الاعجاز العلمي في القرآن

الدكتور السيد الجميلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

الدكتور السيد الجميلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٠

١
٢

٣
٤

إهداء

إلى روح الرجل الكبير في تواضعه وسماحته وحلمه .. غفر الله ذنبه ، وخفف حسابه ، وتغمده بغفرانه ، ومهد له في أعلى جناته ... أكرم الله مرجعه ، ورحم مصرعه ، وبرّد مضجعه .. جعل الله فرطاته مغفورة ، وحسناته مشكورة ... نوّر الله برهانه ، وخلع عليه رضوانه ، وفسح له جنانه وجعل ما نقله إليه خيرا مما نقله عنه ، وأفاض عليه الرحمة السابغة عليه ، ولقنه الحجة البالغة بين يديه. كان تقيا ورعا مخبتا خاشعا والتقوى أقوى مجن وأوقى ظهير.

إلى المرحوم الأستاذ الدكتور الحسين هاشم وكيل الأزهر السابق.

٥
٦

٧

مقدّمة

أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتدبر مخلوقاته ، ونتأمل دقيق ومتقن صنعه ، فإذا كان القرآن كتاب الله المقروء ، فإن الكون هو كتاب الله المنظور.

والمسلم مأمور بأن يتدبر آيات الله الكريمة ، وأن يعمل عقله وفكره ووجدانه في فقه معانيها ، وفهم مدلولاتها حتى تطمئن جوارحه ، وتستقر خواطره إلى أن القرآن تنزيل رب العالمين حجة على العقل الإنساني وعلى أهل الأرض قاطبة من بني البشر أجمعين.

العلم حجة على أهله لأنه مناط التكليف.

ولأن العلم جعل العقل البشري لا يقبل القضية إلا إذا كانت مشفوعة بالبرهان ، ولا يرجح راجحا على مرجوح إلا بدليل ، ثم هو يستطيع التفرقة بين الأدلة من قطعي إلى ظني ، إلى متردد بين هذا وذاك وفي كل هذه الأحوال له أن يقف على ما يثق فيه ، ويطمئن إليه ، حسب مقدرته من التقييم ، ورصيده من التجريب والممارسة ، فهناك من يأخذ بالظنة ، ويقول عليها ، وهناك من يطلب الدليل القطعي الذي يعطيه واقعا لا يرقى إليه حدس أو ريبة.

ومجالات الحدس يكثر أعمالها في المبهمات التي لم يقطعها ولم يفصل فيها أمر قاطع ، والمظنون أن تخضع لترجيحات العقل والفهم.

ولا أحد ينكر أن الإيمان عن علم وبصيرة ويقين هو أرقى وأشرف درجات

٨

الإيمان لأنه بذلك يكون قد حقق ما قد أريد منه وأنيط به. قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١).

وخطاب القرآن ليس مقصورا على العرب الأميين ، ولا هو بمقصور على أبناء القرن العشرين ، ولكنه عام مطلق لكل عصر ، ولكل مكان فليس من المعقول ، وليس من المقصور أن يظل تفكير الإنسان ثابتا على نسق واحد في جميع العصور.

ولكن التفكير العصري شيء وإقرار النظريات العلمية المتجددة شيء آخر ، ونحن مطالبون بأن نفهم القرآن الكريم في عصرنا كما كان يفهمه العرب الذين حضروا الدعوة المحمدية ، لو أنهم عرفوا ما عرفناه ، وتعلموا ما تعلمناه نحن (٢).

ونحن اليوم نستفيد من الاكتشافات العلمية ، والمستحدثات الحضارية التي أربت على كل تصور ، وبلغ العلم مراحل خطيرة من التفوق والنفاذ إلى ما لم يخطر قبل ذلك على قلب بشر ، ولم يتوقف عند حد إنما لا يزال المتوقع والمأمول أن المستقبل فيه الأكثر والأكثر من المغريات.

ولا أحد ينكر إفادتنا من آراء المفكرين ، والعلماء النظريين والتجريبيين إفادات وإدراكات نافعة في التأمل والنظر دون الإيمان بصحة كل خبر ، وصدق كل نظرية ، وصواب كل رأي.

ومطلوب منا في آن واحد أن نؤمن بآيات الله المنزلة ، لقوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٣) كذلك فالأمر بتدبر آياته الكونية واجب

__________________

(١) الذاريات (٥١ / ٢١) قال ابن عباس رضي الله عنه : «يريد اختلاف الصور ، والألسنة ، والألوان ، والطبائع ، والسمع والبصر والعقل» راجع تفسير الخازن (٤ / ٢٠٣) قال قتادة : «من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ، ولينت مفاصله للعبادة» انظر تفسير ابن كثير (٤ / ٢٣٥).

(٢) انظر الفلسفة القرآنية للأستاذ عباس محمود العقاد ص ٢٠٦ ط. كتاب الهلال ـ العدد ٢٢٩ سنة ١٩٧٠. بتصرف.

(٣) محمد (٤٧ / ٢٤) يقول الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير (٢٨ / ٦٥) : إذا كان القلب عارفا كان معروفا لأن القلب خلق للمعرفة ، فإذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف ، فهذا كما يقول

٩

بل فريضة لقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١).

والقرآن الكريم حافل بالإشارات العلمية الكونية وكل منها يدعو الفطرة الموحدة لمزيد من التوحيد ، والخشوع والخشية والإخبات للحق سبحانه وتعالى ، وأكثر الناس إدراكا لها المتخصصون في الكونيات وعلوم الطبيعة.

ويأتي عظيم مدلول الآيات الكريمة أنها تتناول الجانب العلمي الفيزيائي على لسان نبي أمي لم يكن يقرأ ، أو يكتب ، كما لم يكن يختلف قبلها إلى معلم أو مدرس ... أمر غريب محير حقا أن تأتي هذه الإعجازات العلمية على قلب رجل كان راعيا للغنم في نشأته الأولى ، ثم استغل بالتجارة صبيا ، وأكثر هذه الإعجازات لم يصل العلم إلى بعضها إلا مؤخرا. قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢).

وقد تنوعت مذاهب العلماء ومصنفاتهم في التفسير فمنهم من جنح إلى التفسير بالمأثور كما فعل الإمام محمد بن جرير الطبري في «جامع البيان» ، والإمام السيوطي في تفسيره «الدر المنثور في التفسير بالمأثور».

وبعض العلماء جنح إلى التفسير بالرأي مثل الإمام الفخر الرازي في تفسيره

__________________

القائل في الإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان هذا سبع ، ولذلك يقال هذا ليس بقلب هذا حجر ، إذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة واللام لتعريف الجنس أو المعهد» أه. بتصرف.

(١) آل عمران (٣ / ١٩٠ ، ١٩١). يقول الإمام الزمخشري رحمه‌الله : «ما خلقت هذا باطلا» على إرادة القول. أي يقولون ذلك وهو في محل الحال بمعنى يتفكرون قائلين ، والمعنى : ما خلقته خلقا باطلا بغير حكمة بل خلقته لداعي حكمة عظيمة ، وهو ان تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك ولذلك وصل به قوله (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لأنه جزاء من عصى ولم يطع» الكشاف (١ / ٤٨٨).

(٢) العنكبوت (٢٩ / ٤٨). قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب. انظر تفسير الطبري (٢١ / ٤).

١٠

الكبير المسمى «مفاتيح الغيب» والألوسي في كتابه القيم «روح المعاني» والبيضاوي في «أنوار التنزيل» لكن الإمام الزمخشري في «الكشاف» جنح إلى التفسير البلاغي وقد اختار أبو حيان التفسير النحوي «البحر المحيط». بل الإمام القرطبي اختار الجانب الفقهي في تفسيره الشهير «الجامع لأحكام القرآن».

وكان أمرا محتوما أن يظهر أخيرا التفسير العلمي مختارا لأنواع شتى من الاشارات العلمية للحقائق الكونية. ومحاولة التوفيق بين الإشارات القرآنية والحقائق العلمية فتحت بابا للاجتهاد والبحث لم يكن مطروقا من قبل. وقد لاقى التفسير العلمي قبولا من بعض العلماء الذين أرادوا أن يتسع رصيدا للأدلة التي تيسر ولوج الإيمان إلى قلوب الناس ، وأيدوا ذلك بقوة ليتسنى للإسلام التمشي مع التطور العلمي المعاصر الذي بلغ شأوا بعيدا في هذا العصر الذي أصبح الناس فيه مضمونين في الأسباب. لكن تيارا آخر ظهر معارضا للتفسير العلمي ، وهذا التيار معذور لإشفاقه وحيطته وحذره أن يختلط الفهم أو يكون ذلك داعيا لفتح باب شديد الخطورة غير مأمون المغبة والعاقبة ، فإن ربط التفسير القرآني بتلك النظريات أو الحقائق المتغيرة غير الثابتة يضر إضرارا بليغا ويسبب فتنة شرسة لا مزيد عليها.

وقد قدم الشيخ طنطاوي جوهري تفسير «الجواهر الحسان» في التفسير العلمي (١) ، كذلك الأستاذ حنفي أحمد في كتاب «التفسير العلمي للآيات الكونية» والدكتور عبد الله شحاتة في كتابه «تفسير الآيات الكونية» والدكتور محمد أحمد الضمراوي في كتابه «الإسلام في عصر العلم» والذي قدم له الأستاذ الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني.

وقد ثبت أن الفريقين ـ المؤيد والمعارض للتفسير العلمي ـ كلا منهما قد أغرق (٢) في مذهب وبالغ في رأيه.

__________________

(١) راجع كتاب (في ملكوت السموات والأرض) للأستاذ علي عبد العظيم ـ الكتاب السابع من سلسلة البحوث الاسلامية ص ١٠ وما بعدها بتصرف.

(٢) أغرق إغراقا : اشتط وبالغ مبالغة.

١١

فالذين جنحوا للتفسير العلمي ، قيل لهم إن الكشوف العلمية تتغير من جيل إلى جيل لأن العلم ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس ، وغدا ينقض ما أبرمه اليوم (١) ، لكن القرآن الكريم ثابت لا يتغير ، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من عزيز حميد.

ومن الفساد المشين أن تربط متغيرا بثابت لا يتغير ، ومن الخطأ أن تربط آيات القرآن الكريم بمفاهيم تختلف فيها وجهات النظر اختلافا شديدا.

كذلك فالذي لا شك فيه أن التيار الآخر الذي أنكر الإشارات العلمية قد أخطأ الرأي والتقدير لأنه يتجاهل جانبا بالغ الأهمية من الإشارات العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم وهي دعوة للتدبر في ملك الله سبحانه وتعالى وملكوته (٢).

قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (٣).

وآيات الله الكونية تهيب بالغافلين أن يتدبروها ، ويعملوا فيها عقولهم ، وأفهامهم ، إلا أن كثيرا منهم يصدفون عنها : قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (٤) والدعوة للتفكر في خلق الله ومصنوعاته ظاهرة جلية بصريح النص غير المحتاج إلى تأويل : قال تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (٥)

__________________

(١) وقد لوحظ أن آراء الشيخ طنطاوي جوهري العلمية في تفسيره قد تغيرت تماما ، وتحولت من النقيض إلى النقيض.

(٢) تأمل قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) النمل (٢٧ / ٩٣).

(٣) فصلت (٤١ / ٥٣). قال مجاهد والسدى والمنهال بن عمرو : «فتح القرى» و «في أنفسهم» فتح مكة ، وهذا ما ورد في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٥ / ٣٧٤) وفي البحر المحيط لأبي حيان (٧ / ٥٠٥) وهذا هو المختار عند الإمام الطبري في جامع البيان (٢٥ / ٤).

(٤) يوسف (١٢ / ١٠٥) راجع تفسير الطبري (١٣ / ٥٠).

(٥) الأعراف (٧ / ١٨٥).

١٢

والقرآن يكرم العلماء العاملين وقد أناط بهم فهم آياته ومعرفة حقيقة المراد منها.

قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١).

والدارس للقرآن الكريم يأخذ وينهل منه على قدر قدرته على الاستيعاب ، ودرجة يقينه وإيمانه ، وحسب ثقافته العلمية ومعارفة العديدة ، ودقة استنباطه وعمق دربته واتساع مداركه.

قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢) وكثير من الآيات الكريمة أوردها الحق سبحانه وتعالى عن خلق الإنسان وحياته وأطواره المختلفة وقد تناولناها في تفصيل وبسط علمي دقيق في كتابنا : «الإعجاز الطبي في القرآن» (٣) وهي قضايا غاية في الأهمية جديرة بالتدبر والتأمل خليقة بالبحث والدراسة ، ومن المحتوم أن يقف عليها كل دارس وباحث ومريد التعمق في فهم كتاب الله فهما علميا نافعا كما أمر سبحانه وتعالى.

وصفوة القول ومجمل الموضوع أن نأخذ بالتفسير العلمي للقرآن على حذر شديد ، وفي حيطة بالغة واحتراس وحذق وفطنة ، فلا تحمّل الألفاظ فوق ما تطيق ، ولا يجب الصرف عن الظاهر إلا لضرورة تقتضي ذلك ، أو في حالة استحالة المعنى الظاهر.

ومن الخطر ، ومن غير المقبول أن يوصد جانب العلوم الكونية المأهول في القرآن الكريم وهو من أمتع ما فيه إذ يتسع المقام به لمخاطبة الأفهام الواعية المدركة المجربة.

وحسب العلماء تكريما أن خوطبوا في القرآن الكريم بأنهم يخشون الله بأسلوب القصر في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٤) وجاءت هذه الآية بعد قوله تعالى :

__________________

(١) العنكبوت (٢٩ / ٤٣).

(٢) التين (٩٥ / ٤).

(٣) كتاب «الإعجاز الطبي في القرآن» تأليف السيد الجميلي وقد صدرت طبعته الأولى سنة ١٩٧٧ م. والأخيرة بدار الهلال ببيروت فراجعه إن شئت.

(٤) فاطر (٣٥ / ٢٨).

١٣

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها ، وَغَرابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) (١).

أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل ، وأن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم إنه خير مأمول وأكرم مسئول.

القاهرة في ديسمبر سنة ١٩٨٦ م.

السيد الجميلي

__________________

(١) فاطر (٣٥ / ٢٧). راجع تفسير مختصر ابن كثير (٣ / ١٤٦) والقرطبي (١٤ / ٣٤٢) وما بعدها وجامع البيان للطبري (٢٢ / ٨٦).

١٤

ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان

قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١).

يقول المفسرون : المعنى : ثم عمد سبحانه وتعالى إلى السماء ، وهي دخان ، فقصد إلى تسويتها وهي بهيئة الدخان ، قال الإمام ابن كثير :

المراد بالدخان بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض (٢).

وقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي استجيبا لأمرى طائعتين أو مكرهتين (قالتا) أي السماء والأرض أتينا طائعين أي مذعنين للأمر (٣).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال الله تعالى للسماء : أطلق شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : شققي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين ، قالتا أتينا أمرك طائعين (٤).

__________________

(١) فصلت (٤١ / ١١ ، ١٢).

(٢) راجع مختصر ابن كثير (٣ / ٢٥٧).

(٣) يقول صاحب الكشاف : أي أنه تعالى أراد تكوينها فلم تمتنعا عليه ، على التمثيل وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع والفرض تصوير أثر قدرته في المقدورات من غير خطاب أو جواب» أه. انظر الكشاف (٤ / ١٤٨) بتصرف.

(٤) راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (١٥ / ٣٤٣) ط. دار الكتب المصرية.

١٥

وفي قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي صنعهم وأحكمهم (١).

يقول الفخر الرازي : قضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه ، والضمير في قوله (فَقَضاهُنَ) يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال (طائِعِينَ) ونحوه (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال ، والثاني على التمييز (٢).

وفي قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي جعل في كل سماء ملائكة (٣).

يقول الأستاذ محمد اسماعيل إبراهيم :

«يقول العلم إن المقصود بكلمة الدخان في الآية الكريمة وهو السحب الكونية ، أو المجرات التي نشأت فيها السماء والأرض ، والسموات السبع التي ورد ذكرها في كثير من الآيات هي على أرجح الأقوال الكواكب السبع السيارة المعروفة ، وأن اليومين المذكورين في الآية هما في رأي علماء الجيولوجيا الزمنين اللذين استغرق كل منهما ملايين السنين لتكوين هذه السموات ، وأحد هذين الزمنين انقضى وقت أن كانت الأرض مرتوقة أي متصلة بالسديم ، والآخر بعد أن انفتقت الأرض أي انفصلت عن السديم» (٤).

__________________

(١) القرطبي (١٥ / ٣٤٥) والبحر المحيط لأبي حيان (٧ / ٤٨٨).

(٢) راجع التفسير الكبير للفخر الرازي (٢٧ / ١٠٨) بتصرف.

(٣) على ما ورد في تفسير الطبري (٢٤ / ٦٤).

(٤) انظر كتابه «القرآن وإعجازه العلمي» ص ٥٩ ط. دار الفكر العربي.

١٦

الفتق والرتق للسّماوات والأرض

نشأت الأرض والسماء أول أمرهما ملتصقتين معا داخل السديم الذي يكتنفهما ، ثم يحدث الكثير من الانفجارات الذاتية داخل جسم السديم نتيجة غاز الهيدروجين Hydrogen ions فكان محتوما أن تنفصل السماء عن الأرض نتيجة هذه السلسلة المتصلة من الانفجارات غير المتوقفة والتي أنيط بها تكوين كل مجرات وأجرام السماء.

قال تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (١) والمقصود بقوله تعالى (كانَتا رَتْقاً) أي كانتا شيئا واحدا متصلا ببعضه ، ومن ذلك القول : هو يرتق الفتق أي يسده (٢).

قال بعض المفسرين : يقال كانتا مصمتتين ، ففتقنا السماء بالمطر ، والأرض بالنبات (٣).

ومن سنن الحق سبحانه وتعالى في خلقه ومصنوعاته أن يكون أثر

__________________

(١) الأنبياء (٢١ / ٣٠).

(٢) كذلك يقال للمرأة رتقاء. انظر الطبري (١٧ / ١٤). والاستفهام في الآية الكريمة للتوبيخ لمن ادعى مع الله آلهة. وقال الحسن وقتادة : كانت السماوات والأرض ملتزمتين ، ففصل الله بينهما بالهواء. راجع تفسير القرطبي (١١ / ٢٨٣).

(٣) وهذا هو الرأي المختار عند الطبري (١٧ / ١٥).

١٧

القدرة واحدا في كل أنواع المخلوقات وهذ أعظم دليل وأدق برهان على وحدانية الخالق.

ولقد بيّن الله سبحانه وتعالى بهذه الآية أن العالم المادي غير الحي في السموات والأراضين قد خلق بنظام واحد ، رتق ثم فتق ، وأن العالم المادي أيضا مخلوق بسنة واحدة ، وهي أن جعل الماء سببا في خلق كل الأحياء ، لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) في بقية الآية وبعد هذه مباشرة (١).

قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (٢).

والرجع هو المطر ، وقد أقسم سبحانه وتعالى بالمطر الذي ينزل من السماء ويتكرر على الأرض ذات الصدع والشقوق التي تنشق بالمطر عن النبات ، أن القرآن فصل بين الحق الأبلج وبين الباطل الزاهق المرصوص ، وأن هذا التنزيل ليس فيه شائبة من مرية أو لهو أو لعب. وهنا لطيف معنى دقيق أشار إليه القرآن الكريم ألا وهو إرجاع السماء للأرض ما يصعد من البحار والمحيطات الأرضية من بخار الماء vapour water الذي تتكون منه السحب المتكاثفة التي تستحيل بعد ذلك إلى أمطار غزيرة على بقع متناثرة على سطح الكرة الأرضية.

__________________

(١) انظر «التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن» للأستاذ حنفي أحمد ، ص ٢٢٦ وما بعدها. ط. دار المعارف. الثالثة.

(٢) الطارق (٨٦ / ١١ ، ١٢) راجع الطبري (٣٠ / ٩٤) والقرطبي (٢٠ / ١٠) والبحر المتوسط (٨ / ٤٥٦). قال ابن عباس : الرجع هو المطر ، وعنه هو السحاب فيه المطر ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ)

١٨

خلق السّماوات والأرض

قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١) يقول الشيخ الصابوني : أي خلقها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ، وفيه الحث على التأني في الأمور فإن الإله القادر على خلق الكائنات بلمح البصر خلقها في ستة أيام (٢).

وفي الآية الشريفة دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض (٣).

ولقد خلق الحق سبحانه وتعالى السموات والأرض وما فيهما في ستة أيام حيث لم يكن قبل ذلك إلا الماء ومن فوقه عرش الله سبحانه وتعالى :

قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن السماء هي كل ما أظلك وعلاك.

والسماء تشمل وتعني كل طبقات الغلاف الجوي القريب والبعيد كما أن كلمة (العرش) بمعنى سرير الملك.

ولكن أيام الله سبحانه وتعالى لا يعلم مداها إلا هو وحده ، وقد أثبت

__________________

تمطر ثم تمطر ، وقال قتادة : ترجع رزق العباد كل عام ، ولو لا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم. (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قال ابن عباس : هو انصداعها عن النبات. راجع تفسير ابن كثير (٤ / ٤٩٨) بتصرف.

(١) هود (١١ / ٧).

(٢) انظر تفسير الصابوني (١٢ / ٦٠٣).

(٣) راجع كشاف الزمخشري (٢ / ٣٨٠).

١٩

العلماء الجيولوجيون أن الأرض كانت جزءا من الشمس ثم انفصلت عنها بعوامل خارجية طارئة عليها ، ثم ابتعدت شيئا فشيئا وارتمت بعيدا في الفضاء كرة ملتهبة ، تحتوي في أحشائها مواد منصهرة ويحيط بغلافها غازات كثيرة كثيفة وأبخرة تشع حرارة مرتفعة في الفضاء حتى تبرد رويدا رويدا (١).

وقد استغرقت عملية تبريد الأرض هذه ملايين السنين التي وردت في القرآن الكريم (سِتَّةِ أَيَّامٍ) وبعد تمام برودة الأرض أو القشرة الأرضية تكاثرت فوقها غازات كثيفة وأبخرة عظيمة نجم عنها أسراف من السحب المتراكمة التي ظللت الأرض بجو قاتم تخلله البرق والرعد وانهمر عليها المطر فتكونت من جراء ذلك البحار والأنهار والمحيطات (٢).

__________________

(١) راجع «القرآن والاعجاز العلمي» (ص ٦٧) بتصرف.

(٢) وقد تسربت كميات من ماء المطر المنهمر خلال شقوق الأرض ، وتكون منه المياه الجوفية ، وباستمرار هطول هذه الأمواه صار وجه الكرة الأرضية طمورا بالماء قد غشيته من جميع الأنحاء ، من ثم كانت الأرض على هيئة كتلة مائية ضخمة سابحة في الفضاء الكوني.

٢٠