نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-272-7
الصفحات: ٥٩٦

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

في مقام الاخبار ولكن الداعي على الاستعمال المزبور هو إفادة ملزومه الذي هو العبث والطلب ، أو لا هذا ولا ذاك؟ بل كان استعمالها في معناها الحقيقي الاخباري وكان الغرض والداعي من الاستعمال أيضا هو الاعلام والاخبار دون الطلب والبعث والارسال كما هو قضية الوجه الثاني ، ولكن اعلامه بتحقق الفعل من المكلف انما كان بلحاظ تحقق مقتضيه وعلته وهو الإرادة والطلب كما هو الشأن في غير المقام من موارد الاخبار بوجود المقتضي ( بالفتح ) عند تحقق مقتضيه ، ومنها باب اخبار علماء النجوم بمجيء المطرو برودة الهواء أو حرارته فيما بعد حسب ما عندهم من الامارات الخاصة من نحو تقابل الكوكبين وتقارنهما الذي يرونه سببا لتلك الانقلابات. ففي المقام أيضا نقول : بان المولى لما كان مريدا للفعل من المكلف والمأمور وكان طلبه وارادته للفعل علة لصدوره من المكلف ولو بمعونة حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال ، فلا جرم فيما يرى طلبه متحققا يرى كأنه وجود المقتضي ( بالفتح ) وهو العمل في الخارج ، فمن هذه الجهة يخبر بوقوعه من المكلف بمثل قوله : تعيد الصلاة وتغتسل. فهذه وجوه ثلاثة :

لكن أضعفها أولها من جهة بعد انسلاخها عن معناها الاخباري واستعمالها في الطلب والنسبة الارسالية بل وعدم مساعدته أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في استعمالاتنا الجمل الاخبارية في مقام الطلب والبعث والارسال ، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بعد بطلان الوجه الأول بين الوجهين الأخيرين.

وعند ذلك نقول : انه وان كان لكل منهما وجه وجيه ولكن الأوجه هو الوجه الأخير بملاحظة أقر بيته إلى الاعتبار والوجدان وشيوعه أيضا عند العرف والعقلاء من ترتيبهم الآثار على الأشياء التي منها الاخبار بوقوعها بمحض العلم بوجود عللها ومقتضياتها ، كما كان من ذلك أيضا اخبار أهل النجوم بتحقق أمورات فيما بعد لعلمهم بتحقق عللها ، كما هو واضح. وعلى هذا البيان أيضا ربما كان دلالتها على الوجوب آكد من الصيغة نظراً إلى اقتضاء الاخبار بوجود الشيء وتحققه وجوبه أيضا ، بلحاظ ان الشيء ما لم يجب لم يوجد. فمن هذه الجهة كان الوجوب هو المناسب مع الاخبار دون الاستحباب فإنه لم يكن بتلك المثابة من المناسبة مع الاخبار ، وهذا بخلافه في الصيغة فإنها ليست بتلك المثابة من الآكدية في الوجوب من جهة ملائمتها مع الاستحباب أيضا.

نعم ربما يورد على هذا الوجه بعدم مصححية مجرد وجود الإرادة وتحققها للاخبار

١٨١

بوجود الفعل من المأمور والمكلف ، وذلك بتقريب ان الإرادة الواقعية لا تكون مما لها الدخل ولو بنحو الاقتضاء لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال كي بهذه العناية كانت مصححة للاخبار بوجود العمل والمقتضي وتحققه من المكلف ، بل وانما تمام العلة لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال انما هو علم المأمور بالإرادة حيث إنه بمحض علمه بإرادة المولى يتبعه حكم العقل بالإطاعة ولو لم يكن في الواقع إرادة للمولى أصلا بان فرض تخلف علمه عن الواقع وكونه جهلا مركبا ، وبدون علمه بإرادة المولى لايكاد حكم عقله بالإطاعة بوجه أصلا ولو فرض ان إرادة المولى كانت متحققة في الواقع ونفس الامر. وعلى هذا فإذا كان تمام العلة لحكم العقل بالإطاعة هو الإرادة بوجودها العلمي لا الواقعي يتوجه عليه : بأنه حين الاخبار حيثما لايكون للمكلف علم بالإرادة كما هو المفروض فأين المصحح لاخباره بعد فرض عدم مدخلية للإرادة الواقعية ولو بنحو الاقتضاء في حكم العقل بالإطاعة؟ هكذا أورد عليه الأستاذ.

ولكن نقول : بان إرادة الفعل من المكلف واقعا لما كانت سببا لاعلام المكلف والمأمور به ، وكان الاعلام سببا لحكم عقله بالإطاعة ، وحكم عقله بالإطاعة سببا لتحقق العمل منه في الخارج ، فقهرا بهذه السلسلة الطولية تكون الإرادة سببا ومقتضيا لوجود العمل وتحققه ، ومعه نقول بأنه يكفي هذا المقدار من الدخل في مصححية الاخبار ، كما هو واضح.

وعلى كل حال ففي المقام وجه رابع لاستفادة الطلب من الجمل الخبرية ولعله أوجه من الوجوه المتقدمة ، وهو ان يقال : بان استفادة الطلب من مثل هذه الجمل الواردة في مقام بيان الحكم الشرعي انما هو من جهة كونه من لوازم قضية الجد بايقاع النسبة التي هي مدلول الجمل ، وذلك أيضا بمقتضى التلازم الثابت بين الايقاع الخارجي والإرادة ، بتقريب : انه كما أن اخراج المبدء من كمون الفاعل خارجا وايقاع النسبة بينه وبين الفاعل في الخارج ملازم مع إرادة الوجود ولايمكن انفكاكه عنها كذلك هذه النسبة الايقاعية الذهنية ، فإذا كان المتكلم في مقام الجد بهذا الايقاع فقضية جده بذلك تقتضي ملازمته مع إرادة الوجود من المكلف ، فعليه فكان ما هو المستعمل فيه في تلك الجمل هو النسبة الايقاعية التي تستعمل فيها في مقام الاخبار الا انه لم يقصد بايقاع تلك النسبة الايقاعية في مقام استعمال الجملة الحكاية عن الواقع الثابت كما في سائر الجمل

١٨٢

الاخبارية ، نعم لازمه هو عدم انفكاك قضية الجد بايقاع النسبة أيضا عن قصد الانشاء بعد عدم قصد الحكاية بها عن واقع ثابت ، كما لايخفى. ولقد مر منا توضيح هذه الجهة في مبحث الحروف عند الفرق بين الجمل الاخبارية والانشائية فراجع.

الجهة الرابعة

هل اطلاق الصيغة يقتضي التوصلية بمعنى كفاية مجرد وجود الواجب كيفما اتفق في سقوط الغرض الداعي على الامر به؟ أم يقتضى التعبدية بمعنى عدم كفاية مجرد وجوده في سقوط الغرض الداعي على الامر به الا إذا اتى عن داع قربى؟ وعلى فرض عدم اقتضائه لشيء من الامرين فهل الأصل العملي يقتضي التعبدية بمعنى عدم سقوط الامر به الا باتيانه عن داع قربى أم لا؟ فهنا مقامان :

المقام الأول : فيما يقتضيه الاطلاقات والأصول اللفظية ، وتوضيح المرام في هذا المقام يقتضي رسم أمور :

الأول : فنقول : انه قد ظهر من عنوان البحث معنى الواجب التعبدي والتوصلي وان الواجب التعبدي هو الذي لايكاد حصول الغرض الداعي على الامر به الا باتيانه على وجه قربى ، والواجب التوصلي بخلافه وهو الذي يحصل الغرض الداعي على الامر به بمجرد وجوده وتحققه كيفما اتفق ولولا يكون الاتيان به عن داع قربى بل ولو كان حصوله من غير إرادة المكلف واختياره ، كما في مثل غسل الثوب من الخبث حيث إنه بمحض تحققه يحصل الغرض الداعي على الامر به ويسقط الامر به أيضا ولو كان ذلك بمثل اطارة الريح إياه في الماء. نعم في مقام ترتب المثوبة ولو في التوصليات لابد من إتيان العمل عن داعي أمره سبحانه ، بلحاظ ان المثوبة انما كان ترتبها على عنوان الإطاعة وهذا العنوان مما لايكاد تحققه الا إذا كان الاتيان بالواجب بداعي أمر المولى ، لكن مجرد ذلك لايقتضي تعبديته ، حيث إن المدار في التعبدية والتوصلية على امر آخر قد ذكرناه.

ثم إن ما ذكرناه من التعريف للتعبدي والتوصلي هو أجود التعاريف وأحسنها ، لا ما قيل في تعريفهما : بان الواجب التعبدي هو ما لايعلم انحصار المصلحة فيه في شيء والتوصلي بخلافه ، وذلك لما يرد على هذا التعريف بما يرى كثيرا من التوصليات التي

١٨٣

لايعلم انحصار الغرض والمصلحة فيها في شيء ، على أن التعبدي بهذا المعنى غير مجد فيما هو المهم في مثل المقام ، حيث إن المهم والمقصود من التعبدي في المقام هو الذي لايحصل الغرض الداعي على الامر به ولايسقط امره الا باتيانه على وجه قربى ، ويقابله التوصلي الذي يحصل الغرض ويسقط الامر بمجرد وجوده كيفما اتفق ، كما هو واضح.

الامر الثاني : لايخفى عليك ان المهم في المقام على ما ستعرف من امكان اخذ القربة قيدا للمأمور به أو عدم امكانه انما هو مجرد اثبات امكان التمسك بالاطلاقات ، لا فعلية التمسك به كي يستلزم ذلك تسليم ورود الاطلاقات في مقام البيان فينافي ذلك مع ما ذكرناه سابقا في مسألة الصحيح والأعم من نفى الثمرة بين القولين من جهة عدم صحة التمسك بالاطلاقات نظراً إلى المنع عن ورود تلك المطلقات في مقام البيان بل في مقام أصل تشريع المركب ، ففي الحقيقة الجهة المبحوث عنها في المقام من صحة التمسك بالمطلقات انما كانت مبنية بفرض ثبوت ورود المطلقات في مقام البيان ، فتدبر.

الامر الثالث : وهو العمدة في الباب ان عبادية الشيء وما به قوام كون الشيء عبادة عبارة عن كون الشيء من وظائف العبودية ومما يتقرب به إلى المولى ، ومرجعه إلى كون الشيء بنحو يظهر العبد والمأمور به خضوعه وعبوديته لمولاه. وحينئذ نقول : بان مثل هذا المعنى تارة يكون جعليا وأخرى ذاتيا ، ومن قبيل الأول الأمور الموضوعة ابزارا للعبودية ومنها بعض الحركات المجعولة عند العقلاء لان تكون آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية كالركوع والسجود وتقبيل اليد والرجل وكرفع القلنسوة من الرأس عند بعض الطوائف ورفع اليد إلى الاذن عند طائفة أخرى والقيام بنحو الاستقامة وتحريك اليد عند طائفة ثالثة ، وهكذا غير ذلك من الأمور المجعولة عند العرف والعقلاء آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية ، ومن المعلوم انه يكفي في عبادية مثل هذه الأمور وكونها آلات للعبودية مجرد اتيانها بقصد كونها خضوعا وتعظيما ، أو قصد عنوان آخر بجعل ذلك العنوان تعظيما وخضوعا ، نظير الصلاة مثلا ، حيث إنه بمجرد اتيانها بقصد الخضوع والتعظيم يعد كونها تعظيما ، كما في القيام للغير بقصد التعظيم ، أو السجود له بقصد التذلل والخضوع ، كما أنه يكفي أيضا في مقربية مثل هذه الأمور مجرد اتيانها للمولى وتخصيصها له بلام الصلة بجعل خضوعه له دون غيره ، من دون احتياج في مقربيتها إلى توجه الامر بها ولا إلى اتيانها بداعي أمرها وجعل الله سبحانه غاية عمله ، من جهة ان فيها حينئذ اقتضاء المقربية

١٨٤

بنفس اتيانها لمولاه من دون اعتبار قصد كونها بداعي امره ، كما هو واضح. نعم يحتاج في مقربية هذه الأمور فعلا ان لايكون مخلا بغرض المولى من جهة أخرى ومبغوضا فعليا للمولى والا فلايكاد يصلح مثلها للمقربية بوجه أصلا وان لم تخرج بعد أيضا من جهة عباديتها ، إذ كان مثل هذه الأمور يجتمع حيث عباديتها مع مبغوضيتها عند المولى ، ومن ذلك أيضا نقول بامكان حرمة العبادة ذاتا من غير أن تكون جهة حرمتها ومبغوضيتها منافية مع عباديتها وان كانت مانعة عن مقربيتها باعتبار انه لابد في مقربيتها ان لا تكون مبغوضة للمولى. نعم كما عرفت لايحتاج جهة مقربيتها إلى توجه الامر بها من المولى ، من جهة ان مقربية مثل هذه الأعمال كانت مستندة إلى اقتضاء ذاتها بحيث لولا منع المولى ونهيه عن ايجادها لكانت من جهة كونها خضوعا للمولى مقربة للعبد وان لم يأمر المولى باتيانها ، كما هو واضح.

ثم إن في قبال هذه الوظائف الجعلية للعبودية وظائف أخرى ذاتية غير جعلية وهي مطلق ما امر به بداعي امره فان كون مثل هذه الأعمال من وظائف العبودية انما هو ذاتي لا جعلي كما في القسم الأول وكان مقربيتها أيضا ذاتية غير قابلة للمبعدية ولا المبغوضية بوجه أصلا ، لأنه من المستحيل حينئذ توجه النهى إلى مثل هذا العنوان الذي اخذ في حقيقته تعلق الامر بذاته وحينئذ فلايمكن انفكاك عباديتها عن جهة مقربيتها. بخلاف الوظائف الجعلية ، فان انفكاك جهة المقربية عن جهة العبادية فيها بمكان من الامكان ، ولذلك قلنا بامكان الالتزام بحرمة العبادة ذاتا كما في صلاة الحائض بلا احتياج إلى ارجاع النهى الوارد فيها إلى حيث التشريع.

ثم انه من الجهات الفارقة بين هاتين الوظيفتين هو انه في الوظائف الجعلية يكفي في مقربيتها مجرد اتيانها لله بلام الصلة ، واما في الوظائف الغير الجعلية فلايكفي هذا المقدار في مقربيتها بل لابد في مقربيتها من اتيانها بداعي أمرها وجعل الله سبحانه غاية عمله الراجع إلى كون عمله راجحا ومحبوبا عند المولى ، وحينئذ فكم فرق بين هذين النحوين من القرب! من حيث كفاية مجرد الاتيان بالعمل بلام الصلة للمولى في أحدهما وعدم كفايته في الآخر ولزوم الاتيان به بداعي امره.

ومن الجهات الفارقة أيضا بينهما انه على الأول يختص بخصوص بعض الأعمال المجعولة آلات للخضوع وللعبودية ولا يجري في جميع الأعمال ، بخلافه على الثاني ، فإنه عليه

١٨٥

لا اختصاص له بعمل دون عمل بل يجري في جميع الأعمال التي أمر المولى بها ، فكل عمل أو فعل أمر المولى به إذا اتى به بداعي أمره كان مقربا ولو كان من الافعال العادية من نحو الأكل والشرب وغيرها ويحكم العقل أيضا باستحقاق المثوبة عليه كما هو واضح.

ومن الجهات الفارقة بين الخضوعين أيضا تصحيح باب النيابة في العبادات بمثل الخضوعات الجعلية نظراً إلى كونها قابلة للنيابة والتسبيب فإنه حينئذ بنفس نسبتها إلى الغير يقع الخضوع لذلك الغير لا له ويكون الغير هو المتقرب بهذا العمل كما هو المشاهد بالوجدان في الخضوعات الجعلية العرفية من تقبيل اليد ونحوه فيما إذا أمر الغير بتقبيل يد زيد عن قبله أو بخضوعه عنه بنحو آخر ، فإنه لا شبهة حينئذ في أنه إذا خضع المأمور لزيد أو قبل يده عن قبل الآمر يقع خضوعه ذلك لذلك الغير الذي امره به لا لنفسه وكان ذلك الغير أيضا هو المتقرب بعمله ، بل ربما لايحتاج إلى الامر أيضا فيتقرب بعمل غيره عنه بمحض رضائه بذلك وان لم يكن بتسبيب منه كما لو خضع أحد لزيد وقبل يده عن قبل الغير فإنه بمحض رضاء ذلك الغير بهذا الخضوع عن قبله يقع ذلك خضوعا له لا للفاعل فكان الفاعل بمنزلة الآلة لايجاد ما هو خضوع الغير من دون استناد لهذا الخضوع إلى شخص الفاعل بوجه أصلا.

وحينئذ نقول : بأنه إذا كان ذلك حال الخضوعات العرفية ، فليكن كذلك في العبادات أيضا ، فكان النائب إذا اتى بما هو آلة الخضوع ولو بجعل الشارع كالصلاة والصوم والحج والزيارة والطواف بالبيت لوجهه سبحانه عن بقل الغير يقع هذه الخضوعات حقيقة لذلك الغير وكان هو المتقرب بعمل النائب لكن مع تسبيبه إياه في ايجاد تلك الخضوعات عن قبله ولا أقل من رضائه بذلك ، ففي الحقيقة مقربية هذه الخضوعات للغير منوطة بأمرين : أحدهما خضوع الغير لله سبحانه عن قبله ، وثانيهما رضاء ذلك الغير وطيب خاطرة به بحيث لو كان مكرها فيه لما كان العمل عبادة له ولما كان متقربا به ، فإذا تحقق الأمران المزبوران يقع القرب لا محالة لذلك الغير ، وعليه فلا يرد اشكال في باب النيابة في العبادات. وهذا بخلافه في العبادة بداعي الامر إذ عليه كان امر تصحيح النيابة في العبادات في غاية الاشكال نظراً إلى استحالة صدور مثل هذا المعنى عن النائب ، إذ الامر المتعلق بالعبادة على الفرض انما هو متوجه إلى المنوب عنه دون النائب ، ومعه كيف يمكن صدورها عن النائب بداعي

١٨٦

أمرها؟ وهل يصلح الامر للداعوية بالنسبة إلى غير من يتوجه إليه؟.

لايقال : هذا كذلك لولا دليل التنزيل والا فبملاحظة دليل التنزيل لا اشكال في البين لأنه بتنزيل نفسه منزلة المنوب عنه يتوجه امره إليه من جهة صيرورته هو إياه بهذا لاعتبار ، وحينئذ فيأتي بالعبادة بدعوة هذا الامر المتوجه إليه ويكون عمله مقربا للمنوب عنه.

فإنه يقال : كلا ، وان مجرد التنزيل لايوجب توجه امره إليه حقيقة وان نزل نفسه منزلته الف مرة بل وانما غايته هو توجه مماثل الامر المتوجه إلى المنوب عنه إليه ، وفي مثل ذلك نقول : بان اتيانه بداعي هذا الامر لا محالة لو اثر لكان مؤثرا في مقربية نفس النائب دون المنوب عنه ، لأنه في الحقيقة يكون هو المكلف بالعبادة ، وفي مثله يستحيل مقربية عمله للمنوب عنه حقيقة ، كما هو واضح. وتنقيح المرام بأزيد من ذلك موكول إلى محله ، والمقصود في المقام انما هو بيان الجهات الفارقة بين نحوي العبادة من الخضوعات الجعلية والخضوعات الغير الجعلية والإشارة إلى امكان تصحيح النيابة في العبادة في الأمور المجعولة لان تكون آلات للخضوع دونه في الخضوعات الغير الجعلية وهي العبادة بداعي الامر.

ثم هنا شيء ، وهو ان العبادات الشرعية يحتاج في كفاية مجرد الاتيان بها لله بلام الصلة لا الغاية إلى احراز كونها من قبيل القسم الأول ، والا فمع الشك فيها في أنها من قبيل القسم الأول الذي فيه اقتضاء المقربية بنفس اتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمره أو من قبيل القسم الثاني الذي قوام عباديته بتعلق الامر بذاته ، يشكل جواز الاكتفاء بها باتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمر مولاه ، نعم غاية ما هناك حينئذ في احراز كونها من قبيل الأول انما هو التشبث بمثل أدلة النيابة في موارد ثبوت مشروعيتها في أبواب العبادات وذلك بالكشف منها بنحو الان عن كونها من الوظائف المجعولة ولو بجعل الشارع آلات الخضوع والعبودية ، فتأمل.

ثم إن هنا جهات أخر من القرب أيضا ، وهو الاتيان بالعمل بداعي حسنه ورجحانه الذاتي الذي هو ملاك الامر به ، فان الظاهر كما سيأتي في مبحث الضد هو كفاية مجرد الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها الذاتي ومحبوبيتها في تحقق القرب المعتبر في صحتها بلا احتياج إلى الامر الفعلي بها.

١٨٧

وبعد ما عرفت ذلك نقول : انه لا اشكال في جواز اخذ القرب بغير معنى دعوة الامر في المأمور به وهو القرب بمعنى الاتيان بما هو آلة الخضوع لله سبحانه بلام الصلة أو القرب بمعنى الاتيان بالعمل بداعي ملاكه ورجحانه الذاتي ، إذ لا بأس بأمر الشارع بالصلاة القربية الناشئ قربها من جهة دعوة الملاك أو الحسن أو من جهة اتيانها لوجهه الاعلى. وانما الكلام والاشكال في امكان اخذ القرب الناشئ عن دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية. ومن التعرض في جواز اخذ مثل القرب الناشي عن داعي الامر في المأمور به وعدم جوازه يظهر أيضا حال اخذ الجامع بين هذا القرب والقرب الناشي عن اتيان العمل لوجهه الاعلى أو القرب الناشي من دعوة الملاك والمصلحة ، من حيث جواز اخذه بنحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به وفي متعلق الامر ، لأنه إذا لايجوز اخذ القرب الناشئ من دعوة الامر في المأمور به لايجوز اخذ جامع القرب الناشي من دعوة الامر ومن دعوة الرجحان والمصلحة ، كما هو واضح.

وبعد ذلك نقول : بان التحقيق كما عليه أهله هو عدم جواز اخذ القرب الناشي من دعوة الامر في المأمور به بنحو الشرطية أو الشطرية وامتناعه. ووجه الامتناع ظاهر ، لان القرب الناشئ من دعوة هذا الامر انما هو معلول شخص هذا الامر ومترتب عليه ، ولازمه هو كونه في رتبة متأخرة عن الامر ، بحيث يصح ان يقال في شخص هذا اللحاظ ويحكم عليه : بأنه عقيب الامر ومترتب عليه ترتب المعلول على علته ، وحينئذ فمع كونه مرئيا في هذا اللحاظ عقيب الامر وفي رتبة متأخرة عنه فكيف يمكن ان يؤخذ مثله في موضوع هذا الامر في هذا اللحاظ وفي رتبة متقدمة عليه؟ وهل هو الا من المستحيل؟.

ولا مجال أيضا لتنظير المقام بمثل معلوم الخمرية أو البولية المأخوذة جهة المعلومية أيضا جزء للموضوع مع معلومية تأخر العلم عن الذات نحو تأخر الحكم عن موضوعه فيقال بأنه حيث يجوز ذلك بلا اشكال يجوز أيضا في المقام بلا كلام. وذلك لما هو المعلوم من وضوح الفرق بين البابين ، من جهة ان اخذ العلم جزء للموضوع انما هو بلحاظ امر آخر وهو حكم وجوب الاجتناب أو حرمة الارتكاب ، وأين ذلك والمقام المفروض فيه اخذ الدعوة الناشئة عن قبل الامر في موضوع شخص هذا الامر! فان ذلك هو الذي قلنا بامتناعه واستحالته.

واما ما يتوهم من امكان تصحيح ذلك بنحو اخذ الطبيعي في متعلقة القابل

١٨٨

للانطباق عليه خارجا من تقريب انه يمكن للمولى ان يتصور مثلا الصلاة المقيدة بطبيعة الدعوة كما أنه يمكن له أيضا ان يأمر بما تصوره من الصلاة المقيدة بطبيعة الامر ، وحينئذ فإذا أمر بما هو متصورة يتحقق مصداق الامر خارجا فينطبق عليه الطبيعي المزبور لأنه من افراده ومصاديقه ، وحينئذ فلا يرد محذور في البين لا من طرف المأمور ولا من طرف الآمر ، اما عدم محذور فيه من طرف المأمور فواضح من جهة تمكنه حينئذ بعد الامر من الاتيان بالمأمور بداعي شخص الامر المتعلق به ، واما من طرف الآمر فكذلك لما ذكرنا من امكان لحاظه الصلاة المتقيدة بطبيعة القرب والدعوة وامكان الامر أيضا بما تصوره من الموضوع المقيد ، واما شبهة محذور كون الشيء في رتبتين فيدفعه أيضا اختلاف الظرفين والوجودين ، فان ما هو معلول الامر ومترتب عليه انما هي الدعوة بحسب الوجود الخارجي وما هو مأخوذ في متعلق الامر وفي رتبة سابقة بنحو الجزئية أو القيدية انما هي الدعوة بوجودها ذهنا ولحاظا ، وحينئذ فمع اختلاف الوجودين يرتفع المحذور المزبور أيضا.

فمدفوع بما عرفت فان الدعوة الناشئة عن شخص هذا الامر بعد أن كانت مرئية بحقيقتها في هذا اللحاظ في رتبة متأخرة عن شخص هذا الامر المتعلق بالمقيد ، فلا جرم يرى كونها في هذا اللحاظ خارجة عن دائرة الطبيعي المزبور المأخوذ في رتبة سابقة عن الامر المزبور ، ومع خروجها عن دائرة الطبيعي في هذا اللحاظ يستحيل شمول الطبيعي لهذا المصداق وانطباقه عليه خارجا ، إذ ذلك حينئذ بمنزلة ما لو قيد الامر وحدد دائرة الطبيعي بحد خاص غير شامل لمثل هذا الفرد الناشي عن الامر به ، كما في قوله : يجب الصلاة المتقيدة بدعوة طبيعة الامر غير الدعوة الناشئة عن شخص هذا الوجوب ، فكما انه بالتحديد المزبور تضيق دائرة الطبيعي بحد لا يعقل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا كذلك أيضا بتحديد العقل إياه ولو من جهة اقتضاء اختلاف الرتبة المزبورة ، فان قضية ذلك أيضا توجب ضيقا قهريا في دائرة الطبيعي المزبور على وجه يستحيل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا. ولعل عمدة المنشأ لتوهم الجواز في المقام انما هو بلحاظ مقايسة المقام بباب الاغراض والغايات الداعية على الأعمال من حيث كونها متقدمة على الإرادة لحاظا وتصورا ومترتبة عليها خارجا ، ولكن الغفلة عن وضوح الفرق بين المقامين ، فإنه في باب الاغراض والغايات انما يكون ترتبها على موضوع الإرادة لا على نفسها ، كما هو الحال بالنسبة إلى المقدمة وذيها من حيث ترتبه على المقدمة خارجا وترشح الإرادة من

١٨٩

تعلقها به إلى المقدمة. وهذا بخلاف المقام المفروض فيه ترتب الدعوة ولو بحسب هذا اللحاظ على شخص الامر ، وهذا هو الذي قلنا باستحالة اخذ مثله قيدا في موضوع شخص الامر المزبور بلحاظ اقتضاء الامر بالمقيد لان يكون الامر بحقيقته قائما بالمقيد بنحو يكون المقيد بقيده في رتبة سابقة عن الامر المزبور ، فإنه في مثله يستحيل شمول القيد المزبور ولو بلحاظه بنحو الطبيعي لمثل هذا الفرد الناشي عن قبل الامر المزبور ، كما هو واضح. وعلى ذلك نقول : بأنه إذا لم يشمل الطبيعي المزبور لمثل هذا الفرد يتوجه عليه محذور عدم قدرة المأمور على الامتثال نظراً إلى أنه لا امر آخر في البين كي يتمكن المأمور من الاتيان بالمأمور به بدعوة الامر ، واما شخص دعوة هذا الامر المتعلق به فهو على الفرض غير قابل لانطباق الطبيعي المزبور عليه. وعليه فلا محيص بناء على اخذ الدعوة في المأمور به في تصحيحه من الالتزام بأمرين طوليين : يكون أحدهما متعلقا بذات المأمور به والآخر في طول الامر الأول باتيانه بداعي أمره ، والا ففي فرض وحدة الامر يستحيل اخذ دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية ، كما هو واضح.

نعم لو اغمض عما ذكرناه من الاشكال لا يرد عليه محذور لزوم داعوية الامر إلى شخص نفسه ، كما قيل ، بتقريب : ان المأمور به بعد أن كان عبارة عن الذات المتقيدة بدعوة الامر فلا محالة الامر المتعلق بهذا المقيد كما يدعوا إلى ذات المقيد وهي الصلاة مثلا كذلك يدعوا إلى قيد ها الذي هي دعوة شخص نفسه ومعه يلزم داعوية الامر إلى دعوة شخصه وهو كما ترى من المستحيل. إذ نقول : بأنه يمكن دفع هذا المحذور من جهة انحلال الامر إلى أمرين وتقطيعه في الذهن بقطعة فقطعة : متعلقة إحديهما بذات المقيد والأخرى بقيد الدعوة ، حيث نقول حينئذ : بان الامر الضمني المتعلق بالدعوة انما يكون داعيا إلى دعوة تلك القطعة الأخرى من الامر الضمني المتعلق بذات المقيد لا إلى دعوة شخص نفسه حتى يتوجه المحذور المزبور. نعم انما يرد هذا الاشكال بناء على عدم انحلال الامر بالمقيد إلى أمرين ضمنيين والا فبناء على انحلاله ذهنا يكون حاله حال الامرين المستقلين ، فكما انه لا يرد هذا المحذور في صورة الالتزام بتعدد الامر فأمكن تعلق أحد الامرين بذات المقيد والآخر بقيد الدعوة الراجع إلى داعويته لاتيان المقيد عن دعوة الامر المتعلق به بلا كلام ، كذلك بناء على الانحلال ، لان لام انحلال الامر بالمقيد انما هو تعلق أمر ضمني بذات المقيد وتعلق امر ضمني آخر إلى قيد الدعوة كما في صورة استقلال الامرين ، فكان

١٩٠

الامر المتعلق بالدعوة داعيا إلى ايجاد ذات المقيد عن داعي الامر الضمني المتعلق به ، ومعه لا يلزم محذور داعوية الامر إلى دعوة شخصه ، كما هو واضح.

وحينئذ فإذا لم تكن الدعوة المأخوذة قيدا أو جزء كذات المقيد تعبدية محتاجة إلى قصد الامتثال بل كانت توصلية صرفة فباتيان ذات الصلاة عن دعوة الامر الضمني المتعلق بها يتحقق المقيد والمأمور به أيضا ، فيرتفع به محذور عدم تمكن المكلف من الامتثال أيضا كما ادعى من عدم قدرة المكلف على الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بداعي الامر لان المقدور منه انما هو الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها إذ نقول : بان مثل هذا المحذور انما يرد إذا كان القيد وهو الدعوة كذات المقيد تعبديا محتاجا في سقوط الامر عنه إلى قصد الامتثال ، والا فبناء على كونه توصليا فلا جرم يكفي نحققه كيفما اتفق ، وفي مثله نقول : بان الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بمكان من المقدورية للمكلف بلحاظ ان الآتي بذات المقيد بداعي أمرها كان آتيا بالدعوة أيضا نظراً إلى توصليتها وتحققها بنفس الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها. نعم غاية ما يلزم حينئذ انما هو كون الامر المتعلق بالمقيد ببعض منه تعبديا وببعضه الآخر توصليا ولكن نقول : بأنه لا ضير في الالتزام بمثله ، فتأمل. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من عدم امكان أخذ دعوة الامر قيدا في موضوع هذا الامر.

ثم إن ما ذكرناه من الاشكال جار في الإرادة أيضا حرفا بحرف ، ففي لب الإرادة أيضا لايمكن اخذ دعوة الإرادة في موضوعها بنحو القيدية أو الجزئية ، كما هو الحال بالنسبة إلى مرحلة الرجحان والمصلحة أيضا حرفا بحرف.

ثم لايخفى عليك انه على ما ذكرنا من عدم امكان اخذ الدعوة قيدا في المأمور به لا يلزم منه تعلق الامر والإرادة بنفس ذات العمل مطلقا ولو منفردة عن الدعوة كما توهم بخيال انه إذا لم يكن المأمور به هو المقيد فلا جرم يكون هو الذات المطلقة ولازمه هو سقوط الامر بالاتيان بنفس ذات العمل الا انه في صورة انفرادها عن الدعوة لما كان الغرض بعد على حاله يحدث امر آخر متعلقا بالعمل وهكذا إلى أن يؤتى بداعي امره فيحصل الغرض ويسقط الامر ، إذ نقول : بأنه بعد فرض عدم قيام الغرض والمصلحة في العبادات بنفس الذات ولو مجردة عن الدعوة ، بل قيامه بالذات مع الدعوة ، فلا جرم في مثله يستحيل أوسعية دائرة الإرادة والامر عن دائرة قيام الغرض والمصلحة ، بل في مثله

١٩١

بمقتضي تبعية الإرادة لقيام المصلحة يتضيق دائرة الإرادة والامر أيضا حسب تضيق دائرة الغرض والمصلحة بنحو لايكاد تعلقها الا بالذات التوئمة مع الدعوة ، وعلى ذلك فموضوع الإرادة والامر وان لم يكن مقيدا بالدعوة ولكنه لايكون مطلقا أيضا بل هو انما يكون عبارة عن حصة من ذات العمل تكون توأما وملازمة مع الدعوة ، ومنشأ هذا الضيق كما عرفت انما هو من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة وعدم سعته للشمول لحال خلو المتعلق عن الدعوة ، حيث إنه لأجل تضيق دائرة الغرض يقع ضيق أيضا في ناحية الإرادة والامر بنحو يقصر عن الشمول لحال خلو الذات عن الدعوة من دون ان يكون ذلك الضيق منشأ لتقيد الموضوع ، كما هو واضح. وحينئذ فاذن لايكون موضوع الامر والإرادة مطلقا ، فلا جرم باتيان ذات العمل مجردة عن الدعوة لايسقط أيضا أمره ، إذ سقوطه حينئذ انما هو باتيان العمل مقرونا بالدعوة فما دام عدم الاتيان به كذلك كان الامر والإرادة على حاله ، لا انه يسقط هذا الامر ومن جهة بقاء الغرض يحدث امر جديد ، كما هو واضح.

نعم هنا تقريب آخر لعدم اطلاق دائرة المأمور به ، ولكنه يختص بخصوص الامر ولا يتأتى بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الرجحان والمحبوبية ، وبيان ذلك انما هو بدعوى ان الغرض من الامر المولوي والبعث الذي هو ابراز للإرادة حيثما كان هو داعوية امره ومحركيته للمكلف نحو المطلوب بنحو يكون المحرك له على الاتيان هو دعوة امره دون غيرها من الدواعي فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة هذا الغرض يتضيق دائرة معلوله الذي هو الامر أيضا فلايكون له سعة اطلاق أزيد من دائرة الغرض ، ولازمه قصوره عن الشمول للعمل المأتى عن غير دعوة الامر ، وحينئذ فمع قصور الامر قهرا يصير موضوعه أيضا عبارة عن الحصة المقرونة بالدعوة ، فلايكون مطلقا ولا مقيدا بالدعوة أيضا.

بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك في التوصليات أيضا ، حيث إنه بالتقريب المزبور نثبت عدم انفكاك الامر فيها أيضا عن الدعوة كما في العبادات ونقول بعدم انطباق عنوان الواجب والمأمور به على العمل المأتي به عن غير دعوة الامر ، ولذا لايستحق المثوبة على الاتيان به عن مثل دعوة الشهوة ونحوها ولايكاد يصدق عليه عنوان الإطاعة ، ومجرد حصول الغرض الأصلي وسقوط الامر بمجرد تحقق العمل في الخارج كيفما اتفق ولو في فرض وجوده باختيار الناشي عن دعوة شهوته لايقتضي تعلق امره بوجود المطلق و

١٩٢

لذا يسقط الامر ويحصل الغرض ولو في فرض وجوده لا باختيار المكلف ، كما هو واضح.

نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى لب الإرادة وكذا مباديها من الشوق والمحبة ، ووجهه ظاهر من جهة ان الإرادة وكذا مباديها امر قهري ناش عن قيام الغرض والمصلحة في المتعلق ، فإذا كان الغرض والصلاح قائما بمطلق وجود العمل ولو فرض وجوده لا باختيار المكلف وباختياره الناشي عن دعوة شهوته يتبعه الإرادة أيضا قهرا كما في الواجبات التوصلية ، فان الغرض والصلاح فيها لما كان قائما بمطلق وجود المتعلق كانت الإرادة أيضا بتبعه قائمة بمطلق وجوده. وهذا بخلاف الامر فإنه لما كان فعلا اختياريا لايكون تابعا للغرض القائم بالمتعلق كالإرادة ومباديها ، بل تبعيته انما كانت للغرض المترتب على نفسه وهو الداعوية والمحركية ، ومن هذه الجهة قلنا باستلزامه في مطلق الواجبات حتى التوصليات ، لتضيق دائرة المأمور به بالحصة المقرونة مع الداعي ولولا مقيدا بها ، كما عرفت.

وحينئذ فتمام الفرق بين العباديات والتوصليات بعد اشتراكهما في كون المأمور به بالامر الفعلي هو الحصة الملازمة لداعوية الامر انما هو بالنسبة إلى مرحلة لب الإرادة ومباديها ، فان ما هو الوافي بالمصلحة في العبادات لما كان هو الحصة المقرونة مع الداعي لا مطلقا كانت الإرادة وكذا مباديها أيضا غير متعدية عن تلك الحصة الوافية لا مطلقها ، بخلاف التوصليات فان الوافي بالمصلحة فيها كان مطلق وجود العمل فمن هذه الجهة كانت الإرادة وكذا مباديها حسب تبعيتها للمصلحة أيضا متعلقة بمطلق وجوده ، لكن بالنسبة إلى مقام فعلية الإرادة ومرحلة الامر كانت العبادات والتوصليات مشتركين في عدم تعلق الامر الا بالحصة الملازمة لداعوية الامر حسب ما بيناه من أن غرض الآمر من الامر انما هو التوصل بأمره إلى وجود مرامه واقتضاء هذا الغرض قهرا التضيق في دائرة متعلق الامر وتخصيصه بالحصة الناشئة عن قبل داعوية امره لا مطلقا ولو الناشي عن شهوته ، من جهة عدم كون ذلك مقصودا للامر في مقام امره ، فتدبر.

فكيف كان فهذا كله بناء على وحدة الامر وشخصيته ، ولقد عرفت في مثله لزوم تجريد متعلق الأوامر كلية عن عنوان نشوه عن داعي الامر شخصيا أم طبيعيا ، من جهة امتناع اخذ ما هو ناش عن قبل الامر في متعلقه بنحو القيدية أو الجزئية.

واما بناء على تعدد الامر والإرادة فلا مانع من أخذ عنوان الدعوة شطرا أو شرطا في

١٩٣

المأمور به بأن يكون أحد الامرين متعلقا بذات العمل والامر الآخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي أمرها ، حيث إنه لا يرد عليه حينئذ ما ذكرناه من الاشكال في صورة وحدة الامر ، فإذا يرى المولى بان الحصة من الذات الملازمة مع داعي الامر فيها الغرض والمصلحة ، يترشح نحوها الإرادة قهرا من قبله ، ثم بعد ما يرى أن لداعويته أيضا دخلا في الغرض يترشح إرادة أخرى في طول الإرادة الأولى نحو هذا الداعي ، بل مثل هذا المعنى مما لا محيص عن الالتزام به في فرض البناء على كون الدعوة قيدا حيث إنه لايمكن تصحيحه الا بالتزام بتعدد الإرادة في مقام اللب.

نعم هنا اشكال آخر بالنسبة إلى مقام الامر من جهة لغوية الامر الثاني ، ببيان ان الامر الأول اما ان يسقط بمجرد الاتيان بذات العبادة ولو مع عدم قصد امتثاله كما هو قضية الامر الثاني من فرض توصليته واما ان لايسقط بمجرد الموافقة والآتيان بذات العبادة بدون قصد امتثاله ، وعلى التقديرين لا مجال لا عمال المولوية في الامر الثاني ، وذلك اما على الأول فواضح من جهة انه بعد سقوط الامر الأول لايبقى مجال لموافقة الامر الثاني نظراً إلى عدم امكان الاتيان بالدعوة حينئذ مستقلا لكونها من الكيفيات القائمة بنفس العمل وحينئذ فيلزم من تعلق الامر بها لغوية الامر المزبور ، واما على الثاني فكذلك أيضا وذلك لان عدم سقوط امره حينئذ ليس الا من جهة عدم حصول غرضه الداعي على الامر به ، والا ففي ظرف سقوط غرضه يستحيل بقاء امره وعدم سقوطه. وحينئذ نقول : بأنه إذا كان الوجه في عدم سقوط الامر الأول هو عدم سقوط غرضه فلا جرم في مثله يستقل العقل في مقام حكمه بلزوم تحصيل الفراغ بلزوم الاتيان به عن قصد الامتثال بنحو يحصل معه غرضه ، ومع فرض استقلال العقل بذلك في مقام حكمه بالفراغ لا حاجة للمولى إلى وسيلة تعدد الامر في الوصلة إلى تحصيل غرضه باعمال جهات المولوية في امره ، لان الامر المولوي انما يتعلق بشيء لايكون في البين داع عقلي على تحصيله والا فمع وجود داع عقلي في البين لايبقى مجال لأعمال المولوية ، كما هو واضح.

أقول : ولايخفى عليك ما في هذا الاشكال ، إذ نقول ، بأنه لو تم هذا الاشكال فإنما هو على مبنى مرجعية قاعدة الاشتغال في نحو هذه القيود عند الشك في اعتبارها ، والا فبناء على مبنى البراءة كما هو التحقيق على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى فلا موقع لهذا الاشكال ، وذلك لأنه في فرض استقلال العقل بمرجعية البراءة عند الشك لا محيص للمولى

١٩٤

من بيان مدخلية قصد الامتثال في غرضه على فرض دخله فيه واقعا ، وبيانه انما هو بأمره به مستقلا لكي لا يذهب المكلف ويستريح في بيته وينام متكلا على حكم عقله بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان ، والا فمع عدم أمره بذلك لكان قد أخل بما هو مرامه وغرضه ، ومن المعلوم بداهة ان كمال المجال حينئذ لأعمال المولوية بأمره ، إذ لا نعني من الامر المولوي الا ما كان رافعا لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لقلب عدم البيان بالبيان ، كما هو الشأن أيضا في الامر الأول المتعلق بذات العبادة ، فكما ان الامر الأول امر مولوي ورافع لموضوع حكم العقل بالبرائة بلا كلام ، كذلك الامر الثاني المتعلق بقصد الامتثال فهو أيضا امر مولوي قد أعمل فيه جهة المولوية لرفع موضوع حكم العقل بالبرائة.

نعم بناء على مبنى مرجعية الاشتغال عند الشك في اعتبار هذه القيود ربما يتوجه الاشكال المزبور ، إذ يمكن أن يقال حينئذ بأنه بعد حكم العقل واستقلاله بالاشتغال لا يلزم على المولى بيان دخل قصد الامتثال في تحقق غرضه ، من جهة إمكان اتكاله حينئذ على قضية حكم العقل بالاشتغال ، ومعه لا يلزم من عدم بيانه اخلال منه بغرضه كي يجب عليه البيان ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور على هذا المسلك أيضا ، إذ نقول حينئذ : بأنه على هذا البيان وان لم يجب على المولى الامر المولوي بداعي الامر ، من جهة جواز اتكاله على حكم العقل بالاشتغال ، الا انه لو أمر بها حينئذ لا يلزم منه اللغوية ، كيف وان للمولى حينئذ بيان كل ما له الدخل في تحقق غرضه بالامر به ، ويكفي في فائدته ارتفاع موضوع حكم العقل بالاشتغال ، من جهة ان حكم العقل بالاشتغال كحكمه بالبرائة انما هو في ظرف الشك بالواقع وبعد بيان المولى ما له المدخلية في تحقق غرضه واقعا يرتفع موضوع حكم عقله بالاشتغال كارتفاع موضوع حكمه بالبرائة. نعم لو انحصر فائدة الامر المولوي باحداث الداعي للمكلف نحو المطلوب لأمكن دعوى لغوية امره مولويا مع حكم العقل الجزمي بالاحتياط ولكنه ليس كذلك ، بل نقول : بان من الفوائد أيضا اعلام المكلف بما له المدخلية في حصول غرضه واقعا لكي يرتفع به موضوع حكم عقله بالاحتياط كما هو واضح. وحينئذ فعلى كل حال يكون الامر المتعلق بداعي الامر أمرا مولويا لا ارشاديا. نعم انما يتوجه هذا المحذور في مورد علم من الخارج بعبادية المأمور به ، فإنه في هذا الفرض يصير أمره الثاني لغوا محضا ، ولكن الشأن كله في حصول هذا العلم من الخارج خصوصا

١٩٥

في الصدر الأول وغفلتهم عن دخل مثل دعوة الامر في عبادية الشيء ، فإنه في مثله يكون طريق العلم بدخل داعي الامر هو أمر الشارع دون غيره ، كما هو واضح ، فعلى هذا فلا بأس بدعوى تقيد المأمور به بداعي الامر بالالتزام بأمرين طوليين : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي الامر المتعلق بها ، كما هو واضح.

ثم إن لنا تقريبا آخر لتصحيح امكان تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر ولو مع وحدة الانشاء والامر ، لا مع تعددهما كي يرد عليه اشكال الكفاية أخيرا : بأنه من المقطوع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد ، وبيانه انما هو بدعوى انه في مقام الامر يكون ما هو المنشأ بهذا الانشاء الشخصي في قوله : صل أو يجب الصلاة ، عبارة عن طبيعة الوجوب والطلب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول بعنوان داعي الامر ، كما نظيره في مثل قوله عليه‌السلام ( إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ) فان من المعلوم بداهة ان المستعمل فيه في قوله ( وجب ) ليس هو شخص الوجوب والطلب بل وانما هو عبارة عن طبيعة الوجوب الساري في ضمن فردين من الوجوب متعلقين بموضوعين طوليين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والاخر الوجوب الغيري المقدمي المتعلق بالطهور.

ونظيره أيضا في مسألة حجية الاخبار مع الواسطة ، حيث نقول فيها أيضا : بان الأثر الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب التصديق انما هو عبارة عن طبيعة الأثر بنحو قابل للسريان في ضمن أفراد متعددة طولية لا انه عبارة عن شخص الأثر ، كيف وانه على هذا المعنى يبقى الاشكال المعروف في شمول دليل الحجية للاخبار مع الواسطة على حاله إلى أبد الدهر إذ يقال حينئذ في تقريب ذلك الاشكال : بان شمول الحجية لمثل خبر زرارة الذي ينقل عن محمد بن مسلم عن الصفار عن الإمام عليه‌السلام انما يكون في ظرف يكون مؤداه الذي هو خبر ابن مسلم ذا اثر شرعي ، لان معنى حجيته انما هو عبارة عن وجوب ترتيب اثر المؤدى ، وصيرورة مؤداه ذا اثر شرعي انما تكون في فرض شمول دليل التعبد لخبر ابن مسلم ، والا فمع عدم شمول دليل التعبد بالأثر لخبر ابن مسلم لايصير مؤدى خبر زرارة ذا اثر شرعي. وعليه فإذا كان الأثر المفروض عبارة عن نفس وجوب التصديق مثلا وكان ذلك وجوبا واحدا شخصيا يتوجه الاشكال : بأنه كيف يمكن شمول دليل وجوب التصديق لمثل خبر زرارة الذي منشأ صيرورته ذا اثر شرعي من قبل

١٩٦

شمول هذا الوجوب لخبر ابن مسلم؟ ومن المعلوم حينئذ انه لا يجدي في دفع الاشكال حينئذ مجرد اعتبار الموضوع بنحو القضية الطبيعية ، إذ نقول : بأنه بعد ما كان مثل هذا الفرد من الموضوع مترتبا على هذا الأثر وفي رتبة متأخرة عنه فقهرا في هذا اللحاظ يرى ضيق في دائرة الطبيعي المزبور بحد موجب لخروج هذا الفرد عنها بنحو يستحيل انطباقه عليه ، ومن ذلك تريهم ملجئين في التفصي عن هذا الاشكال بمصيرهم إلى دعوى تنقيح المناط. وهذا بخلافه على ما ذكرنا من أخذ الأثر عبارة عن طبيعة الأثر وطبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن افراد متعددة ، إذ عليه لا محالة ينحل ذلك بحسب تعدد الموضوعات إلى آثار متعددة ووجوبات عديدة متعلقة بموضوعات متعددة طولية بعضها في رتبة متأخرة عن شمول الأثر لموضوع آخر ، حيث إنه من شمول الأثر لموضوع يتولد موضوع آخر لاثر آخر وهكذا ، وعليه يرتفع أصل الاشكال المزبور من رأسه.

وعلى ذلك نقول : بأنه بعد أن كان مناط الاشكال في المقام بعينه هو مناط الاشكال في ذلك المقام ، فبعين ذلك التقريب أيضا نجيب في المقام ونقول : بأنه بعد امكان تعدد الإرادة بحسب اللب ففي مقام الامر أيضا يمكن ان نجعل ما هو المنشأ بالانشاء طبيعة الطلب والوجوب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : متعلق أحدهما بنفس ذات العبادة والآخر في طول الأول باتيانها بداعي أمرها. واما توهم عدم تحمل انشاء واحد شخصي إلا لوجوب واحد شخصي فيدفعه مثل قوله عليه‌السلام : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، وقوله عليه‌السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، من جهة وضوح ان ما هو المنشأ في قوله وجب الطهور والصلاة ليس هو شخص الوجوب بل هو طبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن فردين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والآخر الوجوب الغيري المتعلق بالطهور. وحينئذ فبعد ما أمكن ان يكون المنشأ هو طبيعة الوجوب بنحو قابل للانحلال إلى وجوبين ، كما في قوله : وجب الطهور والصلاة فلا جرم يترتب عليه ارتفاع المحذور المزبور وصحة تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر في امر واحد وانشاء فارد. وعليه أيضا يسلم عما أورده المحقق الخراساني قدس‌سره في كفايته من دعوى القطع بأنه لايكون في العبادات الا امر واحد ، إذ ذلك انما يرد بناء ، على القول بالاحتياج إلى تعدد الامر في الخارج ، والا فبناء على ما ذكرنا من التعدد بحسب الانحلال فلا يرد هذا المحذور ، إذ ما في الخارج حينئذ لايكون الا انشاء

١٩٧

واحدا وامرا واحدا ، فتدبر.

وكيف كان فبعد ان ظهر لك امكان اخذ القربة قيدا في المأمور به بالبيان الذي ذكرناه ، فلنرجع إلى أصل المسألة من أن ظواهر الأوامر هل تقتضي تعين التعبدية أو التوصلية أم لاتقتضي شيئا منهما وانه على الأخير فمقتضى الأصول العملية أي شيء منهما.

فنقول : بعد البناء على امكان تقيد المأمور به ولو بالقرب الناشي عن دعوة امره فضلا عن التقيد بمطلق القرب كما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه اما بالالتزام بتعدد الامر والطلب خارجا أو بتعدده انحلالا ، ففي فرض كون الخطاب مسوفا في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال لا مانع من التمسك باطلاق الخطاب والامر ولو من جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات توصلية الواجب واستكشاف قيام المصلحة والغرض بذات العمل المجرد عن حيث دعوة الامر. وحينئذ فإذا ورد خطاب من الشارع تعلق بعنوان مثل عنوان الخمس أو الجماعة في الصلاة وشك في توصليته أو تعبديته فيؤخذ باطلاق الخطاب في فرض كونه في مقام البيان ويثبت به اطلاق متعلق الإرادة وقيام المصلحة بوجوده بقول مطلق ولو مع خلوه عن نشو كونه عن داعي الامر والإرادة والا لكان الواجب على المولى إقامة البيان على التقيد.

نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى عنوان المأمور به بما هو كذلك نظراً إلى ما تقدم منا من عدم اطلاق فيه حتى في التوصليات يشمل غير صورة داعوية الامر إذ عليه نقطع بعدم اطلاق دائرة المأمور به حتى في التوصليات وتخصيصه بالذات المقرونة بداعي الامر ، كما هو واضح. ومن ذلك نقول أيضا : بان التمسك باطلاق الامر واطلاق الخطاب في الجهة الأولى انما هو باعتبار جهة كشف الخطاب عن الإرادة ، والا فباعتبار نفسه وجهة عليته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانتزاع عناوين الوجوب واللزوم لايكاد يكون له اطلاق كي يمكن التمسك به ، كما هو واضح ، ولكن الذي يسهل الخطب هو كفاية اطلاق الامر من الجهة الأولى أي جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات التوصلية وكشف قيام المصلحة والغرض بمطلق وجود المتعلق لعدم استلزام تضيق دائرة المأمور به وعدم شموله لغير صورة داعوية الامر لتضيق دائرة المراد والمصلحة كما في التوصليات حيث كان دائرة المصلحة ودائرة المصلحة ودائرة المراد فيها أوسع من دائرة المأمور به ، وحينئذ فلا باس بالتمسك باطلاق الخطاب من تلك الجهة لا ثبات التوصلية من دون احتياج إلى قضية

١٩٨

الاطلاق المقامي كي يحتاج إلى كلفة اثبات كون القيد من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، وان كان ذلك أيضا تاما في نفسه من جهة امكان اثبات كون مثل الدعوة مما يغفل عنها عامة الناس ، كما هو الشأن أيضا في مثل قصد الوجه والتميز ، إذ مجرد ارتكازية داعوية الامر ومحركيته للاتيان بالمأمور به لايقتضي ارتكازية دخلها في مقام المصلحة ومرحلة لب الإرادة حتى لا يلزم من عدم بيانه اخلال بغرضه كما هو واضح.

ثم إن ذلك كله بناء على ما اخترناه من امكان اخذ داعي الامر والإرادة قيدا في المأمور به بالالتزام بتعدد لب الإرادة ، واما بناء على القول بعدم امكانه واستحالته ولو من جهة عدم تصور الطبيعي الساري في الامر لتوهم عدم تكفل الانشاء الشخصي الا لأمر واحد شخصي ، فقد يقال حينئذ بعدم اقتضاء اطلاق الخطابات ولو بموادها شيئا لأنه فرع امكان التقيد ، فمع امتناعه كما هو المفروض لا مجال للتشبث بها لا ثبات التوصلية كما هو واضح. لكن فيه ان مجرد عدم التمكن من اخذه قيدا في المأمور به لايمنع عن اطلاقه حتى في فرض تمكنه من الاتيان بأمر مستقل متصل بالكلام ، كيف وان للمولى حينئذ بيان مثل هذه القيود التي لها الدخل في تحقق غرضه ومرامه خصوصا على مبني مرجعية البراءة العقلية في مثلها إذ في مثله يجب على المولى لو فرض دخل القرب في تحقق غرضه واقعا بيانه ولولا بنحو التقيد بل بأمر آخر متصل بالكلام ، والا لتحقق الاخلال منه بغرضه. وحينئذ فإذا لم يكن إشكال في جهة كون الخطابات في مقام البيان لا بأس بالتمسك باطلاقها لكشف قيام الغرض والمصلحة بمطلق وجود المتعلق ولو لم يكن نشوه عن داع قربى من جهة ما تقدم من تمكن المولى حينئذ من بيان ماله الدخل في غرضه ومرامه حينئذ ولو بأمر آخر بالقيد المزبور متصلا بكلامه. واما توهم لغوية الامر الثاني حينئذ ، فمدفوع بما تقدم بأنه كذلك في فرض العلم بعبادية المأمور به من الخارج لا مع الغفلة والشك في عباديته ودخل مثله في تحقق غرضه ومرامه ، مع أنه لو اغمض عن ذلك يكفينا حينئذ الاطلاقات المقامية بناء على كون مثل تلك القيود من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، إذ يستكشف بها أيضا عن عدم دخل داعي القرب في ما هو مرامه وغرضه ، نعم العمدة على ذلك حينئذ هو اثبات هذه الجهة وأن هذا القيد من القيود المغفول عنها عند عامه الناس ، والا فبعد الفراغ عن اثبات هذه الجهة لا اشكال في اقتضاء اطلاق المقام لعدم دخله في تحقق غرضه ومرامه ، فتدبر. هذا كله في المقام الأول.

١٩٩

واما المقام الثاني : فالكلام فيه انما هو فيما اقتضته الأصول العملية من البراءة أو الاحتياط فنقول :

اما العقلية منها فقد يقال كما في الكفاية بالاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، نظراً إلى رجوع الشك في المقام إلى الشك في الخروج عن عهدة امتثال الامر المتعلق بذات العمل ، فإنه بعد احتمال عبادية المأمور به فلا محالة يشك في مدخلية قصد امتثال أمره في حصول الغرض وسقوط الامر المتعلق به ومعه يشك في الخروج عن العهدة بمجرد الاتيان بذات العمل الغير المقرون بقصد امتثال امره ، وحينئذ فلا بد بحكم العقل الجزمي باقتضاء الاشتغال اليقيني بالشيء للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط وتحصيل الجزم بالفراغ ، ولايكون ذلك الا باتيان العمل عن قصد امتثال امره ، دون البراءة لأنها انما تكون في مورد كان الشك في أصل التكليف لا في سقوطه فارغا عن أصل ثبوته وتنجزه على المكلف ، والمقام انما كان من قبيل الثاني حيث كان الشك في سقوط التكليف المتعلق بالعمل والخروج عن عهدة امتثاله باتيانه بدون قصد امتثال امره ، وفي مثله كان المرجع هو الاشتغال دون البراءة كما هو واضح.

أقول : ولايخفى عليك ان هذا الاشكال بعينه هو الاشكال المعروف في الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث إنه أو رد هذا الاشكال بعينه هناك على القائل بالبرائة وانحلال العلم الاجمالي بتقريب : ان العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وان انحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في الأكثر وكان الأكثر من تلك الجهة تحت البراءة الا ان لازم اليقين بوجوب الأقل بحكم العقل هو الخروج عن عهدته بتحصيل الجزم بالفراغ عنه وتحصيل هذا الجزم بعد احتمال وجوب الأكثر مع فرض ارتباطية الواجب لايكون الا بالاتيان بالأكثر من جهة انه معه الاقتصار بالأقل حينئذ لايعلم بالخروج عن عهدته نظراً إلى احتمال وجوب الأكثر في الواقع وحينئذ فلابد من الاحتياط باتيان الأكثر مقدمة لتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة التكليف الثابت المعلوم تعلقه بالأقل ، وعلى ذلك فكان هذا الاشكال مشترك الورود بين المقام وبين تلك المسألة ولا خصيصة له بالمقام حتى يقال باقتضاء الأصل في المقام الاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين فلو بنينا حينئذ بان هم العقل بالنسبة إلى ما تم عليه البيان هو الجزم بسقوط التكليف والامر عنه فلابد من الاحتياط في المقامين ، كما أنه لو بنينا

٢٠٠