الاعجاز العلمي في القرآن

الدكتور السيد الجميلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

الدكتور السيد الجميلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٠

مستحدثات علميّة سبق إليها القرآن الكريم

تنبأ القرآن الكريم بالمسرة ، وجهاز الإرسال المسمى الراديو ، والهاتف المسمى التلغراف والتلفاز المسمى التليفزيون. هذه المنجزات العلمية الخطيرة الأثر العظيمة القدر غير المجهولة الأثر في حياة الإنسان إنما أصبحت جزءا أساسيا من نشاطه وحركته في الحياة.

قال تعالى : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (١).

__________________

(١) سبأ (٣٤ / ٥٣).

٤١

لا يغرب عنه مثقال ذرّة

لما اكتشفت الذرة في النصف الأول من القرن العشرين ، وقد زعم العلماء أول اكتشافها أنها أصغر أجزاء المادة التي لا تنشق عن جزئيات أصغر منها فهي أصغر شيء في الوجود من الموجودات.

لكن القرآن الكريم بيّن أن ثمة أصغر من الذرة ، وأن هذه الذرة بدورها من الممكن أن تتجزأ إلى أجزاء أصغر منها.

قال تعالى : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١).

وقال أيضا : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٢).

وقد ثبت هذا علميا عند ما اكتشف الباحثون أن الذرات atoms تتكون من دقائق أصغر منها هي البروتونات protons والالكترونات electrons والنيوترونات neutrons والبروتونات موجبة الشحنة الكهربيةpositive ولكن الالكترونات سالبة الشحنة الكهربيةnegative بينما النيوترونات متعادلة الشحنةneutral. وهذا يدل على حتمية التوازن بين طبائع الموجودات إذ لا بد للموجب أن يقابل سالبا ، وحتما للسالب أن

__________________

(١) سبأ (٣٤ / ٣).

(٢) يونس (١٠ / ٦١) وقد فسر القدماء الذرة بالنملة الحمراء الصغيرة تمثيلا للدقة واللطف.

٤٢

يواجهه موجب ، وبين هذا وذاك يوجد المتعادل المتزن الشحنة المستقر التكوين غير المجذوب وغير الجاذب لغيره. قال تعالى : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١) أي متزن بتقدير الله سبحانه وتعالى.

وقد ثبت علميا أن ذرات اليورانيوم uranium وكذلك ذرات الراديوم radium تتحلل وتتجزأ إلى أدنى منها ذاتيا ثم تنطلق منها شحنات وإشعاعات كهربية على ثلاثة أنواع (٢). لكل منها خواص ونعوت مختلفة عن الأخرى وقد قامت دراسات كثيفة على هذه الإشعاعات.

__________________

(١) الحجر (١٥ / ١٩).

(٢) الاشعة الأولى تسمى أشعة ألفاalpha rays والثانية تسمى أشعة بيتاbeta rays والثالثة تسمى أشعة جاماgamma rays.

٤٣

الذي يصعد في السّماء

أشار القرآن الكريم إلى حالة الإنسان عند صعوده في الهواء إذ يضيق صدره حتى يصبح في مأزق حرج ، لقلة الضغط الجوي وندرة الأوكسجين وعدم ثبات درجة الحرارة في الطبقات العليا من الجو وانعدام الوزن إذا ما أغرق وأمعن الإنسان في دخول أجواء بعيدة المدى.

قال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ، كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (١).

والحرج هو الذي بلغ من الضيق ما لم يجد معه منفذا أو متسعا إلا أن يصّعّد في السماء وليس يقدر على ذلك (٢). هذه الحقائق العلمية المنتهي إليها يدركها من له أدنى درية وممارسة ، هذا هو الحق وهذه عروته فعليكم بها.

__________________

(١) الأنعام (٦ / ١٢٥).

(٢) راجع تفسير الطبري (٨ / ٢١ ـ ٢٣) بتصرف.

٤٤

السّنة الشمسيّة والسّنة القمريّة

السنة الشمسية التي يسمونها بالسنة الانقلابية ، عبارة عن مدة تنقضى بين مرورين متتاليين للشمس بنقطة اعتدال واحد ومقدارها ٢٤٢٢١٧ ، ٣٦٥ يوما شمسيا ، وبمرورها يحدث الصيف والخريف والشتاء والربيع.

أما السنة القمرية فتتكون من ٣٦٧٠٦٧ ، ٣٥٤ يوما ، وهي المدة بين كسوفين متواليين مقسومة على عدد الحركات القمرية الدائرية.

والفرق بين السنة الشمسية والقمرية ٨٧٥١٤٩ ، ١٠ يوما وبذلك يكون في كل ٣٣ سنة فرق قدره ٨٧٩١٧ ، ٣٥٨ يوما ، أو نحو سنة تقريبا ، وعلى ذلك فإن كل مائة سنة تزيد ثلاث سنوات ، وتكون الثلاث مائة سنة شمسية يقابلها ٣٠٩ سنوات قمرية.

وهذه الحقيقة الكونية الثابتة التي اطمأن إليها العلم الحديث واستقر عليها سبق إليها القرآن الكريم في سرده لقصة أهل الكهف في قوله تعالى :

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (١) والمتأمل في لفظ الآية في قوله تعالى (سِنِينَ) ولم يقل سنة. يرى كأنه قال : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ). ثم قال : سنين. أي ليست شهورا ولا أياما ، ولم

__________________

(١) الكهف (١٨ / ٢٥). راجع كتاب الله والعلم الحديث لعبد الرزاق نوفل ط. دار الشعب سنة ١٩٧٧ ص ١٣٤ وص ١٣٥ بتصرف.

٤٥

يخرج مخرج ثلاثمائة درهم. وروى ابن فضيل عن الأجلح عن الضحاك قال : نزلت ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة. فقالوا : أيام أو أشهر أو سنين؟

فنزلت (سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (١).

ثم قال تعالى : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا).

__________________

(١) انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص ٢٦٦ وجامع البيان للطبري (١٥ / ١٥٣) بتصرف. والذين قالوا ذلك هم نصارى نجران. راجع أيضا أسباب النزول للسيوطي ص ١٧٥.

٤٦

الرّياح لواقح وبشرى

أثبتت التجارب الحديثة أن الرياح من أهم وسائل تلقيح النبات ، حيث يحمل الهواء حبوب اللقاح من النبات المذكر إلى المؤنث ليتم الإخصاب وهذه العملية ضرورية بل محتومة في كثير من النباتات المعروفة. قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (١).

قال أبو عبيدة : «لواقح» هي ملاقح مفردها ملقحة (٢). قال تعالى أيضا : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٣).

يقول أبو حيان : ومعنى بين يدي رحمته ، أي أمام نعمة وهو المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثرا على الإنسان (٤).

__________________

(١) الحجر (١٥ / ٢٢) راجع المرجع السابق. والمراد من الآية الشريفة أن الرياح تلقح الشجر ، وتلقح السحاب.

(٢) هذا قول أبي عبيدة لكن ابن قتيبة أكبر منه رأيه فقال في تفسير غريب القرآن ص ٢٣٦ : «ولست أدري ما اضطره إلى هذا التفسير بهذا الاستكراه ، وهو يجد العرب تسمى الرياح لواقح» أه. بتصرف.

(٣) الأعراف (٧ / ٥٧).

(٤) البحر المحيط (٤ / ٣١٧).

٤٧

رحمة الله في الليل والنهار

الذي يتأمل تتابع الليل والنهار وملاحقة أحدهما للآخر يرى قدرة الله سبحانه وتعالى سافرة جلية ، وهذه القدرة سخرت هذا الكون ، وهذه الطبيعة لمصلحة الإنسان فكانت رحمة الله سابغة موصولة بقدرته سبحانه وتعالى العزيز الرحيم ، ولو لا رحمته جل شأنه المقرونة بهذه العظمة لاستحالت حياة الإنسان إلى سلسلة موصولة من الصعاب والمشقات ، لأن رحمة الله تروض للإنسان كثيرا من مصاعب ومتاعب الطبيعة.

قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

يقول الإمام الفخر الرازي في تفسير هذه الآية :

نبه الله تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان ، لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ، ولا يتم له ذلك لو لا ضوء النهار ولو لا الراحة والسكون بالليل ، فلا بد منهما في الدنيا ، وأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل ،

__________________

(١) القصص (٢٨ / ٧١ ـ ٧٣) السرمد هو الدائم الذي لا ينقطع ، والسكون هو الاستقرار من التعب.

٤٨

فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات (١).

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الكون وأبدع نظامه وأتقن تكوينه فالليل والنهار والشمس والقمر والرياح والهواء والبخار وغيرها نعم متكاملة مصدرها رحمة الله وفضله سبحانه بعباده ، ولو اختل شروق الشمس أو القمر لتأثر نظام الكون واضطربت الحياة ، فنعمة الخلق متكاملة (٢).

قال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٣) أي ما ترى في خلق الرحمن من اضطراب أو اختلال واختلاف (٤).

وأصل التفاوت من (الفوت) وهو أن يفوت شيء شيئا ، فيقع الخلل ويحدث الاضطراب (٥) ، وهذا هو قول ثعلب في تفسير القرطبي (٦).

يقول الإمام الألوسي في تفسيره : أي ما ترى شيئا من تفاوت أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر ، وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا وهو المعنى بالاختلاف (٧).

ولا أحد يستطيع أن يتصور نهارا سرمديا بلا ليل ، كذلك فلا يمكن تصور ليلا سرمدا من غير نهار ننتهي إلى أن الله سبحانه وتعالى :

__________________

(١) الفخر الرازي في الكبير (٢٥ / ١١) بتصرف.

(٢) تفسير الآيات الكونية للدكتور عبد الله شحاتة. ط. دار الاعتصام ص ٢٠١ ط. الأولى.

(٣) الملك (٦٧ / ٣).

(٤) انظر لسان العرب لابن منظور (٢ / ٣٧٣ ، ٣٧٤) وجامع البيان (٢٩ / ٣).

(٥) راجع أبا حيان (٨ / ٢٩٨) والجامع لأحكام القرآن (١٨ / ٢٠٨).

(٦) انظر القرطبي (١٨ / ٢٠٩).

(٧) راجع روح المعاني للآلوسي (٢٩ / ٦).

٤٩

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (١).

وقال أيضا : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٢).

وتدبر الآيات الشريفة يجلى لنا آيات الله سبحانه وتعالى ونعمه حين يجعل له من مخلوقاته المسخرات سبيلا إلى راحته وسكونه فيجعل له الليل سكنا وراحة وهدوء ، كذلك يجعل النهار له للحركة والسعي والعمل والنشاط.

فإذا رأى الإنسان الليل مقبلا والنهار مدبرا ، والفتيان (٣) يتعاقبان في تواتر وتوافق وانسجام ، فقد حق عليه أن يذعن لله سبحانه وتعالى ضارعا وشاكرا أنعمه.

لقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرف الناس بفضل الله سبحانه وتعالى على خلقه ، وكان عليه الصلاة والسلام أشكر الناس وأعبدهم وأتقاهم وأحشاهم جميعا. كان عليه الصلاة والسلام يقول إذا أصبح : «أصبحنا وأصبح الملك لله ، رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ورسولا» (٤). وفي المساء كان يقول عليه الصلاة والسلام : «أمسينا وأمسى الملك لله ، والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، رب أسألك خيرا ما في هذه الليلة

__________________

(١) الفرقان (٢٥ / ٢).

(٢) الرعد (١٣ / ٥).

(٣) الفتيان : الليل والنهار.

(٤) رواه الترمذي (٣٣٨٦) وهو حديث حسن ، وقد حسنه الحافظ في تخريج الأذكار ، وقال الترمذي : «هذا حديث حسن صحيح» أه.

٥٠

وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها ، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر ، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر» (١).

من ثم نرى كتاب الله الكريم ، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستحث المسلم على ذكر ربه وشكره على ما أنعم من آلاء مشكورة بل لا ينهض بمقامها شكر.

إن قيومية القدرة الإلهية في كل مقومات الحياة ، بل وفي كل جزئيات الكون تستنهض الإنسان لاستدامة الشكر لخالقه واستدامة العبودية التي تتناسب مع هذه العطاءات والمنح والمنن ، مما يقوي اليقين ، ويقوي الصلة بين العبد وبارئه.

__________________

(١) رواه الإمام مسلم في الصحيح (٢٧٢٩).

٥١

يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ

قال تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١).

يقول الإمام القرطبي : بيّن تعالى كمال قدرته ، فكما يحيي الأرض بإخراج النبات بعد همودها كذلك يحييكم بالبعث (٢).

لقد خلق الحق سبحانه وتعالى آدم من تراب ، كذلك خلق الموجودات من العدم المطلق ، وفي كل جزئيات الزمن يخلق حيّا من ميت ، ويخلق ميتا من حي فسبحان الذي كملت ذاته وتعالت صفاته وهيمنت قدرته واتسع ملكه ، وامتد إلى غير انتهاء ملكوته.

من ذلك إخراج البيض من الدجاج ، والدجاج من البيض كذلك إخراج الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (٣).

ثم يقول تعالى : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٤).

__________________

(١) الروم (٣٠ / ١٩).

(٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٤ / ١٦).

(٣) كذلك فإن الجدير بالاعتبار أنه في كل لحظة من الزمن يخرج إلى الوجود مخلوقات ، وتسلب الحياة من آخرين ففي كل برهة تدب الحياة في جنين إنسان أو حيوان أو طائر وتسلب كذلك من إنسان أو حيوان أو طائر كذلك فإن عملية البناءanabolism وعملية الهدم msilobatac متوافرتان في كل جزئيات الزمن بلا انقطاع.

(٤) الروم (٣٠ / ١٩).

٥٢

أي بالماء والزرع والحياة ، وكما يحيي الله سبحانه وتعالى الأرض بعد موتها فإنه يبعث المقبورين الموتى من قبورهم ، بعد جمع ما تفرق من أشلائهم ، وهذا أمر يسير.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

ومعنى الآية الشريفة أنه سبحانه وتعالى هو الذي يبدأ الخلق غير الموجود قبل ذلك ، حيث لم يكن ثمّ ، ثم بعد ذلك يفنيه ، ثم يعيده كما بدأه وذلك أيسر وأهون عليه حسب ما استقر في أفهام البشر من أن إعادة الأمر أسهل وأيسر من ابتدائه لأن هذه المسألة من البدهيات المقطوع بها.

قال أبو عبيدة رضي الله عنه وهو أهون عليه أي وهو هيّن عليه كما يقال الله أكبر أي كبير (٢).

ونقل القرطبي عن تفسير أبي صالح «وهو أهون عليه» محمولة على المخلوق ، لأنه يقال له يوم القيامة : كن فيكون. وأول خلقه نطفة ثم علقة ثم مضغة (٣).

وإذا كان العلم الحديث بابتكاره للتليفزيون والفيديوtelevision and video أصبح يعطينا تقريبا أكثر للقضية ، فنعتقد أن هذه الأشياء قد

__________________

(١) الروم (٣٠ / ٢٧).

(٢) راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٤ / ٢١) مع زيادة وشيء من الاختلاف ، وقريبا من ذلك في البحر المحيط لأبي حيان (٧ / ١٦٩) وشيئا مشابها من ذلك في جامع البيان للطبري (٢١ / ٢٤).

(٣) راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٤ / ٢٢).

٥٣

قرّبت مجال الفهم والاقناع بل أصبحت حجة على أهل العصر بل أهل العصور المقبلة وأهل الأرض قاطبة.

إن استرجاع صور الناس الذين ماتوا في التلفاز يدفعني أن أسائل نفسي مرة بعد مرة ، وحينا بعد حين ، إذا كان الإنسان بما أوتي من علم قليل أصبح يسترجع صور الموتى يتكلمون وكأنهم أحياء فكيف بالجاحدين والمنكرين البعث وقدرة الله سبحانه وتعالى غير محدودة (١)؟.

__________________

(١) ونحن نرى أنه لو بال للإنسان ـ بعد هذه الطفرة الخطيرة من التطور ـ أن يماري أو يستبعد شيئا غيبيا أخبره الحق سبحانه وتعالى به بعد ما رأى من عوالم خلق الله لأن الحجة عليه أكبر وأتم وأكمل ، وإن الذي لم يعاصر هذه المستحدثات ربما يكون معذورا إلى حد ما في قصوره في الفهم أو الإدراك.

٥٤

وذكّرهم بأيّام الله

تختلف الأيام في حساب البشر ، عن الأيام في حساب الله سبحانه وتعالى ... وقد تحدث القرآن الكريم في كثير من آياته المحكمة عن خلق الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وقد سبقت كلمة «اليوم» بعدة معان ، منها (النهار) لقوله تعالى في إهلاك قوم عاد بالريح :

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) (١).

وكذلك قوله في كفارة اليمين (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) (٢).

وقد تأتي بمعنى طور من أطوار الخلق والتكوين والتدبير مثل قوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣). وقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤) ثم يقول الحق جل شأنه في وصف أهوال القيامة (٥) :

__________________

(١) الحاقة (٦٩ / ٧).

(٢) المائدة (٥ / ٨٩).

(٣) الحج (٢٢ / ٤٧).

(٤) السجدة (٣٢ / ٥).

(٥) في ملكوت السموات والأرض للمغفور له المرحوم الأستاذ علي عبد العظيم ص ٣٢ وما بعدها بتصرف.

٥٥

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) (١).

ولكن بعض الجاهلين يتوهمون تعارضا بين هذه الآية وبين آية سورة السجدة في قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) ولكن الذي يدفع هذا القول المرصوص أن القيامة مواقف مختلفة وأحوال متباينة ، قال المفسرون : فيها خمسون موطنا كل موطن ألف سنة ، وهذه المدة الطويلة تخف على المؤمن فلا يكاد يشعر بها بل تكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة (٢).

وقد يبلغ اليوم لحظة عابرة ، كما قد يكون طورا من الأطوار الممتدة عشرات الآلاف من السنين أو أكثر.

ومن الجامدين على تأويل اليوم بأربع وعشرين ساعة فقط تصدر آراء مقدوح في صحتها لا يقوم على صحتها دليل واحد.

ويبلغ اليوم عند خط الاستواءEquatorial linE أربعا وعشرين ساعة نصفها نهار ونصفها ليل ، لكنه عند القطب الشمالي ، والقطب الجنوبي يعادل سنة كاملة ستة أشهر نهار وستة أشهر ليل.

ثبت أيضا بالدليل العلمي أن اليوم على سطح القمر يساوي تسعة وعشرين يوما من أيام الأرض ، وعلى ذلك فإن الأيام تختلف من كوكب إلى كوكب ، فتباركت قدرة الصانع.

__________________

(١) المعارج (٧٠ / ٤ ، ٥). معنى الآية : أي تصعد الملائكة وجبريل في ذلك اليوم ، الذي يبلغ طوله خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، وقد ورد أن هذا هو يوم القيامة وقد جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يستقرون بعده في النار ، وهذا القول معزو لابن عباس في القرطبي (١٨ / ٢٨٢).

(٢) قيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أطول هذا اليوم! فقال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على

٥٦

مواقع النّجوم

يتكون الفضاء الكوني من ألوف المجرات ، وتتكون كل مجرة من ملايين النجوم ، وهذه النجوم يتخللها غاز الأيدروجين hydrogen gas ٢ h الذي ينضغط وتتكاثف جزئياته مع بعضها البعض فينجم عن ذلك طاقة كبيرة وحرارة هائلة.

وتبلغ المسافات في الفضاء الكوني البعيد حدود الخيال المترامي الأطراف ، وأقرب هذه المجموعات إلينا هي تلك التي تكون طريق التبانة التي لا يصلنا ضوؤها قبل بضع سنين. بل هناك نجوم أخرى تبعد عنا آلاف الألوف من السنين الضوئية.

قيل إن طريق التبانة فيه حشد كبير من النجوم وخليط كثيف من الغازات ، ويصل قطر هذا الطريق ستين ألف سنة ضوئية (١).

كما تتعدد المجرات من هذا الفضاء البعيد الفسيح المأهول.

وتختلف أبعاد النجوم عنا اختلافا كبيرا ، وقد ثبت أن أقرب نجم إلينا يبعد عن الشمس بمقدار أربع سنوات ضوئية ، أي أن الضوء يقطع المسافة من الشمس إلى أقرب نجم من الأرض في أربع سنوات ، وهذه

__________________

المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».

(١) راجع قصة السموات والأرض للدكتور محمد جمال الدين الغندي والدكتور محمد يوسف حسن ط. الشعب ص ١٦ بتصرف.

٥٧

المسافة بينهما تقدر بستة وعشرين مليون مليون ميلا.

وليس لدرجة لمعان النجم قيمة في شدة قربه أو شدة بعده عن كوكبنا الأرضي ، فقد يكون النجم الشديد البعد لا معا ، أو ان يكون القريب خافتا ، كما أن التماع النجم وقف على حجمه فإن النجم الكبير الحجم قليل اللمعان ، ولكن الأصغر كثير الالتماع. وألمع النجوم بعد الشمس ، هو الشعري اليمانية ، ولمناسبة طلوعه مع الشمس أول العام لذلك كان هذا معروفا عند المصريين القدماء فاحتفلوا بذلك لأنهم كانوا متفائلين بذلك لتوافقه مع فيضان النيل وازدياد الخير وعمومه.

قال تعالى في كتابه الكريم : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (١) قال ابن قتيبة : أراد نجوم القرآن الكريم إذ انزل ، لكن أبا عبيدة قال : أراد مساقط النجوم في المغرب (٢).

في قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) وردت اللام لتأكيد الكلام وتقويته ، أما زيادة لا فإنها كثيرة الورود في كلام العرب لقول الشاعر.

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد نياط القلب لا ينقطع أي كاد ينقطع (٣).

وقال بعض المفسرين إن لا هنا زائدة ، وتقديره أقسم بمواقع

__________________

(١) الواقعة (٥٦ / ٧٥).

(٢) راجع القرطبي في التفسير (١٧ / ٢٢٣) وما بعدها وجامع البيان للطبري (٢٧ / ١١٧).

(٣) راجع صفوة التفاسير للصابوني (٢٧ / ١٤٧٧).

٥٨

النجوم (١).

وقال آخرون ليست لا زائدة لا معنى لها ، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي كقول عائشة رضي الله عنها : «لا والله ما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط» وهكذا هاهنا تقدير الكلام (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٢).

وأقرب المجرات لمجرتنا تبعد بنحو ٧٠٠ ألف سنة ضوئية وقد ثبت أن طريق التبانة يحتوي على أكثر من مليون مجموعة من الكواكب السيارة ، وما أقل ما نعرف وما أكثر ما لا نعرف!! إن الكون الفسيح المأهول يهيب بالمخلوقات العاقلة المدركة كل لحظة من الزمان أن توحد الخالق جل شأنه لأنه القادر الحكيم جل شأنه.

وعند ما يقسم الحق تبارك وتعالى بالنجوم أو بمواقع النجوم فإن ذلك دليل على عظمة هذه المواقع وخطورة قيمتها ، فلنتدبر ذلك جيدا.

ولو لا المناظير والأدوات الحديثة لتعذر ارتياد هذا الفضاء البعيد المترامي المجهول وما يكتنفه من غموض ، تلك المهامة والمعامى المثيرة.

__________________

(١) وهذا مروي عن ابن جرير عن سعيد بن جبير وجوابه على ذلك (إنه لقرآن كريم). راجع تفسير ابن كثير (٤ / ٢٩٧).

(٢) السابق نفس الصفحة والتالية لها.

٥٩

اتّساع الكون باستمرار

قال تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (١) هذه السموات تتسع باستمرار فليست جامدة ولا ثابتة حيث انجلى ذلك واضحا للعلم الحديث الذي تحقق منها بأساليبه المتطورة ولا تزال البحوث والدراسات مهتمة بمزيد من الأدلة والبراهين على ذلك.

ومن الأدلة المسوقة لبيان اتساع الكون والفضاء الجوي ، وأن هذا الوجود الكوني في اتساع مستمر دائم أنه لو تصورنا طائرة خيالية تسير بسرعة ٠٠٠ ، ١٨٦ ميلا في الثانية الواحدة ، وأن هذه الطائرة الخيالية تطوف حول الكون بنا الآن ، فإن هذه الرحلة سوف تستغرق (٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١) ألف مليون سنة ، ولما كان هذا الكون غير متجمد بل يتسع باستمرار فإن هذه المسافات الكونية (٢) ستتضاعف بعد ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٣٠٠ ، ١ سنة.

يقول الأستاذ وحيد الدين خان (٣) :

عند ما تكون السماء صافية نستطيع أن نرى بالعين المجردة خمسة آلاف

__________________

(١) الذاريات (٥١ / ٤٧).

(٢) أي ستبلغ المسافات الكونية ضعفين ، ولذلك لا تستطيع الطائرة الخيالية المزعومة أن تصل إلى نهاية الكون ، فعند ما تقترب من نهاية الكون المضاعف ضعفين يكون بدوره قد ضوعف مرة أخرى ضعفين وهكذا إلى غير انتهاء.

(٣) في كتابه (الإسلام يتحدى) ط. السادسة. ط. المختار الإسلامي ص ٥١ بتصرف يسير.

٦٠