تراثنا ـ العدد [ 57 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 57 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

وقال له رجل : أريد أن تعلمني النسب ، قال : إنما تريد أن تساب الناس (١).

ولذلك كانت قريش حين تسمع أهاجي حسان بن ثابت وما فيها من مثالب تظن تارة أن أبا بكر هو منشئ تلك الأشعار ، ولما عرفت أن حسانا هو شاعرها عرفت أن ذلك جاء بمعونة حافظة أبي بكر للأنساب وإحاطته بالأيام.

قال أبو الفرج : لما أنشدت قريش شعر حسان قالت : إن هذا الشتم ما غاب عنه ابن أبي قحافة (٢) ،.

وأخرج ابن عساكر ، عن المقدام ، قال : وكان أبو بكر سبابا (٣).

وقال ابن حجر الهيتمي في الصواعق : كان أبو بكر سبابا أو نسابا (٤).

ولعل من أسباب نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التعمق في تعلم الأنساب هو العراك والتهاتر الذي ينشأ عنها ، وهو يخالف الخلق الإسلامي الإنساني.

فقد مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوم مجتمعين على رجل ، وهم يقولون : إنه لعالم!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما علمه؟!

قالوا : إنه عالم بأنساب العرب.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا علم لا يضر من جهله (٥).

__________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٢٨٠.

(٢) الأغاني ٤ / ١٣٩.

(٣) عمدة التحقيق : ٣٥ ـ طبعة دار الندوة الإسلامية.

(٤) الصواعق المحرقة : ٤٣ ، تاريخ الخلفاء : ٣٧.

(٥) جامع بيان العلم وفضله ٢ / ٢٩ ، إحياء علوم الدين ١ / ٤٣ ، الأنساب ـ للسمعاني ـ ١ / ٢٢ ح ١٢ و ١٣ ، إتحاف السادة المتقين ١ / ٢٢٤ ، كنز العمال ١٠ / ٢٨٠ ح ٢٩٤٤٣.

٨١

والذي نريد قوله هنا : إن أبا بكر قد تأثر بالموروث حتى بعد مجئ الإسلام.

فقد روى ابن عبد ربه الأندلسي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن علي ، قال : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعرض نفسه على القبائل ، خرج مرة وأنا معه وأبو بكر ، حتى رفعنا إلى مجلس من مجالس العرب ، فتقدم أبو بكر فسلم ... فقال : ممن القوم؟

قالوا : من ربيعة.

قال : وأي ربيعة أنتم؟ أمن هامتها أم من لهازمها؟

قالوا : من هامتها العظمى.

قال : وأي هامتها العظمى أنتم؟

قالوا : ذهل الأكبر.

قال أبو بكر : فمنكم عوف بن محلم الذي يقال فيه : «لا حر بوادي عوف»؟!

قالوا : لا.

قال : فمنكم جساس بن مرة ، الحامي الذمار ، والمانع الجار؟!

قالوا : لا.

قال : فمنكم أخوال الملوك من كندة؟!

قالوا : لا.

قال : فمنكم أصهار الملوك من لخم؟!

قالوا : لا.

قال أبو بكر : فلستم ذهلا الأكبر ، أنتم ذهل الأصغر!

فقام إليه غلام من شيبان حين بقل وجهه يقال له : دغفل ، فقال : ...

٨٢

يا هذا! إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا ، فممن الرجل؟

قال أبو بكر : من قريش.

قال : بخ بخ ، أهل الشرف والرئاسة ، فمن أي قريش أنت؟

قال : من ولد تيم بن مرة.

قال : أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة ، أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل فسمي مجمعا؟!

قال : لا.

قال : أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟!

قال : لا.

قال : فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب ، مطعم طير السماء ، الذي وجهه كالقمر في الليلة الظلماء؟!

قال : لا.

قال : فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟!

قال : لا.

قال : فمن أهل السقاية أنت؟!

قال : لا.

فاجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... (١).

فانظر إلى أبي بكر كيف يتعامل مع القبائل وهو في موطن الدعوة إلى الإسلام!

ألم يكن المفروض به أن يعرض عليهم الشهادتين وأخلاق الإسلام

__________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٢٨٠ ـ ٢٨١ ، الأنساب ـ للسمعاني ـ ١ / ٣٧ ـ ٣٨.

٨٣

ومفاهيمه برفق ولين ، لا أن يغالبهم في النسب ويقلل من شأنهم بما يجعل نفوسهم بعيدة عن قبول الدين الجديد؟!

ولهذا التأثير العنيف ، كان من الطبيعي أن تظهر هذه النبرة القديمة في سقيفة بني ساعدة ، فقد طرحت فيها الموازين الموروثة لا الموازين التي جاء بها الإسلام على لسان نبي الرحمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

فقد قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة :

أيها الناس! نحن المهاجرون أول الناس إسلاما ، وأكرمهم أحسابا ، وأوسطهم دارا ، وأحسنهم وجوها ، وأكثر الناس ولادة في العرب ، وأمسهم برسول الله رحما ... (١).

فكرم الأحساب ، ووسطية الدار ، وحسن الوجوه ، وكثرة العدد ، كانت من المفردات التي احتج بها للخلافة ، وهذه كلها لا تمت إلى الخلافة والأحقية بها بصلة!

واستمرت هذه الخصلة عند أبي بكر حتى في أيام خلافته ، فجعل يسأل الصبيان الذين أتى بهم خالد بن الوليد من عين التمر عن أنسابهم ، فيخبره كل واحد بمبلغ معرفته (٢).

نحن لسنا بصدد بيان هذه الأمور بقدر ما يعنينا بيان امتداد هذا النهج بعد الخليفة ، وخصوصا في العهد الأموي ، وعناية الخلفاء بالشعر والأنساب مع مخالفتهم لتدوين الحديث والمغازي!!

إن عناية عرب الجزيرة بالحفظ وترك التدوين كان من جملة الدوافع الرئيسية التي حدت بأبي بكر أن يحرق مدونته ، وبالناس أن يقبلوا بحظره

__________________

(١) العقد الفريد ٥ / ١٢.

(٢) الأغاني ٤ / ٥.

٨٤

على التحديث بحديث رسول الله وتدوينه ، على رغم وقوفهم على أمر القرآن والسنة المباركة بالتحديث والتدوين.

وقد أثر هذا المنع تأثيرا خطيرا على السنة النبوية ، التي ظلت غير مدونة مدة مديدة من الزمن ، فتمهدت الأرضية الخصبة لوضع أحاديث مكذوبة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيها نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التدوين لحديثه الشريف!!

كل ذلك تصحيحا لما وقع فيه أبو بكر من خطأ في المنع ، وما حمله هو وآخرون معه من أفكار عن الحفظ وكراهة التدوين ، فجاء عن بعض الصحابة قولهم لبعض التابعين : احفظوا كما كنا نحفظ (١)!!

إن هذه المفردة التي جاهر بها أبو بكر ، كانت من أكبر المؤثرات على السنة النبوية المباركة ، واختلاف النقل فيها ، وضياع كثير من معالمها علينا.

٢ ـ نظرتهم إلى الخلافة والإمامة :

اختلفت النظرة إلى الخلافة والإمامة في صدر الإسلام ، فالتزموها تارة بالبيعة ، وأخرى بالشورى ، وثالثة بالإجماع ، لاغين الوصاية النبوية أو احتمالها من قاموس السقيفة ، مؤكدين على أن الكثرة واتفاق أهل الحل والعقد هما من طرق إثبات شرعية الخلافة ..

وتطور الأمر ونضح الإناء بأخرة فصرح بعضهم بانعقاد الخلافة بمبايعة شخصين ، أو شخص واحد ، مستدلين ببيعة عمر لأبي بكر ، واستفحلت الفكرة حتى صرح بعضهم بانعقاد الخلافة لكل من غلب وتسلط بالسيف والقوة ..

__________________

(١) قوت القلوب ١ / ١٥٩.

٨٥

إلى غير ذلك من الرؤى التي استلت من بيعة أبي بكر ، وكتابة عثمان خلافة عمر وإقرار أبي بكر لذلك ، واختراع عمر لمبدأ الشورى ..

فكان لا بد من إيجاد المخرج لتصحيح تلك البيعات ، ومن هنا ظهرت الآراء المتضاربة والمتهافتة ، وأثرت حتى اليوم على شرعية وشكلية الحكومة الإسلامية.

لكن الاستدلال بالكثرة غير صحيح عقلا ونقلا ، إذ لو صحت الكثرة دليلا لكان الكفار على حق ، لكونهم أكثر عددا من المؤمنين في صدر الإسلام ، بل في أغلب الأزمان ، حتى صرح القرآن الحكيم بعدم نفع الكثرة قبال القلة المؤمنة ، بقوله : (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) (١) ، وقوله : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (٢) ، وقوله : (وقليل من عبادي الشكور) (٣) ، وقوله : (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (٤).

وعليه فمعيار الكثرة والقلة لا يمكن جعله دليلا على المطلوب.

وهكذا الحال بالنسبة إلى اتفاق أهل الحل والعقد ، فهو مردود شرعا وعقلا ، ونحن نترك الجواب عن أمثال هذه رعاية للاختصار.

وعليه : فالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إما أن يكون ترك أمر البيعة للناس ، أو أن يكون عين من يخلفه؟!

فإن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تركهم ، فلماذا يعين أبو بكر عمر خلفا له خلافا لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٤٩.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١١٦.

(٣) سورة سبأ ٣٤ : ١٣.

(٤) سورة الأعراف ٧ : ١٨٧ ، سورة يوسف ١٢ : ٢١ ، سورة الروم ٣٠ : ٦ ، سورة سبأ ٣٤ : ٢٨ ، سورة غافر ٤٠ : ٥٧.

٨٦

وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عين وصيه ، فكيف يصح أن يقال إنه ترك الأمر للناس كي ينتخبوا؟!

وهكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطاب ، إذ لو كان يؤمن بمبدأ الشورى فلم لا يستجيب لقول الصحابة حينما أشاروا عليه تدوين الحديث (١)؟!

وكيف بعمر يقول : «لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيا استخلفته ووليته ... ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته ... ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته» (٢) ، ويقول : «لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته» (٣)؟!

بل كيف لنا أن نفهم أبعاد هذا التخليط عند الحكام في صدر الإسلام؟!

فقول عمر : «لو كان سالم مولى أبي حذيفة» لا يتفق مع سياسته نحو الموالي! كما لا يتفق مع احتجاجهم بأن الأئمة من قريش ، وأن قريشا أولى من سائر العرب بقربها من النبي دون سائرهم!!

وهكذا الحال بالنسبة إلى قوله : «لو أدركت معاذ بن جبل» فهو يخالف فكرته وسياسته نحو الأنصار!

وماذا يعني أبو بكر بقوله : «ليتني سألت عن هذا الأمر ، وهل للأنصار فيه نصيب؟» لو لم تكن الخلافة من مهام الرسول؟!

إن المتأمل في كلام الإمام علي وخطبة الزهراء عليهما‌السلام ـ وهما من أعلام المتعبدين ، المعارضين للاجتهاد والمصلحة ـ يعلم بأن الظروف هي التي دعت إلى اختلاف المواقف واختلاق الأصول والمباني عند الصحابة لمصلحة

__________________

(١) تقييد العلم : ٤٩ ، حجية السنة : ٣٩٥.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٤٢.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ٥٨٠ حوادث سنة ٢٣ ه ـ قصة الشورى.

٨٧

توهموها أو قصر مداها على المصلحة الآنية.

إن الزهراء عليها‌السلام بخطبتها أرادت التأكيد على إمامة أهل البيت وأحقية علي بن أبي طالب بالخلافة من غيره ، وذلك من خلال طرح المفاهيم والمقاييس الإسلامية الحقة في الخلافة والإمامة ، إذ أنها بعد حمد الله والثناء عليه ، وذكر أبيها محمد بالمجد والجلالة جاءت لتمدح عليا ، وتذكر الناس بمواقفه في الإسلام ، مؤكدة على أن أهل البيت هم الوسيلة في خلقه ، وخاصته ، ومحل قدسه ، وحجته في غيبه ، وورثة أنبيائه ، مذكرة إياهم بحظهم العاثر ، وانقلابهم على أعقابهم ، وإسنادهم الخلافة إلى غير أهلها ، والفتنة التي سقطوا فيها ، والدواعي التي دعتهم إلى ترك الكتاب والسنة وتخطي المبادئ الإسلامية في الاستخلاف.

فجاء في جملة كلامها : «وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ...» فأشارت إلى نفسياتهم ، وأنهم كانوا يرجحون مصالحهم على مصلحة الإسلام والدين ..

ومعنى كلامها عليها‌السلام أنها أرادت أن تذكر أبا بكر ـ وغيره ـ بالتجائه مرة إلى العريش ، وفراره مرة أخرى يوم أحد (١) ، وثالثة بهزيمته ـ كغيره من المسلمين ـ في غزوتي حنين وخيبر (٢) ، وتخلفه عن جيش أسامة (٣) .. ومثل هذا كان فعل عمر يوم أحد (٤) و ...

__________________

(١) أنظر : المستدرك على الصحيحين ٣ / ٢٧ ، تفسير ابن كثير ١ / ٦٥٤ ، شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٩٣.

(٢) أنظر : تاريخ اليعقوبي ٢ / ٤٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٩٣ ـ ٩٤ ، الكامل ـ لابن الأثير ـ ٢ / ٢١٩.

(٣)

(٤) المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٢٣٧ ، السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ : ٣٣٠ و ٣٣٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٦.

٨٨

وأما قولها عليها‌السلام : «تتربصون بنا الدوائر تتوكفون الأخبار ...» فهو اتهام صريح لهم بالتآمر على البيت الهاشمي وجعل نصوص الخلافة وراء ظهورهم ، غير معيرين أي أهمية إلا لأفكارهم في إطاعة أولي الأمر منهم لا الذين فرضهم الله ورسوله.

وكذا قولها عليها‌السلام : «فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شريككم ، هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ...» ، ففيه تأكيد على وقوعهم في الفتنة ، وانقلابهم على الأعقاب ، وأخذهم بالجاهلية الأولى ، وهو تفسير آخر لقوله تعالى : (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ...) (١).

وقد كانت الزهراء عليها‌السلام قد قالت في خطاب آخر لها وجهته في بيتها إلى نساء المهاجرين والأنصار قائلة : «أما لعمر الله ، لقد لقحت ، فنظرة ريثما تحلب ، ثم احتلبوها طلاع القعب دما عبيطا ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ، ثم طيبوا عن أنفسكم ، وأبشروا بسيف صارم ، وهرج شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة عليكم ...».

ولعل قولها عليها‌السلام : «يعرف التالون غب ما أسس الأولون» يكاد يكون أصرح من الصريح في ما نحن بصدده من تأصل الأصول من خلال المواقف ، وطرح الأصول الإسلامية جانبا لنفس السبب ، وذلك ما يجر الويلات ويؤثر على الأصعدة كافة ، ومنها حديث الرسول وسنته ، فقد نالهما قسط وافر من الضياع والتغيير ، الذي تأزم فظهر غبه شيئا فشيئا ، وازدادت

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

٨٩

وخامة عواقبه إلى حد يصعب معه تدارك الموقف ، واستخلاص الصحيح من السقيم المعوج.

وهو معنى آخر لكلام الإمام علي عليه‌السلام في خطبته الشقشقية : «فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون واعتراض ...» (١).

فها هم اليوم قد انقلبوا على أعقابهم ، واستولى عليهم منطق الجاهلية ، إذ قال أحدهم : نحن أهل العزة والمنعة ، وأجابه الآخر : من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته؟! وكانوا قد أسقطوا الكتاب والسنة من مقاييسهم في يوم السقيفة.

نعم ، إن الحزب القرشي قد استفاد من الذهنية الجاهلية لتطبيق الخلافة والحكم ، ولهذا رأينا النزاع يدور حول أولوية الأنصار بالخلافة من المهاجرين أو العكس ، ولم يلحظ في نزاعهم تحكيم معايير الإسلام ، كالعلم والتقوى والجهاد وغيرها من أصول التفاضل القرآني.

إذا فمسألة فدك ـ في أحد أبعادها ـ ليست مسألة ميراث ونحلة فقط ، بقدر ما هي مسألة شرعية خلافة أو التشكيك فيها ، لأن قريشا كانت تحلم بهذه الخلافة وكان رؤساؤها يعترضون بين الفينة والأخرى على تنصيب الرسول لهذا أو ذاك ، فجاء عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الذين شككوا في إمارة أسامة : «قد بلغني أن قوما يقولون في إمارة أسامة ، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله ، وإن كان أبوه لخليقا للإمارة ، وإنه لخليق ، فأنفذوا بعث أسامة» (٢).

وقد اعترف عمر بن الخطاب بأن رسول الله أراد أن يصرح ـ متجاهلا

__________________

(١) لو أردت المزيد فيمكنك مراجعة كتابنا منع تدوين الحديث : ٢٤٢ وما بعدها.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ٤٣١ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٣٤٩.

٩٠

أنه صرح مرارا ـ باسم من يخلفه «فمنعته من ذلك» (١).

فالمسألة بنظر الزهراء عليها‌السلام مسألة إسلام وجاهلية ، ونص وشورى ، وإيمان ونفاق ، وأخذ بأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرح لها ، وإن أخذت في ساذج ظاهرها صورة مالية ومذهبا اقتصاديا.

٣ ـ القوة هي المعيار في التولية لا الأهلية والتقوى :

ليس ثمة شك في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يولي الولاة ـ الإداريين والعسكريين ـ وفق كفاءاتهم في المجال المبعوثين فيه ، مفترضا فيهم النزاهة الدينية والتقوى ، فما أن يظهر من أحد منهم ما يخالف مبادئ الإسلام إلا ويعزله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتدارك ما فرط فيه من أعمال سلبية ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك قمع الروح العدوانية الجاهلية.

إلا أن ما حصل بعد غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينبئ عن حقيقة مأساوية ، مختصرها أن «الغاية تبرر الوسيلة» وأن الأولى بالولاية أقدرهم على قمع الخصوم ، ومن ثم تتويجه بألقاب تضفي عليه طابع التقوى والشرعية وإن كان لا يملك شيئا منهما ، لأن المهم هو تثبيت قواعد الخلافة ، والأجدر هو الأقدر على تحقيق النصر في ذلك المضمار.

فقد لقب أبو بكر خالدا ب «سيف الله المسلول» وأحاطه بهالة من القدسية حين منحه منحة الاجتهاد قائلا «اجتهد فأخطأ» رغم تعديه على زوجة مالك بن نويرة وهي في العدة ، ومعرفته بموقفه مع بني جذيمة وبراءة رسول الله من فعله لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد».

وفي الوقت الذي تتوافر الكفاءة في خالد بن سعيد بن العاص ، لا يطيق أبو بكر ـ مضافا إلى تحريض عمر ـ ولايته ، لأنه مال في السقيفة إلى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٠ ـ ٢١.

٩١

علي ، وتخلف عن بيعة أبي بكر شهرين (١).

ونظرا لموقف المغيرة بن شعبة يوم السقيفة ودفاعه عن عمر أيام خلافته وتلقيبه له بالفاروق فقد ولاه عمر البصرة ، ولما زنى المغيرة بأم جميل ـ ذات البعل الثقفي ـ وتوقف الرجم على تمامية الشهادة بزياد بن أبي سفيان ، ولما أقبل زياد للشهادة لقنه عمر ، وأسمع الحاضرين بقوله : «إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين» أو : «أرى رجلا أرجو أن لا يفضح الله به رجلا من أصحاب رسول الله» (٢) فوسمه بوسام «المهاجر» «الصحابي» ، وليس ذلك إلا لمواقفه المفيدة للخلافة الجديدة ، دون مراعاة للتقوى والإيمان والثقة بالله ..

يدلك على ذلك أن عمر لما أراد أن يوليه الكوفة ـ بعد حادثة البصرة ـ قال له : إن وليتك الكوفة أتعود إلى شئ مما قرفت به؟ قال : لا (٣).

وقد أفصح المغيرة نفسه عن هذه الموازنة التي قلناها حين قدم رجال على عمر يشكون سعد بن أبي وقاص ، فقال : من يعذرني من أهل الكوفة ، إن وليتهم التقي ضعفوه ، وإن وليتهم القوي فجروه.

فقال المغيرة : إن الضعيف له تقواه وعليك ضعفه ، والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره.

قال عمر ، صدقت ، فأنت القوي الفاجر ، فاخرج إليهم ، فلم يزل عليهم أيام عمر (٤).

ومن هذا المنطلق نفسه رأينا عمر يروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ / ٤٠٢.

(٢) فتوح البلدان ـ للبلاذري ـ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ، الأغاني ١٦ / ١٠٧.

(٣)

(٤) أنظر : تاريخ الطبري ٢ / ٥٤٥ ، شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٢.

٩٢

«أما والله ليعورن بنو أمية الإسلام ... ثم ليعمينه» (١) ، ثم يولي معاوية الشام ويمنحه لقب «كسرى العرب» (٢).

وهذا الكلام نفسه يقال في اعتماد أبي بكر على المثنى بن حارثة الشيباني في حروبه ، مع أن المثنى لا يساوي ولا أقل واحد من أكفاء أصحاب رسول الله ، إيمانا وتقوى وسياسة وشجاعة ، فلماذا التركيز على المثنى دون المقداد والزبير وغيرهما؟!

واضح أن هذا النمط من المنصوبين يخدم أهداف الخلفاء وبالشكل الذي يريدونه ، بعكس أولئك الذين لا يرتضون ما يخالف سيرة النبي وسلوكه في كل الأمور!

بلى ، إن هذه النظرة وأمثالها قد طرحت منذ أيام السقيفة ـ كما ستقف لاحقا في مكانة الشيخوخة وغيرها عليه ـ ثم استمرت في العهدين الأموي والعباسي ، إذ جاء في أنساب الأشراف للبلاذري : إن الحسن بن علي كتب إلى معاوية يعلمه أن الناس قد بايعوه بعد أبيه ، ويدعوه إلى طاعته ، فكتب إليه معاوية في جواب ذلك يعلمه أنه لو كان يعلم إنه أقوم بالأمر ، وأحفظ للناس ، وأكيد للعدو ، وأحوط على المسلمين ، وأعلم بالسياسة ، وأقوى على جمع المال منه ، لأجابه إلى ما سأل ، لأنه يراه لكل خير أهلا ..

وقال له في كتابه : إن أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

للبحث صلة ...

__________________

(١) الموفقيات : ٤٩٤ ، شرح نهج البلاغة ١٢ / ٨٢.

(٢) أنظر : تاريخ الطبري ٦ / ١٨٤ ، الإستيعاب ٣ / ٣٦٩ (ط جديدة).

(٣) أنساب الأشراف ٣ / ٢٠٨.

٩٣

دور الشيخ الطوسي قدس‌سره

في علوم الشريعة الإسلامية

(٤)

السيد ثامر هاشم العميدي

دوره في الحديث الشريف وعلومه

إذا كانت ريادة الشيخ الطوسي في مقام الفقه الإمامي المستنبط واضحة لدى الجميع باعتباره أول من استوعب جميع الطاقات الفقهية السابقة التي تكاد تنحصر بجهود ابن الجنيد ، والمفيد ، والسيد المرتضى رضي الله تعالى عنهم ، وصبها في قالب جديد رائع ، فإن فقهه الروائي لا يقل درجة عن فقهه المستنبط ، فهو رائد الفقهين ، وإن كان الأخير هو السائد قبل عصر الشيخ الطوسي عند جميع فقهاء الإمامية.

ونستطيع أن نتلمس هذا ونحن في دوره في الحديث الشريف وعلومه فضلا عما سيأتي من بيان دوره الفقهي الخالد ، إذ من الواضح أنه لا يمكن الفصل بين الفقه الروائي وما سطره يراع الشيخ في كتابيه التهذيب والاستبصار من آيات الاحتجاج والاستدلال بآلاف الأخبار ، خصوصا في ما يتصل بتأويلاته التي لا زال معظمها معمولا به عند الفقهاء إلى وقتنا الحاضر ، كما تنبئك آثارها الحية الباقية إلى الآن في استدلالات

٩٤

واحتجاجات الفقهاء المعاصرين.

ولم يكن هذا ليتسنى للشيخ ، لو لم يشبع الأخبار المروية في الفقه الإمامي بحثا وتمحيصا ، بعد أن حصرها ـ بجميع أقسامها وفروعها الكثيرة ـ بثلاثة أقسام لا رابع لها ، وهي :

١ ـ الأخبار المتواترة.

٢ ـ الأخبار المحتفة بالقرائن.

٣ ـ أخبار الآحاد.

وبما أن المتواتر لا نقاش في حجيته ، لكونها ذاتية ، وما كانت حجيته كذلك ، فهو في غنى عن التماس الأدلة على إثبات حجيته ، ولهذا ترى الشيخ قد اكتفى بالقول عن الأخبار المتواترة بأنها موجبة للعلم والعمل ، موليا عنايته بدراسة القسمين الآخرين ، مبينا في ذلك القرائن المحتفة بالخبر بقسميها ، وهما : ما دل منها على صحة الخبر في نفسه ، وما دل منها على صحة متضمنه مفصلا طرق الجمع بين أخبار الآحاد المتعارضة ، وطرق الترجيح أيضا ، وهذا الموقف العلمي النظري إزاء جميع الأخبار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمة عليهم‌السلام ، قد بيناه مفصلا في ما تقدم من الحلقات السابقة.

وما نريد التأكيد عليه هنا ، هو أن موقفه العلمي النظري إزاء تلك الأخبار ـ وهو ما أسسه في مقدمة التهذيب وديباجة الاستبصار ، وأكده في كتابه : العدة في أصول الفقه ، لم يختلف عن موقفه العملي التطبيقي بشأن تلك الأخبار ، لأن ما مهده من سبل الجمع والترجيح وغير ذلك أولا ، سار عليه ثانيا ، ولم يشذ عنه ولو في مورد واحد ، ومن هنا لم يحصل بين الموقفين تهافت أو تناقض ، وإن حاول بعض الأشخاص أن يمسهما معا

٩٥

بدعوى زائفة وزعم باطل لم يعتضد بأي دليل.

نعم ، فقد اشتبه بعضهم اشتباها كبيرا بشأن ما أسسه الشيخ في موقفه العلمي الأول من القرائن المحتفة بالخبر ، وطرق الجمع بين الخبرين المتعارضين ، وسبل الترجيح بينهما ، معمما نتائج اشتباهه بما فيه من مزاعم باطلة ليمس به كلا الموقفين ، وهو ما نجده ـ مع الأسف ـ عند الأستاذ علال الفاسي ، المعروف بين أوساط المثقفين ، وذلك في بحثه الموسوم : «من المدرسة الكلامية» ، إذ تعرض فيه إلى الشيخ الطوسي في كتابيه التهذيب والاستبصار ، قائلا ما نصه :

«إذا تتبعت ظروب القرائن التي نقلناها عن الشيخ ، ووسائل الجمع ، لا يمكن طرح أي حديث ينسب للرسول [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] ، أو الأئمة [عليهم‌السلام] ، لأنه لا بد أن يدخل في واحد منها ، وهذا في الواقع اعتماد على الفكر لتبرير ما روي من الأخبار غير الصحيحة ، ولو كانت ظاهرة الوضع»! (١).

ولا أدري كيف اقتنع الأستاذ علال الفاسي بهذا الكلام ، وهو يعلم بأن موقف علماء المسلمين جميعا إزاء الخبرين المتعارضين ، إنما ينطلق ابتداء من محاولات الجمع بينهما ، فإن أمكن الجمع بينهما بتأويل أحدهما بما يوافق دلالة الآخر ولو بوجه من الوجوه فهو المتعين عندهم بلا خلاف ، وقد صنفوا في ذلك كتبا ، ك : تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة الدينوري ، وغيره.

وأما لو تعذر الجمع ، فلا بد من الرجوع إلى طرق الترجيح بين

__________________

(١) من المدرسة الكلامية ـ لعلال الفاسي ـ ، بحث قدم إلى مؤتمر الشيخ الطوسي في ذكراه الألفية ، المنعقد في مدينة مشهد المقدسة سنة ١٣٨٥ ه ، منشور في بحوث المؤتمر ٢ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

٩٦

الخبرين المتعارضين ، وحينئذ إما أن يتساوى الخبران في كل شئ ، لفقدان أية صفة مرجحة لأي منهما ، وهنا لا مناص من أحد القولين ، وهما : التساقط ، أو التخيير ، وإما أن يترجح أحدهما دون الآخر ، وهنا لا بد من العمل بالراجح وطرح الآخر.

والشيخ قدس‌سره أشار لكل هذا في أول الكتابين ، ومارسه عمليا فيهما ، فكيف يقال إذا بأنه لم يطرح أي حديث في كتابيه التهذيب والاستبصار ، ولو كان ظاهر الوضع؟!!

وأغلب الظن أن الأستاذ علال الفاسي اشتبه بقول الشيخ الطوسي في ديباجة الاستبصار ، إذ جاء فيها بعد تفصيل القرائن المحتفة بالخبر ، ووسائل الجمع وطرق الترجيح ما هذا نصه : «وأنت إذا فكرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الأقسام ، ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى والحلال والحرام ، لا يخلو من واحدة من هذه الأقسام» (١) ..

فحسب الأستاذ المذكور ، أن جميع ما أورده الشيخ من أخبار ، داخل في دائرة الاحتجاج والاستدلال ، لا سيما وأن الكلام المتصل بهذه العبارة مسوق في دائرة الاحتجاج وكيفية الاستدلال بالخبر.

ومع هذا لا يعذر الباحث في اشتباه كهذا ، خصوصا وأن الشيخ قدس‌سره قد بين قبل هذا نوعية الأخبار التي لا يجوز العمل بها لعدم إمكانية اعتمادها ، كالخبر المعارض للإجماع ، أو ما كانت شهرة الفتوى على خلافه ، وكذلك التصريح بطرح الخبر الراجح والعمل بالأرجح ، كما لو

__________________

(١) الاستبصار ١ / ٥ ، من المقدمة.

٩٧

حصل التفاوت بينهما من جهة كثرة الرواة ، أو عدالتهم ، ونحو ذلك من الأمور الأخر التي أشبعنا القول فيها في ما تقدم من حلقات هذا الدور.

ثم ماذا يقال عن تصريح الشيخ بالعمل بالخبر الموافق لدلالة الأصل وترك ما خالف تلك الدلالة؟!

وإذا عرفنا أن المقصود بدلالة الأصل عند الشيخ ، هي القواعد الكلية المستنبطة من عمومات الآيات القرآنية ، والأخبار المتواترة ، والصحيحة الثابتة ، والأصول العملية ، كأصل البراءة والاستصحاب ، إلى غير ذلك مما ذكر في محله (١) ، علمنا بخطأ ما ذكره الأستاذ علال الفاسي ، لأن الشيخ الطوسي نفسه لا يرى أن جميع ما رواه من أخبار في التهذيب أو الاستبصار موافق لدلالة الأصل عنده ، ويدل عليه طرحه لجملة من الأخبار المروية فيهما مع تصريحه بضعفها ، لمخالفتها لظاهر القرآن الكريم ، أو السنة الثابتة ، أو الإجماع ، ونحو ذلك من التصريحات الآتية في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

على أن الحاصل من كلام الشيخ في مقدمتي التهذيب والاستبصار ـ فضلا عما في أصل الكتابين ـ أنه قدس‌سره لا يعمل بالخبر الشاذ النادر الذي لم يكن معروفا في الأصول المعتبرة ، كما أنه لا يعمل بالخبر المخالف لدلالة الأصل ، ولا بالخبر الضعيف المعارض بما هو أقوى منه ، ولا حتى بالصحيح الذي هذه صفته أيضا ، وأين هذا من القول بأنه لم يطرح أي حديث مروي حتى ولو كان ظاهر الوضع؟!

ثم لا ننسى ما ورد في أصل الكتابين من تصريحات وتطبيقات

__________________

(١) أنظر : ملاذ الأخيار في شرح الاستبصار ١ / ٢٨ ـ ٢٩.

٩٨

تنسف قول الفاسي نسفا ، وتجعله كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف ، وهذا هو ما سنتحدث عنه في الصفحات اللاحقة ـ إن شاء الله تعالى ـ وتحت عنوان :

٩٩

الفصل الثالث

وجوه فساد الخبر عند الشيخ الطوسي

لا شك أن التعرض لبيان وجوه فساد الخبر عند الشيخ الطوسي قدس‌سره ، يكشف عن نوعية الحديث المعتمد عنده ، لأن قوله ـ مثلا ـ بأن هذا الخبر مردود لمخالفته إجماع المسلمين ، يدل بمفهومه على اعتماده على الخبر الموافق لهكذا إجماع.

وعليه ، فالفصل الثالث هذا يجمع بين ما جاء في عنوانه ، وبين جملة وافرة من احتجاجات الشيخ الطوسي واستدلالاته على الحكم الفقهي بأخبار التهذيب والاستبصار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن أهل بيته الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام.

وسوف يتضح ـ إن شاء الله ـ بأن الشيخ قدس‌سره لم يعتمد على الفكر لتبرير ما روي من الأخبار غير الصحيحة ، وإنما اعتمد الفكر ليرد به عن بصيرة على قول الجهال من أصحاب الحديث ـ على حد تعبيره ـ : «أنه ينبغي أن يروى الحديث على ما جاء وإن كان مختل المعنى!!» معللا ذلك بقوله : «لأن الله تعالى دعا إلى التدبر والتفقه ، وذلك مناف للتجاهل والتعامي» (١).

وهكذا أصبح الشيخ ـ بفضل اعتماده على الفكر والتدبر لنصوص الأخبار ـ من أبعد المحدثين عن الأخبار المزيفة الموضوعة ، وأشد الناس

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ـ للشيخ الطوسي ـ ٩ / ٣٠١.

١٠٠