعه يتعين تطبيق اضطراره عليه لا على الكون البقائي ، ولكنه أيضا مدفوع ، بان مجرد وجوب اختيار الكون الخروجي بحكم العقل أيضا غير موجب لحرمة ضده الذي هو الكون البقائي بل ولا لكونه أزيد مفسدة من غيره كي يقال بلزوم ترك ما فيه المفسدة الزائدة ، نعم غاية ما هناك ان يستتبع البقاء ارتكاب الغصب في الساعة الأخرى وهو أيضا على ما عرفت غير موجب لكونه بقائه وسكونه أزيد مفسدة من خروجه ، كما هو واضح.

وكيف كان فهذا كله فيما لو كان اضطراره إلى الغصب لا عن سوء اختياره.

واما لو كان اضطراره عن سوء اختياره كما لو دخل ارض الغير من غير رضاه فتعذر عليه الخروج ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة :

ففيما لو علم بزوال اضطراره قبل خروج الوقت بحيث يتمكن من اتيان الصلاة في غير الغصب فلا اشكال ، حيث إنه يتعين عليه الاتيان بالصلاة في خارج الغصب ولايجوز له البدار بالصلاة في الغصب ، بل ولئن صلى فيه كانت صلاته فاسدة ، بملاحظة مبغوضية الأكوان ومبعديتها له من جهة تنجز النهى السابق ، من غير فرق في ذلك بين ان

٤٤٧

يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو كان الغصب خصوص الفضاء دون الأرض أو بالعكس.

كما أنه لو علم ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال أيضا في وجوب الصلاة عليه في الغصب بمقتضي ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال.

وانما الكلام في أن صلاته حينئذ هل هي صلاة المختار التامة المشتملة على الركوع والسجود والقيام والقرائة أو ان تكليفه حينئذ هو صلاة الغرقي بإشارات قلبية في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض؟ فنقول : قد يقال حينئذ بالثاني نظراً إلى دعوى كونه مقتضى الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على حرمة التصرف في مال الغير ، فان مقتضي عموم حرمة التصرف في مال الغير حينئذ هو خروج الأكوان عن الجزئية ومقتضاه هو انتهاء صلاته إلى إشارات قلبية كما في صلاة الغريق بناء على كون قرائته أيضا تصرفا في الغصب ، ولكن نقول بأنه حسن جدا لولا قيام الشهرة على خلافه ، حيث إن ظاهر الأصحاب هو كون تكليفه حينئذ هي الصلاة التامة للمختار المشتملة على القيام والركوع والسجود والقرائة خصوصا في فرض كون الغصب مجموع الفضاء والأرض. ولعل ذلك منهم من جهة دعوى خروج هذا الكون البقائي حينئذ من الأول عن تحت النهى ، بتقريب ان ما يجب عليه اختياره الموجب لتنجز نهيه من الأول انما هو ترك الغصب بترك الدخول فيه لأنه هو الذي كان مقدورا له ، واما تركه من غير جهة ترك الدخول كالطيران إلى السماء في ظرف الدخول فحيث انه كان مضطرا إليه من الأزل في علم الباري عز اسمه فلايكون منهيا عنه من جهة ان النهى انما يتعلق بما هو تحت قدرة المكلف واختياره لا بما هو خارج عن تحت قدرته واختياره ، ومن هذه الجهة أيضا قلنا سابقا بأنه إذا كان للشيء حدود بالإضافة إلى مقدماته وعدم اضداده لايكاد يصح توجيه التكليف إليه بالايجاد أو الترك على الاطلاق بنحو يقتضي حفظ الوجود من جميع الجهات ومن ناحية جميع المقدمات والأضداد الا في فرض تمكنه من الحفظ من جميع الجهات ، والا فمع خروج بعض المقدمات أو الأضداد عن تحت قدرته لايكاد يكون التكليف بالايجاد بالنسبة إليه الا تكليفا ناقصا يوجب الحفظ من ناحية ما هو تحت قدرته واختياره في ظرف انحفاظه من قبل الأمور الخارجة عن تحت الاختيار. وعلى ذلك يقال في المقام بأنه بعد أن كان للغصب نحو ان من الترك أحدهما الترك بترك الدخول فيه

٤٤٨

وثانيهما تركه من غير جهة الدخول كالطيران في السماء في ظرف الدخول وكان الثاني مما اضطر إليه من الأزل في علم الباري عز اسمه فقهرا ما هو المنهى عنه لايكون الا ذاك النحو من الترك الاختياري والا فالترك الآخر من جهة اضطراره إليه أزلا لايكون منهيا عنه أصلا وحينئذ فإذا دخل الغصب بسوء اختياره فقد سقط نهيه المنجز عليه بالعصيان وبدخوله فيه صار مستحقا للعقاب ، واما بعد دخوله فيه لايكون له تكليف بترك الغصب من الأزل لاضطراره إليه فإذا لم يكن مكلفا بترك الغصب حينئذ من غير جهة ترك الدخول فلايكون صدوره عنه مبعدا أيضا ومع عدم كونه مبعدا فله الاتيان بالصلاة التامة المشتملة على القيام والركوع والسجود كما في الاضطرار لا عن سوء الاختيار حرفا بحرف ، هذا.

ولكن مع ذلك لا تخلو المسألة عن اشكال ينشأ من كفاية مطلق المقدورية ولو بالواسطة في توجيه التكليف بشيء إلى المكلف فيقال حينئذ بأنه بعد أن كان له القدرة على ترك البقاء في الغصب ولو بتركه للدخول فيه كان هذا المقدار كافيا في توجه النهى عن الكون البقائي إليه وتنجزه عليه فيكون البقاء فيه حينئذ كالدخول منهيا عنه من الأزل قبل الدخول فيه ، وعليه فبالدخول وان سقط نهيه المنجز عليه الا انه حيثما كان بالعصيان يبقى تبعته فيوجب كون ما يصدر عنه من الأكوان مبغوضا ومبعدا له ولازمه هو خروج تلك الأكوان عن الجزئية للصلاة فينتهى امر صلاته حينئذ إلى إشارات قلبية في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض دون الصلاة التامة للمختار ، وحينئذ فان تمت السيرة والاجماع المدعى في المقام على كون تكليفه صلاة المختار التامة فهو والا فلابد بمقتضي القواعد كما عرفت من المصير إلى كون وظيفته نظير صلاة الغرقى بإشارات قلبية في ركوعه وسجوده.

نعم لو تاب حينئذ أمكن دعوى وجوب صلاة المختار التامة نظراً إلى أن التوبة كانت مزيلة لاثر العصيان السابق وتجعله كان لم يكن فكان كمن اضطر إلى الغصب لا عن سوء الاختيار. ولكن الأستاذ دام ظله استشكل في ذلك أيضا مدعيا لان التوبة انما تجدي في رفع اثر العصيان إذا لم يكن المكلف في حال التوبة مشغولا بالعصيان ، وفى المقام لما كان مشغولا بارتكاب الغصب حال التوبة فلا تجديه في الخروج عما تقتضيه القواعد.

وكيف كان فمما ذكرنا ظهر الحال أيضا فيما لو ضاق الوقت وتمكن من الخروج حيث

٤٤٩

انه يتعين عليه حينئذ الاتيان بصلاته في حال الخروج بإشارات قلبية ، لولا السيرة المزبورة ، والا فبما لا تزاحم مع خروجه فيقرء ويركع ماشيا موميا بسجوده ولا ينتهى النوبة في هذا الفرض إلى الصلاة في حال السكون والاستقرار.

واما نفس خروجه فهو كما عرفت لايكون الا منهيا عنه بالنهي السابق كالبقاء فيه لا انه يكون مأمورا به. إذ لا وجه لدعوى كونه مأمورا به الا توهم مقدميته للتخلص عن الغصب الزائد ، وهو كما عرفت في غير محله ، فان الحركة لا تكون الا عبارة عن تبدل كون بكون آخر فهي حينئذ عبارة عن ضد البقاء المستتبع للغصب الزائد وهو غير موجب لمحبوبية الحركة التي هي ضد السكون والبقاء. نعم لو كانت الحركة عبارة عما به تبدل أحد الكونين بالآخر لا نفس تبدل كون بكون لكان لما ذكر من المقدمية كمال مجال إذ كانت الحركة حينئذ علة لافراغ الكون في الغصب وتبدله بالكون في خارجه ولكنه محل منع جدا بل هي لا تكون الا عبارة عن نفس تبدل كون بكون آخر وعليه فلا تكون الحركة الا ضد السكون والبقاء الملازم للغصب الزائد ومثله أيضا غير موجب لسراية المحبوبية إليها وحينئذ فلا يبقى في البين الا لزوم الخروج عقلا ارشادا منه إلى اختيار ما هو أقل القبيحين ، كما هو واضح. هذا تمام الكلام في اجتماع الأمر والنهي.

المبحث الثالث في اقتضاء النهى للفساد

قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن النهى عن الشيء يقتضي فساد ذلك الشيء أم لا وقبل الشروع في المقصود ينبغي تقديم أمور :

الأول : قد مر سابقا وجه الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ومحصل الفرق بينهما هو رجوع البحث في المقام حسب ما هو ظاهر العنوان إلى اقتضاء النهى بوجوده الواقعي للفساد بملاحظة كشفه ولو بالملازمة العرفية عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقة ، ومن ذلك يدور الفساد وعدمه على الاقتضاء مدار وجود النهى واقعا وعدمه ، كان المكلف عالما بالنهي أم جاهلا به ، وهذا بخلافه في تلك المسألة حيث إن الفساد فيها على الامتناع انما

٤٥٠

يدور مدار العلم بالنهي لا مدار النهى بوجوده الواقعي النفس الأمري ، ومن ذلك أيضا عرفت بنائهم على صحة عبادة الجاهل القاصر أو الناسي إذا اتى بها في مكان مغصوب ، وعليه فلا تكون لإحدى المسئلتين مساس بالأخرى بوجه من الوجوه ، ومعه لايبقى مجال لما أفيد كما في الكفاية (١) من جعل نتيجة المسألة السابقة على الامتناع وتقديم جانب النهى من صغريات هذه المسألة ، كيف وقد عرفت ان الفساد في تلك المسألة انما هو من جهة خلو المتعلق عن الملاك والمصلحة ومن ذلك لو قام دليل على الصحة في قبال النهى لوقع بينهما التكاذيب ويرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض ، ومثل ذلك ينافي جدا بنائهم على صحة صلاة الجاهل بالغصبية ، كما هو واضح.

الامر الثاني قد يقال كما عن القوانين على ما حكى بتخصيص محل النزاع بما إذا كان هناك ما يقتضي الصحة من عموم أو اطلاق بحيث لولا النهى يحكم بصحته ، بتقريب انه لولا ذلك لما كان وجه للنزاع في اقتضاء النهى للفساد ، لان الفساد حينئذ غير مربوط باقتضاء النهى ، من جهة انه لولا النهى كان محكوما أيضا بالفساد ، ولكنه غير وجيه ، إذ نقول بان الجهة المبحوث عنها في المقام على ما يقتضيه ظاهر العنوان هو الحكم بالفساد من جهة دلالة النهى وكشفه عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقه ، وقضية ذلك هو عدم الحكم بالفساد واقعا عند عدم النهى لا الحكم بالصحة كي يحتاج إلى احراز المقتضي للصحة من عموم أو اطلاق أو غيرهما.

واما ما أفيد من عدم الثمرة حينئذ نظراً إلى لزوم الحكم بالفساد حينئذ ولو على تقدير عدم النهى بمقتضي أصالة عدم المشروعية.

فمدفوع بظهورها فيما إذا قام دليل بالخصوص على الصحة فإنه على الأول يتعين الاخذ بدليل الصحة من جهة حكومته على أصالته بخلافه على الثاني حيث إنه يقع بينهما المعارضة فيرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض.

الامر الثالث لايخفى عليك ان المراد بالشيء في عنوان المسألة يعم العبادات والمعاملات لا انه مخصوص بالعبادات ، والمراد من المعاملة هو ما في قبال العبادات مطلق مالا يلزم في صحته قصد القربة الشامل للمعاملات بالمعنى الأخص ولغيرها ، كالنهي عن

__________________

١ ـ ج ١ ص ٢٣٥.

٤٥١

اكل الثمن والمثمن ، نعم يختص ذلك بالأمور القابلة للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى فيخرج حينئذ ما لايكون كك كعناوين المسببات ونحوها مما كان أمرها يدور بين الوجود والعدم فتأمل فان الفساد حينئذ انما كان في قبال الصحة التي هي بمعنى التمامية وترتب الأثر المقصود عليه فهو عبارة عن نقصان الشيء بمعنى عدم ترتب الأثر المقصود منه عليه فلا يجري حينئذ بالنسبة إلى نفس الآثار ونحوها مما يدور امره بين الوجود والعدم وكذا يخرج أيضا من الأسباب ما لايكاد ينفك الأثر عنها كبعض أسباب الضمان.

واما المراد من العبادة فهي التي لو امر بها لكان أمرها أمرا عباديا بحيث لايكاد سقوطه الا باتيان متعلقه على نحو قربى ، لا ما هو عبادة ذاتا كالسجود والركوع ونحوهما مما جعل كونه آلة للخضوع والتذلل ، نظراً إلى عدم كون العبادات كلها من هذا القبيل ، ولا ما امر به فعلا لأجل التعبد به من جهة استحالة تعلق النهى الفعلي بما هو عبادة ومأمور به فعلا ، ولا ما لايعلم انحصار الغرض منه في شيء كي ينتقض طردا وعكسا بأنه رب واجب توصلي لايعلم انحصار الغرض منه في شيء ورب واجب تعبدي قد علم انحصار الغرض منه.

واما الاقتضاء في المقام فهو كما عرفت عبارة عن الاقتضاء بحسب مقام الاثبات باعتبار كشف النهي عن عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه لا الاقتضاء بحسب مقام الثبوت والا فمن الواضح عدم الملازمة عقلا بين حرمة الشيء وانتفاء ملاك الامر والمصلحة في متعلقه ، وعليه تكون المسألة من المسائل اللفظية لا من المسائل العقلية ، كما هو واضح.

واما النهى فظاهرهم اختصاصه بالنهي المولوي التحريمي ، دون ما يعمه والنهى التنزيهي ، باعتبار ان غاية ما يقتضيه النهى التنزيهي انما هو الدلالة على وجود حزازة في الشيء وهذا المقدار غير موجب لفساده ، ولكن ذلك انما هو بناء على ما اخترناه سابقا من جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد بالتفكيك بين أنحاء حدود شيء واحد ، واما بناء على غير ما اخترناه من عدم امكان اجتماع المحبوبية والمبغوضية ولو تنزيها في عنوان واحد فيشكل جدا تخصيص النزاع بالنواهي التحريمية واما النهى التحريمي الغيري فالظاهر منهم هو دخوله أيضا في محل النزاع كما يشهد

٤٥٢

لذلك جعلهم فساد العبادة ثمرة النزاع في مسألة اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص على المقدمية.

نعم هذا الثمرة تختص بخصوص العبادات فلا تجرى في المعاملات ولكنه أيضا غير ضائر بعموم النزاع كما لايخفى ، هذا ،

ولكن الأستاذ دام ظله منع عن أصل دخول النواهي التحريمية في محل النزاع وبنى على خروجه عن مورد الكلام بين الاعلام ، وقد أفاد في وجه ذلك بوجهين :

الأول : عدم المجال لتوهم دلالته واقتضائه للفساد مطلقا سواء في المعاملات أو العبادات ، اما المعاملات فواضح ، من جهة وضوح عدم اقتضاء مجرد النهى المولوي عن معاملة وحرمتها تكليفا لفسادها وضعا ، ومن ذلك لم يتوهم أحد فساد المعاملة في مورد نهى الوالد أو الحلف على عدم البيع ونحوه واما العبادات فكك أيضا وذلك فان الفساد المتصور فيها لا يخلوا اما ان يكون من جهة انتفاء الملاك والمصلحة فيها وعدم ترتب الغرض عليها واما ان يكون من جهة الخلل في القربة الموجب لعدم سقوط الامر عنها ، اما الفساد من الجهة الأولى فواضح انه غير مترتب على النهى حيث لا اشعار فيه فضلا عن الدلالة على عدم المصلحة في متعلقه ، بل غاية ما يقتضيه انما هي الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه ، واما الدلالة على عدم المصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا ، وهو واضح بعد وضوح عدم الملازمة بين مجرد حرمة الشيء وبين عدم ملاك الامر والمصلحة فيه ، نعم لو كان بين المصلحة والمفسدة أيضا مضادة كما بين المحبوبية والمبغوضية بحيث لايمكن اجتماعهما في موضوع واحد ولو بجهتين تعليليتين لكان المجال لدعوى دلالة النهى ولو بالالتزام على عدم وجود المصلحة في متعلقه ولكنه لم يكن كك لما عرفت من امكان اجتماعهما في عنوان واحد بجهتين تعليليتين ، ونظيره في العرفيات كما في مثل وضع العمامة على الرأس لمن كان له وجع الرأس في مجلس فيه جماعة من المؤمنين الأخيار ، حيث إن كون العمامة على الرأس مع كونه فيه كمال المفسدة بلحاظ وجع الرأس كان فيه أيضا كمال المصلحة بلحاظ كونه نحو اعزاز واكرام للمؤمنين وكون تركه هتكا وإهانة لهم ، وعليه فلا يبقى مجال دعوى دلالة النهى واقتضائه للفساد من هذه الجهة ، واما الفساد من الجهة الثانية فهو وان كان لا محيص عنه مع النهى ولكنه أيضا مترتب على العلم بالنهي لا على نفس وجود النهى ولو لم يعلم به المكلف ، فتمام العبرة في الفساد في هذه المرحلة على مجرد العلم بالنهي ، فإذا

٤٥٣

علم بالنهي كان علمه ذلك موجبا لعدم تمشى القربة منه الموجب لفساد عبادته وان لم يكن في الواقع نهى أصلا ، كما أنه مع عدم العلم به يتمشى منه القربة وتصح من العبادة وان كان في الواقع نهى كما عرفت في مثال الجهل بالغصب أو الجهل بالحرمة عن قصور ، مع أن قضية ظاهر العنوان هو ترتب الفساد على نفس النهى الواقعي.

الوجه الثاني : انه لو سلم كون الفساد المفروض في محل الكلام هو الفساد من تلك الجهة الأخيرة لما كان معنى لانكاره من أحد في العبادات بعد تسلمهم على لزوم قصد القربة فيها ، وعلى ذلك ، فلا مجال لإرادة النهى المولوي التحريمي من لفظ النهى في عنوان البحث ، كما أنه لا مجال أيضا لإرادة النهى الارشادي منه لأنه أيضا مما لا اشكال في دلالته على الفساد في العبادات والمعاملات بل لابد وأن يكون المراد منه في العنوان طبيعة النهى في نفسه فيكون مرجع النزاع حينئذ إلى النزاع في أن النهى المتعلق بالشيء عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لايقتضي الفساد أم نهى ارشادي إلى خلل فيه حتى يوجب الفساد هذا.

ولكن قد يناقش على البيان المزبور بان ما أفيد من خروج النهى المولوي التحريمي عن محل النزاع وارجاع محل البحث إلى النزاع الصغروي خلاف ظاهر الكلمات ، فان الظاهر من كلماتهم بل المصرح به في كلام بعضهم تخصيص النزاع بخصوص النهى المولوي التحريمي كما يشهد لذلك تفصيل بعضهم في الاقتضاء للفساد وعدمه بين العبادات والمعاملات ، حيث إنه لولا ذلك لما كان وجه للتفصيل المزبور ، بل ويشهد له أيضا استدلالهم كثيرا في الفقه على فساد العبادة بكونها حراما ومنهيا عنها ، وهكذا في مسألة اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص على مبني مقدمية ترك الضد لفعل ضده ، فان ذلك كله كاشف عن كون المراد من النهى في العنوان هو خصوص النهى المولوي التحريمي ، وعليه لابد وأن يكون النزاع في الاقتضاء وعدمه في اقتضاء النهى اثباتا ، ودلالته ولو بالالتزام عرفا على عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه بدعوى انه وان لم يكن ملازمة عقلا بين حرمة الشيء ووجود المفسدة فيه وبين فقدانه لملاك الامر والمصلحة نظراً إلى ما تقدم من امكان اجتماع المصلحة والمفسدة في عنوان واحد بجهتين تعليليتين الا انه مع ذلك يرى العرف بينهما الملازمة فيرى من النهى كونه ذا مفسدة محضة ، ومن ذلك لو ورد في القبال امر يقتضي الصحة يقع بينهما التكاذب ويرجع فيها إلى قواعد باب

٤٥٤

التعارض ، والا فلولا ذلك لما كان وجه للمعارضة بينهما والرجوع إلى قواعد التعادل والترجيح ، بل لابد وأن يكون بينهما المزاحمة بملاحظة اقتضاء كل من الأمر والنهي بمدلولهما الالتزامي لقيام المصلحة والمفسدة فيه ، مع أنه ليس كك قطعا ، وحينئذ فنفس هذا التعارض والتكاذب بينهما كاشف عن اقتضاء كل من الأمر والنهي عرفا بالالتزام لعدم قيام ملاك آخر فيه غير ملاكه ، كما هو واضح.

ولكن يدفع ذلك اما الاشكال الأول فبان ما يرى من حكم الأصحاب بفساد العبادة مع النهى فإنما هو من جهة الخلل في القرب المعتبر في صحة العبادة كما يكشف عنه استدلالهم كثيرا على الفساد بانتفاء التقرب وعليه أيضا جرى تفصيلهم بين العبادات والمعاملات ، فحيث ان قصد القربة مما لابد منه في صحة العبادة ومع النهى لايكاد تمشي القربة من المكلف ، بخلافه في المعاملة ، اقتضى ذلك التفصيل المزبور ، ولكنه كما عرفت غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي في نفسه للفساد من جهة عدم الملاك.

واما الاشكال الثاني فبما مر في البحث المتقدم بان ما يرى من التعارض بينهما عند ورود امر في القبال فإنما كان ذلك من جهة ذاك الارتكاز العقلي بعدم جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد حيث إنه بمقتضي هذا الارتكاز يرى العرف بينهما التكاذب في تمام مدلوليهما حتى في دلالتهما على المصلحة والمفسدة فيعامل معهما معاملة التعارض لا من جهة اقتضاء النهى المولوي لعدم قيام ملاك الامر والمصلحة في متعلقه رأسا ولو مع قطع النظر عن المعارض فتأمل.

نعم في الفرض المزبور كما سيجيء لابد أيضا من الحكم بالفساد ولكنه لا من جهة اقتضاء النهى المولوي لذلك بل من جهة عدم احراز الملاك والمصلحة فيه لأنه في العبادات لابد في صحتها من احراز الملاك والمصلحة فيها فمع الشك فيها في الملاك يشك قهرا في مشروعيتها فتنفي بأصالة عدم المشروعية.

وعليه فلا محيص من اخراج النهى المولوي التحريمي كالارشادي عن حريم النزاع وارجاع البحث المزبور في دلالة النهى على الفساد وعدم دلالته عليه إلى البحث الصغروي بان النهى المتعلق بعنوان عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لايقتضي الفساد أم ارشادي إلى خلل فيه حتى يقتضي الفساد فتدبر.

الامر الرابع : لايخفى عليك انه لا أصل في المسألة يعول عليه عند الشك وحينئذ لو كان

٤٥٥

هناك ظهور عرفي فهو والا يبقى المدعى بلا دليل. نعم الأصل في المسألة الفرعية كما عرفت كان هو الفساد ، سواء فيه العبادات أو المعاملات ، حيث كان الأصل في المعاملات عدم ترتب النقل والانتقال ، وفى العبادات عدم المشروعية عند الشك في الملاك فيها.

وإذ تمهد هذه الأمور فاعلم أن الكلام يقع في مقامين :

الأول في العبادات فنقول : النهى متعلق تارة بعنوان العبادة كالنهي عن الصلاة والصوم للحائض وأخرى بجزئها كالنهي عن قرائة السور العزائم في الصلاة ، وثالثة بشرطها كالنهي عن التستر بالحرير ونحوه مثلا ، ورابعة بوصفها الملازم كالجهر والاخفات في القراءة ، وخامسة بوصفها المفارق كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكة عنها ، وعلى التقادير فالنهي اما ان يكون مولويا ، واما ارشاديا إلى خلل في العبادة ، اما لعدم الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع كالنهي عن التكتف في الصلاة أو من جهة كونه مخلا بغيره كالنهي عن الصلاة في الصلاة مثلا. واما ان يكون في مقام دفع توهم الوجوب الفعلي أو المشروعية الفعلية أو الاقتضائية فهذه أنحاء صور النهى المتعلق بالعبادة ، وربما يختلف النتيجة حسب اختلاف الصور ، فلابد حينئذ من بيان ما للصور المزبورة من اللوازم والآثار.

فنقول : أما إذا كان النهى متعلقا بعنوان المادة وكان مولويا محضا فهو كان عرفت غير مقتض لفساد العبادة الا من جهة قضية الاخلال بالقربة الموقوفة على العلم به ، والا فمن جهة فقد انها للملاك والمصلحة لا دلالة عليه بوجه من الوجوه ، لان غاية ما يقتضيه النهى المزبور بما انه نهى مولوي تحريمي انما هو الدلالة على قيام المفسدة في متعلقه ، واما الدلالة على عدم وجود ملاك والمصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا. نعم مع الشك في الملاك كان مقتضي الأصل هو الفساد ، ولكنه غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي لذلك ، كما هو واضح.

وأوضح من ذلك ما لو كان النهى في مقام دفع توهم الوجب الفعلي ، وذلك من جهة وضوح ان غاية ما يقتضيه مثل هذا النهى انما هي الدلالة على عدم وجوبه ، واما دلالته على عدم استحبابه ورجحانه فلا ، فضلا عن الدلالة على عدم الملاك والمصلحة فيه أو الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه ، وحينئذ لو كان في البين عموم أو اطلاق يثبت رجحانه

٤٥٦

واستحبابه فهو ، والا فالأصل يقتضي الفساد ، لما عرفت من أنه لابد في صحة العبادة من احراز رجحانها ، فمع الشك في رجحانها ومشروعيتها كان مقتضي الأصل هو عدم مشروعيتها.

وكذلك الكلام فيما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الفعلية كما في النهى عن النافلة في وقت الفريضة ، فإنه أيضا لايقتضي فساد العبادة من جهة عدم الملاك إذ لايقتضي أزيد من عدم المشروعية الفعلية وعدم الرجحان والمحبوبية الفعلية في العمل ، ولا ملازمة بين عدم المشروعية الفعلية وبين عدم الملاك والمصلحة فيه ، وعليه فلو قام دليل على وجدان العمل للملاك في هذا الفرض يندرج في صغريات المسألة السابقة ، واما لو لم يقم دليل على ذلك كان الأصل فيه هو الفساد بالبيان المتقدم.

واما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية ، ففي هذا الفرض كان النهى يقتضي الفساد من جهة دلالته حينئذ على انتفاء الملاك والمصلحة فيه.

ومثل ذلك ما لو كان النهى ارشاديا إلى خلل في العبادة لانتفاء الملاك رأسا ، أو اقترانه بالمانع كالصلاة متكتفا ، حيث إنه كان النهى أيضا موجبا لفسادها من دون اقتضائه للحرمة والمبغوضية ، نعم لو كان قضية النهى المزبور هو الارشاد إلى كونه مخلا بغيره كالنهي عن الصلاة في الصلاة ففي هذا الفرض بالنسبة إلى العمل الذي وقع فيه العمل المنهى كان النهى دالا على فساده ، واما بالنسبة إلى نفس هذا العمل الذي نهى عن اتيانه فلا دلالة على فساده ، وحينئذ فلابد ان يلاحظ العمل الذي أخل به باتيان العبادة في أثنائه ، فان كان غير الفريضة فلا اشكال ، إذ لايكون ابطاله حينئذ حراما حتى يحرم ما أوجد في أثنائه ، واما ان كان من الفرائض التي يحرم ابطالها فيحرم قهرا ما أوجد في أثنائه بالحرمة الغيرية فيندرج حينئذ في صغريات المسألة السابقة ، فيفسد مع العلم بالنهي بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى.

هذا كله حال النهى المتعلق بعنوان العبادة ، وقد تلخص بان مجرد تعلق النهى بعنوان العبادة غير موجب لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى خلل فيها اما من جهة عدم الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع.

واما النهى المتعلق بجزء العبادة ففيه أيضا الصور المزبورة من كونه تارة ممحضا في المولوية ، وأخرى ارشادا إلى خلل في الجزء ، وثالثة في مقام دفع توهم الوجب الفعلي ،

٤٥٧

أو المشروعية الفعلية ، أو الاقتضائية.

فالنهي المولوي فيه أيضا غير مقتض لفساد الجزء الا من جهة الخلل في القربة الذي عرفت انه مترتب على العلم بالنهي لاعلى النهى الواقعي.

واما النهى الارشادي أو الواقع في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية فهو موجب لفساده ولكنه بمعنى عدم وقوعه جزء للعبادة والا فلايقتضي بطلان أصل العبادة ، بل ولو قلنا حينئذ بفساد العبادة لابد وأن يكون من جهة النقيصة عند الاقتصار عليه ، أو يكون من جهة الزيادة العمدية بناء على استفادة مبطلية مطلق الزيادة العمدية. نعم لو كان النهى في مقام الارشاد إلى كونه مخلا بأصل العبادة أيضا كما في النهى عن قرائة العزائم في الفريضة على ما هو قضية التعليل في قوله عليه‌السلام : بأنها زيادة في المكتوبة كان مقتضيا لبطلان العبادة.

واما النهى المتعلق بالشرط ففيه أيضا الصور المزبورة ، فالنهي المولوي فيه أيضا غير مقتض لفساده الا إذا كان فيه جهة ارشاد إلى خلل فيه فيفسد وبفساده يفسد المشروط أيضا في فرض الاقتصار على الشرط المنهى بلحاظ انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

واما النهى المتعلق بوصفها المقارن كالجهر في القراءة مثلا فهو أيضا غير مقتض لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى كونه مخلا بالعبادة.

وعلى ذلك لابد للفقيه من ملاحظة خصوصيات الموارد والقرائن الخاصة لاحراز ان النهى مولوي محض أو ارشادي ، والا فمع خلو المورد عن القرينة كان النهى ظاهرا في المولوية ، ولكن ظاهر الأصحاب في غير النواهي النفسية عند عدم القرينة على بعض المحتملات هو الحمل على الارشاد إلى المخلية والمانعية من غير فرق بين الجزء أو الشرط أو الوصف ، ولعله من جهة ظهور ثانوي في النواهي الغيرية في الارشاد إلى المانعية والمخلية بلحاظ ورودها في مقام بيان كيفية العبادة وحدودها ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في الأوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط فتدبر.

واما لو تعلق النهى بالوصف المفارق ، فان كان النهى متعلقا بعنوان والامر بعنوان آخر كالنهي عن الغصب وعن النظر إلى الأجنبية والامر بالصلاة فأوجدهما المكلف في وجود واحد فهو يندرج في المسألة السابقة ، واما لو كان النهى عن الوصف من قبيل قوله : لا تغصب في صلاتك ، ففيه أيضا يجري ما ذكر في الجزء والشرط من لزوم الحمل

٤٥٨

على الارشاد إلى المخلية ، الا إذا قام هناك ما يقتضي الخلاف كما في المثال ، حيث إنه بملاحظة ارتكاز مبغوضية الغصب والتصرف في مال الغير ولو في غير حال الصلاة لابد من حمل النهى على المولوية ومبغوضية الغصب بالبغض النفسي ، بصرفه عما هو ظاهره من الظهور الثانوي إلى ما يقتضيه طبع النهى من الظهور في الحرمة المولوية ، وعليه يندرج أيضا في المسألة السابقة كما أوردناه هناك وقلنا بأنه لا وجه لاخراجه عن محل النزاع بتخصيص مورد النزاع بما لو كان بين المتعلقين العموم من وجه.

هذا كله في المقام الأول.

واما المقام الثاني فالكلام فيه في النهى المتعلق بالمعاملة

وملخص الكلام فيه هو عدم اقتضاء مجرد النهى عنها للفساد ما لم يكن في مقام الارشاد إلى خلل فيها ، وذلك من جهة وضوح عدم الملازمة بين حرمة المعاملة ومبغوضيتها وبين فسادها وعدم ترتب النقل والانتقال ، حيث إنه بعد عدم توقف صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال على رجحانها أو عدم مبغوضيتها فقهرا يمكن صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال ولو مع كونها مبغوضة ومحرمة ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون النهى متعلقا بالسبب وهو العقد ، أو بالمسبب وهو النقل والانتقال ، أو بالتسبب إلى المسبب بالسبب ، فعلى جميع التقادير لا دلالة للنهي بما انه نهى مولوي على الفساد خصوصا على الأخيرين حيث إنه يمكن دعوى اقتضائهما للصحة نظراً إلى معلومية انه لولا ترتب المسبب وتحققه لما كان مجال للنهي عنه ، وحينئذ ينحصر وجه الفساد بما إذا كان للارشاد إلى خلل فيها. نعم لو كان النهى التحريمي عن لوازم المعاملة كالنهي عن اكل الثمن والمثمن والتصرف فيهما ففي مثل ذلك كان النهى مستلزما للفساد من جهة استلزام حرمة التصرف في العوضين لعدم نفوذ المعاملة والا ففي غير تلك الصورة لا اقتضاء للنهي التحريمي للفساد بوجه أصلا.

واما توهم منافاة حرمة المعاملة ومبغوضيتها مع الجعل تأسيسا أو امضاء لما بيد العرف ، فمدفوع بمنع التنافي بينهما ، من جهة امكان ان تكون المعاملة ممضاة ومؤثرة في النقل والانتقال على تقدير تحققها ومع ذلك كانت محرمة. وحينئذ فلا يستلزم مجرد تخصيص الجواز التكليفي أو تقييده تخصيص دليل الجواز الوضعي المثبت لصحة المعاملة ، ولو كانا ثابتين بدليل واحد ، كما لو قلنا بان مثل عموم ( الناس مسلطون ) مثبت للجواز

٤٥٩

الوضعي والتكليفي حيث إنه بدليل النهى يخصص عمومه من جهة الجواز التكليفي دونه من جهة الجواز الوضعي أيضا ، كما هو واضح. نعم لو كان قضية النهى هو مبغوضية المعاملة بشر أشر وجودها حتى بالقياس إلى حدودها الراجعة إلى الجعل والامضاء لكان لدعوى التنافي المزبور كمال مجال ، ولكن من الواضح عدم قابلية مثل هذا المعنى لتعلق النهى المولوي به ، فان المعاملة بهذا المعنى خارج عن تحت قدرة المكلف فعلا وتركا ، فلايمكن حينئذ تعلق النهى المولوي بها ، بل وانما القابل لتعلق النهى به انما هو التوصل إلى وجود المعاملة من ناحية سببه في ظرف تحقق أصل الجعل من الشارع ، لأنه هو الذي يكون تحت قدرته واختياره فعلا وتركا ، ومعلوم حينئذ ان مبغوضية المعاملة من تلك الجهة غير منافية مع إرادة الجعل والامضاء ، من جهة امكان ان تكون المعاملة مبغوضة ومحرمة ايجادها من المكلف ، ومع ذلك كانت صحيحة ومؤثرة فيما هو الأثر المقصود منها ، وهو النقل والانتقال ، نعم قد يكون النهى دالا على الارشاد إلى عدم الامضاء وعدم النفوذ في بعض الموارد ، ولكن ذلك أيضا بمقتضي بعض القرائن الخارجية كما في البيع الربوي مثلا وفي بيع المصحف بالكافر. وحينئذ فعلى ذلك لابد في قمام الحكم بفساد المعاملة من جهة النهى من احراز كونه في مقام الارشاد إلى عدم الجعل والامضاء والا فطبع النهى لايقتضي الا المولوي التحريمي الذي عرفت عدم اقتضائه للفساد.

هذا إذا كان النهى متعلقا بعنوان المعاملة ، أو بالسبب ، أو بالتسبب بالسبب إلى وجود المعاملة.

واما لو كان النهى متعلقا باجزاء السبب وشرائطه فيكون كما في العبادات محمولا على الارشاد لبيان الكيفية اللازمة في السبب وما هو المانع والمخل بالمعاملة ، الا ان الفرق بينهما وبين العبادات حينئذ كان في الأصل الجاري فيها عند الشك في مولوية النهى وارشاديته ، فإنه في العبادات يفصل بين صورة تعلق النهى بعنوان العبادة وبين صورة تعلقه باجزائه وشرائطه ، فكان الأصل في الأول عند الشك في المشروعية عدمها ، وفى الثاني المحتمل المانعية فيه كان الأصل هو البراءة عنها والصحة ، بخلافه في المعاملات ، فإنه على كل تقدير كان الأصل هو عدم المشروعية وعدم النفوذ نظراً إلى عدم جريان البراءة فيها حينئذ لا عقلا ولا نقلا حتى يصبح الحكم بنفوذ المعاملة وصحتها ، وذلك من جهة ان البراءة العقلية مجريها العقوبة ، ولا الزام في المعاملة حتى تنفى العقوبة المحتملة من جهة الشيء المشكوك المانعية والمخلية ، واما البراءة النقلية فمجريها الامتنان ، ولا امتنان

٤٦٠