نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-272-7
الصفحات: ٥٩٦

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

لا بدوا ولا بالسراية ، والقائل بالوجود يدعي عدم تعلقه الا بالمعنون الخارجي الذي هو منشأ انتزاع العناوين والصور الذهنية.

وإذ عرفت ذلك نقول : ان الذي يقتضيه التحقيق هو الأول من تعلق الامر والطلب بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة إلى الخارج وملحوظة بحسب اللحاظ التصوري عين الخارج لا بالوجود الخارجي كما كان ذلك هو الشأن في سائر الكيفيات النفسية من المحبة والاشتياق بل العلم والظن ونحوها أيضا ، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركب الذي يعتقد بوجود شيء بالقطع المخالف للواقع فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحققه في الخارج ، إذ نقول بأنه لولا ما ذكرنا من تعلق الصفات المزبورة بالعناوين والصور الذهنية بما هي ملحوظة خارجية يلزم خلو الصفات المزبورة عن المتعلق في مثل الفرض المزبور ، فإنه بعد مخالفة قطعه للواقع لايكون في البين شيء تعلق به تلك الصفات ، مع أن ذلك كما ترى من المستحيل جدا ، لوضوح أن هذه الصفات من العلم والظن والمحبة والاشتياق والإرادة كما كان لها إضافة إلى النفس من حيث قيامها بها كذلك لها إضافة أيضا إلى متعلقاتها بحيث يستحيل تحققها بدونها ، بل وقد يقطع الانسان ويذعن بعدم تحقق شيء كذائي في الخارج إلى الأبد ومع ذلك يشتاق إليه غاية الاشتياق ويتمنى وجوده كقولك « يا ليت الشباب لنا يعود » فان ذلك كله كاشف تام عن تعلق تلك الصفات المزبورة بنفس العناوين والصور الذهنية لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي وهو الوجود ، غايته بما هي ملحوظة بحسب النظر التصوري عين الخارج لا بما انما شيء في حيال ذاتها بحيث يلتفت عند لحاظها إلى مغايرتها مع الخارج ، ولئن شئت فاستوضح ما ذكرنا بالرجوع إلى الأكاذيب المتعارفة بين الناس في ألسنتهم ليلا ونهارا فإنه لا شبهة في أن الذي يخبر كذبا بثبوت القيام لزيد في قوله زيد قائم مثلا لا يلاحظ ولا يري من زيد والقيام والنسبة بينهما في لحاظه ونظره الأزيد أو القيام الخارجيين والنسبة الخارجية بينهما ، لا المفهوم منها بما انه شيء في قبال الخارج ، ولا الوجود الحقيقي الخارجي ، لأنه حسب اذعانه وتصديقه مما يقطع بخلافه والا يخرج اخباره بقيامه عن كونه كذبا كما هو واضح.

وعلى ذلك فلا محيص من المصير في كلية تلك الصفات من العلم والظن والحب والبغض والاشتياق والإرادة ونحوها إلى تعلقها بنفس العناوين والصور الذهنية ، غايته بما هي حاكية عن الخارج كما شرحناه ، لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي لا بدوا ولا

٣٨١

بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، كيف وان الخارج بعد كونه ظرفا لسقوط الإرادة والطلب يستحيل كونه ظرفا لثبوتها ، فيستحيل حينئذ تعلق الإرادة والطلب بالمعنون الخارجي ولو بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، من جهة رجوعه حينئذ إلى طلب الحاصل المحال كما هو واضح. وارجاعه كما في الكفاية إلى إرادة صدور الوجود من المكلف وجعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته لا إلى طلب ما هو صادر وثابت في الخارج حتى يكون من طلب الحاصل المحال ، كما ترى ، فإنه بعد أن كان الايجاد وجعل الشيء بسيطا معلولا للطلب وفي رتبة متأخرة عنه بنحو يتخلل بينهما الفاء الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة كقولك أردت ايجاد الشيء فأوجدته يستحيل وقوعه موضوعا للطلب ومتعلقا له.

فعلى ذلك لايبقى مجال جعل المتعلق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف الايجاد وإفاضته بمعنى جعله بسيطا كما في الكفاية والفصول من اشراب الوجود في مدلول الهيئة مع جعلهم المادة عبارة عن نفس الطبيعة من حيث هي ، وذلك لما عرفت ما فيه من امتناع تعلق الطلب بالخارج وبالوجود ولو بمعنى جعله بسيطا لا بدوا ولا بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، خصوصا مع ما يلزمه من لزوم تجريد الهيئة عن الوجود في نحو قوله أوجد الصلاة نظراً إلى ما هو الواضح من عدم انسباق الوجود في المثال مرتين في الذهن تارة من جهة المادة وأخرى من جهة الهيئة ، والالتزام فيه بالمجاز أيضا كما ترى.

ولعمري ان عمدة ما دعاهم إلى مثل هذا الالتزام انما هو لحاظهم الطبيعي بما أنه شيء في حيال ذاته وفى الخارج وعدم تصورهم إياه مرآة إلى الخارج بنحو ما ذكرنا ، فمن ذلك أشكل عليهم بان الطبيعة من حيث هي ليست الا هي فلايمكن ان يتعلق بها الامر والطلب ولأن الطلب انما يتعلق بما يقوم به الأثر والمصلحة والأثر والمصلحة بعد أن لم تكن قائمة الا بالوجود والماهية الخارجية لايتعلق الطلب أيضا الا بالوجود والماهية الخارجية فالتجأوا من هذه الجهة إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة وجعلوه متعلقا للطلب فرارا عن الاشكال المزبور ، والا فعلى ما ذكرنا من الاعتبار الثالث للطبيعة وهو لحاظها خارجية لايكاد مجال لهذا الاشكال حتى يحتاج في التفصي عنه إلى اشراب الوجود في الهيئة ، إذ عليه نقول بأن المصلحة حسب كونها من الاعراض الخارجية وان لم تكن قائمة الا بالخارج الا ان الطبيعي بهذا الاعتبار بعد ما لم يكن مغايرا مع الخارج بل

٣٨٢

كان بينهما الاتحاد والعينية بالاعتبار المزبور يلزمه قهرا صيرورة كل من الخارج والصور الذهنية متلونا بلون الآخر في مرحلة الاتصاف ، فمن ذلك تتصف الصور الذهنية بلحاظ الاتحاد المزبور بكونها ذات مصلحة ، كاتصاف الخارج أيضا بالمرادية والمطلوبية ، نظير باب الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من حيث سراية صفات كل منهما إلى الآخر لأجل ما كان بينهما من الاتحاد ، ففي الحقيقة كان هذا الاتحاد موجبا لنحو توسعة في دائرة النسبة في مقام الاتصاف في صدق المطلوبية والمرادية على الخارج وصدق ذي الأثر والمصلحة على الصور الذهنية ، والا ففي مرحلة العروض لايكون المعروض للطلب الا العناوين والصور الذهنية كما أنه في طرف المصلحة أيضا لايكون المعروض لها الا الوجود والماهية الخارجية.

بل وعلى هذا البيان أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالوجود إلى الطبيعة بالاعتبار الثالث الملحوظة خارجية في قبال الاعتبار الثاني لها وهو لحاظها بما هي شيء في حيال ذاتها ، إذ على هذا الاعتبار لما كان لايرى من الطبيعة في ذلك اللحاظ الا الوجود ولا يرى بينهما المغايرة صح ان يقال بان الامر متعلق بالوجود لا بالمهية من حيث هي بإرادة هذا الوجود الزعمي التخيلي لا الوجود الخارجي ولو بجعله بسيطا ، فيتحد القولان من جهة رجوعهما حينئذ إلى امر واحد ولكن ذلك أيضا بالنسبة إلى كلمات السابقين الذين لم يتعرضوا لتفصيل المسألة وأو كلوها إلى ما هو المرتكز في الأذهان ، والا ففي كلمات المتأخرين المتعرضين لتفصيل المسألة كصاحب الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) على ما عرفت من مصيرهم إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة في الأوامر لا يجري هذا التوجيه ، ولكن قد عرفت أيضا سخافة أصل المبني في نفسه وعدم امكان المصير إلى تعلق الطلب بالوجود الخارجي الذي هو نتيجة الطلب ولو بمعنى جعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته على حسب ما تقدم بيانه مفصلا.

نعم لو كان المقصود من الوجود الذي جعلوه متعلقا للطلب في الأوامر هو مفهوم الوجود مرآة إلى الخارج على نحو ما قلناه في الطبيعي لا مصداقه وحقيقته الخارجية لكان يسلم عن هذه الاشكال ، إذ لايترتب عليه حينئذ محذور طلب الحاصل ولا محذور تعلق الطلب والامر بأمر متأخر عنه رتبة ، ولكن نقول بأنه مع بعد ذلك في نفسه لا داعي

٣٨٣

حينئذ إلى مثل هذا الالتزام بل من الأول يصار إلى أن المتعلق هو الطبيعي غايته بما هو مرآة إلى الخارج ، كيف وانه ليس في البين ما يقتضي المصير إلى الالتزام المزبور لا من طرف المادة ، كما هو واضح ، ولا من طرف الهيئة أيضا لأنها على ما تقرر في محله لاتدل الا على نسبة ارسالية بين المبدء والفاعل أو طلب ما تدل عليه المادة فأين حينئذ مفهوم الوجود وأين الدال عليه؟ خصوصا مع ما يرد عليه من لزوم تكرر الوجود وانسباقه مرتين في الذهن في مثل قوله أوجد الصلاة تارة من جهة المادة وأخرى من ناحية الهيئة ، مع أنه كما ترى! والالتزام في مثل ذلك بالتجريد أوهن ، لوضوح انه لايكاد يرى فرق في مدلول الهيئة بين قوله صل وبين قوله أوجد الصلاة ، على أنه كثيرا ما يكون العنوان المأخوذ في حيز الطلب من العناوين العرفية الانتزاعية كما في المثال من قوله أوجد الصلاة وقوله أعدم الطبيعة ونحو ذلك مما لايمكن فيها اشراب حيث الوجود من الهيئة ، كما هو واضح.

وعليه فلا محيص من الغاء الوجود عن البين بالمرة والمصير إلى أن المتعلق للطلب والامر هي نفس العناوين والصور الذهنية بما انها ملحوظة خارجية دون المعنونات الخارجية ، من غير فرق في ذلك بين كون العنوان من العناوين الانتزاعية أو من الطبايع المتأصلة كالصلاة والصوم ونحوهما.

ومن ذلك نقول أيضا بأن حق تحرير عنوان البحث هو تحريره بأنه إذا تعلق الامر بعنوان هل يسري منه إلى منشأ انتزاعه الذي هو المعنون الخارجي أو انه يقف الطلب والامر على نفس العنوان ولا يتعدى عنه إلى المعنون الخارجي ، لا تحريره بما هو الشايع بان الطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي من جهة ما عرفت بأنه كثيرا ما يكون المتعلق من العناوين الانتزاعية التي لايمكن فيها اشراب الوجود في الهيئة كما في الطبايع المتأصلة ، كما هو واضح.

المبحث الثامن

في أنه إذا تعلق الامر بعنوان فهل يسري إلى افراده ومصاديقه على نحو يكون الافراد بما لها من الحدود الفردية والخصوصيات الشخصية تحت الطلب والامر أم لا وعلى الثاني من عدم سرايته إلى الخصوصيات الفردية فهل يسرى إلى الحصص المقارنة لخواص

٣٨٤

الافراد كما في الطبيعة السارية أم لا بل الطلب والامر يقف على نفس الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص؟

وتوضيح المرام هو أنه لا اشكال في أن الطبيعي إذا كان له افراد يكون كل فرد منه مشتملا على مرتبة من الطبيعي غير المرتبة التي يشتمل عليها الفرد الآخر ومن ذلك يتصور للطبيعي مراتب عديدة حسب تعدد الافراد مغايرة كل مرتبة منه باعتبار محدوديتها بالحدودات الفردية مع المرتبة الأخرى ، كما في الانسان حيث أنه كان الانسانية الموجودة في ضمن زيد بملاحظة محدوديتها وتقارنها لخواصه غير الانسانية الموجودة في ضمن عمرو المقارنة لخواصه ، فهما حصتان ومرتبتان من الانسانية انسانية قارنت خواص زيد وانسانية قارنت خواص عمرو ، وهكذا ، من غير أن ينافي ذلك أيضا اتحاد تلك الحصص بحسب الذات والحقيقة وكون الجميع تحت جنس واحد وفصل فارد من حيث صدق حيوان ناطق على الجميع وعلى كل واحدة من الحصص من الحصص كما لايخفى ، ومن ذلك أيضا قيل واشتهر بأن الطبيعي مع الافراد كنسبة الآباء مع الأولاد ، لا كنسبة الأب الواحد مع الأولاد وان مع كل فرد أبا من الطبيعي غير ما يكون مع الابن الآخر مع اتحاد تلك الآباء على اختلافها وتباينها بحسب المرتبة بحسب الحقيقة والذات واندراج الجميع تحت جنس واحد وفصل وبهذه الجهة أيضا ترى اشتمال هذه الحصص كل واحدة منها على جهات وحيثيات شتى ينتزع بها منها عناوين مقوماتها العالية كالجوهرية والجسمية والنامية والحساسية والحيوانية ، كما في زيد الذي هو فرد الانسان حيث يشتمل على جميع حدود مقوماته العالية من الجوهرية والجسمية إلى أن يبلغ إلى جهة الانسانية التي هي جهة مشتركة بينه وبين عمرو وخالد مع زيادة جهة أخرى فيه التي بها امتيازه عن عمرو وخالد ، وكذلك الانسان بالنسبة إلى الحيوان والجسم النامي والمطلق والجوهر ، وهكذا كل سافل بالنسبة إلى عالية فأنه لابد من اشتماله على جميع مقوماته العالية مع زيادة جهة فيه بها امتياز عن سائر الحصص المشاركة معه في جنسه وفصله القريبين ، وهو معنى قولهم بان كل ما هو مقوم للسافل أيضا ولا عكس ، وعليه أيضا اعتبارهم في التعريف الحقيقي للشيء بلزوم الاخذ بجميع مقوماته من الداني والعالي والاعلى.

وإذ عرفت ذلك فلنرجع إلى المقصود من سراية الامر من الطبيعي الملحوظ فيه صرف

٣٨٥

الوجود إلى أفراده ومصاديقه وعدم سرايته ، وفي ذلك نقول بان التحقيق في المقام هو القول الثاني من وقوف الطلب على نفس الطبيعي وعدم سرايته لا إلى الخصوصيات الفردية ولا إلى الحصص الموجودة في ضمن الافراد المقارنة لخواصها ، إذ نقول بأنه يكفي في الدليل لذلك الوجدان عند طلب شيء والامر به كما في طلبك الماء للشرب ، فإنه قاض بداهة بأنه لايكون المطلوب الا صرف الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص من دون مدخلية في ذلك للحصص ، فضلا عن الخصوصيات الفردية كماء الكوز والجرة والحب ونحو ذلك ، ولذلك لو عرض عليك تلك الحصص وهذه الخصوصيات لكنت تنفى الجميع وتقول بأن المطلوب انما كان صرف الطبيعي والقدر المشترك دون الحصص ودون خصوصيات الافراد ، كيف وأن الطلب حسب معلوليته للمصلحة لايتعلق الا بما تقوم به المصلحة فمع قيام بصرف الطبيعي والجامع وعدم سرايتها إلى الحدود الفردية ولا إلى الحصص المقارنة لخواصها يستحيل سراية الطلب إلى الحدود الفردية أو الحصص المقارنة لخواصها ، على أن لازم ذلك هو صيرورة كل واحد من الافراد والحصص واجبا تعيينيا لكونه مقتضي سراية الطلب إليها ، وهو كما ترى ، لايظن توهمه من أحد وحينئذ فيكون ذلك كله برهانا تاما على وقوف الطلب حسب تبعيته للمصلحة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية فضلا عن سرايته إلى الحدود الفردية ، كما هو واضح.

ثم إن ما ذكر من عدم سراية الطلب إلى الحصص وخروجها عن دائرة المطلوبية انما هو خروجها بالقياس إلى الحيثية التي بها امتياز هذه الحصص الفردية بعضها عن البعض الاخر المشارك معها في الجنس والفصل القريبين ، واما بالنسبة إلى الحيثية الأخرى التي بها اشتراك هذه الحصص وامتيازها عن افراد النوع الآخر المشاركة معها في جنسها القريب ، وهي الحثيثة التي بها قوام نوعيتها ، فلا بأس بدعوى السراية إليها ، بل ولعله لا محيص عنه ، من جهة ان الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقومها العالي ليست الأعين الطبيعي والقدر المشترك ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن المطلوبية كما لايخفى ، فعلى ذلك تكون الحصص المزبورة كل واحدة منها بالقياس إلى بعض حدودها وهي حدودها الطبيعية تحت الطلب والامر وبالقياس إلى حدودها الخاصة تحت الترخيص وخارجة عن دائرة المطلوبية ، لا أنها على الاطلاق تحت الطلب والامر كما في

٣٨٦

الطبيعة السارية ولا خارجة كذلك عن دائرة الطلب ونتيجة ذلك هو رجوع التخيير بين الحصص والافراد أيضا إلى التخيير الشرعي لا العقلي كما قيل ، إذ بعد أن لم تكن قضية عدم السراية على ما بيناه الا خروج الحصص عن دائرة الطلب بالقياس إلى حدودها الخاصة والجهة التي بها امتياز بعض هذه الحصص عن البعض الاخر المشارك معها في جنسها وفصلها القريبين ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها ، بل كانت الحصص بالقياس إلى هذه الجهة تحت الطلب والامر ، فقهرا يلزمه صيرورتها موردا للوجوب التخييري ، حيث أنه كانت الحصص حينئذ ببعض حدودها تحت الالزام الشرعي وببعض حدودها الأخرى تحت الترخيص ، ومرجع ذلك على ما بيناه مرارا إلى وجوب كل واحدة منها بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك في حال ترك البقية ، مع كون الترك في حال الوجود تحت الترخيص ، ومقتضاه هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد منها والعصيان بترك الجميع.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال للالتزام بخروج الافراد عن تحت الالزام الشرعي والمصير فيها إلى التخيير العقلي كما في الكفاية وغيرها ، بل لابد من ارجاع التخيير فيها إلى التخيير الشرعي ، نعم لو قلنا بوقوف الطلب في تلك الواجبات على نفس الطبيعي وصرف الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها لاتجه القول فيها بالتخيير العقلي إذ لايبقى مجال حينئذ لدعوى وجوب الحصص والافراد بالوجوب الشرعي ، ولكن عمدة الكلام فيه حينئذ في أصل المبني ، والوجه فيه هو ما عرفت من أن الحصص من حيث حدودها الطبيعية لا تكون الا عين الطبيعي والقدر المشترك بينها ، غايته انها كانت محفوظة في ضمن الافراد نظير ما تصورناه في مبحث الوضع من القسم الآخر في تصور عموم الوضع والموضوع له ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن حيز الطلب ، كما لايخفى.

واما ما قيل بأن الطلب بعد تعلقه بالعناوين والصور الذهنية لا بالمعنونات الخارجية يستحيل سرايته إلى الحصص الفردية من جهة ان الحصص بصورها الذهنية حينئذ مبائنة مع الطبيعي ولو كانتا ملحوظتين خارجيتين فهما حينئذ صورتان متباينتان في الذهن ومع تباينهما يستحيل سراية الطلب من إحديهما إلى الأخرى ، فمدفوع بأنه كذلك

٣٨٧

إذا لايكون الطبيعي مأخوذا لا بشرط والا فقضيته بعد لحاظهما خارجيتين واتحادهما خارجا بحسب المعنون والمنشأ كانت هي السراية لا محالة.

كاندفاع ما قيل أيضا بان صرف الطبيعي بعد ما كان انطباقه على خصوص أول وجود فلا جرم في ظرف الانطباق لا مجال لدعوى السراية بلحاظ كونه ظرف سقوط الطلب لا ثبوته ، واما في طرف قبل الانطباق فكذلك أيضا من جهة انه حينئذ كما يكون قابلا للانطباق على أول وجود كذلك يكون قابلا أيضا للانطباق على ثاني الوجود وثالثه ، وفي مثله لا مجال لدعوى السراية إلى واحد منهما. وجه الاندفاع : هو انا نفرض الكلام في ظرف قبل الانطباق ونقول بان كل واحد من هذه الافراد إذا فرضناه غير مسبوق في وجوده بفرد آخر فقهرا ينطبق عليه أول وجود وفي مثله يسرى إليه الطلب من جهة انطباق الطبيعي عليه حينئذ من دون احتياج في سراية الطلب إلى الانطباق الفعلي عليه في الخارج حتى يتوجه المحذور المزبور ، وعليه لايبقى مجال التشكيك في سراية الطلب إلى الحصص من حيث حدودها الطبيعية بمثل هذه البيانات ، كما هو واضح.

واما الانتقاض حينئذ بمورد العلم الاجمالي من حيث وقوف العلم مع كونه أيضا من صفات النفس كالإرادة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الخصوصيات ، بشهادة الشك التفصيلي الوجداني بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين ، فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك عدم سرايته إلى الطرفين بخصوصيتهما فهو مسلم ولكنه غير ضائر بما نحن بصدده ، إذ نحن أيضا نسلم ونقول بخروج الحصص الفردية بحدودها الخاصة التي بها امتياز بعض تلك الحصص عن البعض الآخر ، فلايتوجه حينئذ الانتقاض المزبور ، وان أريد بذلك عدم سراية العلم إلى الطرفين على الاطلاق حتى بحدودهما الجامعي فهو ممنوع جدا ، بل نقول فيه أيضا بالسراية إلى الطرفين لكن بحدودهما الجامعي على نحو ما عرفت في الطبيعي وافراده ، فتأمل.

وعلى ذلك فالطلب المتعلق بالطبيعة ان لو حظ بالقياس إلى نفس الطبيعة اللابشرطية التي هي القدر المشترك بين الحصص يكون طلبا تعيينيا ، وان لو حظ بالقياس إلى الحصص المقارنة مع الخصوصيات يكون طلبا تخييريا ومرجعه على ما عرفت إلى تعلق طلب ناقص بكل واحدة من الحصص الفردية بنحو لا يقتضى الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك من ناحية حدودها الطبيعية التي بها اشتراك هذه الحصص بعضها مع

٣٨٨

بعض آخر ، وحيث إن الترك من هذه الجهة ملازم مع ترك بقية الحصص صح ان يقال بان ترك كل واحدة من الحصص في ظرف ترك البقية كان تحت المنع وفي ظرف وجود حصة منها كان تحت الترخيص ، ونتيجته على ما عرفت هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد وتحقق العصيان بترك جميع الافراد.

بل وعلى ما ذكرنا أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالسراية إلى الحصص إلى السراية إليها بحدودها المقومة لنوعها ، لا مطلقا حتى بحدودها الخاصة التي بها امتياز حصة عن أخرى ، وارجاع القول بعدم السراية أيضا عدم السراية إلى الحصص لكن بحدودها الخاصة ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها المقومة لنوعها إذ عليه يتوافق القولان ويرتفع النزاع من البين ، كما هو واضح ، فتأمل.

المبحث التاسع

في أنه إذا نسخ الوجوب يبقى الجوازم لا

والظاهر أن المراد بالجواز المتنازع فيه هو خصوص الجواز الاقتضائي الذي هو في ضمن الوجوب والاستحباب والإباحة لا الأعم منه والجواز اللا اقتضائي الناشي من عدم المقتضي للشيء فعلا أم تركا ، من جهة وضوح أن مثل هذا المعنى من الجواز بعد ورود الدليل على وجوبه مما يقطع بارتفاعه فلا معنى حينئذ للنزاع في بقائه بعد نسخ الوجوب ، كما هو واضح ، وإذ عرفت ذلك نقول بأن الكلام في المقام في بقاء الجواز وعدمه يقع تارة في أصل امكان بقائه ثبوتا ، وأخرى فيما يقتضيه الأدلة اثباتا فهنا مقامان :

اما المقام الأول : فلاينبغي الاشكال في أنه لا ملازمة بين ارتفاع الوجوب وبين ارتفاع جوازه ، وذلك من جهة انه بعد أن كان له مراتب عديدة من حيث أصل الجواز والرجحان الفعلي وحيث الالزام والمنع عن النقيض فلا جرم أمكن ان يكون المرتفع لأجل دليل النسخ هو خصوص جهة الزامه ومنعه عن النقيض مع بقاء رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض على حاله ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة رجحانه الفعلي أيضا مع بقائه على الجواز بمعنى تساوي فعله وتركه ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة جوازه أيضا ، وحينئذ فأمكن ثبوتا بقاء كل واحد من هذه المراتب بعد ارتفاع الوجوب بدليل النسخ من

٣٨٩

غير أن يكون برهان عقلي على امتناعه بوجه أصلا ، وعلى هذا البيان أيضا لايحتاج في اثبات الرجحان الفعلي عند ارتفاع حيث المنع عن النقيض إلى تكلف إقامة الدليل على قيام الفصل الاستحبابي مقامه ، من جهة أنه بعد كونه من قبيل التشكيكيات فلا جرم بذهاب مرتبة منه يلزمه تحدده قهرا بالمراتب الباقية نظير مرتبة خاصة من الحمرة الشديدة التي إذا زالت مرتبة منها باجراء الماء عليها تبقى مرتبة أخرى منها محدودة بحد خاص ، وعليه فيكفي ذهاب خصوص جهة منعه عن النقيض في الحكم ببقاء رجحانه واستحبابه من دون احتياج إلى قيام دليل عليه بالخصوص بوجه أصلا ، كما لايخفى.

وحينئذ فإذا أمكن ثبوتا بقاء أصل جوازه ورجحانه الفعلي ولم يقم دليل عقلي على امتناعه يبقى الكلام في المقام الثاني في أنه هل قضية دليل النسخ رفع الوجوب بجميع مراتبه أو بخصوص مرتبة الزامه وجهة منعه عن النقيض كي يلزمه بقائه بمرتبة رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض؟

وفي مثله قد يقرب الثاني بدعوى ان القدر المتيقن الذي يقتضيه دليل الناسخ انما هو رفع خصوص جهة الزامه ففيما عداه يؤخذ حينئذ بدليل المنسوخ ويحكم بمقتضاه باستحبابه ، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شيء ودليل آخر على عدم وجوبه فكما انه هناك يجمع بينهما فيؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره في الالزام وجهة المنع عن النقيض كذلك في المقام أيضا فإذا لم يكن لدليل النسخ دلالة على أزيد من رفع الوجوب فلا جرم يؤخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق رجحانه وبذلك يثبت استحبابه ، حيث لا نعنى من الاستحباب الا ذلك.

ولكن فيه ان هذا الجمع انما يصح في غير الحاكم والمحكوم واما فيهما فلا يتأتى مثل هذا الجمع بل لابد من الاخذ بدليل الحاكم ورفع اليد عن دليل المحكوم وان كان ظهوره أقوى بمراتب من دليل الحاكم. وفى المقام بعد أن كان دليل النسخ ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مدلول دليل المنسوخ بلحاظ تعرضه لرفع الحكم الثابت بدليله فلا جرم بمقتضي نظره وحكومته هذه لايبقى مجال لملاحظة دليل المنسوخ وأقوائية ظهوره من ظهوره بل في مثله لابد من الاخذ بدليل الناسخ ورفع اليد عما يقتضيه دليل المنسوخ وان كان ظهوره أقوى بمراتب من ظهوره ، وعليه أيضا لايبقى مجال استفادة الاستحباب بمثل البيان المزبور بل لابد حينئذ من التماس دليل آخر في البين ، كما هو واضح. ولعل مثل ذلك هو

٣٩٠

العمدة أيضا في عدم ملاحظتهم لقاعدة الجمع المزبور في المقام مع بنائهم على أعمالها كثيرا في الفقه بنحو صار من الجموع المتعارفة ، هذا.

اللهم الا ان يقال بمزاحمة المحكوم في المقام مع أصل حكومة دليل الناسخ ومقدار نظره حيث يصرفه إلى خصوص جهة الالزام وحيث المنع عن الترك وفي مثله لا يتأتى ما ذكر من لزوم تقديم دليل الحاكم ولو كان أضعف ظهورا ، من جهة ان ذلك انما هو في ظرف ثبوت أصل حكومته وقوة نظره ، بل لابد حينئذ من لحاظ التعارض بينهما وحينئذ إذا فرضنا اقوائية دليل المنسوخ في مطلق الرجحان من ظهور دليل الناسخ في النظر إلى جميع المراتب فلا جرم توجب مثل هذه الأقوائية لصرف دليل الناسخ إلى خصوص مرتبة الالزام وجهة المنع عن النقيض.

وحينئذ فلئن خودش في ذلك فلابد من الخدشة في أصل المطلب بدعوى قوة ظهور دليل الناسخ في نظره إلى رفع جميع مراتب الحكم ، كما لعله ليس ببعيد أيضا لظهوره في رفعه لأصل الحكم الثابت بدليل المنسوخ بما له من المراتب ، وعليه لايبقى مجال للاخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق الرجحان لاثبات الاستحباب ، نعم لو فرضنا اجمال دليل الناسخ في نفسه وتردده بين رفع خصوص جهة الزامه أو رفعه حتى بمرتبة رجحانه وجوازه ففي مثله لا بأس بدعوى الرجوع إلى دليل المنسوخ لاثبات مطلق الرجحان لولا دعوى سراية اجماله إليه أيضا ، فتدبر.

واما الاستصحاب فيبتنى جريانه على أن يكون المشكوك عرفا من مراتب ما هو المتيقن سابقا بحيث على تقدير بقائه يعد كونه عرفا بقاء لما علم بتحققه سابقا لا كونه أمرا مبائنا معه وحادثا غيره ، والا فلا مجال لجريان الاستصحاب أيضا من جهة عدم اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا ، فتدبر.

المبحث العاشر

إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه التخيير فالمرجع فيه كما عرفت إلى وجوب كل واحد منها لكن بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون هناك غرض

٣٩١

واحد يقوم به كل واحد منهما ولو بملاحظة ما هو القدر الجامع بينهما أو اغراض متعددة بحيث كان كل واحد منهما تحت غرض مستقل وتكليف مستقل وكان التخيير بينهما من جهة عدم امكان الجمع بين الغرضين اما من جهة التضاد بين متعلقيهما كما في المتزاحمين ، أو من جهة التضاد بين نفس الغرضين في عالم الوجود بحيث مع استيفاء أحد الغرضين في الخارج لايبقى مجال لاستيفاء الآخر ، أو في مرحلة أصل الاتصاف بحيث مع تحقق واحد الوجودات واتصافه بالمصلحة لاتتصف البقية بالغرض والمصلحة ، حيث أن مرجع الجميع إلى تعلق وجوب ناقص بكل واحد من الوجودات بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، لاتعلق الوجوب التام بكل واحد منها مشروطا بعدم الآخر ، ولا وجوب أحد الوجودات لا بعينه ، أو أحدها المعين عند الله

نعم غاية ما هناك من الفرق بين الصور المزبورة انما هو من جهة وحدة العقوبة وتعددها عند ترك الجميع ، حيث إنه في بعضها كالصورة الأولى والأخيرة لايترتب على ترك الجميع الا عقوبة واحدة ، وفي بعضها الآخر كالصورة الثانية والثالثة تترتب عقوبات متعددة حسب وحدة الغرض وتعدده.

لايقال بأنه مع المضادة المزبورة لايكاد يستند إلى المكلف عند تركه للجميع الأفوت أحد الاغراض ، من جهة فوات البقية عليه على كل تقدير ، ومعه كيف يمكن استحقاقه للعقوبات المتعددة ، وبعبارة أخرى ان استحقاق العقوبة لابد وأن يكون على ما هو تحت قدرة المكلف واختياره فإذا لم يكن للمكلف حينئذ بمقتضي المضادة المزبورة بين المتعلقين أو الغرضين في عالم الوجود الا القدرة على تحصيل أحد الغرضين لا جرم لايترتب على تركه للجميع أيضا الا عقوبة واحدة

فإنه يقال نعم وان كان لا قدرة للمكلف على الجمع بين الغرضين ولكن مجرد ذلك لايمنع عن استحقاقه للعقوبات المتعددة عند ترك الجميع ، من جهة تمكنه حينئذ من الاتيان بأحد الوجودين واخراج البقية عن حيز الوجوب الفعلي ، فتأمل.

لايقال على ذلك في الصورة الأخيرة أيضا لابد من الالتزام بتعدد العقوبة فما وجه التفرقة بينها وبين غيرها؟.

إذ يقال بان عدم الالتزام فيها بتعدد العقوبة انما هو من جهة عدم صدق ترك المتصف بالمصلحة الا على أحد التروك نظراً إلى ما كان بينها من المضادة في أصل

٣٩٢

الاتصاف بالمصلحة ، وبالجملة ان ترتب العقوبة انما هو ترك الشيء في ظرف الفراغ عن اتصافه بكونه تركا لما فيه الغرض والمصلحة ، ومثل هذا المعنى انما يصدق في الصورة الثانية والثالثة ، واما في الصورة الأخيرة فلايكاد صدق ترك المتصف الاعلى أحد التروك فمن ذلك لايكاد يترتب على تركه للجميع الا عقوبة واحدة ، فتأمل.

بقى الكلام في التخيير بين الأقل والأكثر حيث إنه قد يقال بامتناعه واستحالته نظراً إلى أنه باتيان الأقل ووجوده ولو في ضمن الأكثر يتحقق الواجب لا محالة ويحصل الغرض ومع حصول الغرض وتحقق الواجب به يكون الزائد عليه لا محالة زائدا عن الواجب فيكون خارجا عن دائرة الوجوب فلايمكن حينئذ تعلق الوجوب به ، ولكن فيه انه كذلك إذا كان الأقل مأخوذا بنحو اللابشرط من جهة الزيادة وليس كذلك بل نقول بأنه مأخوذ على نحو بشرط لا بحيث كان لحده أيضا دخل في الواجب وفى حصول الغرض ، وعليه فيرتفع الاشكال المزبور حيث لايكون الآتي بالأكثر حينئذ آتيا بالأقل بحده في ضمنه حتى يتوجه الاشكال المزبور ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون للأقل الكائن في ضمن الأكثر وجود مستقل بحيث كان هناك تخلل سكون في البين كما في التسبيحات أم لا كما في مثل الخط الطويل الذي رسم دفعة ، وذلك من جهة أنه بالتجاوز عن حد الأقل الذي فرض كونه تسبيحة واحدة أو نصف ذراع من الخط مثلا ينتفى الأقل ويكون المأتى به من أوله إلى آخره امتثالا للامر بالأكثر دون الأقل ، كما هو واضح.

نعم قد يشكل على ما ذكرنا أيضا بأن الأكثر بعد أن أخذ لا بشرط من طرف الزيادة وقد وجب الاتيان بذات الأقل أيضا على كل تقدير فلا جرم لايبقى طرف التخيير الا نفس الحدين وهما الوقوف على الأقل أو التعدي والتجاوز عنه وحينئذ فحيث أنه مع الاتيان بذات الأقل لا محيص له من أحد الحدين ولايمكنه ترك كليهما يندرج لا محالة في التخيير العملي العقلي بمناط اللاحرجية نظير التخيير بين النقيضين أو الضدين اللذين ليس لهما ثالث لا في التخيير الشرعي من جهة عدم المجال حينئذ لأعمال المولوية بالامر التخييري نحو الحدين ، لما ذكرنا غير مرة بان مرجع الامر التخييري بأحد الامرين انما هو إلى النهى عن تركهما معا وهو انما يصح في مورد يتمكن المكلف من ترك كلا الامرين والا فمع عدم تمكنه من ذلك ولا بدية اتيانه بأحد الامرين عقلايكون الامر باتيان أحد

٣٩٣

الفردين لغوا محضا ، فعلى ذلك حينئذ يتسجل الاشكال بأنه كيف المجال للتخيير الشرعي بين الأقل والأكثر مع كون ذات الأقل واجبة الاتيان على كل تقدير وكون التخيير بين الحدين أيضا عقليا محضا بمناط اللاحرجية ، هذا.

ولكن يمكن التفصي عن هذا الاشكال أيضا بان ما هو طرف التخيير حينئذ انما كان هو الأقل بما هو متقيد بحد الأقلية ، فكان لحيث التقيد أيضا دخل في موضوع الوجوب وفي مثله معلوم بداهة كمال المجال لتعلق الامر المولوي التخييري بأحد الامرين اما الأقل أو الأكثر ، وحينئذ فتمام الخلط انما هو من جهة الغاء حيث التقيد بحد الأقلية عن موضوع الوجوب ولحاظ ذات الأقل عارية عن التقيد المزبور فمن ذلك استشكل بان ذات الأقل حينئذ بعد أن كانت واجبة الاتيان على كل تقدير لا على تقدير دون تقدير فلا جرم لايبقى في البين الا نفس الحدين الذين عرفت بأنه لايكون التخيير فيهما الا تخييرا عقليا بمناط اللاحرجية ، والا فبناء على ملاحظة مجموع الذات مع التقيد المزبور لايبقى مجال الاشكال المزبور أصلا ، من جهة وضوح ان الأقل حينئذ بوصفه لايكون واجب الاتيان على كل تقدير ، كما هو واضح. وعلى ذلك فمن اخذ الأقل بشرط لا محددا بحد الأقلية يرتفع تلك الاشكالات بأجمعها على التخيير بين الأقل والأكثر ، نعم على ذلك يكون مرجع التخيير المزبور إلى التخيير بين المتبائنين نظراً لأي مبائنة الأقل حينئذ ولو بحده مع الأكثر ، فتدبر.

المبحث الحادي عشر في الواجب الكفائي

وهو سنخ من الوجوب متعلق بفعل كل واحد من آحاد المكلفين ، ومرجعه كما في الواجب التخييري إلى تعلق وجوب ناقص بفعل كل واحد من المكلفين بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو تروكه في حال ترك بقية المكلفين ، غير أن الفرق بينهما هو توجه التكليف هناك إلى المكلف بكلا شقي التخيير من جهة كونه نتيجة التكليف التعييني بالجامع بخلافه في المقام حيث إنه بعد عدم قدرة شخص مكلف واحد على كل الشقين لايكاد يصح توجيه التكليف التعييني إليه بالجامع بمعناه الاطلاقي القابل للانطباق على فعل نفسه وفعل غيره ، ومن ذلك لايكون التكليف المتوجه إلى

٣٩٤

كل مكلف الا تكليفا ناقصا متعلقا بشق واحد ولايكون امره الناقص الا أمرا واحداً

بل ولئن تأملت ترى جريان الشقوق المتصورة في الواجب التخييري في المقام أيضا من حيث تعلق غرض وحداني تارة بجامع فعل المكلفين القابل للانطباق على فعل كل واحد من آحادهم ، وأخرى تعلق اغراض متعددة بفعل كل واحد من المكلفين مع كونها بنحو لايكاد حصول الغرض في واحد مع حصوله وتحققه في الاخر نظراً إلى ما كان بين تلك الاغراض حينئذ من المضادة اما في مرحلة الوجود والتحقق واما ما في مرحلة أصل الاتصاف بالغرض والمصلحة ، حيث إن مرجع الجميع كما عرفت إلى تعلق وجوب ناقص بفعل كل واحد من المكلفين ، ففي جميع الصور كان المكلفون كل واحد منهم مكلفا بالايجاد ولكن بتكليف ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن الترك في حال ترك البقية ونتيجة ذلك انما هو سقوط التكليف بفعل بعضهم عن الجميع واستحقاقهم جميعا للعقوبة عند اخلالهم بالامتثال مع امتثال الجميع أيضا واستحقاقهم للمثوبة لو أتوا بالمأمور به دفعة واحدة ، نعم هذا الأخير مخصوص بالفرض الأول وهو فرض قيام الغرض الوحداني بالجامع فان قضيته حينئذ هو تحقق الامتثال بفعل الجميع فلا يجري في بقية الفروض لأنه فيها حسب مضادة تلك الاغراض القائمة بأفعالهم اما بحسب الوجود أو الاتصاف لايكاد انتهاء النوبة إلى امتثال الجميع مع اتيانهم دفعة واحدة حتى يترتب عليه استحقاقهم أجمع أيضا للمثوبة بل ومقتضي بطلان الترجيح بلا مرجح حينئذ هو عدم حصول الغرض وعدم تحقق الامتثال من واحد منهم أيضا ، كما لايخفى ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو ان ما ذكرناه من الفروض الاخر في الواجب الكفائي مجرد فرض وبيان امكان جريان فروض الواجب التخييري في الكفائي أيضا ، والا فما هو الواقع في الواجبات الكفائية طرا انما هو خصوص الفرض الأول ، وعليه فكما أنه باخلالهم بالامتثال يستحق الجميع العقوبة كذلك باتيانهم جميعا للمأمور به دفعة واحدة يتحقق الامتثال من الجميع ويستحق الجميع المثوبة ، نعم على فرض وقوع ما عدا الفرض الأول فيها أيضا يبقى الكلام في أنه هل يمكن فيها تصوير إناطة التكليف بكل واحد منهم بعدم اتيان البقية كي يلزمه المصير إلى كون التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا تاما منوطا بعدم اتيان البقية أم لايمكن فينحصر تكليفهم كما في الواجب التخييري بالتكليف الناقص حسب ما عرفت ، وفي ذلك كان التحقيق هو الثاني ، وذلك فإنه ان أريد من

٣٩٥

الإناطة إناطة كل واحد من التكاليف بعصيان البقية فعدم امكانه واضح ، من جهة ما يلزمه حينئذ من تأخر كل واحد من هذه التكاليف عن الآخر برتبتين ، وهو من المستحيل كما عرفت ، وان أريد إناطة كل واحد منها بعدم البقية أي العدم السابق على الامر والتكليف فكذلك أيضا ، إذ حينئذ وان لم يرد عليه المحذور المتقدم من جهة وقوع التكاليف حينئذ في رتبة واحدة الا انه بعد تحقق المنوط به بالنسبة إلى الجميع يلزمه ان يكون كل واجد منهم مكلفا بتكليف فعلى تام بالايجاد ، ومثل هذا المعنى بعد فرض مضادة تلك المصالح والاغراض وامتناع اجتماعها في الوجود والتحقق يكون من المستحيل ، لاستحالة البعث الفعلي التام نحو أمور يمتنع اجتماعها في التحقق ، فمن ذلك لا محيص في المقام أيضا كما في الواجب التخييري من ارجاع تلك التكاليف إلى التكليف الناقص بجعل التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا ناقصا على نحو لايقتضي الا المنع عن الترك في حال ترك بقية المكلفين ونتيجة ذلك كما عرفت انما هو سقوط التكليف عن الجميع بفعل البعض منهم مع استحقاق الجميع للعقوبة عند اخلالهم جميعا بالواجب والمأمور به ، كما هو واضح.

المبحث الثاني عشر ، في الواجب الموقت

وهو الذي كان للزمان دخل فيه شرعا ، وفي قباله غير الموقت وهو الذي لايكون للزمان دخل فيه شرعا وان كان مما لابد منه فيه عقلا.

ثم إن قضية دخله فيه شرعا تارة تكون من جهة كونه قيدا للهيئة وللطلب وأخرى من جهة كونه قيدا للمادة وللمتعلق الراجع إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه والمتصف فارغا عن أصل الاتصاف والاحتياج ، حيث إنه يجري فيه كلا الاحتمالين كما في غيره من القيود الاخر ، نعم لو بنينا على عدم امكان المعلق واستحالته في نفسه لكان المتعين في المقام هو ارجاعه عقلا بقول مطلق إلى الهيئة والطلب ولو كان بحسب ظاهر القضية راجعا إلى المتعلق والمادة حتى في ما لو كان دخله في المصلحة من قبيل الدخل في وجود المتصف والمحتاج إليه ، غير أن الفرق حينئذ بينه وبين سائر المشروطات من جهة الإناطة حيث كان إناطة الطلب به في المقام عقلية وفي سائر المشروطات شرعية. وأما

٣٩٦

بناءً على المختار من امكان المعلق أيضا كالمشروط فيجرى فيه كلا الاحتمالين كما في غيره من القيود ، فيكون قيدا للهيئة وللطلب تارة وللمتعلق أخرى.

ثم إن الزمان المأخوذ في الواجب ظرفا ان كان بقدر الواجب لا أوسع فمضيق كالصوم مثلا ، وان كان أوسع منه فموسع وأمثلته كثيرة كالصلوات اليومية وصلاة الكسوف والخسوف ونحوها. واما كونه أضيق من الواجب فغير ممكن من جهة امتناع التكليف بما لا يسعه وقته وظرفه مع إرادة ايجاد الواجب بتمامه في ذلك الوقت وهو واضح ، نعم لا باس به لو أريد ايجاده فيه ولو ببعض اجزائه لا بتمامه ولكن ذلك حينئذ خارج عن الفرض نظراً إلى أن الموقت حينئذ انما هو الواجب ببعض اجزائه لا بتمامه ومن أوله إلى آخره.

واما الاشكال في امكان الموسع أيضا فمدفوع بما عرفت من وقوعه الذي هو أدل على امكانه ، كالأمثلة المزبورة ، ومرجعه إلى مطلوبية الكلي الجامع بين الافراد التدريجية المنتجة للتخيير بين الافراد المزبورة. وفي كون مثل هذا التخيير عقليا أو شرعيا وجهان أوجههما الثاني ، كما تقدم بيانه مفصلا ، فراجع.

نعم يبقى الكلام حينئذ في اقتضاء الامر بالموقت مع الاخلال به في الوقت لوجوبه في خارج الوقت وعدمه ، وفي ذلك نقول : ان مجمل الكلام فيه ان قضية دليل الموقت اما ان تكون على نحو وحدة المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب لا بلحاظ تمامه ، واما ان تكون على نحو تعدد المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد به بلحاظ تمام المطلوب لا أصله ، واما ان لا يستفاد منه شيء من الوجهين بل كان مجملا من هذه الجهة ومرددا بين التقييد في أصل المطلوب أو تمامه.

فان كان من قبيل الأول فلا اشكال في عدم اقتضاء الامر بالموقت لوجوب الاتيان به في خارج الوقت مع الاخلال به في الوقت ، لولا دعوى اقتضائه لعدم وجوبه.

كما أنه على الثاني أيضا لا اشكال في اقتضائه وجوب الاتيان به في خارج الوقت بعكس القسم الأول من غير فرق في ذلك بين ان يكون التوقيت بدليل متصل أو منفصل

واما ان كان من قبيل الثالث فان كان بدليل متصل بالكلام فلا اشكال أيضا في عدم اقتضاء دليل الواجب لوجوبه في خارج الوقت ، من جهة انه باتصاله به يوجب اجماله اجمالا لدليل الموقت أيضا ، ومعه لايبقى له ظهور حتى يصح التمسك به لاثبات الوجوب بعد انقضاء الوقت ، نعم لو كان التوقيت حينئذ بدليل منفصل وكان لدليل

٣٩٧

الواجب أيضا اطلاق بان فرض كونه في مقام البيان من هذه الجهة لا في مقام أصل المشروعية لكان قضية اطلاقه حينئذ هو ثبوت الوجوب في خارج الوقت أيضا ولكن ذلك أيضا مجرد فرض ، إذ نقول أولا بظهور دليل التوقيت في وحدة المطلوب وفي كون التقييد به بلحاظ أصل المطلوب لا بلحاظ تمامه وعلى فرض عدم ظهوره واجماله من تلك الجهة لايكون لدليل العبادة في تلك الموقتات من نحو قوله : « أقيموا الصلاة » اطلاق يصح التمسك به لاثبات الوجوب في خارج الوقت لأنها طرا على ما حقق في محله في مبحث الصحيح والأعم كانت واردة في مقام أصل المشروعية لا في مقام البيان من تلك الجهات ، وعليه فلا يبقى مجال التمسك بدليل الموقتات في العبادات لاثبات الوجوب في خارج الوقت ، بل لابد حينئذ من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلا كنا نحن ونفس تلك الأدلة لايمكننا اثبات الوجوب به بعد انقضاء الوقت كما هو واضح.

نعم لو شك ولو يعلم من دليل الموقت بان التقييد بالوقت كان بلحاظ أصل المطلوب أو بلحاظ تمام المطلوب ربما كان مقتضى الأصل وهو الاستصحاب بقائه في خارج الوقت أيضا إذ حينئذ يشك عند ذهاب الوقت في ذهاب أصل المطلوبية أو ذهاب مرتبة منه مع بقائه ببعض مراتبه الاخر فيستصحب حينئذ بقائه ولو ببعض مراتبه ، نظير الاستصحاب الجاري في اللون الخاص إذا شك في ذهابه من رأسه أو ذهابه ببعض مراتبه مع بقائه ببعض مراتبه الاخر ، ومعه فلا يجرى فيه أصالة البراءة عن الوجوب ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو ما عرفت من ظهور الأدلة في وحدة المطلوب وفى كون التقيد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب لاتمامه وحينئذ فلابد في اثبات وجوب القضاء في خارج الوقت وفاقا للمحققين من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلايكفيه نفس الامر الأول ، كما هو واضح.

نعم ربما ينافي ما ذكرنا ظهور مادة القضاء في التدارك المقتضي لوفاء المأتى به في خارج الوقت ببعض مراتب مصلحة الموقت ، حيث إن لازمه هو قيام المصلحة من الأول بالجامع بين الفرد الواقع في الوقت والفرد الواقع في خارجه ، ولازمه هو تعلق الامر الأول أيضا من الأول بالجامع بين الفردين لا بخصوص الفرد الواقع في الوقت ، ولازمه أيضا ان يكون وجوب الاتيان به في خارج الوقت بنفس الامر الأول لا بأمر جديد ، ولكنه يندفع ذلك بأنه وان كان الامر كذلك انه انه نقول بان فردية المأتي به في خارج الوقت للجامع

٣٩٨

لما كانت في طول الافراد الواقعة في الوقت وفي رتبة متأخرة عن سقوط الامر والتكليف عنها ، فقهرا مثل هذه الطولية توجب تضيقا في دائرة الطبيعة المأمور بها بالامر الأول بنحو يخرج عنها مثل هذا الفرد ، فمن ذلك يحتاج في اثبات وجوبه بعد عدم شمول الامر الأول له إلى امر آخر يقتضي وجوبه في خارج الوقت ، وعليه فلا تنافي بين القول بان القضاء بأمر جديد وبين ما يقتضيه ظهور مادة القضاء في الوفاء ببعض مراتب مصلحة الموقت ، كما لايخفى.

المبحث الثالث عشر

في أنه هل الامر بالامر بشيء امر بذلك الشيء حقيقة أم لا

وتحقيقه ان يقال بان كلا الوجهين ثبوتا امر ممكن ، حيث إنه يمكن ان يكون الامر بالامر بشيء لا لأجل التوصل به إلى وجود ذلك الشيء في الخارج بل لأجل مطلوبية امر الآمر الثاني نفسيا كما أنه يمكن ان يكون ذلك لأجل التوصل إلى وجود الشيء في الخارج فحيث انه كان ذلك الشيء مطلوبا له أمر بالامر به ، الا انه في مقام الاثبات كان الظاهر من نحو تلك القضايا ولو بملاحظة قضية الارتكاز هو الثاني من كون الامر بالامر بشيء لمحض التوصل إلى الوجود ، لا من جهة مطلوبية أمر الآمر الثاني نفسيا وان لم يترتب عليه الوجود في الخارج.

وعلى ذلك فلا بأس باستفادة شرعية عبادة الصبي مما ورد من أمر الأولياء بأمر الصبيان باتيان العبادات ، نعم هذا المقدار من الشرعية أيضا لا يفي باثبات وفاء المأتي به حال الصغر بمصلحة الواجب كي يلزمه الاجتزاء به عن فعل الواجب فيما لو كان بلوغه بعد الفراغ عن العبادة أو في أثنائها ، من جهة ان القدر الذي يستفاد من قضية الامر بالامر انما هو كون فعلهم في حال عدم البلوغ مشروعا وواجدا للمصلحة ، واما كون هذه المصلحة من سنخ تلك المصلحة الملزمة الثابتة في حال البلوغ فلا ، ومن هذه الجهة أيضا تشبث بعضهم للاجتزاء به وعدم الإعادة بعد البلوغ باثبات المشروعية من جهة نفس الخطابات الأولية ، وحاصله انما هو دعوى شمول اطلاق الخطابات في التكاليف مثل أقيموا الصلاة ونحوه للصبي الذي يبلغ بعد يوم أو نصف يوم أو ساعة ، حيث إن

٣٩٩

دعوى انصرافها عن مثل هذا الصبي أيضا كما ترى بعيدة غايته ، إذ لايكاد يفرق العرف في شمول تلك الخطابات بين البالغ سنه إلى خمس عشرة سنة كاملة وبين من نقص سنة من ذلك بيوم أو نصف يوم أو ساعة واحدة ، بل كان العرف يرى شمول تلك الخطابات لكل منهما وحينئذ فإذا شمل تلك الخطابات لمثل هذا الصبي يتعدى عنه بمقتضي عدم الفصل إلى من هو دون ذلك في العمر إلى أن يبلغ في طرف القلة إلى ست أو سبع سنين فيستفاد من ذلك حينئذ ان الصبي المميز والمراهق كالبالغ في كونه ممن شرع في حقه العبادة على نحو مشروعيتها في حق البالغين من حيث اشتمال عباداته على المصالح الملزمة ، غاية الامر بمقتضي دليل رفع القلم يرفع اليد عن جهة الزام التكليف ويقال بأنه غير مكلف بالايجاد بتكليف لزومي في حال عدم بلوغه ، ونتيجة ذلك انما هو سقوط التكليف عنه بالايجاد لو فرض بلوغه في أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها ، نظراً لأي استيفائه بفعله حينئذ قبل البلوغ لتلك المرتبة من المصلحة الملزمة الداعية على الامر والتكليف هذا. ولكن فيه انه لا قصور في هذا التقريب لاثبات المشروعية بالمعنى المزبور لولا دعوى كون اعتبار البلوغ في أذهان المتشرعة بمقتضى دليل ( رفع القلم ) ونحوه في الارتكاز بمثابة يكون من القرائن الخاصة الموجبة لصرف الخطابات إلى خصوص البالغين ، كما لعله ليس ببعيد أيضا والا فلا مجال لاثبات مثل هذا النحو من الشرعية أيضا حتى يترتب عليه الاجتزاء به عن فعل الواجب بعد البلوغ فيما لو كان بلوغه في أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها ، كما لايخفى.

المبحث الرابع عشر

إذا ورد امر بشيء بعد الامر به قبل امتثاله كقوله : صل ، صل ، ففي كون الامر الثاني تأكيدا للامر الأول فلايجب الا الاتيان بالشيء مرة واحدة أو تأسيسا فيجب الاتيان به متكررا وجهان ، بل قولان ، مقتضي اطلاق المادة في صرف الطبيعي هو الحمل على التأكيد فإنه من جهة عدم قابليته للتكثر غير قابل لتعلق الطلب التأسيسي به مرتين الا مع التقيد بوجود ثم وجود ، كما أن مقتضي اطلاق الهيئة هو كونه للتأسيس الموجب للاتيان به متكررا ، فيدور الامر حينئذ بين رفع اليد عن أحد الاطلاقين اما عن اطلاق المادة في

٤٠٠