نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-272-7
الصفحات: ٥٩٦

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم الشرعي الواقعي ( كما في قولك : هذا ما أخبر العادل بوجوبه واقعا وكلما كان كذلك فهو واجب كذلك ) أو الحكم الشرعي الظاهري ( كقولك بعد اثبات حجية الاستصحاب : هذا مما علم بوجوبه أو حرمته سابقا وشك لاحقا في وجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك فهو واجب في الظاهر ولا ينقض اليقين به بالشك فيه ) أو حكما عقليا ( كقولك : هذا مما لم يرد عليه نص ولا بيان وكلما كان كذلك فهو مما لا حرج في فعله وتركه أو يجب فيه الاحتياط أو يتخير بين الامرين ) نعم على هذا التعريف ينبغي التقييد بعدم اختصاصها بباب دون باب من أبواب الفقه ليخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعريف المزبور وتدخل في مسائل الفقه بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه.

ولعله إليه أيضا يرجع سائر التعاريف كتعريف الشيخ قدس‌سره المسألة الأصولية بما يكون امر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلد ، قبال المسألة الفقهية التي يكون تطبيقها على الموارد مشتركا بين المجتهد والمقلد. فلا يرد عليه حينئذ بمثل قاعدة الطهارة التي هي من المسائل الفقهية في الشبهات الحكمية ومسألة الشرط المخالف للكتاب والسنة التي هي أيضا من المسائل الفقهية ، بتقريب انهما مع كونهما من المسائل الفقهية لا شبهة في أن تطبيقها على مواردها لايكون الا من وظائف المجتهد خاصة ، بملاحظة اشتراط الأول بالفحص والثاني بمعرفة الكتاب والسنة لكي يتميز بها كون الشرط مخالفا للكتاب والسنة أو غير مخالف لهما ، ولا سبيل في ذلك للعامي الذي لا يعرف ظواهر الكتاب والسنة. وهكذا غيره من التعاريف الاخر كتعريفه : بأنه صناعة يقتدر بها على استنباط الاحكام الفرعية ونحوه ، فان هذه التعاريف جميعها راجعة إلى امر واحد ولكل منها جهة مناسبة مع تلك القواعد فكل إلى ذاك الجمال يشير وحينئذ فلاينبغي النقص والابرام من جهة الطرد والعكس في مثل هذه التعاريف.

نعم بقى في المقام اشكال يرد على ما ذكرنا من التعريف بل وعلى غيره من التعاريف الاخر أيضا فينبغي التعرض له ولدفعه ، ومحصل الاشكال : هوان ميزان كون المسألة أصولية ـ على ما عرف من وقوع نتيجتها كبرى القياس ـ ان كان على وقوعها في طريق الاستنباط المزبور بلا واسطة فيلزمه خروج مباحث الألفاظ طرا ـ كمبحث الامر والنهى والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق ونحوها مما شأنها اثبات

٢١

الوضع والظهور ـ من مسائل الأصول ، من جهة وضوح ان نتيجة هذه المباحث لا تكون الا تعيين الظهور واثبات كون الشيء ظاهرا في كذا ، كظهور هيأة الامر في الوجوب وظهور النهى في الحرمة مثلا والعام والخاص والمطلق والمقيد في كذا وكذا ، ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذه لايكاد يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد بل يحتاج في مقام انتاج الحكم الشرعي إلى تشكيل قياسين يكون نتيجة أحدهما صغرى لكبري القياس الآخر ، بان نقول في القياس الأول : هذا امر وكل امر ظاهر في الوجوب فهذا ظاهر في الوجوب ، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى لكبري في قياس آخر ، ونقول في القياس الثاني : هذا ظاهر وكل ظاهر يجب التعبد به والعمل على طبقه بمقتضى ما دل على وجوب الاخذ بكل ظاهر. وهذا بخلافه في مسألة حجية خبر الواحد ونحوها فإنه فيها لايحتاج الا إلى تشكيل قياس واحد بقولك : هذا مما أخبر العادل بوجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه فهذا يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه. وان كان ميزان كون المسألة أصولية على وقوعها في طريق الاستنباط ولو مع الواسطة ، فعليه وان اندفع الاشكال المتقدم الا انه عليه بلزوم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية ـ كالصرف والنحو واللغة ومسائل علم الرجال ـ في المسائل الأصولية ، بملاحظة وقوع نتيجتها بالآخرة في طريق الاستنباط ، وهذا كما ترى ، مع أن ديدنهم على اخراج مسائل المشتق ونحوها عن المسائل من حيث جعلهم أول المباحث مباحث الأمر والنهي ، فيبقى حينئذ سؤال الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأمر والنهي والعام والخاص الخ.

وحاصل الدفع هو انا نختار الشق الثاني ومع ذلك نلتزم بخروج الأمور المزبورة عن مسائل الأصول ، وذلك اما أولا فلوضوح ان المهم والمقصود في العلوم الأدبية كالنحو والصرف ليس هو اثبات الظهور للكلمة والكلام بل وانما المهم فيها انما هو اثبات كون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا في ظرف الفراغ عن فاعلية الفاعل ومفعولية المفعول ، وأين ذلك ومثل مباحث الأمر والنهي والعام والخاص المتكلفة لاحراز الظهور في الكلمة والكلام؟ وثانيا على فرض ان المقصود في العلوم الأدبية أيضا احراز الظهور في شيء كظهور المرفوع في الفاعلية والمنصوب في المفعولية ، نقول بان غاية ما يقتضيه ذلك حينئذ انما هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الاحكام لأنفسها ، والمسائل الأصولية انما كانت عبارة عن القواعد الواقعة في طريق استنباط نفس الأحكام الشرعية العملية

٢٢

فيخرج حينئذ أيضا مسائل العلوم الأدبية كالنحو والصرف بل اللغة أيضا. وتوهم استلزامه لخروج مثل مباحث العام والخاص أيضا مدفوع بأنها وان لم تكن واقعة في طريق استنباط ذات الحكم الشرعي الا انها باعتبار تكفلها لا ثبات كيفية تعلق الحكم بموضوعه كانت داخلة في مسائل الأصول ، كما هو الشأن أيضا في مبحث المفهوم والمنطوق حيث إن دخوله باعتبار تكفله لبيان إناطة سنخ الحكم بشيء الذي هو في الحقيقة من أنحاء وجود الحكم وثبوته ، وهذا بخلاف المسائل الأدبية فإنها ممحضة لا ثبات موضوع الحكم بلا نظر فيها إلى كيفية تعلق الحكم أصلا. ومن ذلك البيان ظهر وجه خروج المشتقات أيضا عن مسائل الأصول ، حيث إن خروجها أيضا انما هو بلحاظ عدم تكلفها الا لاحراز موضوع الحكم وانه خصوص المتلبس الفعلي أو الأعم ، لأنفسه لا بذاته ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.

نعم يبقى الاشكال حينئذ في خروج مسائل علم الرجال عن مسائل الأصول مع أنها كمبحث دلالة الألفاظ واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ولو بالواسطة من كون السند موثوقا به في شمول دليل التعبد له ، ويمكن الاعتذار عنه بان عدم تدوينهم إياها في الأصول حينئذ انما هو من جهة كثرة مسائلها الموجبة لافرادها بالتدوين وجعلها علما مخصوصا موسوما باسم مخصوص مستقلا عن الأصول ، فتدبر.

الامر الثاني في الوضع

فنقول : انه بعد ما لم تكن العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها ذاتية محضة بنحو يعرفها كل أحد ، يبقى الكلام في أن لها أي للألفاظ نحو مناسبة لمعانيها توجب وضعها لمعانيها بحسب الارتكاز وان لم يلتفت الواضع تفصيلا إلى تلك المناسبة ، أم لا؟ بل تمام العلقة والارتباط بينهما كانت حاصلة بالجعل وبوضع الواضع بعد أن لم تكن بينهما علاقة وارتباط أصلا حيث إن فيه وجهين : قد يقال بالأول وان الواضع حيثما يجعل لفظا لمعنى فإنما هو من جهة الهام الباري ( عز اسمه ) إياه بل ومن ذلك أيضا أنكر استناد الجعل إلى المخلوقين فقال : بان الجاعل والواضع في الألفاظ انما هو الباري عز اسمه وانه سبحانه وتعالى يلهم كل طائفة ان يتلفظوا عند ابراز مقاصدهم بألفاظ خاصة مناسبة

٢٣

لمعانيها حسب جعله سبحانه ، واستدل أيضا على مرامه من عدم كون تلك العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها مستندة إلى جعل المخلوق ووضعه بأمرين : أحدهما خلق التواريخ عن ذكره ، فإنه لو كان الامر كذلك لكان اللازم بحسب العادة ذكره في التواريخ بان الواضع للغة العرب كان هو شخص كذا كيعرب بن قحطان كما قيل ، وان الواضع للغة الفرس كان شخص كذا وهكذا بقية اللغات ، لان ذلك من الأمور المهمة التي لايمكن الغفلة عنها عادة ، مع أنه لم يرد في تاريخ ان واضع لغة العرب هو شخص كذا وواضع لغة الفرس كان شخص كذا ، وحينئذ فخلو التواريخ عن ذكر هذه القضية دليل عدم استناد وضع الألفاظ إلى أحد من المخلوقين.

وثانيهما من جهة عدم تناهى المعاني والألفاظ حيث إن عدم تناهيها يقتضى بعد استناد وضعها إلى المخلوقين بل امتناعه ، كما هو ظاهر عند من أمعن النظر وانصف.

أقول : وفيه ما لايخفى ، إذ نقول بأنه لو فرض من أول خلقة آدم ( على نبينا وآله وعليه السلام ) إلى زماننا هذا كل طائفة قد وضعوا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني المتداولة بينهم على قدر ابتلائهم بها في اظهار ما في ضمائرهم إلى أن انتهى الامر إلى زماننا الذي قد كثر فيه اللغات وكثرت الألفاظ والمعاني ، فأي محذور عادى أو عقلي يترتب عليه؟ فهل تقول في مثل ذلك بلزوم ضبطه في التواريخ أو تقول بأنه من الممتنع العادي وضع الألفاظ الكثيرة الغير المتناهية لمعان كذلك بمرور الدهور والأزمنة الكثيرة من طوائف كثيرة؟ نعم انما يتم ما ذكر فيما لو كان المدعي وضع شخص واحد أو شخصين في كل لغة وضع الألفاظ المستعملة فيها في معانيها ، ولكنه لم يدعه أحد كذلك حتى يرد عليه المحذور المزبور ، بل وانما المقصود من ذلك انما هو استناد وضع الألفاظ في اللغات إلى الواضعين ولو على نحو التدرج بحسب مرور الدهور والأزمنة بوضع كل طائفة من لدن زمان آدم إلى زماننا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني التي دار عليها ابتلائهم ، كما نشاهد ذلك بالعيان والوجدان من وجود كثير من المعاني والألفاظ المستحدثة في زماننا التي لايكون لها في سالف الزمان عين ولا اثر ، كما في كثير من الجوهريات والآلات ، ومن المعلوم انه لو ادعاه القائل باستناد الوضع إلى المخلوقين لايتوجه عليه شيء من المحذورين.

ثم انه نقول : على قولك ( بان الباري عز اسمه هو الواضع وانه يلهم المستعملين في مقام اظهار ما في ضمائرهم ) بأنه هل تجد من نفسك عند تسميتك ولدك انه أوحى الله تعالى

٢٤

إليك أو نزل إليك جبرئيل ان سمه بكذا أم لا بل أنت تضع له اسما من الأسامي وأنت الجاعل للعلقة والارتباط بجعلك اللفظة اسما له بعد أن لم يكن بينهما علاقة وارتباط؟ لايقال : بأنه كيف ذلك مع أنه لولا قضية المناسبة الذاتية بينهما الحاصلة من تخصيص إلهي يكون تخصيص لفظ خاص من بين الألفاظ للمعنى الملحوظ ترجيحا بلا مرجح ، فإنه يقال : يكفي في الترجيح انسباق اللفظ إلى الذهن من بين الألفاظ عند إرادة الوضع ولو من جهة اقتضاء استعداده للوجود في عالم الذهن ، حيث إنه موجب لتخصيصه بالمعنى الملحوظ من بين الألفاظ ، ففي الحقيقة ما هو الموجب لتخصيص لفظ من بين الألفاظ لمعنى من بين المعاني انما هو قضية تقارنهما للوجود في عالم الذهن ، ومن المعلوم انه في ذلك لايحتاج في تخصيص أحدهما بالآخر إلى جهة مناسبة ذاتية بينهما ، كما لايخفى.

في تعريف الوضع :

ثم انه مما ذكرنا ظهر حال حقيقة الوضع وانه عبارة عن نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا عنه وبالقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط امر في البين ، لا انه من قبيل اختصاص الامارة لذيها كما في النصب الموضوعة في الطريق للدلالة على وجود الفرسخ ، كيف ولازمه ان يكون انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من شؤون الانتقال إلى اللفظ ولازمه كون انتقال الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث كان في الذهن انتقالان عرضيان : انتقال إلى اللفظ وانتقال منه بواسطة الملازمة إلى المعنى نظير الانتقال من الدخان إلى وجود النار ، مع أن ذلك كما ترى مما يحكم بفساده بداهة الوجدان ، ضرورة وضوح انه بالقاء اللفظ لايكاد في الذهن الا انتقال واحد إلى المعنى بلا التفات إلى شخص اللفظ الملقى بنحو كان المعنى بنفسه قد ألقى بلا توسيط لفظ ، كما هو الشأن في الكتابة أيضا فان الناظر فيها بمقتضى الارتكاز لايرى الا نفس المعنى بلا التفاته في هذا النظر إلى حيث نقوش الكتابة تفصيلا ، ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا جهة شدة العلاقة والارتباط بينهما التي أوجبت قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه. ومن جهة هذا الفناء أيضا ترى بأنه قد يسرى إلى المعنى ما للفظ من التعقيد مع أن المعنى لايكون

٢٥

فيه تعقيد وانما التعقيد للفظ ، كما أنه قد يكون بالعكس فيسري إلى اللفظ ما للمعنى من الحسن والقبح ، فيرى اللفظ قبيحا وحسنا مع أن اللفظ لايكون فيه حسن ولا قبح وانما الحسن والقبح للمعنى ، كما هو واضح.

كما أنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا انه ليست تلك العلاقة والارتباط الخاص من سنخ الإضافات الخارجية التي توجب احداث هيئة خارجية كهيئة السريرية الحاصلة من ضم الأخشاب بعضها ببعض على كيفية خاصة وكالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية التي كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا لوجودها ، ولا من سنخ الاعتباريات التي لايكون صقعها الا الذهن كما في النسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية في مثل الانسان والحيوان الناطق ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين ، فكانت سنخها من قبيل الاعتباريات التي كان الخارج موطن منشأ اعتبارها ، كما نظيره في الملكية والزوجية ونحوهما من الاعتباريات مما لايكون الخارج موطن نفسها بل موطن مصحح اعتبارها من الانشاء القولي أو الفعلي ، ولكن مع ذلك لها واقعية بمعنى ان صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وان لا يكن الا الذهن الا انها بنحو ينال العقل خارجيتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضية الحقيقية بأنه لو وجد اللفظ وجد العلاقة والارتباط بينه وبين المعنى نظير الملازمات كالملازمة بين النار والحرارة ، فكما ان صقع هذه الملازمة قبل وجود النار في الخارج لايكون الا الذهن وبوجود النار وتحققها تصير الملازمة تبعا لوجود طرفها خارجية ، كذلك تلك العلاقة والارتباط الخاص بين اللفظ والمعنى ، فان العلقة الحاصلة بينهما بالجعل لما كانت بين الطبيعتين ، يعنى طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى ، فقبل وجود طرفيها خارجا لايكون صقعها الا الذهن ولكن بعد وجود طرفيها تبعا لهما تصير الملازمة بينهما أيضا خارجية فكلما وجد اللفظ في الخارج يتحقق العلقة والارتباط بينه وبين المعنى ، ويكفي في خارجيتها كون الخارج ظرفا لمنشأ انتزاعها.

وبالجملة المقصود من هذا التطويل هو بيان ان هذا النحو من الإضافة والارتباط مما لها واقعية في نفسها وانها لا تكون من سنخ الاعتباريات المحضة التي لايكون صقعها الا الذهن ولا كان الخارج ظرفا لمنشأ اعتبارها ، ولا من سنخ الإضافات الخارجية الموجبة لاحداث هيئة في الخارج ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين فلها واقعية يعتبرها العقل عن منشأ صحيح خارجي ، ولئن أبيت عن تسميتك هذه إضافة وتقول بان

٢٦

المصطلح منها هي الإضافات المغيرة للهيئة في الخارج فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت ، إذ لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.

وكيف كان فبعد ما عرفت ذلك نقول : بأنه لا شبهة في أن مثل هذا النحو من الإضافات النحوية في غاية خفة المؤنة حيث لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة فيكفي في تحققها أدنى ملابسة فتحصل بمجرد الجعل كما في قولك : المال لزيد والغلام لعمرو والجل للفرس ، حيث إنه بنفس تخصيصك المال بزيد والجل بالفرس يتحقق بينهما تلك الإضافة والاختصاص ، بل ربما تتحقق بمجرد نسبة شيء إلى شيء من دون منشأ خارجي لذلك ، كما في اعتبارك غولا ونسبة أنياب إليه ، غايته انه من جهة عدم وجود منشأ صحيح خارجي له لايكون من الاعتباريات الصحيحة القابلة لإضافتها إلى الخارج ، كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر فساد ما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتعهد وانكار استناد العلقة والارتباط التي بين اللفظ والمعنى إلى جعل الجاعل ووضعه ، والعمدة في ذلك انما هو تخيل قصر الإضافة بالإضافات الخارجية والملازمات الواقعية الذاتية ، فإنه من هذه الجهة أنكر استناد العلقة والارتباط المزبور إلى جعل الجاعل ووضعه بل ادعى استحالته وقال : بأنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين الامرين اللذين لا علاقة بينهما بحيث تكون تلك العلقة مجعولا ابتدائيا للجاعل تكوينا بدون جعل طرفيها أو تغيير وضع فيهما. ثم انه بعد انكاره لذلك التزم بالتعهد وقال : بان ما يمكن تعقله ويبنى عليه هو ان يلتزم الواضع ويتعهد تعهدا كليا بأنه من أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تلفظ بلفظ كذا ، لان ما هو الممكن انما هو جعل الارتباط بين إرادة المعنى وإرادة التلفظ بلفظ كذائي لا جعل الارتباط تكوينا بين اللفظ والمعنى ، فإذا التفت المخاطب حينئذ إلى هذا الالتزام والتعهد المزبور الذي مرجعه إلى الاعلام بإرادة المعنى الكذائي عند التكلم بلفظ كذا وعلم به ، فلا جرم ينتقل ذهنه إلى ذلك المعنى عند سماع اللفظ منه ، وحينئذ فكان مرجع الوضع إلى مثل هذا الالتزام والتعهد الكلى وكانت العلقة المزبورة بين اللفظ والمعنى نتيجة لذلك التعهد ، لا انها مجعولة تكوينا ابتداء للواضع بوضعه وجعله. ثم انه من هذا الأساس أيضا أنكر الجعل في الوضعيات والتزم بأنه ليس في البين في ذلك المقام أيضا الا الأحكام التكليفية والإرادات الخاصة وانها انما كانت منتزعة عن الاحكام

٢٧

التكليفية ، فكان مثل الملكية منتزعة عن حكم الشارع بجواز تصرف شخص في عين وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه ورضاه ، والزوجية منتزعة عن حكمه بجواز وطي شخص امرأة وعدم جواز وطيها على غيره بمثل قوله : من عقد على امرأة يجوز له وطيها ولايجوز لغيره ذلك ، حيث كان العقل ينتزع في الأول من حكم الشارع نحو إضافة بين المال وبين الشخص نعبر عنها بالملكية ، وفى الثاني إضافة بين الشخصين يعبر عنها بالزوجية ، وهكذا غيرهما من الوضعيات ، فكان الكل منتزعا عن الأحكام التكليفية بلا كونها مجعولة بوجه أصلا ، هذا.

وتوضيح الفساد يظهر مما قدمناه من وجه الفرق بين نحوي الإضافة وعدم كون العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى من سنخ الإضافات الخارجية بين الامرين الخارجيين من نحو الفوقية والتحتية ونحوهما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها ، بل وانها من سنخ الاعتباريات التي تحققها كان بالجعل كالملكية والزوجية ، على أن ارجاع الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيم ، فإنه بعد أن كان مرجع التعهد المزبور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول بأنه يسأل عنه بان تلك الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو : اما ان تكون إرادة نفسية ، واما ان تكون إرادة غيرية توصلية إلى ابراز المعنى باللفظ نظراً إلى قالبية اللفظ له ، وعلى الأول فاما ان يكون الغرض من تلك الإرادة ايجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة ، واما ان لايكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل وانما الغرض من توجيه الإرادة إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى. فان كان المقصود هو هذا الأخير فلا سبيل إلى دعواه فإنه مع منافاته لما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لا من جهة مطلوبية التلفظ به نفسا ـ مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ، لان لازم البيان المزبور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان : انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير الانتقال من اللازم إلى ملزومه ، مع أن ذلك كما ترى مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز ، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا

٢٨

توسيط لفظ في البين أصلا ، كما لايخفى. وان كان المقصود الأول فله وان كان وجه الا انه يرجع إلى ما ذكرنا من القول بالوضع ، فان القائل بالوضع لا يدعى أزيد من ذلك ، ولقد تقدم ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة ، فيكفي في تحققها مجرد الجعل والإرادة. نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها نظراً إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والتعهد الكلى ، فينا في حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها. واما ان كان المقصود هو الأخير الذي فرضناه من كون الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ إرادة غيرية توصلية لابراز المعنى المقصود باللفظ باعتبار ما للفظ من المبرزية عن المعنى ، فعليه نقول : بان جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد أن لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها ، فلا جرم لابد وأن يكون نشؤها اما من قبل وضع الواضع وجعله أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ أو من قبل إرادة أخرى ، ولا سبيل إلى الأخيرين لان الأول منهما بديهي الاستحالة وكذا الثاني ، فإنه مع أنه لا سبيل إلى دعواه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين يجيء فيها ما ذكرناه من الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية ، فيتعين حينئذ المعنى الأول وهو المطلوب.

لايقال : انما يرد هذا المحذور لو أريد تحقق العلقة والارتباط من قبل الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ في مقام الاستعمال وليس كذلك بل المقصود كونها نتيجة لذلك التعهد الكلى.

فإنه يقال : كلا فان الإرادات الاستعمالية على مسلك هذا القائل عين تلك الإرادة الكلية المسماة عنده بالتعهد الكلي ، وهو تعهده كليا التلفظ بلفظ كذا عند إرادة تفهيم معنى كذا ، إذ حينئذ تكون الإرادات الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ عبارة عن فعلية ذلك التعهد الكلي ، والا فقبل إرادة التفهيم لايكون في البين الا مجرد البناء على إرادة اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه بعد غيرية الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لابد من الالتزام بان جهة مبرزية اللفظ كانت مستندة إلى وضع الواضع وجعله كما هو واضح.

ثم إن من لوازم هذا المسلك انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا

٢٩

ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ، بخلافه على مسلك الوضع فإنه عليه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من قبل الوضع والجعل ، وربما ينتج هذا المعنى في بعض المباحث الآتية كما في مبحث العام والخاص.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا بطلان ما أسسه على هذا الأساس من انكار الجعل في مطلق الوضعيات والتزامه بان مثل الملكية والزوجية انتزاعية صرفة من الأحكام التكليفية ، إذ نقول : بان في مثل قوله : الناس مسلطون على أموالهم ، وقوله : لايجوز التصرف في مال أحد بدون اذن صاحبه ، لايكاد يتم هذا المقالة لان جهة الملكية وإضافة المال إلى الغير حينئذ انما كانت مأخوذة في موضوع هذا الحكم أعني حرمة التصرف ، ولازمه كونه في رتبة سابقة عنه كنفس المال كما هو الشأن في كل موضوع بالقياس إلى حكمه ، وحينئذ نقول : بان مثل هذه الإضافة بعد ما لايمكن نشؤها من قبل هذا الحكم التكليفي المتأخر عنها رتبة فلا بد وأن يكون نشؤها اما من قبل حكم تكليفي آخر في رتبة سابقة عنها واما من قبل الجعل ، والأول بديهي الفساد فإنه ـ مضافا إلى القطع بأنه لا حكم آخر في البين غير هذا الحكم المترتب عليها ـ يلزمه اجتماع الحكمين المتماثلين في نحو قوله : لايجوز التصرف في مال الغير بدون اذن صاحبه ، أحدهما في رتبة سابقة عن الإضافة والآخر في رتبة لا حقة عنها ، وحينئذ فبعد القطع أيضا بعدم نشؤ إضافة الملكية من مجرد جواز تصرف الانسان في شيء ـ بشهادة جواز تصرف كل شخص في المباحات الأصلية يتعين الثاني من كون نشؤها من قبل الجعل.

وكيف كان فبعد ما ظهر بطلان القول بالتعهد نقول : بان العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى في الأوضاع التخصيصية كما يتحقق بالانشاء القولي من قول الواضع ( جعلت هذا اللفظ لمعنى كذا ) كذلك يتحقق أيضا بالانشاء الفعلي وبنفس الاستعمال قاصدا به تحقق العلقة والربط بينهما ، كقولك عند تسميتك ولدك : جئني بولدي محمد قاصدا به حصول العلقة الوضعية بهذا الاستعمال ، كما نظيره في المعاطاة التي هي انشاء فعلى لحصول الملكية لزيد ، وعدم كون مثل هذا الاستعمال من الاستعمال في المعنى الحقيقي أو المجازى غير ضمائر فيما نحن بصدده من تحقق العلقة والربط بمثل هذا الاستعمال. واما ما قد يقال : من امتناع ذلك من جهة استلزامه لمحذور اجتماع اللحاظين

٣٠

في اللفظ : اللحاظ العبوري الآلي تارة ، واللحاظ الاستقلالي إليه أخرى ـ نظراً إلى اقتضاء الوضع لان يكون النظر إليه نظراً استقلاليا ـ فمدفوع بان النظر إلى شخص هذا اللفظ لايكون الا عبوريا إلى طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلاقة والربط بينها وبين المعنى ، وحينئذ فمتعلق اللحاظ الاستقلالي انما كان هو طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلقة بينها وبين المعنى ، ومتعلق اللحاظ الآلي كان هو شخص هذا اللفظ ، ومعه لم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يتوجه عليه محذور الاستحالة المزبورة ، كما هو واضح. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في صحة هذا القسم من الوضع وامكانه.

بل قد يدعى كما عن المحقق الخراساني قدس‌سره لزوم انتهاء الأوضاع التخصصية أيضا إلى مثل هذا النحو من الوضع التخصيصي وانه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في أحد تلك الاستعمالات والا فبدونه لايكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ ، فلذلك أورد على تقسيم المشهور للوضع بالوضع التعيني تارة وبالتعييني أخرى وقال : بأنه لا مجال لهذا التقسيم وان الحري هو حصره بخصوص التعييني بالجعل والانشاء غايته بالأعم من الانشاء القولي والفعلي. ولكن يرد عليه بأنه انما يتوجه هذا الاشكال فيما لو كان سنخ هذا النحو من العلاقة والربط بجميع أفراده جعليا بحيث يحتاج في تحققها إلى توسيط انشاء وجعل في البين ، ولكنه ممنوع بل نقول بأنها كما تتحقق بالانشاء القولي أو الفعلي كذلك تتحقق بواسطة كثرة الاستعمال كما نشاهد بالوجدان والعيان في استعمالنا الألفاظ في المعاني المجازية حيث نرى بأنه بكثرة الاستعمال يحدث مرتبة من العلاقة بينه وبين المعنى الثاني وبهذا المقدار يضعف علاقته عن المعنى الأول بحيث كلما كثرت الاستعمالات تضعف علاقته للمعنى الأول ويشتد في قباله العلاقة بينه وبين المعنى الثاني إلى أن تبلغ بحد يصير المعنى الأول مهجورا بالمرة وتصير العلاقة التامة بينه وبين المعنى الثاني بحيث لو أريد منه المعنى الأول لاحتاج إلى إقامة قرينة في البين ، ومع هذا الوجدان لا مجال لانكار هذا القسم من الوضع ، كما هو واضح. نعم لهذا الاشكال مجال فيما لو أريد تحقق تلك العلقة والارتباط دفعة واحدة لا بنحو التدريج ، ولكنه لم يدع أحد مثل ذلك بل وان كل من يدعى وجود هذا القسم من الوضع يدعى تحققها شيئا فشيئا بنحو التدريج ، ومن المعلوم ان مثل هذا المعنى امر ممكن بل واقع كما ذكرنا.

٣١

في اقسام الوضع

وعلى كل حال يبقى الكلام في اقسام الوضع

فنقول :

انهم قد قسموا الوضع باعتبار عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما على اقسام. ولابد في تنقيح الكلام في هذه الجهة من تمهيد مقامات : الأول في بيان ما يمكن ان يقع عليه التقسيم باعتبار الحصر العقلي ، الثاني في بيان ما يمكن من هذه الأقسام ، الثالث في بيان ما هو الواقع منها ، فنقول :

اما المقام الأول : فلا شبهة في أن للوضع حسب الحصر العقلي أقساما أربعة : عام الوضع والموضوع له ، وخاصهما ، وعام الوضع وخاص الموضوع له ، وعكسه ، من جهة ان المعنى الملحوظ حال الوضع اما ان يكون كليا واما ان يكون جزئيا ، وعلى الأول فاما ان يكون وضع اللفظ لذلك المعنى الكلى الملحوظ واما ان يكون وضعه لمصاديقه المندرجة تحته ، كما أنه على الثاني أيضا تارة يكون وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الجزئي وأخرى يكون وضعه بإزاء معنى كلي يكون متصوره من افراده ومصاديقه ، فباعتبار الأول يكون من عام الوضع والموضوع له ، وباعتبار الثاني يكون من عام الوضع وخاص الموضوع له ، وباعتبار الثالث يكون من خاص الوضع والموضوع له ، وباعتبار الرابع يكون من خاص الوضع وعام الموضوع له ، فهذه اقسام أربعة للوضع حسب اقتضاء الحصر العقلي.

فنقول : اما القسم الأول وهو عام الوضع والموضوع له فيتصور على نحوين : الأول ما هو المعروف المشهور من لحاظ معنى كلي عام ووضع اللفظ بإزائه كما في الانسان والحيوان حيث يلاحظ مفهوم الانسان في ذهنه فيضع لفظ الانسان بإزاء ما تصوره من المعنى الكلام العام. ولايخفى انه على هذا يكون عمومية الوضع وكليته من قبيل كلية الأحكام التكليفية ، من كونه باعتبار كلية متعلقه ، فكما ان كلية الإرادة والحكم كانت باعتبار كليه متعلقه من حيث انحلالها حسب تعدد افراد المتعلق إلى إرادات واحكام جزئية ، كقوله : لا تشرب الخمر ـ والا فنفس هذا الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بهذا العنوان لا تكون الا شخصية وممتنعة الصدق على الكثيرين ـ كذلك أيضا عمومية الوضع وكليته

٣٢

انما كانت باعتبار كلية متعلقه ، لا ان عموميته كانت باعتبار عمومية آلة الملاحظة كما قبل بان معنى عمومية الوضع وخصوصيته انما كانت من جهة عمومية آلة الملاحظة وخصوصيتها ، كيف وانه في الفرض لايحتاج في مقام الوضع إلى توسيط آلة الملاحظة ، فان المفهوم الكلي كمفهوم الانسان أو الحيوان وكذا طبيعة اللفظ بنفسها متصورة في الذهن بلا توسيط آلة ملاحظة في البين ، ومعه لايحتاج في مقام وضع اللفظ بإزائه واحداث العلقة والربط بينهما إلى توسيط شيء نسميه آلة الملاحظة ، كي لأجل عموميتها وكليتها يتصف الوضع بالكلية والعمومية ، كما هو واضح.

الثاني : من قسمي عموم الوضع والموضوع له : هو ان يكون الموضوع له الجهة المشتركة بين الافراد المتصورة في الذهن التي بها تمتاز افراد كل نوع عن افراد نوع آخر بنحو لايكاد تحققه في الذهن الا مع الخصوصية وبالوجود الضمني لا المستقل ، وذلك بان يلاحظ معنى عام ويشار به إلى الجهة المشتركة والجامع المتحد مع الافراد الذهنية التي بها امتياز افراد كل نوع عن آخر فيجعل اللفظ بإزاء تلك الجهة المشتركة بما هي مشتركة وموجودة في الذهن بعين وجود الفرد والخصوصية ، وبعبارة أخرى يكون الموضوع له حينئذ عبارة عما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الافراد المتصورة في الذهن لا المفهوم المنتزع عن ذلك ، فهذا أيضا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له. ولايخفى انه على هذا التصوير يحتاج في مقام الوضع إلى وجود آلة الملاحظة ، لان المعنى الموضوع له بعد أن لم يكن له وجود مستقل في عالم الذهن واللحاظ بل كان وجوده في ضمن وجود الفرد ومتحدا معه نظير الجامع بين الافراد الخارجية من حيث عدم وجود له في الخارج مستقلا وكونه موجودا في ضمن الفرد والخصوصية ، فلا جرم يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط معنى عام يجعله آلة للملاحظة تلك الجهة المحفوظة بين هذه الخصوصية وتلك الخصوصية ، ولكن مورد الوضع ومحله كان مختصا بتلك الجهة المحفوظة في ضمن الافراد فكانت الضمائم والخصوصيات كلها خارجة عن مصب الوضع. وليكن ذلك على ذكر منك ينفعك فيما يأتي عند التعرض لبيان وضع الحروف وأسماء الإشارة.

وحينئذ فكم فرق بين هذا القسم من عام الوضع والموضوع له وبين سابقه الذي هو المعروف لدى المشهور ، فإنه على الأول يكون الموضوع له عبارة عن معنى عام منتزع له وجود مستقل في وعاء الذهن واللحاظ قبال الخصوصيات كمفهوم الانسان والحيوان

٣٣

بخلافه على الثاني فان الموضوع له على ذلك عبارة على الجامع المتحد مع الافراد الذي لايكاد تحققه في الذهن وفى عالم اللحاظ الا في ضمن الفرد والخصوصية ، ومن ذلك دائما يحتاج في مقام الاستعمال ومرحلة التفهيم إلى وجود دالين : أحدهما على نفس الجامع والآخر على الخصوصية ، كما أنه على ذلك يحتاج أيضا إلى توسيط آلة الملاحظة في مقام وضع اللفظ من جهة ما عرفت من عدم امكان لحاظ مثل هذا المعنى مستقلا في الذهن ، كما هو واضح.

بل ولئن تأملت ودققت النظر ترى أيضا الاحتياج إلى توسيط آلة الملاحظة حتى على القسم الأول من عام الوضع والموضوع له ، وذلك فإنه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان : من وضع أسامي الأجناس للمهية المهملة ، لما كان لايمكن لحاظ المهية المهملة مستقلا في الذهن معراة عن خصوصية الاطلاق والتقييد ، لان كل ما يتصوره الانسان لا يخلو من كونه اما طبيعة مقيدة واما طبيعة مطلقة وعارية عن القيد والخصوصية ولا صورة ثالثة في الذهن جامعة بين الواجد للقيد وفاقده بحيث كان لها موجود مستقل في الذهن قبالا للفاقد والواجد نسميها بالمهية المهملة ، فلا جرم في مقام وضع اللفظ لهذه الطبيعة التي هي الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة لابد من توسيط آلة ملاحظة في البين مشيرا بها إلى ما هو الجامع بين الواجد للقيد والخصوصية وفاقده الذي لايكون له وجود في الذهن الا في ضمن الواجد للقيد أو فاقده ، كما هو واضح. نعم بناء على مسلك المشهور من القدماء في وضع أسامي الأجناس : من كونها للطبيعة المطلقة الصادقة على القليل والكثير ، لايحتاج إلى توسيط آلة ملاحظة في البين في مقام الوضع ، من جهة ان نفس المعنى والمفهوم حينئذ مما أمكن لحاظه وتصوره مستقلا بلا توسيط عنوان وآلة ملاحظة في البين. ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين ، بل الموضوع له في أسامي الأجناس ـ كما سنحققه إن شاء الله تعالى ـ عبارة عن الطبيعة المهملة التي هي جامعة بين الطبيعة المقيدة والمطلقة التي هي مقالة المشهور من القدماء ، ومن ذلك نقول بأنه يحتاج في اثبات الاطلاق إلى التشبث بمقدمات الحكمة ، وعليه لا محيص بعد عدم امكان تصور مثل هذا الجامع ولحاظه مستقلا في الذهن من توسيط عنوان يكون آلة للملاحظة الجامع المزبور في مقام الوضع. ولكن على تقدير تكون جهة عمومية آلة الملاحظة غير مرتبطة بعالم عمومية الوضع بل وانما عمومية الوضع وخصوصية من قبيل

٣٤

عمومية الحكم والتكليف وخصوصيته من كونه باعتبار كلية المتعلق وجزئيته ، فتدبر. هذا كله في القسم الأول من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع.

واما القسم الثاني منها : وهو فرض عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، ففيه أيضا يتصور صور ثلاث :

الأولى : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان العام الكلى عبارة عن الافراد المخصوصة والخصوصيات التفصيلية الجزئية ، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الانسان وعنوان الابتداء الكلى مشيرا بهذا العنوان إلى المصاديق الخاصة والصور التفصيلية بخصوصيتها الخاصة من زيد وعمرو وبكر ، كما نظيره في باب التكاليف من قوله : أكرم من في الصحن ، مشيرا به إلى الافراد الخارجية الموجودة في الصحن من زيد وعمرو وبكر.

الثانية : ان يكون المعنى الموضوع له عبارة عن الافراد والصور التفصيلية ولكن بما انها تعم الكلى والشخصي ، كما في لحاظ عنوان الشيء أو الذات مشيرا به في مقام وضع لفظ الانسان مثلا أو غيره إلى ما ينطبق عليه هذا العنوان العام من المصاديق والصور التفصيلية التي منها الانسان والحيوان ومنها زيد وعمرو وبكر ، واضعا للفظ الانسان بإزاء الصور التفصيلية المزبورة ، كما قد يتوهم ان وضع أسماء الإشارة من هذا القبيل وانها موضوعة للصور التفصيلية بما انها تعم الشخصي والكلي ولذلك يقال : هذا الانسان وهذا زيد. والفرق بينه وبين سابقه واضح ، فإنه على الأول يكون الموضوع له دائما معنى جزئيا بخلافه في هذا القسم ، فان الموضوع له عبارة عما يعم الشخصي والكلي ، ولذلك يلزمه عدم صحة استعمال اللفظ على الأول في الكلى وما له القابلية للصدق على الكثيرين وصحة استعماله فيه على الثاني.

الثالثة : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان الكلى عبارة عن معنى اجمالي مبهم كالشبه مثلا بنحو يكون نسبته إلى الصور التفصيلية نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنى الاجمالي عين المعنى التفصيلي ، لا من قبيل نسبة الكلى والفرد ، فيلاحظ الواضع حينئذ بتوسيط العنوان الكلى معنى مبهما ثم في مقام الوضع يضع لفظا بإزاء ذلك المعنى المبهم لكن لا بما هو مبهم محض بل بما انه مشتمل على خصوصية زائدة كخصوصية كونه معروض الخطاب أو الغيبة أو الإشارة أو المعهودية. ولعله من هذا القبيل باب الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كما سيجيء ، إذ يمكن

٣٥

ان يقال : بان الموضوع له فيها عبارة عن معنى فيه ابهام متحد مع ما يماثل مفهوم مرجعها لكنه مع اشتمالها على خصوصية زائدة من الغيبة والحضور كما في الضمائر ، أو الإشارة والمعهودية كما في أسماء الإشارة والموصولات من نحو هذا والذي كما يشهد لذلك التعبير عنها بالفارسية ب‍ ( أو ) و ( أين ) ونحو ذلك ، ومن ذلك جرى التعبير عنها بالمبهمات ، فان ذلك لايكون الا من جهة ان الموضوع له فيها معنى ابهامي ، ولذلك أيضا نحتاج دائما إلى عطف البيان بقولك : هذا الرجل هذا الانسان وهذا زيد. كيف وان دعوى كون وضعها للمراجع الخاصة والصور التفصيلية بعيدة غايته ، لان لازمه انسباق مفهوم الانسان في مثل هذا الانسان مرتين في الذهن : تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ الانسان ، وهو كما ترى! كما أن مثله في العبد دعوى كون هذا موضوعا لنفس الإشارة التي هي معنى حرفي وان هذا تقوم مقام الإشارة باليد إلى الانسان وغيره ، إذ لازم ذلك أيضا هو عدم اجراء احكام الاسم عليها من جعلها مسندا إليه ومسندا ، مع أنه أيضا كما ترى! وذلك بخلافه على المعنى الأول ، فإنه عليه قد حفظ جهة اسمية المعنى فيها فلا يلزم من اجراء احكام الاسم عليها ارتكاب خلاف قواعد ، كما هو واضح. وسيجيء زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى في محله ، فانتظر.

واما القسم الثالث منها : أعني خاص الوضع والموضوع له ففرضه واضح ، كما في الاعلام الشخصية.

واما القسم الرابع منها : أعني خاص الوضع وعام الموضوع له ، فتصويره انما هو بلحاظ عنوان خاص كزيد مثلا جاعلا له عبرة ومرآة لعنوان كلي منطبق عليه وعلى غيره كعنوان الانسان ثم وضع اللفظ بإزاء ذاك العنوان الكلى الفوق أو بلحاظ الانسان المقيد بخصوصية الزيدية جاعلا له مرآة لطبيعة الانسان المنطبق عليه وعلى غيره من الحصص الأخرى. هذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول فيما يمكن ان يقع عليه التقسيم بحسب الحصر العقلي.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه كما عرفت انما هو في بيان ما يمكن من الأقسام الأربعة المزبورة ، فنقول :

اما القسم الأول : فلا اشكال في امكانه بل وقوعه أيضا ، كما في أسامي الأجناس. ومثله في الامكان بل الوقوع أيضا القسم الثالث ، كما في الاعلام الشخصية.

٣٦

واما القسم الثاني : فالظاهر هو امكانه أيضا ضرورة امكان تصور الجزئيات والافراد بتوسيط عنوان كلي عام ينطبق عليها ، إذ معرفة العنوان الكلى العام معرفة للافراد المندرجة تحته ولو بنحو الاجمال ، وبعد كفاية معرفة الموضوع له وتصوره ولو بوجوبه اجمالي لا مجال للاشكال في امكانه. نعم انما يتوجه الاشكال فيما لو احتاج الوضع إلى تصور المعنى الموضوع له بوجه تفصيلي ، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بان شيئا من العناوين التفصيلية كعنوان الانسان والحيوان ونحوهما وكذا العناوين العامة العرضية كعنوان الذات والشيء ونحوهما ـ لايمكن ان يكون مرآة إلى الافراد الخاصة والعناوين التفصيلية ، لان غاية ما يحكى عنه تلك العناوين انما هي الجهة المشتركة بين الافراد التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن افراد نوع آخر ، واما حكايتها عن الافراد بما لها من الخصوصيات التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع فلا ، بل هو من المستحيل ، من جهة ان الفرد والخصوصية مبائن مفهوما مع مفهوم العام والكلي ، والمبائن لايمكن ان يكون وجها للمبائن. ولكنه بعد كفاية لحاظ الموضوع له ولو بوجوبه اجمالي لا مجال لهذا الاشكال ، ضرورة امكان تصور الافراد والجزئيات الخاصة بنحو الاجمال بتوسيط عنوان اجمالي مشيرا به إلى الافراد الخاصة في مقام الوضع المعبر عنها بها ينطبق عليه مفهوم الانسان أو مفهوم الذات أو الشئ. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في امكان هذا القسم أيضا.

واما القسم الرابع : أعني فرض خاص الوضع وعام الموضوع له ، فقد يقال بامكانه أيضا وانه كما يمكن جعل عنوان عام كلي وجها للافراد والخصوصيات المندرجة تحته كذلك يمكن العكس بجعل الفرد وجها للكلي المنطبق عليه وعلى غيره. ولكن التحقيق هو عدم امكانه واستحالته ، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصية كعنوان زيد مثلا واضح ، ضرورة ان الفرد والخصوصية يباين مفهوما مع مفهوم العام والكلي ومعه لايمكن جعله وجها وعنوانا له. واما لو كان آلة اللحاظ هو الكلي المقيد كالانسان المتقيد بالخصوصية الزيدية أو العمروية ولو بنحو دخول التقييد وخروج القيد فكذلك أيضا ، فإنه مع حفظ جهة التقيد بالخصوصية فيه يباين لا محالة مفهوما مع الانسان المطلق الجامع بين هذه الحصة وغيرها ، ومع الغاء جهة التقيد وتجريده عن الخصوصية ولحاظه بما انه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عام الوضع والموضوع له ، فتدبر.

٣٧

واما المقام الثالث فنقول : انه بعد ما ظهر في المقام الثاني امكان الأقسام الثلاثة أعني ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين وما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، يبقى الكلام في بيان ما هو الواقع منها فنقول : اما ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين فلا اشكال في وقوعه ، كما في الاعلام الشخصية وأسامي الأجناس. وانما الكلام فيما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، حيث إنه قيل بوقوع هذا القسم أيضا وان وضع الحروف وما شابهها من الهيئات والافعال والأسامي المتضمنة للمعنى الحرفي من هذا القبيل ، لما يرى من عدم كون الاستعمال فيها الا في معان جزئية. وتنقيح المرام في هذا المقام يحتاج إلى شرح حقيقة المعاني الحرفية وما ضاهاها ثم بيان انها كلية أو جزئية.

في شرح المعاني الحرفية

فهنا جهات من الكلام :

الأولى في المعاني الحرفية وفيها مقامان : الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، الثاني في بيان انه كلي أم جزئي فنقول :

اما المقام الأول فاعلم أن المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الأربعة بل الخمسة كما سنذكرها :

أحدها ما ينسب إلى الرضى في شرح الكافية وجماعة أخرى بان الحروف مما لا معنى لها أصلا ، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف معنى الغير كالرفع الذي هو علامة للفاعلية ، وانه كما أن الرفع في زيد في مثل جائني زيد لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف ، فلفظ في مثلا في مثل زيد في الدار لايكون له معنى أصلا وانما هي علامة لتعرف معنى الدار وانها معنى أيني من حيث كونها مكان زيد قبال كونها معنى عينيا ومن الأعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في في قولك زيد في الدار ، مما لا معنى لها أصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من حيث كونها مكان زيد ومعنى أينيا وقد جئ بكلمة في لتعرف حال الدار وخصوصية معناها ، وهكذا لفظ من وعلى ونحوهما من الحروف ، وحينئذ فلايكون للحروف معنى

٣٨

أصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت ألفاظ غيرها.

ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى أن للحروف معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية ، وهكذا تعريفهم الاخر لها بان الحرف هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه ، فان من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف معنى ، غير أن معناه كان قائما بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو واضح. كيف وان مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من أسامي الأجناس وهي حسب وضعها لاتدل الاعلى المهية المهملة وذات المعنى بما هي عارية عن الاطلاق والتقييد ولذا تحتاج في مقام اثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقي العاري عن الخصوصيات إلى مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو المعنى الاطلاقي. وحينئذ نقول بأنه على فرض ان تكون تلك الخصوصية تحت لفظ الغير ومرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من البصرة في معنى الخاص فيلزمه المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد والخصوصية ، وهو كما ترى! فلا محيص حينئذ الا من الالتزام بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلى أعني الطبيعة المهملة وكونه من باب اطلاق الكلى على الفرد وإرادة الخصوصية بدال اخر كما في قوله جاء رجل من أقصى المدينة وعليه ونقول : بأنه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير والبصرة فلابد وأن يكون تحت دال اخر وهو في المقام لايكون إلا لفظ في في زيد في الدار ولفظ من في سر من البصرة هذا. على أن ما أفيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب والجر من التسلم بأنها مما لا معنى لها وانها ومجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في جائني زيد فاعلا في التركيب غير وجيه أيضا ، إذ نقول فيها أيضا بان الرفع وكذا النصب والجر انما هي من مقولات الهيئة الكلامية ، وحينئذ فبعد ان كان للهيئة وضع للدلالة على النسب الكلامية كما سنحققه إن شاء الله تعالى فلا جرم كان للأعراب أيضا معنى ، حيث كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك من أنحاء النسب وخصوصياتها ، من غير أن تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ

٣٩

الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجيء ، لما عرفت من أن لفظ زيد لا يدل بحسب وضعه الا على ذات زيد بما هي عارية عن خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو حالا في الكلام ، فيحتاج حينئذ في إفادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى أن يكون بدال آخر وهذا الدال لايكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في قولك : ضربت زيدا. وحينئذ فما أفيد من التسلم على عدم المعنى للأعراب وانها علامة محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا أو حالا في التركيب الكلامي مشبها للحروف بها أيضا في ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو واضح.

وحينئذ فبعد أن ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه بعد أن كان للحروف معان في نفسها فهل هي من سنخ المعاني الآلية؟ أو انها من سنخ الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين؟ حيث إن فيه وجوها وأقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها : بأنها مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة بالمفهومية المعبر عنها : تارة بأنها ما دل على معنى في غيره ، وأخرى بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية ، قبالا للاسم الذي عرفوه : بأنه ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية. ففي الحقيقة منشأ هذا النزاع انما هو في وجه عدم استقلال المعنى الحرفي وكيفية احتياجه وقيامه بالغير ، وانه من قبيل قيام المرآة بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتي ، أو من قبيل قيام الاعراض الخارجية بمعروضاتها ، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال المعنى الحرفي باعتبار نفس ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الأول ، والا ففي أصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.

وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة :

أحدها : ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخرساني قدس‌سره وبعض آخر من كون معاني الحروف معاني آلية ، وان الفرق بينها وبين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي والاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الأسمى ، فإذا لو حظ المعنى في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لو حظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنى اسميا فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر ، وانما

٤٠