نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ١ و ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 964-470-272-7
الصفحات: ٥٩٦

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

الوجوب عند خلو المورد عن القرينة على الاستحباب والرخصة في الترك حتى أنه لو ورد في رواية واحدة أوامر متعددة بعدة أشياء كقوله : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، ونحوه ، فقامت القرينة المنفصلة على إرادة الاستحباب في الجميع إلا واحدا منها تريهم يأخذون بالوجوب فيما لو تقم عليه قرينة على الاستحباب ، بل وتريهم كذلك أيضا في أمر واحد كقوله : إمسح ناصيتك ، حيث إنهم أخذوا بالوجوب بالنسبة إلى أصل المسح وحملوه على الاستحباب بالنسبة إلى الناصية مع أنه امر واحد ، وهكذا غير ذلك من الموارد التي يطلع عليها الفقيه ، ومن المعلوم أنه لايكون الوجه في ذلك الا حيث ظهور الامر في نفسه في الوجوب عند اطلاقه ، وحينئذ فلا اشكال في أصل هذا الظهور.

نعم انما الكلام والاشكال في منشأ هذا الظهور وانه هل هو الوضع أو هو غلبة الاطلاق أو هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة؟

فنقول : اما توهم كون المنشأ فيه هو الوضع فقد عرفت فساده وأنه يكون حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الإلزامي وغيره بشهادة صحة التقسيم وصحة الاطلاق على الطلب الغير الإلزامي. واما ما استدل به من الآيات والأخبار الكثيرة لاثبات الوضع للوجوب ، من نحو قوله : سبحانه « فليحذر الذين يخالفون عن امره » وقوله عز من قائل مخاطبا لإبليس : ( ما منعك ان تسجد إذ أمرتك ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا لبريرة حين قال له أتأمرني يا رسول الله : ( لا بل أنا شافع ) من تقريب انه جعل المخالفة للامر في الأول ملزوما لوجوب لحذر ، وفى الثاني للتوبيخ ، وفى الثالث للمشقة ، وحيث لايجب الحذر من مخالفة الامر الاستحبابي ولايصح التوبيخ عليه ولا كان مشقة يترتب على الامر الاستحبابي بعد جواز الترك شرعا ، فلا جرم يستفاد من ذلك كونه حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي ، فان التقيد بالوجوب في تلك الأوامر خلاف ظاهر تلك الأدلة من جهة قوة ظهورها في ترتب هذه اللوازم على طبيعة الامر لا على خصوص فرد منه ، وحينئذ فتدل تلك الأدلة بعكس النقيض على عدم كون الامر الاستحبابي أمرا حقيقة بلحاظ عدم ترتب تلك اللوازم عليه. فنقول : بأنه يرد على الجميع بابتناء صحة الاستدلال المزبور على جواز التمسك بعموم العام للحكم بخروج ما هو خارج عن حكم العام عن موضوعه ، إذ بعد أن كان من المقطوع عدم ترتب تلك اللوازم من وجوب الحذر

١٦١

والتوبيخ والمشقة على الامر الاستحبابي أريد التمسك به لا ثبات عدم كون الامر الاستحبابي من المصاديق الحقيقية للامر ليكون عدم ترتب اللوازم المزبورة عليه من باب التخصص والخروج الموضوعي لا من باب التخصيص ، نظير ما لو ورد خطاب على وجوب اكرام كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب اكرام زيد لكنه يشك في أنه مصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم من باب التخصيص أو انه لايكون مصداقا للعالم كي يكون خروجه من باب التخصص ، ولكنه نقول بقصور أصالة العموم والاطلاق عن إفادة اثبات ذلك فان عمدة الدليل على حجيته انما كان هو السيرة وبناء العرف والعقلاء ، والقدر المسلم منه إنما هو في خصوص المشكوك المرادية وهو لايكون الا في موارد كان الشك في خروج ما هو المعلوم الفردية للعام عن حكمه ، وحينئذ فلايمكننا التمسك بالأدلة المزبورة لاثبات الوضع لخصوص الطلب الإلزامي خصوصا بعد ما يرى من صدقه أيضا على الطلب الاستحبابي ، كما هو واضح. هذا كله بالنسبة إلى الوضع.

واما الغلبة فدعواها أيضا ساقطة بعد وضوح كثرة استعماله في الاستحباب. ومن ذلك ترى صاحب المعالم قدس‌سره فإنه بعدان اختار كون الامر حقيقة في خصوص الوجوب قال : بأنه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم‌السلام ان استعمال الامر في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فمن ذلك استشكل أيضا وقال : بأنه يشكل التعلق في اثبات وجوب امر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم‌السلام. وحينئذ فلا يبقى مجال لدعوى استناد الظهور المزبور إلى غلبة الاستعمال في خصوص الوجوب ، كما هو واضح.

وحينئذ فلابد وأن يكون الوجه في ذلك هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة وتقريبه من وجهين :

أحدهما : ان الطلب الوجوبي لما كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لايقتضي المنع عن الترك ، فلا جرم عند الدوران مقتضي الاطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي ، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد ، بخلاف الطلب الوجوبي فإنه لا تحديد فيه حتى يحتاج إلى التقييد ، وحينئذ فكان مقتضى الاطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلبا وجوبيا لا

١٦٢

استحبابيا.

وثانيهما : ولعله أدق من الأول تقريب الاطلاق من جهة الأتمية في مرحلة التحريك للامتثال ، بتقريب أن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء وجود متعلقه في مرحلة الخارج ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ، فتارة يكون اقتضائه بنحو يوجب خروج العمل عن اللا اقتضائية للوجود بنظر العقل بحيث كان حكم العقل بالايجاد من جهة الرغبة لما يترتب عليه من الأجر والثواب ، وأخرى يكون اقتضائه لتحريك العبد بالايجاد بنحو أتم بحيث يوجب سد باب عدمه حتى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عما يترتب على ايجاده من المثوبة الموعودة ، وفي مثل ذلك نقول : بأن قضية اطلاق الامر يقتضي كونه على النحو الثاني من كونه بالنحو الأتم في عالم الاقتضاء للوجود بحيث يقتضي سد باب عدم العمل حتى من ناحية ترتب العقوبة على المخالفة ، لان غير ذلك فيه جهة نقص فيحتاج ارادته إلى مؤنة بيان من وقوف اقتضائه على الدرجة الأولى الموجب لعدم ترتب العقوبة على المخالفة. وبالجملة نقول : بأن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء التحريك للايجاد وكان لاقتضائه مراتب ، فعند الشك في وقوف اقتضائه على المرتبة النازلة أو عبوره إلى مرتبة السببية لحكم العقل بالايجاد كان مقتضي الاطلاق كونه على النحو الأتم والأكمل الموجب لحكم العقل بلزوم الايجاد فرارا عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقاب علاوة عما يترتب على موافقته من الأجر والثواب ، فتدبر.

الجهة الرابعة :

في أنه هل الطلب عين الإرادة أو غيرها؟ حيث إنه وقع فيه الخلاف بين المعتزلة والعدلية وبين الأشاعرة ، فذهبت الأشاعرة إلى المغايرة بينهما ، والباقون إلى اتحادهما مستدلين لذلك : بانا لا نجد في أنفسنا عند الامر بشيء وطلبه غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، فمن ذلك صاروا بصدد توجيه القول بالمغايرة وحملوه على وجوه يرتفع بها النزاع في البين.

منها : ما أفاده في الكفاية ، حيث إنه لما بنى على اتحاد الطلب والإرادة مصداقا ومفهوما وجه كلام القائلين بالمغايرة ، حيث قال ما ملخصه : الحق كما عليه أهله اتحاد الطلب و

١٦٣

الإرادة مفهوما وانشاء وخارجا بمعنى ان ما يسمى بالطلب بالحمل الشايع هو عين الإرادة بهذا الحمل وما ينتزع عنه هذا المفهوم أي مفهوم الطلب عين ما ينتزع عنه مفهوم الإرادة ، وانشاء الطلب الذي هو عبارة عن استعمال اللفظ في المفهوم بقصد الايقاع هو عين انشاء الإرادة ، فكان الطلب والإرادة متحدين في جميع تلك المراحل الثلاث ، ولكنه لما كان المنصرف إليه الطلب عند اطلاقه هو الطلب الانشائي وكان في الإرادة بعكس ذلك حيث كان المنصرف إليه عند اطلاقها هو الإرادة الحقيقية الخارجية دون الانشائي منها كان مثل هذا الانصراف أوجب القول بالمغايرة بينهما فتوهم أن الطلب غير الإرادة ، ولكنه ليس كذلك من جهة ان ذلك انما كان من جهة ما يستفاد من قضية اطلاقهما حسب الانصراف ومثل ذلك مما لا ينكره القائل بالاتحاد ، بل عليه يرتفع النزاع من البين رأسا لرجوع النزاع حينئذ إلى ما هو المستفاد من قضية اطلاق لفظ الطلب بان المستفاد منه هل هو عين ما يستفاد من لفظ الإرادة عند اطلاقها أو ان المستفاد منه هو غيره؟.

ومنها : أي من التوجيهات جعل المراد من الطلب عبارة عن الاشتياق التام الحاصل عقيب تصور الشيء والتصديق بفائدته ، والإرادة عبارة عن حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب والمراد الذي يستتبع الفعل والعمل ، أو العكس بجعل الطلب عبارة عن حملة النفس والإرادة عن الاشتياق التام.

ومنها : جعل الطلب عبارة عما ينتزع عن مقام ابراز الإرادة من البعث والايجاب والوجوب واللزوم ، فيغاير حينئذ الإرادة حيث كانت الإرادة من الأمور الحقيقية القائمة بالنفس بخلاف الطلب حيث إنه كان من الأمور الاعتبارية الانتزاعية عن مقام ابراز الإرادة بالامر نحو الشيء بالايجاد.

ومنها : غير ذلك من التوجيهات المذكورة في كلماتهم.

أقول : ولايخفى عليك ما في هذه المحامل والتوجيهات ، إذ نقول وان كان يتضح بها المغايرة بينهما بل ويرتفع معها النزاع من البين ، ولكن لا يساعد شيء منها كلام القائلين بالمغايرة حيث نقول : بأن الطلب وما يحكى عنه الامر عندهم عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال وللتخلف عن المراد وللموضوعية لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ، كما يشهد عليه قضية استدلالهم بالأوامر الامتحانية الخالية عن الإرادة في مواردها ، كما في امر إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده إسماعيل عليه‌السلام ، واستدلالهم أيضا بتكليف الله

١٦٤

سبحانه الكفار بالايمان وأهل الفسوق والعصيان بالعمل بالأركان فان الله سبحانه امر الكفار بالايمان ولم يرد منهم الايمان لامتناع صدور الايمان منهم بعد علمه سبحانه بذلك ، إذ حينئذ يستحيل تعلق ارادته سبحانه بالايمان المستحيل منهم. وأيضا لازم تعلق ارادته سبحانه بذلك هو قهرية صدور الايمان منهم لأنه سبحانه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون فيستحيل تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، وحينئذ فمن جهة عدم صدور الايمان منهما لابد وان يستكشف عن عدم تعلق ارادته الأزلية بصدور الايمان منهم ومعه يثبت المطلوب من المغايرة بين الطلب والإرادة. وأيضا استدلالهم على كون العباد مجبورين في أفعالهم على ما هو مقتضى مذهبهم وانكارهم التحسين والتقبيح العقليين بأنه من الممكن امر الله سبحانه العباد بأمور ليس فيها مصلحة أصلا ، حيث إنه يستفاد من أدلتهم ان ما يحكى عنه الامر وهو الطلب عندهم عبارة عن معنى كان ممكن التعلق بالمحال وقابلا للتخلف عن المراد ولأن يكون تابعا لمصلحة في نفسه لا في متعلقه مع كونه موضوعا أيضا لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ويقابله الإرادة عندهم فإنها معنى لايجوز تخلفها عن المراد ولا كانت قابلة للتعلق بالمحال ولا للتبعية لمصلحة في نفسها لكونها تابعة لمقدماتها التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له.

وكان عمدة ما دعاهم إلى المصير إلى المغايرة تلك الاشكالات الفاسدة الواردة بنظرهم بناء على القول باتحاد الطلب مع الإرادة : منها لزوم عدم تحقق العصيان من العباد لعدم جواز تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، ومنها لزوم تعلق الإرادة بالمحال بناء على الاتحاد كما في موارد الامر بما انتفي شرط تحققه ، ومنها ما بنوا عليه من المبنى الفاسد من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم الامر بالشيء مع خلوه عن المصلحة كما في الأوامر الامتحانية ، ومنها غير ذلك من المباني الفاسدة ، حيث إنه من جهة الفرار عن تلك الاشكالات التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة فقالوا بان الطلب وما يحكى عنه الامر عبارة عن معنى قابل لتلك اللوازم.

ومما يشهد لذلك أيضا انكار القائلين بالاتحاد عليهم بأنا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء والامر به غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، وهذا هو العلامة قدس‌سره حيث أنكر عليهم بانا لم نجد عند الامر بشيء أمرا مغايرا لإرادة الفعل حيث لايكون المفهوم من الامر إلا إرادة الفعل من المأمور

١٦٥

به ولو كان هناك شيء آخر لا ندركه فلا شك في كونه أمرا خفيا غاية الخفاء بحيث لا يتعقله إلا الأوحدي من الناس ، ومع ذلك كيف يجوز وضع لفظ الامر المتعارف في الاستعمال بإزائه ، إذ من الواضح حينئذ انه لولا إرادتهم من الطلب والامر ما ذكرنا لما كان وجه لانكار القائل بالاتحاد عليهم ، كما هو واضح.

وعليه نقول أيضا بأنه لايكاد يلائم شيء من التوجيهات المزبورة كلامهم بوجه أصلا ، حيث إن الطلب بمعنى الانشائي منه كما هو توجيه الكفاية وان يساعد عليه اللازم الأول من قابلية تعلقه بالمحال لعدم استلزامه لإرادة الايجاد من المكلف ، ولكنه لا يساعد عليه جهة موضوعيته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال. واما كونه بمعنى حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب فهو أيضا غير قابل للتعلق بالمحال ولايصحح أيضا كونه لصلاح في نفسه فبقى بعد الاشكالات بحالها. وأما كونه بمعنى الاشتياق فهو وان يصحح جواز تعلقه بالمحال كما في اشتياق المريض إلى شفاء مرضه والمحبوس إلى الفرار من السجن والتخلص منه واشتياق الانسان إلى عود شبابه ويمكن أيضا وقوعه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال فيما لو أحرز العبد اشتياق مولاه إلى شيء ولكنه أيضا لايصحح كونه لصلاح في نفسه. وحينئذ فبقرينة استدلالهم بمثل الأوامر الامتحانية يعلم بعدم إرادتهم من الطلب الاشتياق نحو الشيء ولا من الإرادة حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب. واما كونه بمعنى البعث والتحريك والوجوب واللزوم ونحوها فهو أيضا غير محكى بالامر لما عرفت من كونها أمورا انتزاعية متأخرة عن الامر يعتبرها العقل عن مقام ابراز الإرادة فلايمكن ان يكون محكيا للامر ، كما هو واضح.

نعم هنا معنى آخر غير المذكورات وغير العلم والإرادة والحب والبغض يمكن بعيدا ان يوجه به كلام القائل بالمغايرة ، وهو البناء والقصد ، المعبر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات ، حيث إنه كان من جملة أفعال النفس ، ولذا قد يكون يؤمر به كما في البناء على وجود الشيء كالبناء في باب الاستصحاب وفى الشكوك المعتبرة في الصلاة ، وقد يكون ينهى عنه كما في التشريع المحرم ويسمى بأسام مختلفة حسب اختلاف متعلقه ، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وان خالفها في أنها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس ، فكما ان الحب قد يتعلق بأمر موجود مفروغ التحقق فيقال له العشق والشعف ، وقد يتعلق بايجاد الشيء أو ايجاد الغير إياه فيقال له الإرادة ، كذلك هذا البناء

١٦٦

فإنه قد يتعلق بالأول وقد يتعلق بالثاني ، فيسمى بالاعتبار الأول تنزيلا كالبناء على كون الشك يقينا أو العدم وجودا وكالبناء على كون الأكثر موجودا أو الموجود هو الأكثر ، وبالاعتبار الثاني قصدا ، وعند تعلقه بما ليس في الشرع تشريعا ونحو ذلك ويشهد لما ذكرنا ملاحظة كلماتهم في باب التصديق المعتبر في الايمان بأنه ليس مجرد العلم والمعرفة بل هو فعل جناني معبر عنه بالفارسية ب‍ ( گردن دادن ) و ( گرويدن ) و ( باور كردن ) فراجع كلماتهم.

وحينئذ نقول بان مثل هذا البناء والقصد لما كان قابلا للتعلق كما في بناء الغاصب على ملكية مال المغصوب في مقام البيع وكالبناء على ربوبية بعض المخلوقين وكالبناء على جزئية شيء للواجب في باب التشريع ، ومن جهة اختياريته كان قابلا لان يكون لصلاح في نفسه ، وأمكن أيضا ان يكون محكيا للامر موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، فلا محالة أمكن توجيه كلماتهم الفاسدة بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد ، والإرادة على تلك الكيفية النفسانية بل عليه لا مجال للانكار عليهم أيضا بانا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض لما عرفت من وجود امر آخر في النفس يكون هو البناء والقصد. وحينئذ فلو ادعى القائل بالمغايرة بان ما هو المسمى بالطلب عبارة عن مثل هذا القصد الذي هو بالضرورة غير الإرادة لايمكننا المسارعة في الرد عليهم بعدم وجدان امر وراء الإرادة والعلم والحب والبغض بل ولئن سلم مبانيهم الفاسدة لا مفر عن الالتزام بمقالتهم من المغايرة بين الطلب والإرادة. وحينئذ فاللازم هو إبطال أصل تلك المباني الفاسدة التي هي عبارة عن انكار التحسين والتقبيح العقليين ، وعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد ، وعن شبهة الأوامر الامتحانية التي أوجب مصيرهم إلى كون الامر لصلاح في نفسه لا في متعلقه ، وشبهة كون العباد مجبورين في أفعالهم الموجب لعدم امكان تعلق الإرادة بفعلهم.

فنقول : اما الأول فابطاله لايحتاج إلى البرهان بعد ثبوته بالوجدان وان كان ايكال من لا وجدان له إلى الوجدان غير خال عن المصادرة لكن تفصيله موكول إلى محله ، ونتيجة ابطال هذه المقدمة انما هو نفى كون الامر حاكيا عن البناء والقصد كما وجهنا به كلامهم ، وذلك انما هو لوضوح انه لايرى العقل حسن العقوبة على المخالفة بمحض كون المحكى بالامر هو البناء والقصد الخالي عن الإرادة ، بل في مثله عند فرض الخلو عن

١٦٧

الإرادة ترى حكم العقل بقبح العقوبة. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو حصر موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وحسن العقوبة على المخالفة بنفس الإرادة الواقعية بما انها مبرزة بالامر ، فعند خلو المورد حينئذ عن الإرادة لا حكم للعقل بوجوب الإطاعة ولا يرى حسن العقوبة على المخالفة. واما دعواهم بانعزال العقل عن التحسين والتقبيح فغير مسموعة منهم ، كما هو واضح.

واما الثاني : فبطلانه أيضا واضح حيث إنه قد خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية ، فان ما يستحيل تخلفه انما هو الإرادة التكوينية دون الإرادة التشريعية ، وما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه « انما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون » انما هو الأول دون الثاني ، على أن لنا أيضا المنع عن لزوم تخلف ارادته سبحانه عن المراد حتى في الإرادة التشريعية ، وبيانه يحتاج إلى مقدمة بها أيضا يتضح الجهة الفارقة بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، وهي ان كل آمر ومريد لفعل من الغير تارة يتعلق ارادته بحفظ وجود العمل على الاطلاق بنحو تقتضي سد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة العبد والمأمور ولو بايجاد الإرادة له تكوينا ، وأخرى تتعلق بحفظ وجوده لا على نحو الاطلاق بل في الجملة ومن ناحية ما هو مبادي حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال وهو طلبه وأمره. وحينئذ فإذا كانت الإرادة المتعلقة بفعل العبد من قبيل الأول فلا جرم لابد لا من سد جميع أبواب عدمه المتصورة حتى من جهة شهوة العبد ، وأما إذا كانت من قبيل الثاني فالمقدار اللازم انما هو حفظ وجوده بمقدار تقتضيه الإرادة ، فإذا فرض ان المقدار الذي تعلق الإرادة والغرض بالحفظ انما هو حفظ المرام من ناحية مبادي حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال وما يرجع إلى نفس المولى من ابراز ارادته والبعث ، فالمقدار اللازم في الحفظ حينئذ انما هو ايجاد ما هو من مبادي حكم العقل بالامتثال لا ايجاد مطلق ما كان له الدخل في الحفظ حتى مثل شهوة العبد والمأمور ، كما هو واضح.

وبعد ما عرفت هذه الجهة نقول بان ما كانت منها من قبيل الأول فهي المسماة بالإرادة التكوينية وهي كما ذكر يستحيل تخلفها عن المراد إذ هي بعد تعلقها بحفظ الوجود بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات فلا جرم يكون ترتب وجود المراد عليها قهريا فيستحيل تخلفها عنه والا لزم الخلف ، واما ما كانت من قبيل الثاني فهي المسماة بالإرادة التشريعية ، ولكن نقول بان تلك أيضا غير متخلفة عن المراد فان

١٦٨

المفروض ان المقدار الذي تعلق الإرادة بحفظه انما هو حفظ المرام في الجملة بسد باب عدمه من ناحية مبادي حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال لا حفظه بقول مطلق وهو يتحقق بابراز ارادته واظهارها بأمره وطلبه وبعثه بقوله افعل كذا ، ومن المعلوم بداهة انه على هذا أيضا لا تخلف لها عن المراد من جهة انه بابراز ارادته تحقق ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة وانسد المقدار الذي كان المولى بصدد حفظه من جهته ، وحينئذ فلايكاد يضر مخالفة الكفار وأهل العصيان في الواجبات والمحرمات ، إذ لا يستلزم مخالفتهم تخلف ارادته سبحانه عن مراده ، كما هو واضح.

وحينئذ فتمام الخلط والاشتباه نشأ عن الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ومقايسة إحداهما بالأخرى ، فحيث ان الإرادة التكوينية يكون ترتب المراد عليها قهريا نظراً إلى تعلقها بحفظ وجوده بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات ، تخيل ان الإرادة التشريعية أيضا مثلها في عدم الانفكاك عن المراد ، وحينئذ فمن جهة مخالفة الكفار وأهل العصيان استشكل عليه الامر فالتزم فرارا عن الاشكال بالمغايرة بين الطلب والإرادة وان الله سبحانه وان أمر الكفار بالايمان وطلبه منهم ولكنه لم يرد منهم الايمان. ولكنك قد عرفت وضوح الفرق بينهما وانه لا مجال لمقايسة إحديهما بالأخرى ، فتأمل تعرف حقيقة الحال في إرادتك صدور حمل من عبدك من حيث كونك تارة بصدد حفظ مرامك وسد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة عبدك ولو بضربك إياه وجبره على الايجاد ولو بأخذ يده ونحو ذلك ، وأخرى في مقام حفظه من ناحية امرك إياه وابراز إرادتك باعتبار قيام المصلحة بالوجود في ظرف صدوره عن العبد عن إرادته واختياره لا مطلقا مع صحة مؤاخذتك إياه لو أمرته فخالف ولم يطع ، وهذا واضح لا سترة عليه.

وامّا صحة طلبه سبحانه الايمان والعمل بالأركان منهم حينئذ مع علمه الفعلي بعدم صدور الايمان منهم لعدم اختيارهم الايمان وإرادتهم العمل بالأركان ، فلأجل إعلامهم بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، ولئلايكون للناس على الله حجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة وانه سبحانه لم يكن ليظلمهم بل هم باختيارهم عدم الإطاعة يظلمون ، وفى الحديث ( ان أظلم الناس من يظلم على نفسه ).

١٦٩

واما الجواب عن شبهة الجبر فلم يتعرض الأستاذ له تفصيلا خوفا على بعض الطلاب من دخول بعض الشبهات في أذهانهم القاصرة بل وانما أحال الجواب إلى وقت آخر يقتضيه المقام ، نعم أفاد في دفع الشبهة وفسادها بنحو الاجمال محيلا ذلك إلى قضاء الوجدان بالفرق الواضح بين حركة يد المرتعش وحركة يد المختار ، وهو كما أفاد ( دام ظله ) حيث نرى ونشاهد بالوجدان والعيان كوننا مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وفى مقام الإطاعة العصيان وان مجرد علمه سبحانه بالنظام الأكمل غير موجب لسلب قدرتنا واختيارنا فيما يصدر عنا من الافعال والأعمال كما يقول به الجبرية ( خذلهم الله سبحانه ) بل كنا بعد مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وان عدم صدور العمل منا في مقام الإطاعة انما هو باختيارنا وعدم إرادتنا الايجاد لترجيحنا ما نتخيل من بعض الفوائد العاجلة على ما في الإطاعة من المنافع المحققة الآجلة الأخروية من غير أن نكون مجبورين في ايجاد الفعل المأمور به أو تركه بوجه أصلا ، كما لايخفى.

والى ذلك أيضا يشير بعض ما ورد من النصوص عن الأئمة المهديين صلوات الله عليهم أجمعين بان كل مولود يولد على الفطرة الا ان أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (١) وان كل انسان في قلبه حين ولادته نقطة بيضاء ونقطة سوداء (٢) وكان لقلبه أذنان ينفث في أحدهما الملك وفى الآخر الشيطان (٣) وان لكل نفس مكانا في الجنة هو له إذا سلك سبل الخير ومكانا في النار إذا سلك سبل الشر. حيث إن افراد الانسان بأجمعها خلقت من نطفة أمشاج ومن رقائق العوالم العلوية والسفلية وخمرت طينته منهما ، فبعضهم باختيارهم لما لا حظ المنافع الأخروية ورجحها على ما يترائى في نظره من اللذائذ الدنيوية الفانية فسلك من هذه الجهة سبيل التوحيد كان سلوكه لسبيل التوحيد منشأ

__________________

١ ـ الحديث منقول بالمعنى ولفظه على ما في صحيح فضل بن عثمان الأعورعن أبي عبد الله عليه‌السلام هكذا : « ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه » « الحديث ». رواه في الوسائل ، الباب ٤٨ من أبواب الجهاد ، الحديث ٣.

٢ ـ في خبر زرارة ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء « الحديث » أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٧٣ ـ الوسائل الباب ٤٠ من جهاد النفس ، الحديث ١٤.

٣ ـ أصول الكافي : طبعة الآخوندي ، ج ٢ ، ص ٢٦٦.

١٧٠

لغلبة تلك النقطة البيضاء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه وانعدمت النقطة السوداء ، وبعضهم بالعكس فسلك سبيل الشر ترجيحا لما يترائى في نظره من اللذائذ والمشتهيات النفسانية على المنافع الجليلة الأخروية باختيار منه فصار سلوكه مسلك الشر منشأ لغلبة تلك النقطة السوداء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه ، فصار الأول من أهل التوحيد والايمان والثاني من أهل الفسوق والعصيان من غير أن يكون واحد منهم مجبورا في الإطاعة والمعصية بوجه أصلا ، كما لايخفى. والى ما ذكرنا أيضا لابد وان يحمل الخبر المعروف بان السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه (١) حيث إنه على فرض صدوره عن الإمام عليه‌السلام وعدم كونه من الموضوعات ، محمول على تقدم علم سبحانه قبل ولادة افراد الانسان بما يصيرون إليه في عاقبة أمرهم بسبب سعيهم الاختياري في ترجيحات بعضهم المنافع الأخروية على الفوائد الدنيوية واللذائذ الشهوانية وترجيحات بعضهم الآخر اللذائذ الدنيوية على الفوائد الجليلة الأخروية ، والا فلابد من طرحه لمخالفته لما يحكم به بداهة العقل والوجدان ولما نطق به الكتاب السنة المتواترة.

وحينئذ فإذا ظهر لك عدم مجبورية العباد فيما يصدر منهم عن الافعال في مقام الإطاعة والعصيان ، ظهر أيضا صحة تعلق الإرادة التشريعية بالايمان من الكفار وبالعمل بالأركان من أهل الفسوق والعصيان من دون ان يكون ذلك من الامر بالمحال وبما لايقدر عليه العباد ، من جهة ما عرفت من كون العبد بعد على ارادته واختياره في ايجاد الفعل المأمور به وان عدم صدوره منه انما هو لأجل عدم تحقق علته التي هي ارادته للايجاد بسوء اختياره وترجيحه جانب المشتهيات النفسانية على المنافع الأخروية. واما صحة طلبه سبحانه منه حينئذ مع علمه بعدم صدور الفعل منه من جهة عدم ارادته ، فهو كما تقدم لأجل الاعلام بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولئلايكون لهم على الله سبحانه الحجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة من جهة اعلامهم بما فيه الصلاح والفساد ، فتدبر.

__________________

١ ـ توحيد الصدوق ، الباب ٥٨ ( باب السعادة والشقاء ) الحديث ٣ وفيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ».

١٧١

واما شبهة الأوامر الامتحانية فنقول في الجواب عنها : بان الأوامر الامتحانية على قسمين : الأول ما لايكون في متعلقه مصلحة بوجه من الوجوه لا بعنوانه الأولى ولا بعنوانه الثانوي وهذا نظير ما لو كان الامر بالايجاد لمحض امتحان العبد وفهم انه هل كان بصدد الإطاعة والامتثال أم لا ، الثاني ما يكون مصلحة في متعلقه بالعنوان الثانوي وان لم يكن فيه مصلحة بالعنوان الأولى وهذا نظير ما لو كان الغرض هو امتحان العبد فيما يصدر منه من العمل كما في امر العبد بصنع الغليان والشاي مثلا لاختباره في أنه ماهر في ذلك لكي ينتفع به عند ورود الضيف عليه أو انه لايكون له المهارة فيه فإنه في هذا الفرض وان لم يكن في متعلق امره وهو الغليان مصلحة بعنوانه الأولى بل ولعله كان فيه مفسدة لما كان للمولى من وجع الصدر بنحو يضربه شرب الغليان والشاي ولكنه بالعنوان الثانوي كان فيه المصلحة وبذلك صار متعلقا لغرضه.

وبعد ذلك نقول : بان الأوامر الامتحانية ما كان منها من قبيل الثاني فنلتزم فيها بعدم انفكاكها عن إرادة العمل حيث نقول في مثلها بتعلق الإرادة الحقيقية من المولى بايجاد العمل من المأمور وانه أي المأمور يستحق العقوبة على المخالفة فيما لو خالف. واما ما كان منها من قبيل الأول الذي فرضنا خلو المتعلق عنه المصلحة بقول مطلق حتى بالعنوان الثانوي فمثلها وان كان خاليا عن الإرادة الحقيقية ولكنه نحن نمنع كونها طلبا وامرا حقيقيا أيضا حيث نقول بكونها حينئذ طلبا وامرا صوريا لا حقيقيا ، ومن ذلك أيضا نمنع موضوعية مثل هذه الأوامر لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانه لايكاد يحكم العقل فيها بوجوب الإطاعة ، ولذلك أيضا ترى ان المولى كان في كمال الجهد بان لا يطلع العبد بواقع قصده وكون امره لمحض امتحانه ، واما نفس الامتحان الذي هو الغرض من هذا البعث فهو أيضا غير متوقف على الامر الحقيقي بل هو يترتب بمحض تخيل العبد كونه أمرا حقيقيا ناشئا عن إرادة جدية متعلقة بالعمل وان لم يكن كذلك بحسب الواقع ونفس الامر بل كان أمرا صوريا ، كما هو واضح. وعلى هذا فما تخلف الطلب عن الإرادة في شيء من الأوامر الامتحانية كما توهمه الأشعري ، فإنه في مورد كان الطلب طلبا حقيقيا قد عرفت عدم انفكاكه أيضا عن الإرادة الحقيقية المتعلقة بايجاد العمل ، وفي مورد لايكون فيه إرادة حقيقية متعلقة بالعمل فلايكون الطلب أيضا طلبا حقيقيا بل طلبا صوريا ، فيبطل حينئذ دعوى الأشعري من مغايرة الطلب مع الإرادة وكان التحقيق

١٧٢

هو الذي عليه الجمهور من اتحاد الطلب والإرادة.

بقى شيء : وهو ان الطلب والإرادة بناء على اتحادهما كما هو التحقيق هل يمكن في مقام تعلقه بشيء ان يكون لمصلحة في نفسه أم لا بل لابد وأن يكون تعلقه بالشيء لمصلحة في ذلك الشيء؟ حيث إن فيه وجهين ، وربما يترتب عليه ثمرات مهمة ، منها في مسألة الملازمة المعروفة بين حكم العقل والشرع ، حيث إنه بناء على امكان ان يكون الإرادة لمصلحة في نفسها يسقط النزاع المزبور إذ حينئذ بمجرد درك العقل حسن شيء أو قبحه لايمكننا كشف حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة ، كما أنه كذلك أيضا في طرف العكس فإذا حكم الشارع بوجوب شيء أو حرمته لايمكن الكشف به عن حسن ذلك الشيء الذي امر به الشارع أو قبحه ، من جهة احتمال ان يكون حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة لمصلحة في نفس حكمه وطلبه. وهذا بخلافه على الثاني من كونه لمصلحة في متعلقه ، فإنه حينئذ يكون كمال المجال لدعوى الملازمة خصوصا من طرف حكم الشرع ، فيتم ما بنوا عليه من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، إذ حينئذ بمجرد حكم الشارع في شيء بالوجوب أو الحرمة يستكشف منه لا محالة كشفا قطعيا عن حسن ذلك الشيء أو قبحه. نعم في تمامية تلك الملازمة من طرف حكم العقل فيما لو أدرك حسن شيء أو قبحه اشكال كما سيأتي ينشأ من عدم كون مجرد الصلاح في شيء علة لحكم الشارع فيه بالوجوب بل وانما غايته كونه مقتضيا لذلك فيمكن حينئذ ان يمنع عن تأثيره مانع أو مزاحم.

وعلى كل حال : فالذي يقتضيه التحقيق في أصل المسألة هو الوجه الثاني وهو لزوم كون الإرادة في مقام تعلقه بشيء لمصلحة في ذلك الشيء لا لمصلحة في نفسها ، والعمدة في ذلك انما هي الوجدان حيث يرى الانسان بالوجدان وماله من الجبلة والارتكاز في تعلق حبه أو بغضه بشيء انه انما يكون لما يجد في ذلك الشيء من الخصوصية الموجبة لملائمة النفس وانبساطها أو الخصوصية الموجبة لمنافرة النفس واشمئزازها ، وانه بدون تلك الخصوصية المستتبعة للانبساط أو الاشمئزاز لايكاد يوجد للنفس ميل ولا محبة إلى ذلك الشيء بوجه أصلا ، كيف وانه لولا ذلك لاتجه عليه اشكال الترجيح بلا مرجح في الامرين المتساويين في جميع الخصوصيات بل في أمر واحد بأنه لم صار ذلك الشيء محبوبا لا مبغوضا؟ إذ حينئذ لا محيص الا من دعوى ان تعلق الحب والبغض بشيء انما هو

١٧٣

لخصوصية في ذلك الشيء أوجبت تلك الخصوصية انبساط النفس فتعلق به الميل والمحبة أو اشمئزازها فتعلق به المبغوضية. وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الحب والبغض فلا جرم يتبعهما الإرادة والكراهة أيضا فإنهما تابعتان لمقدماتهما التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له فلا تكون الإرادة أيضا في تعلقها بشيء الا لصلاح في نفس ذلك الشيء لا لصلاح في نفسها. وحينئذ ففي مثل هذا الوجدان والارتكاز غنى وكفاية في اثبات لزوم كون الإرادة لمصلحة في خصوص متعلقها وبطلان توهم كونها لصلاح في نفسها بلا احتياج إلى اتعاب النفس في إقامة البرهان عليه أيضا كما هو واضح.

ثم إن الظاهر أن عمدة المنشأ لتوهم امكان كون الإرادة لمصلحة في نفسها انما هو ملاحظة موارد الإقامة فيما لو كان قصد الإقامة لأجل ترتب حكم وجوب الصوم والتمام ، حيث إنه بعد أن يرى عدم ترتب حكم وجوب التمام على إقامة عشرة أيام خارجا ولا عليها مع القصد المزبور بشهادة ترتب حكم وجوب التمام بمحض تحقق قصد إقامة عشرة أيام منه في مكان مع اتيان صلاة أربع ركعات وان لم يتحقق منه في الخارج إقامة عشرة أيام بل زال قصده ونوى الخروج من محل الإقامة فخرج منه إلى مكان آخر تخيل من هذه الجهة ان ترتب حكم وجوب التمام ووجوب الصوم انما كان على مجرد قصد إقامة عشرة أيام وارادته ذلك لا على نفس الإقامة الخارجية ولا عليها والقصد المزبور ، فمن تلك الجهة استظهر حينئذ انه إذا أمكن في مورد تعلق الإرادة والقصد لا لصلاح في ذلك الشيء بل لصلاح مترتب على نفس القصد والإرادة كما في ناوي الإقامة عشرة أيام لأجل وجوب التمام فليكن كذلك في غير ذلك المورد أيضا ، لان الأمثال سواء فيما يجوز وفيما لايجوز ، فإذا جاز وأمكن في مورد يجوز ويمكن في جميع الموارد ، هذا.

ولكن نقول في دفع تلك الشبهة : بان ترتب وجوب التمام انما كان على نفس الإقامة الخارجية غايته لا على وجودها المنحفظ بقول مطلق حتى من غير ناحية القصد والإرادة بل على وجودها المنحفظ من ناحية القصد المزبور فهو الذي كان موضوعا لحكم الشرع بوجوب الصوم والتمام ، فإذا انحفظ وجودها من الجهة المزبورة يترتب عليها الحكم بالتمام لتحقق ما هو الموضوع للحكم المزبور ، وعلى ذلك فلايرتبط ذلك بمقام ترتب وجوب التمام على صرف القصد المزبور بوجه أصلا بل هو كما عرفت مترتب على نفس الإقامة

١٧٤

الخارجية ، وحينئذ فتعلق القصد بها من ناوي الإقامة انما هو جهة ما يرى بنظره من ترتب وجوب التمام على الإقامة ، فإنه بعد أن يرى ذلك يتعلق بها قصده وتتمشى منه الإرادة إلى وجودها وبمجرد تعلق قصده بها يتحقق ما هو موضوع حكم الشارع بوجوب التمام. نعم غاية ما هناك انه لابد حينئذ من جزم المكلف بانحفاظ وجود الإقامة عشرة أيام خارجا من سائر الجهات لكي يتحقق منه القصد إليها ويتمشى منه الإرادة إلى وجودها ، والا فبدون الجزم المزبور فضلا عن الجزم بالخلاف وخروجه في الأثناء عن محل الإقامة يستحيل تمشى القصد والإرادة منه إليها بوجه أصلا كما لايخفى ، وحينئذ فصح لنا ان نقول بقول مطلق : بان الإرادة لاتكاد تكون الا لمصلحة في متعلقها.

بقى شيء لايخفى عليك ان ما ذكرنا من لزوم تبعية الإرادة لمصلحة في متعلقها وامتناع كونها لصلاح في نفسها ليس المقصود منه هو عليه مجرد الصلاح في الشيء لتعلق الإرادة به كي يلزمه انه مهما وجد صلاح في فعل أو شيء لابد ان يكون هناك إرادة أيضا متعلقة بذلك الشيء كما لعله مبنى القائل بالملازمة ، بل المقصود من ذلك هو كون الصلاح في الشيء مقتضيا لتعلق الإرادة بذلك الشيء على معنى مؤثرية ذلك الصلاح الكائن في الفعل في توجه الإرادة الفعلية بذلك الفعل لولا وجود المانع أو المزاحم في البين.

فحينئذ فإذا كان الصلاح المزبور يتوقف تأثيره الفعلي في الإرادة بعدم وجود المانع أو المزاحم نقول : بان مانعية الشيء قد تكون في أصل تأثير المصلحة في الإرادة الفعلية بل وفي مباديها من الرجحان والمحبوبية أيضا وقد تكون في تأثيرها في مقام ابراز الإرادة بالامر والبعث نحو المراد لا في أصل الإرادة الفعلية ، ويفرض الثاني فيما لو كان القصور من طرف المولى في عدم تمكنه من ابراز مقصده إلى المكلف والمأمور خوفا على نفسه أو على غيره ، كما يفرض ذلك فيما لو كان عنده عدو بحيث لو أبرز إرادته لعرض عليه الحسد وقتله في الحال ، ونحو ذلك من الأمور المانعة عن ابراز المقاصد ، كما أنه من هذا القبيل مسألة الدلالة على ولى الله على ما ورد من الأخبار الكثيرة بان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مأمورا من قبل على نصب ولى الله بالخلافة من بعده لكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خوفا عن خروج الناس عن دينهم لم يظهر ذلك إلى أن نزلت قوله سبحانه يا أيها الرسول بلغ ما انزل الخ. وعلى كل حال نقول : بأنه في مثل هذا الفرض لما كانت الإرادة الفعلية متحققة يجب على المكلف والمأمور عند علمه بإرادة المولى وفعليتها المبادرة باتيان ما هو مطلوب

١٧٥

المولى من جهة استقلال العقل حينئذ بلزوم الاتيان والإطاعة وعدم جواز المخالفة بمحض عدم ابراز المولى ارادته وعدم امره وبعثه نحو المراد ، كما هو واضح. فتمام المقصود من هذا الاطناب انما هو لزوم عدم الاعتناء بمثل هذا المانع وان وجوده كعدمه بنظر العقل فيما هو همه من لزوم الإطاعة وحرمة المخالفة.

نعم ما كان منها أي من الموانع من قبيل الأول الذي كان مانع عن تأثير المصلحة في أصل الإرادة خاصة أو فيها وفي ما هو من مباديها من الرجحان والمحبوبية ، كما في مسألة الضد المبتلى بالأهم ومسألة الاجتماع بناء على الامتناع وتغليب جانب النهى ، حيث إنه في الأول يؤثر المانع في عدم تعلق الإرادة بالهم وفى الثاني في عدم الرجحان والمحبوبية الفعلية ، ففيها لا مجال لوجوب الاتيان وحرمة المخالفة ، من دون فرق بين ان يكون المانع راجعا إلى المكلف والمأمور كما في المثال حيث كان المانع عن توجه الإرادة الفعلية نحو الضدين هو عدم قدرة المأمور على الامتثال ، أو كان المانع راجعا إلى المولى. كما لولا حظ المولى في عدم إرادة الفعل الذي فيه صلاح مصلحة أهم كانت في نظره من مثل مصلحة التسهيل على العباد على ما ينبئ عنه مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) حيث إنه يستفاد منه ان المصلحة الكائنة في السواك مصلحة ملزمة ولكنها لمزاحمتها لمصلحة التسهيل رخص الشارع في تركه وما أوجبه على المكلفين.

وعلى ذلك ربما يترتب أيضا مبنى انكار قاعدة الملازمة المدعاة بين حكم العقل والشرع ، إذ على هذا البيان يتوجه على القاعدة المزبورة ان مجرد درك العقل حسن الشيء أو قبحه لايوجب كشف حكم شرعي على طبقه بالوجوب أو الحرمة من جهة احتمال مزاحمة تلك المصلحة بمصلحة أخرى في نظر الشارع أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل أوجبت تلك المصلحة الترخيص على خلاف ما يقتضيه مصلحة الفعل. وحينئذ فمع هذا الاحتمال كيف يمكن كشف الحكم الشرعي من الوجوب أو الحرمة على طبق ما أدركه العقل والحكم بوجوبه وحرمته ، كما هو واضح. نعم في مقام العمل أمكن لنا دعوى وجوبه عملا من جهة قاعدة المقتضى والمزاحم على ما تقرر في محله : بأن العقلاء بعد احرازهم وجود المقتضى للشيء في مقام يجرون عملا على طبق ذلك المقتضى من دون اعتنائهم باحتمال وجود المانع أو المزاحم في البين ولو في مورد لم يكن هناك أصل يقتضى التعبد بعدمه كما هو واضح ، فتدبر.

١٧٦

المبحث الثاني

فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه أيضا جهات من البحث.

الجهة الأولى : في بيان مدلول صيغة الامر

فنقول : انهم ذكروا لصيغة الامر معاني متعددة : منها الطلب. ومنها الترجي والتمني كما في قول الشاعر :

الا يا أيها الليل الطويل الا انجلى

بصبح وما الاصباح منك بأمثل

ومنها التهديد كقوله سبحانه : « اعملوا ما شئتم » (١). ومنها الانذار ومنه قوله تعالى : « قل تمتع بكفرك قليلا » (٢) ، « وتمتعوا في داركم ثلاثة أيام » (٣). ومنها التسخير والإهانة والتسوية كقوله سبحانه : « كونوا قردة خاسئين » (٤) ، وقوله تعالى : « اخسئوا فيها ولا تكلمون » (٥) ، وقوله عز من قائل : « فاصبروا أو لا تصبروا » (٦). ومنها غير ذلك من المعاني الاخر كالاستعانة والتكذيب والمشورة والتعجب ونحوها مما هو مذكور في المطولات.

ولكن التحقيق خلافه وأنه لايكون دلالة للصيغة بنفسها على شيء من المعاني المزبورة ما عدا المعنى الأول وهو الطلب ، بل ولا كانت الصيغة مستعملة في شيء منها بوجه أصلا ، بل ما هو مدلول الصيغة لايكون الا معنى وحدانيا وهو الطلب الانشائي أو

__________________

١ ـ سورة فصلت ، الآية ٤٠.

٢ ـ سورة الزمر ، الآية ٨.

٣ ـ سورة هود ، الآية ٦٥.

٤ ـ سورة الأعراف ، الآية ١٦٦.

٥ ـ سورة المؤمنون ، الآية ١٠٨.

٦ ـ سورة الطور ، الآية ١٦.

١٧٧

النسبة الارسالية كما سنحققه وان استفادة تلك المعاني في الموارد المزبورة انما هي من جهة القرائن الخارجية المقتضية لها لا من جهة ان الصيغة قد استعملت فيها ، كما هو واضح. ولقد أجاد في الكفاية وجاء بما فوق المراد في تحقيق وحدة المعنى وتفرده بلا مدخلية لتلك المعاني فيما يستعمل فيه اللفظ ، فان تلك على ما أفاده هو قدس‌سره من الدواعي من حيث كون الداعي على الاستعمال تارة هو التهديد وأخرى الانذار وثالثة التمني ورابعة التعجيز وخامسة غير ذلك ، ومن البداهة ان ذلك غير الاستعمال فيها ولو مجازا ، كما هو واضح.

نعم انما الكلام حينئذ في كيفية دلالتها على الطلب وانها هل هي موضوعة للطلب أي الانشائي الايقاعي منه كما عليه الكفاية؟ أو انها موضوعة للنسبة الارسالية الايقاعية وان دلالتها على الطلب انما هي من جهة الملازمة؟ كما سنبينها إن شاء الله.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني ، ووجهه يظهر مما تقدم في مبحث المشتق من انحلال الوضع في المشتقات بأسرها من المصادر والافعال وأسماء الفاعلين والمفعولين ونحوها إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة ، إذ عليه نقول : بان صيغة اضرب مثلا لما كانت مشتملة على مادة وهيئة خاصة فمادتها تدل حسب الوضع النوعي على نفس الحدث واما هيئتها الخاصة فهي أيضا لاتدل الا على النسبة الارسالية والمحركية بين المبدء والفاعل ، لكن لا مفهوم هذه النسبة لأنه معنى اسمي ، بل مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور نحو العمل على طبق الارسال الخارجي ، وحينئذ فلايكون المستعمل فيه في الصيغة الا النسبة الارسالية لا مفهوم الطلب كما عليه الكفاية قدس‌سره وعليه فلابد وأن يكون دلالتها على الطلب من جهة الملازمة خاصة الناشي هذا التلازم من جهة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ، إذ حينئذ ينتقل الذهن من تلك النسبة الارسالية إلى مفهوم الطلب بانتقال تصوري ، ففي الحقيقة منشأ هذا التلازم انما هو التلازم الخارجي بين منشئيهما وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الخارجية وعدم انفكاك أحد الامرين عن الآخر ، وحينئذ فحيث ان اللفظ كان وجها للمفهوم وكان المفهوم وجها لمنشأه وكان بين المنشأين وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الحقيقية ملازمة في مرحلة الخارج فينتقل الذهن عند تصور أحد المفهومين من جهة كونه وجها لمنشئه إلى مفهوم الآخر كذلك ( يعني من حيث كونه أيضا وجها لمنشئه ) بانتقال

١٧٨

تصوري ولو لم يكن للمنشأ وجود في الخارج أصلا بل كان المنشأ مما يقطع بعدم وجوده خارجا ، نعم في مقام التصديق لابد من احراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل ليحرز به وجود الإرادة وتحققها فيصدق عليه الطلب والامر حقيقة. فعلى ذلك فدلالة الصيغة على الطلب انما هي باعتبار كونه من لوازم ما هو المدلول لا انها من جهة كونه بنفسه هو المدلول للصيغة ، وبين الامرين بون بعيد.

نعم جعل الطلب مدلولا بنفسه للصيغة يتم على مسلك الكفاية قدس‌سره في المعاني الحرفية من وحدة المعنى والموضوع له في الحروف والأسماء وجعل الفارق بينهما بلحاظ الآلية والاستقلالية ، والا فبناء على تغاير المعنى والموضوع له فيهما كما سلكناه بجعل معاني الحروف والهيئات النسب والإضافات الخاصة المتقومة بالطرفين لا محيص من دعوى ان المدلول في الصيغة هو النسبة الارسالية الايقاعية ، وعليه فكان دلالتها على الطلب باعتبار كونه من لوازم المدلول كما شرحناه لا من جهة كونه هو المدلول لها كما لايخفى. نعم في مقام التصديق كما ذكرناه يحتاج في صدق الامر الحقيقي إلى احراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل : وهو أصالة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال وكون الداعي عليه هو الإرادة الحقيقة للفعل دون غيرها من الدواعي ، كما هو واضح.

الجهة الثانية

انه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الطلب إما بدوا أو بالملازمة ، فهل هي حقيقة في خصوص الطلب الإلزامي؟ أو انها حقيقة في مطلق الجامع بين الإلزامي والاستحبابي؟ أو انها حقيقة في خصوص الطلب الاستحبابي ومجاز في غيره؟ فيه وجوه : أضعفها الأخير. فيدور الامر حينئذ بين كونها حقيقة في مطلق الطلب أو في خصوص الطلب الإلزامي. وقد استدل على كونها حقيقة في الطلب الوجوبي بما تقدم سابقا في مادة الامر من نحو آيتي الحذر والنبوي المعروف من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ونحو هما. ولكن الجواب عنها هو الجواب هناك فلا نعيده. نعم ظهورها في خصوص الوجوب عند اطلاقها لا ينكر ظاهرا حيث لا تأمل لاحد من

١٧٩

الأصحاب في حملها على الوجوب عند اطلاقها وحينئذ فبعد ثبوت هذا الظهور للصيغة وتسلمه عندهم لا يهمنا البحث عن منشئه وانه هو الوضع أو قضية الاطلاق بأحد التقريبين المتقدمين أو غيرهما من الغلبة وغيرها ، إذ لايترتب عليه فائدة مهمة بوجه أصلا ، وان لم يبعد دعوى استناد الظهور المزبور إلى قضية الاطلاق بما تقدم تقريبه سابقا وذلك من جهة ان دعوى الاستناد إلى قضية الوضع بعيدة جدا خصوصا بعد ما يرى من صحة استعمالها في موارد الاستحباب بلا رعاية عناية تقتضيه.

واما التشبث بأصالة عدم القرينة لا ثبات الوضع في خصوص الوجوب فقد عرفت الجواب عنها بأنها انما تكون حجة ومتبعة عند العقلاء في كشف المرادات لا في تعيين الأوضاع ، حيث إنه لا دليل لفظي على حجيتها حتى يؤخذ باطلاقها حتى في تعيين الأوضاع.

لكن مع ذلك كله ربما يميل النفس إلى كونها حقيقة في خصوص الوجوب نظراً إلى ما هو المتبادر منها مؤيدا ذلك بأصالة تشابه الأزمان المقتضي لكون وضعها لخصوص الطلب الإلزامي ، فتدبر.

الجهة الثالثة

إذا وردت جملة خبرية في مقام بيان الحكم الشرعي من نحو قوله : تغتسل ، وتعيد الصلاة ، ويتوضأ ، وقوله عليه‌السلام : إذا حال الحول اخرج زكاته ، ونحو ذلك فلا اشكال في أنه ليس المراد منها هو الاخبار عن وقوع الفعل من المكلف كما في غيره من موارد الاخبار ، بل وان المراد منها انما هو الطلب والبعث نحو الفعل والعمل ، وانما الكلام والاشكال في أنها هل كانت مستعملة في الطلب أو الارسال بما هو مفاد الصيغة مجازا؟ أو انها مستعملة في معناها الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار وهو النسبة الايقاعية لكنه بداعي إفادة ملزومه وهو الطلب والبعث؟ نظير باب الكنايات كما في قولك : زيد كثير الرماد ، مريدا به إفادة ملزومة الذي هو جوده وسخائه ، حيث إن استعمالك ذلك كان في معناه الحقيقي لكن الداعي على هذا الاستعمال هو الاعلام بملزومه الذي هو جوده وسخائه ففي المقام أيضا كانت الجملة الخبرية مستعملة في معناها الذي تستعمل

١٨٠