تراثنا ـ العدد [ 57 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 57 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

وتبلغ مسامع المكلفين ، ويأخذوا بهدي شريعته ، وإلا فكيف تبلغ الحجة مع وتبلغ مسامع المكلفين ويأخذوا بهدي شريعته ، وإلا فكيف تبلغ الحجة مع انقطاع وإبهام الحال انقطاع الخبر وإبهام الحال؟!

فالحال في حجية أقوال وأفعال الصحابة وسيرتهم لا بد في تحققها من دراسة سيرتهم وحياتهم وأقوالهم ، لا سيما وأن ما جرى من الفتن بينهم واقع في المسائل الدينية وما يرتبط بالشرع ، سواء في المسائل الفرعية أو الأصولية المرتبطة بالإمامة والحكم وحفظ الدين وإحراز السنة النبوية وتفسير الكتاب ، وبدعية بعض الأفعال من رأس أو ركنيتها في الدين ، والإقامة على العديد من السنن المقترحة وجعلها معالما للدين.

ولقد كان الاختلاف بينهم والتضليل إلى حد المقاتلة ، وهي تعني استباحة كل طرف دم الطرف الآخر ، فكل طرف يرى الطرف الآخر مقيم على أمر وحال يبيح معه دمه ، فإذا كان زعم العامة أنه لا بد من ترك الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة ، حفظا لحرمة الصحابة وتعظيما وتجليلا لصحبتهم ، فهذا الخطب أولى الناس بمراعاته ـ في ما بينهم ـ الصحابة أنفسهم ، لا الانتهاء إلى نقيض ذلك من استباحة دم الطرف الآخر.

فليس إلا أن الخطب جليل ، أحبط في نظر الطرف الأول ما للطرف الآخر من أعمال وسابقة ، وانتفت حرمته إلى استباحة دمه!

فمع كل ذلك ، كيف يسوغ لنا الاحتجاج بأقوال وأفعال كل من المصيب والخاطئ ، والمحق والمبطل ، والهادي والضال ، والمستقيم الموفي لما عاهد عليه الله ورسوله ، والمبدل الناكث لما عاهد؟!

وهل هذا إلا جمع بين المتناقضين ، وقلة الحرج في الدين ، وتهوين لأمر الدين؟!

وقول التفتازاني وغيره المتقدم : «إن مقاتلتهم كانت لارتفاع التباين

٦١

والعود إلى الألفة والاجتماع بعدما لم يكن طريق سواه. وبالجملة : فلم يقصدوا إلا الخير والصلاح في الدين. وأما اليوم ، فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلا التهاون بنقلة الدين ، الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته».

نعم ، كانت لارتفاع التباين والعود إلى ... ولكنها تقتضي مدافعة الطرف الآخر ولو بإراقة دمه واستباحته ، لإقامته على المنكر والباطل ، فهذا يبرهن على المباينة في سيرتهم وأقوالهم ودعوتهم.

وعلى تقدير وجود قصد الصلاح في الدين في كل من الطرفين ، فهذا لا يبرر اتباع الطرف المقيم على المنكر والباطل ، ومجرد حسن النية ـ على تقدير التسليم به ـ لا يدلل على سلامة النهج ، ولا يرفع التباين بين السيرتين والقولين ـ وقد أقر بذلك ـ ، فكيف يتصف بالحجية كلا الطرفين المتباينين وهو ممتنع ، فلا بد من الفحص عن المحق الهادي إلى سواء السبيل ، قال تعالى (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (١).

وبعبارة أخرى : إن حجية أقوال وأفعال الصحابة أو الثلة منهم ، إما أن تكون من باب الإمامة المنصوصة من الله ورسوله ، ومن الواضح أنه مع التباين بينهم لا يمكن أن يكون كلا الطرفين منصوص عليه بالإمامة ..

وإما من باب حجية قول المجتهد وفتواه ، لكونه من أهل الخبرة ، فمن الواضح أيضا أنه مع الاختلاف والتقاطع لا بد من اتباع الأعلم والواجد للشرائط المؤهلة ـ وبنحو الوفور التام ـ دون غيره ..

وإما من باب حجية المخبر في أخباره ، أي حجية رواية الراوي

__________________

(١) سورة يونس ١٠ : ٣٥.

٦٢

الثقة ، وهذا أيضا يوجب علينا إحراز صفة الوثاقة والعدالة عند أحد المتنازعين ، لا سيما وأن النزاع مستفحل شديد قد وصل إلى استباحة الدم.

الأحاديث النافية للمسألة :

ثم إنه يكفي الباحث نظرة في كتاب الفتن من الصحاح لديهم ، كي يصل إلى هذه النتيجة من لزوم التمحيص والفحص عن الطرف المحق ـ في الصحابة ـ من الطرف المبطل ..

* فقد روى البخاري في الباب الأول من كتاب الفتن ، عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن معي رجال منكم ، ثم ليختلجن دوني ، فأقول : يا رب! أصحابي؟! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١).

فهذا دال على إحداث من بعض الصحابة بعده ، وظاهر الحديث أن هؤلاء الصحابة ممن كانوا قد استمعوا خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لاستعماله كاف الخطاب.

* وروى البخاري عن سهل بن سعد ، أنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني فرطكم على الحوض ، من مر علي شرب ، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم» ، وزاد أبو سعيد الخدري : «فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول : سحقا سحقا لمن غير بعدي» (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٢١٤ ح ١٥٧ ، وانظر : فتح الباري ١١ / ٥٦٦ ح ٦٥٧٦.

(٢) صحيح البخاري ٨ / ٢١٦ ح ١٦٤ ، وانظر : فتح الباري ١١ / ٥٦٧ ح ٦٥٨٣.

٦٣

وهذا الحديث ـ أيضا ـ دال على تبديل بعض الصحابة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهر الحديث هو كون صحبة هؤلاء الصحابة ـ المعنيين بالحديث ـ كانت وثيقة به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعرفته وطيدة بهم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعرفهم ويعرفوني».

أقول :

كيف تلتئم هذه الأحاديث مع ما يزعمونه من حديث «أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم»؟! إلا أن يكون في الحديث سقط أسقط!!

* ويروي في الباب الثاني عن عبد الله ، قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها ...» .. الحديث (١).

وهذا الحديث يدل على وقوع أثرة وحرص على طلب الدنيا ، وكذا وقوع الأمور المنكرة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) (٢). وستأتي الإشارة في سورة الفتح إلى ذلك ، في من بايع بيعة الرضوان.

* وروى في الباب السادس ، أن أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : استيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل وهو يقول : لا إله إلا الله ، ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟! ماذا أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ؟! كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة!»(٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ٩ / ٨٤ ح ٤ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٥ ح ٧٠٥٢.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٣) صحيح البخاري ٧ / ٢٧٩ ح ٦٢.

٦٤

ففي شرح ابن حجر العسقلاني على الحديث قال : قال ابن بطال : «قرن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنها تسبب عنها ، وإلى أن القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم من الفتنة ...» (١).

أي أن الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال ، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه ، وأن يبخل به فيمنع الحق ، أو يبطر صاحبه فيسرف ، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله.

أقول :

وستأتي الإشارة في سورة الأنفال وغيرها إلى أن غرض وغاية جمع من الصحابة في غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عرض الحياة الدنيا ومتاعها من الغنائم ، فضلا عن الفتوحات التي وقعت بعده ، ويكفيك لإثبات ذلك رصد ما ترك العديد من الصحابة من أموال وثروات طائلة عند موتهم.

* وروى في الباب الثامن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (٢).

* وروى في الباب الثامن عشر عن أبي بكرة ، قال : لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام الجمل ، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم ، قال : لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى ، قال : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم

__________________

(١) فتح الباري ١٠ / ٣٧٢ ح ٥٨٤٤.

(٢) صحيح البخاري ٦ / ١٤ ذ ح ٣٩٥ وح ٣٩٧ ، أنظر : فتح الباري ٨ / ١٣٥ ح ٤٤٠٥ وج ١٢ / ٢٣٥ ح ٦٨٦٩.

٦٥

امرأة» (١).

* وروى عن الأسدي ، قال : «لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة ، فصعد المنبر ، فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه ، وقام عمار أسفل من الحسن ، فاجتمعنا إليه ، فسمعت عمارا يقول : إن عائشة قد سارت إلى البصرة ، ووالله إنها لزوجة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة ، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي؟!» (٢).

أقول :

وستأتي الإشارة في سورة الأحزاب إلى أمر نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقر في البيوت.

* وروى في الباب الواحد والعشرين عن حذيفة بن اليمان ، قال : « إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون» (٣).

فيا ترى إلى من يشير حذيفة؟! وما هو السبب في حرية الأجواء السياسية للمنافقين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صاروا يجهرون آمنين على أنفسهم بينما كانوا في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متسترين خائفين؟!

* وروى مسلم في صحيحه ، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ،

__________________

(١) صحيح البخاري ٦ / ٢٧ ح ٤١٧ وج ٩ / ١٠٠ ح ٤٧ ، وانظر : فتح الباري ٨ / ١٦٠ ح ٤٤٢٥ وج ١٣ / ٦٧ ح ٧٠٩٩.

(٢) صحيح البخاري ٩ / ١٠٠ ح ٤٨ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٦٧ ح ٧١٠٠.

(٣) صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٧ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٨٦ ح ٧١١٣.

٦٦

عن قيس ، قال : قلت لعمار : أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي ، أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة ، ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ، وأربعة لم أحفظ» (١).

وعمار رضي‌الله‌عنه يشير هنا إلى أن النصوص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي عليه‌السلام ليست خفية ، خاصة عندنا ـ أي الصحابة ـ ، بل هي منتشرة عند الناس ، من حديث الغدير وغيره ، وكان سبب توليه لعلي عليه‌السلام من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من يوم السقيفة إلى يوم قتل عثمان ـ فقد صنف عمار في من دبر ذلك ، كما ذكرت ذلك كتب التواريخ ـ ، إلى يوم الجمل وصفين.

وصريح الحديث الذي يرويه عمار عن حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن في خاصة الصحابة اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ، وأن عمارا رأى هؤلاء الاثني عشر في من ناوأ وعادى عليا عليه‌السلام.

ثم إن هذا الحديث صريح في أن ما أتى به الصحابة الذين تولوا عليا وناصروه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى استشهاده عليه‌السلام كان بتصريح ونص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبنفاق مناوئيه وأعدائه ، ولم يكن باجتهاد رأي رأوه كما يقول بذلك علماء العامة في حكمهم بعدالة الصحابة الذين ناوؤا الإمام عليا عليه‌السلام.

وقد روى مسلم هذا الحديث بطريق آخر فلاحظ (٢).

__________________

(١) صحيح مسلم ٨ / ١٢٢.

(٢) صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

٦٧

* وروى عن أبي الطفيل ، قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك! قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا علمنا بما أراد القوم ، وقد كان في حرة فمشى فقال : «إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد» فوجد قوما قد سبقوه فلعنهم يومئذ (١).

والمراد بالعقبة عقبة على طريق تبوك التي اجتمعت تلك العدة للغدر والفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك ، وقد أشار الله تعالى إليها في سورة التوبة ، ومن الملاحظ أن السائل من تلك العدة التي تقطن المدينة دار الهجرة ، وأنهم لم يكونوا ظاهري النفاق عند الجميع ، ولاحظ كتب التاريخ في معرفة السائل الذي سأل حذيفة عن تلك العدة.

* وروى مسلم ـ بعد باب خصال المنافق ـ بابا في أن حب الأنصار وعلي عليه‌السلام من علامات الإيمان وبغضهم من علامات النفاق ، فعن زر ، قال : قال علي : «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق» (٢).

للبحث صلة ...

__________________

(١) صحيح مسلم ٨ / ١٢٣.

(٢) صحيح مسلم ١ / ٦١.

٦٨

السنة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(٣)

السيد علي الشهرستاني

سبق أن بينا وضع الجزيرة العربية وحالة الحضارات المجاورة لها ، وكيفية تعامل العرب مع أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ، حتى وصل بنا البحث إلى الكلام على المرحلة الثالثة ، وهي «حديث رسول الله في الفترة من ١٣ ـ ٤٠ ه» وقد أشرنا فيه إلى ما جاء عن أبي بكر في منع تدوين الحديث ، وقد آن الأوان كي نبحث مؤثرات هذا العهد وما أسس فيه من أصول ومبان فكرية انعكست على الحديث النبوي والتاريخ الإسلامي ، والتي ظهرت كنصوص حديثية وأصول فقهية وعقائد إسلامية بامتداد الزمان.

المباني الفكرية في هذا العهد

وبما أن بحثنا يدور حول «التأصيل» ، فمن الجدير ذكره هنا أن نرى الخلفيات الثقافية والمباني الارتكازية ، التي كانت بمثابة الأرضية التي سوغت لأبي بكر الإقدام على نشر أفكار وأسس خاصة ، واتخاذ إجراءات لم تكن في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان من جملتها إقدامه على منع التدوين

٦٩

والتحديث!!

إذ كيف تمكن من هذا المنع؟!

وكيف استطاع ترسيخ مرتئياته وبثها بين المسلمين؟!

وما هي الأصول التي اعتمدها لإقناع أكبر عدد من المسلمين بذلك؟!

ثم ما هي العقلية التي كان يحملها قبل الإسلام؟! ومدى تأثيرها على بناه الفكرية من بعد؟!

قلنا :

إن الحالة الثقافية لأي مجتمع من المجتمعات لا بد أن تترك بصماتها وآثارها على أفراد المجتمع ، سلبا أو إيجابا ، خصوصا مع ملاحظة تاريخ تلك الشخصية وموقعها في ذلك المجتمع ، وما مرت به من أدوار ، وما كانت تفتخر به أو يفتخر لها به من مميزات في ذلك العصر.

ومن هذا المنطلق فرض البحث علينا أن ندرس المؤثرات التي انجرت من العصر الجاهلي إلى ما بعده ، وكيف تطورت بلباسها الجديد ممتزجة مع الحالة الإسلامية الجديدة التي خلقها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أصبحت شريحة كبيرة من المجتمع تعيش حالة ازدواجية وارتباك ـ في هذا العصر ـ وتأرجح بين الموروث الجاهلي وبين الجديد الإسلامي المحمدي ، وذلك ما ظهر واضحا بعد غياب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة!

إذ وجد هناك منهجان للصحابة :

أحدهما : يتخذ مواقفه من الأصول.

والآخر : يرسم الأصول طبق المواقف.

بمعنى : أن هناك من يعد كلام الله ورسوله أصلين أساسيين في

٧٠

التشريع ، فهم يأخذون أحكامهم منهما ، ولا يتحركون إلا في الإطار الذي رسماه للمسلمين.

وهناك من صار يضيف إلى سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيرة كبار الصحابة ، ويتخذها أصلا ثالثا يحتذى به ـ مع الكتاب والسنة ـ ويسير على طبقه ، وقد كنا سمينا الأول منهما بالمتعبدين ، والثاني بالمجتهدين.

وبتقريب آخر : إن سيرة الإنسان المسلم ومنهجه قد يتخذان ويرسمان من منهج إسلامي محدد ، فيكون المكلف متعبدا بتلك النصوص ، ويمنهج سيرته على طبقه ، ولا يرى لنفسه الاجتهاد قباله ، فهؤلاء هم المطيعون لأوامر الله والرسول ، المنتهون عن نواهيهما ، وهم الذين وصفهم الباري ب : (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (١) وهم الذين قال تعالى عنهم أنهم : (لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (٢) ، فأول هؤلاء يقتفي أثره آخرهم ، ولا يلحظ في سيرتهم الاختلاف المبدئي والتضاد في المنهج والموقف ، وذلك لتعبدهم بمنهج محدد مرسوم من قبل الله ورسوله.

وهناك قسم آخر يسمح لنفسه بالاجتهاد قبال النص ، ويذهب إلى شرعية القول بالمصلحة مثلا ، ومن الطبيعي أن يختلف هؤلاء في المواقف والآراء ، طبقا لاختلاف وجهات النظر عندهم.

والأنكى من هذا أنهم ـ وكما ألمحنا ـ قد جعلوا هذه المواقف أصولا شرعية لاحقا ، بسبب ذهاب فلان إلى الرأي الفلاني ، مع عدم اعتقادهم بعصمته ، أي أنهم شرعوا تعددية الرأي والأخذ بقول الرجال إلى جانب

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦.

(٢) سورة النساء ٤ : ٦٥.

٧١

السنة النبوية ، مع علمهم بعدم أهليتهم للتشريع وأنهم عرضة للخطأ والصواب.

ولنمثل للقسم الأول بسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي كان عبدا لله قبل أن يكون رسوله ، لقوله تعالى : (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) (١) ، و (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (٢) ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا (ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (٣) ، ولا يفتي من قبل نفسه ، ولا يرتضى تغيير الأحكام لهوى الناس ، بل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتظر مجئ الوحي لكي يخبره بجواب القضية المستحدثة ، وقد ظل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستة أشهر أو سبعة ينتظر الوحي كي يسمح له أن يحول القبلة إلى المسجد الحرام ، حتى نزل عليه قوله تعالى : (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) (٤).

ومثله الحال بالنسبة إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، الذي نهوا عن الرأي ، واتخذوا النصوص منهجا في الحياة ، وكانوا وما زالوا على كلمة واحدة ، يقولون : «إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم» (٥).

وقولهم : «إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا حذو القذة بالقذة» (٦).

__________________

(١) سورة مريم ١٩ : ٣٠.

(٢) سورة الفرقان ٢٥ : ١.

(٣) سورة النجم ٥٣ : ٣ و ٤.

(٤) سورة البقرة ٢ : ١٤٤.

(٥) الاختصاص : ٢٨٠ عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام.

(٦) الإرشاد ٢ / ٢٧٦ ، الاختصاص : ٢٧٩ عن الإمام أبي الحسن علي الرضا عليه‌السلام.

٧٢

وقولهم : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحديث رسول الله قول الله عزوجل» (١) وما شابه ذلك من النصوص.

وأما دعاة المصلحة والاجتهاد ، فكانوا يعدون مواقف الخلفاء ـ بل كبار الصحابة ، ثم جميعهم ـ أصولا يحتذى بها مع الكتاب والسنة ، مع الاعتقاد ـ قولا ـ بعدم عصمتهم!!

أي إنهم أخذوا يتعاملون ـ فعلا ـ مع مواقف هؤلاء كأنها مواقف المعصوم ، بدءا من متابعة بعضهم لأبي بكر في آرائه ومواقفه ، وتطورا مع تشريعهم الأخذ بسيرة الشيخين في يوم الشورى ، وختما بما طرحوه من أصول وأفكار ـ أقل ما يقال فيها إنها متطرفة ـ في العصرين الأموي والعباسي ، مثل لزوم اتباع السلطان وإن ضرب ظهرك ، وكصوافي الأمراء ، و ...

نعم ، إنهم لتصحيح ما شرعوه من قبل ، وفي يوم الشورى ، وضعوا ـ من بعد ـ أحاديث في ذلك ، كروايتهم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ، وذهبوا إلى جواز خطأ النبي في الموضوعات الخارجية و ... فلو صح حديث «اقتدوا باللذين ...» وأمثاله فلماذا نرى تخلف كثير من الصحابة عما شرعه الشيخان؟! وتخطئتهم لهما في ما اجتهدوا فيه في بعض الأحيان؟!

ولو صح هذا الحديث فكيف لا يأخذ الصحابة بكلام الرسول في

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١٨٦ ـ ١٨٧ عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام ، وانظر : الكافي ١ / ٧٣ ح ١٥٢.

٧٣

الاقتداء بأبي بكر وعمر؟!

ولماذا خالف عمر أبا بكر في مواقفه؟!

ولم خطأ أبو بكر عمر؟!

وكيف يسأل الخليفة الصحابة عن الأحكام لو كان هو الإمام المقتدى؟!

وهكذا الحال بالنسبة إلى الأفكار الأخرى ، إذ وضعوا أحاديث جمة لتصحيحها ، فصار الحديث يوضع أحيانا لتصحيح المواقف!!

نعم ، إن سيرة الشيخين (أبي بكر وعمر) أعقبتها سيرة (أبي بكر وعمر وعثمان) ، ثم سيرة (الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ) ، ثم أحاديث العشرة المبشرة بالجنة ، ثم حديث «أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم» وو ... وهكذا إلى ما لا نهاية للامتداد الاجتهادي المتفاقم بتفاقم الأحداث وتجدد الحوادث!

على أن المتجلي من الأمر هو تركيز الأمويين والعباسيين على سيرة الشيخين أكثر من سيرة عثمان والإمام علي عليه‌السلام ، أو قل على سيرة باقي الصحابة ـ على اختلاف مشاربهم ومواقعهم الفقهية والسياسية والاجتماعية ـ وذلك لأسباب جمة ودواع كثيرة ، نستطيع إجمالها بالقول بـ :

من المعلوم إن ميزان القوى كان يتوزع بعد غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أربع قوى ، هي : قريش ، الأمويون ، الأنصار ، العلويون .. ـ أو قل : الهاشميون وعلى رأسهم الإمام علي عليه‌السلام ـ وقد هيمنت القوة القرشية بمعاضدة القوة الأموية على السلطة ، فانحسر ظل الكفة العلوية والأنصارية ، وتجمدت ـ أو كادت ـ تحت تأثير إبعاد الكفتين الحاكمتين لها.

وقد بقيت هذه الموازنة حاكمة على سيرة المسلمين ، إذ ينعم الأمويون وأعيان قريش بمواقعهم في ظل الحكم القرشي المتمثل بالشيخين ، وهذا ما

٧٤

جعلهما بمنأى عن نزاعات الطموح القرشي الأموي ، وأورث لهما استتباب الأمور بشكل أيسر بكثير ممن لحقهما في الحكم ، إذ ليس هناك معارض إلا العلويين والأنصار المغلوبين.

فما أن تعالت صرخة أبي سفيان : «أغلبكم على هذا الأمر أذل بيت من قريش وأقلها؟!» (١) ، وما أن دعا عليا للمطالبة بالخلافة وتنحية أبي بكر ، حتى عاد وديعا يتحمل إهانة أبي بكر وصرخاته ، وينعم باحتلال أخيه يزيد وابنه معاوية وغيرهما من الأمويين المناصب المرموقة في الخلافة الجديدة ، مما ضمن للجناح الأموي من الكفة القرشية مطامحه ومطامعه في السلطة والسيادة ، وذلك ما أوقف سيل معارضة أبي سفيان.

إلا أن استفحال التكتل الأموي ، أخاف القوة القرشية فقها وسياسة ، فحدا ذلك ـ من بعد ـ بالزعيم القريشي عبد الرحمن بن عوف أن يحدد صلاحيات عثمان الفقهية والسياسية والإدارية ب «سيرة الشيخين» ، باعتبارها ـ في أحد جوانبها ـ الممثل الأمثل والضامن الأكيد للهيمنة القرشية ، والرادع القوي عن التطاول الأموي والاختراق العلوي والأنصاري.

إلا أن الجناح الأموي بدأ يعلن استقلاله بالسلطة في الست الأواخر من حكم عثمان ، حين أبعد عثمان الشخصيات القرشية عن مراكز الخلافة أيضا ، مضافا إلى المبعدين العلويين والأنصار الذين كانوا من قبل مهملين معزولين عن أداء أدوارهم ، مستبدلا بهم شخصيات أموية بحتة (٢).

وهنا انفرد الجناح الأموي ـ أو حاول الانفراد ـ بالسلطة ، فخلق أمامه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٠ ، وانظر : أنساب الأشراف ٢ / ٢٧١ ، الإستيعاب ٣ / ٩٧٤ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٧ ، شرح نهج البلاغة ١ / ٢٢١.

(٢) قد وضحنا هذا من قبل في كتابنا وضوء النبي / المدخل. فراجع.

٧٥

ثلاث جبهات معادية : القرشيون غير الأمويين ، والعلويون ، والأنصار ، وهذا ما جعل سيرة عثمان محط طعنات غير الأمويين جميعا ..

فتعالت الأصوات من عبد الرحمن بن عوف ، وابن العاص ، وعائشة ، كما تعالت من علي والعلويين ، والأنصار ، على حد سواء ، وهذا ما جعل سيرة عثمان أقل تأثيرا وأكثر انكماشا من سيرة الشيخين التي لم تمن بمثل هذه المعارضة الهائلة.

وحينما أراد القرشيون إعادة الأمر إلى حوزتهم ، انفلت زمام الأمور من أيديهم وآل الأمر إلى نصابه ، فقد هرعت الجماهير إلى بيعة علي بن أبي طالب ، وذلك ما ساء القرشيين والأمويين وأضر بمصالحهم ومراكزهم القبلية والمستقبلية التي كانوا يتطلعون إليها.

وقد صرح بذلك الاستياء رؤوس الحراب القرشية والأموية ، ك : عائشة ، وعبيد الله بن عمر ، ومعاوية ، وأضرابهم ، وذلك ما أعاد للجبهة القرشية الأموية قوتها واتحادها مقابل القوة العلوية والأنصارية المتابعة لها.

وما حرب الجمل إلا مثال التحزب القرشي ضد علي ، وما حرب صفين إلا مثال التحزب الأموي ضده ، وما كلا الحزبين إلا مثال للاتحاد القرشي الأموي ـ صاحب المواقع القوية من قبل ـ ضد الشق العلوي الأنصاري صاحب المواقع الهشة من قبل (١).

وهذا أيضا جعل سيرة علي بن أبي طالب أقل تأثيرا من سيرة الشيخين عند الأمويين والعباسيين ، وأقل تأثيرا من سيرة عثمان عندهما

__________________

(١) لو أردت معرفة مدى قرب الأنصار من علي وأهل بيته فقها وسياسة ، يمكنك مراجعة المجلد الثاني من كتابنا وضوء النبي ـ البحث الروائي ـ وذلك عند بياننا نسبة الخبر إلى عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري.

٧٦

معا ، وعند العباسيين بشكل أكبر.

وأما علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقد بقي فقهه يتيما لم يوصله للمسلمين إلا أبناؤه وأتباعه والأنصار ، وأغلبهم ليسوا ذوي سلطات ولا قدرات في الخلافتين ، بخلاف الشيخين اللذين حظيت سيرتهما بالتأييد الأموي والعباسي ، وسيرة عثمان التي حظيت بالتأييد الأموي خاصة.

وهكذا كانت حصيلة جعل سيرة الشيخين قسيما لكتاب الله وسنة نبيه ، ومن بعدهما كانت سيرة عثمان أقل شأنا ، ومن بعدهم سيرة علي بن أبي طالب الأقل سهما من الجميع لتضافر الخلفاء ضده ..

هذه العلة وغيرها مما يضيق بشرحها المجال ، هي التي جعلت سيرة الشيخين منهجا للخلفاء في العهدين الأموي والعباسي.

ولو لاحظت كلام معاوية ويزيد وغيرهما من خلفاء بني أمية وبني العباس ، لعرفت أنهم مؤكدون على أثرهما ، متبعون لأمرهما ، غير متناسين لسيرة عثمان!! تاركين سيرة علي!!

فقد جاء في جواب معاوية لمحمد بن أبي بكر قوله : " فكان أبوك وفاروقه أول من ابتز حقه [أي حق علي] وخالفه في أمره ، على ذلك اتفقا واتسقا ، ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما ، فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم (١) ..

إلى أن يقول : فخذ حذرك يا بن أبي بكر! وقس شبرك بفترك ، يقصر عنه أن توازي وتساوي من يزن الجبال بحلمه ، لا يلين عنه قسر قناته ، ولا يدرك ذو مقال أناته ، أبوك مهد مهاده ، وبنى ملكه وشاده ، فإن يكن ما

__________________

(١) قد يومئ قوله هذا إلى : إرادتهم قتله ، كما سنوضحه لاحقا في رقم (٦) ـ تقنين أساليب غير مشروعة / الغيلة.

٧٧

نحن فيه صوابا ، فأبوك استبد به ونحن شركاؤه ، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولسلمنا إليه ، ولكنا أباك فعل ذلك به من قبلنا ، فأخذنا بمثله ، فعب أباك بما بدا لك ، أو دع ذلك ، والسلام على من أناب» (١).

وروى البلاذري ما كتبه يزيد بن معاوية في جواب عبد الله بن عمر ، لما اعترض عليه بقتل الحسين عليه‌السلام : «أما بعد ، يا أحمق! فإنا جئنا إلى بيوت مجددة ، وفرش ممهدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا ، وإن يكن الحق لغيرنا فأبوك أول من سن هذا واستأثر بالحق على أهله».

وكمثال تطبيقي على ما قلنا ، نرى أن معاوية ينتهج السياسة نفسها التي انتهجها عمر بن الخطاب في الموالي ، فقد جاء في رسالته إلى زياد بن أبيه : «وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم ، فخذهم بسنة عمر بن الخطاب ، فإن ذلك خزيهم وذلهم ، أن تنكح العرب فيهم ولا ينكحهم ...».

وهكذا أصبحت سيرة الشيخين سنة تتبع في الحديث (٢) والفقه (٣)

__________________

(١) جمهرة رسائل العرب ١ / ٤٧٧ عن مروج الذهب ٢ / ٦٠٠ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ١٩٠.

(٢) إذ حدد عثمان ومعاوية التحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «في ما عمل به على عهد عمر».

أنظر : الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٦ ، كنز العمال ١ / ٢٩١ ، تاريخ دمشق ٣ / ١٦٠.

(٣) فمثلا جاء عن مروان بن الحكم قوله : إن عمر بن الخطاب لما طعن استشارهم في الجد ، فقال : إني رأيت في الجد رأيا ، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه ، فقال عثمان : إن نتبع رأيك فهو رشد ، وإن نتبع رأي الشيخ من قبلك فنعم ذو الرأي كان.

أنظر : المستدرك على الصحيحين ٤ / ٣٤٠.

٧٨

والسياسة (١) و ...

قال المسعودي : وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصره بني هاشم في الشعب وجمعه الحطب ليحرقهم ، ويقول : إنما أراد بذلك ألا تنتشر الكلمة ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة فتكون واحدة كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار (٢).

بعد هذا لا غرابة في أن نقول : إن هناك اتجاها قد حدث بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشرع المواقف ويجعلها أصولا يسار عليها في الحياة بجنب الكتاب والسنة ، وقد اتسع هذا الاتجاه شيئا فشيئا حتى وصل بالأمة إلى أن ترجح قول الخلفاء حتى على قول الله ورسوله ، أو تخصيصهما بفعل الصحابي ، بدعوى أنهم عرفوا ملاكات الأحكام وروح التشريع وما شابه ذلك.

والطريف في الأمر هو أن أنصار هذا الاتجاه وإن كانوا يتخذون مواقف الخلفاء أصولا في الحياة والتشريع ، لكنهم في الوقت نفسه يسمحون لأنفسهم بترجيح رأي أحدهم على الآخر وإن كان بين الرأيين تباينا بينا ، اعتقادا منهم بحجية فعل الجميع ، أو أن كل هذه المواقف صحيحة ، أو ما شاكل ذلك مما صرح به في كتب عقائد وفقه هذه الشريحة من المسلمين.

ولتحقيق ما قلنا من تأثر الخلفاء من أتباع الاجتهاد بالموروث القديم ، وانعكاسه سلبا على الحديث النبوي وسنته الشريفة ، كان لا بد لنا من استعراض في بعض الشواهد الشاخصة في هذا المجال ، لمعرفة مدى قربها

__________________

(١) كما مر في كلام معاوية ويزيد آنفا.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٨٦ ط الميمنية ، وانظر : شرح نهج البلاغة ٢٠ / ١٤٧.

٧٩

أو بعدها عن مواقف وثوابت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيفية الجمع والتفريق بينهما ، وأول شاخص يطالعنا في ذلك هو :

١ ـ الاهتمام بالحفظ والنسب :

المعروف عن عقلية العرب في الجزيرة أنها كانت تعتمد على حافظتها ـ في حفظ أشعارها وآثارها ومآثرها ـ وترغب عن التدوين ، ولا تعتمده ، ومن شواهده أنا نرى وصول جمهرة عظيمة من قصائدهم التي تحمل لغتهم وثقافة حروبهم وصلحهم وجميع جوانب حياتهم ، وفي المقابل نلحظ عدم وصول شئ يوازي ذلك من خطبهم و ... ، وما ذلك إلا لأن الشعر سهل الحفظ والتناول ، بعكس الخطب التي يصعب حفظها ، ولما لم تكن مدونة فقد ضاع أغلبها ولم يصل إلينا إلا النزر اليسير.

وفي هذه الفترة نرى أن أبا بكر كان معدودا من العالمين بأنساب العرب ، لما روته عائشة عن أبيها أنه كان أعلم قريش بأنسابها (١) ، وقال ابن إسحاق في السيرة الكبرى : وكان أنسب قريش لقريش ، وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر (٢).

ومما يتبع علم النسب هو السباب ، لأنهم كانوا يتعلمون النسب للمفاخرة والمنافرة وبيان مثالب الآخرين.

قال ابن عبد ربه : كان أبو بكر نسابة ، وكان سعيد بن المسيب نسابة ،

__________________

(١) الأنساب ـ للسمعاني ـ ١ / ٢٢.

(٢) السير والمغازي : ١٤٠. وانظر : الأنساب ـ للسمعاني ـ ١ / ٢٢ ح ١١ ، والتبيين في أنساب القرشيين : ٢٠٩.

٨٠