تراثنا ـ العددان [ 55 و 56 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 55 و 56 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٢

السنة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(٢)

السيد علي الشهرستاني

المرحلة الثالثة

حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفترة (١٣ ـ ٤٠ ه)

أ ـ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد أبي بكر : يمكن للباحث والمطالع انتزاع وضعية الحديث النبوي في هذا العهد من خلال بيان نصين :

النص الأول :

جاء في تذكرة الحفاظ من مراسيل ابن أبي مليكة : أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال : إنكم تحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ،

٦١

فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (١).

ونحن في مناقشة هذا النص لا بد لنا من توضيح عدة نقاط :

الأولى : هل إن الاختلاف الواقع بين المسلمين يرجع إلى الاختلاف في الاستنباط والفهم ، أم إن الاختلاف هو في صدور المنقول والنص المروي؟

بمعنى أن الاختلاف تارة يكون في الفهم لمعنى الحديث ، وأخرى للنقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحة وسقما.

الواقع : أن الاختلاف ـ في النص المذكور ـ يعم كليهما وإن كنا سنبين أن مراد أبي بكر هو الاختلاف في النص ..

لأن الاختلاف في فهم معنى الحديث كان أمرا واقعا في زمن أبي بكر وفي زمن غيره ، وأن الخليفة لم يكن يلزم نفسه أو يلزم الآخرين في الأخذ عمن يفترض الأخذ منه ، أي أنه كان يسمح للصحابة بالاختلاف في فهم معنى الحديث ، بل نراه يرجع الناس إلى الأخذ بالقرآن ـ والذي هو حمال ذو وجوه ـ ومعنى فعله هذا أنه لا ينهى عن الاختلاف في الفهم القرآني بل يجيزه.

وعليه : فنهي الخليفة لم يكن عن الفهم لمعنى الحديث ، بل إنه صرح في نهيه عن نقل الحديث ، بقوله : «فلا تحدثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا» ، فهو يريد النهي عن الحديث عموما ، لمجئ النكرة بعد النهي ، وهي تفيد العموم حسبما قاله الأصوليون.

ولذلك عد كل من حصر أسباب اختلاف الفقهاء ، الاختلاف في

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢ ـ ٣ ، حجية السنة : ٣٩٤.

٦٢

الفهم من أسباب الاختلافات ، فقد حصر محمد بن السيد البطليموسي أسباب اختلاف الفقهاء في كتابه الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم بثمانية أسباب.

وحذا حذوه الشاطبي في الموافقات ، إلا أنه فرق بين الخلاف الحقيقي وبين المجازي.

وأرجع ابن رشد الأسباب إلى ستة.

وحاول ابن تيمية إرجاعها إلى ثلاثة أسباب في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام.

وسار على خطاه الدهلوي في كتابه الإنصاف في بيان سبب الاختلاف فلم يزد على ما قاله ابن تيمية سوى : الاجتهاد بالرأي ، وذلك بسبب انقسام المسلمين إلى مدرستين فقهيتين ، هما : مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث.

وعلى ذلك ، الاختلاف في الفهم لم يكن هو مقصود الخليفة في كلامه!

الثانية : هل إن التكذيب والسباب هما وليدا العصور اللاحقة؟ أم أن الصحابة والتابعين كان يسب الواحد منهم الآخر؟

أخرج البيهقي عن البراء : لسنا كلنا كان يسمع حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانت لنا ضيعة وأشغال ، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون ، فيحدث الشاهد الغائب.

وأخرج عن قتادة ، أن أنسا حدث بحديث ، فقال له رجل : أسمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

قال : نعم ـ أو : حدثني من لم يكذب ـ ، والله ما كنا نكذب ، ولا كنا

٦٣

ندري ما الكذب (١).

ومعنى هذين النصين هو أنهم كانوا محل الثقة فيما بينهم ولا يكذب بعضهم بعضا ، وكل ما كان بينهم هو خلاف فقهي لا يتعدى وجهات النظر في أمر الشريعة.

لكن هذه الرؤية لم تكن صحيحة على إطلاقها ، لأنا نرى وجود الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ومن ثم من بعده ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (٢) ، وقوله : «ستكثر القالة علي من بعدي» (٣) و...

وقد كذب الصحابة الواحد منهم الآخر ، فأبو بكر كذب الزهراء عليها‌السلام عند مطالبتها فدكا.

وكذب عمر أبا موسى الأشعري في حديث : «إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع» (٤).

وقال هو في معرض تقييمه لأصحاب الشورى : لو وليتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس ، والله لو فعلت لفعل ، ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتى يجزوا رأسه.

فقالوا : علي؟

قال : رجل قعدد [أي : الجبان الخامل].

__________________

(١) مفتاح الجنة ـ للسيوطي ـ : ٢٥.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٦٤ ح ٥١ ، صحيح مسلم ٨ / ٢٢٩ ، سنن أبي داود ٣ / ٣١٨ ح ٣٦٥١.

(٣) أنظر : المعتبر ـ للعلامة الحلي ـ ١ / ٢٩.

(٤) صحيح البخاري ٨ / ٩٨ ح ١٨ ، صحيح مسلم ٦ / ١٧٧ ـ ١٨٠ ، سنن الترمذي ٥ / ٥٢ ح ٢٦٩١ ، مصنف عبد الرزاق ١٠ / ٣٨١ ح ١٩٤٢٣.

٦٤

وفي نص البلاذري وغيره : إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم.

قالوا : طلحة؟

قال : ذاك رجل فيه بأو [أي : الكبر والتعظيم فيه] ، وفي نص آخر قال : أنفه في السماء واسته في الماء (١).

قالوا : الزبير؟

قال : ليس هناك .. ، وفي نص آخر : قال : لقس ، مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، شحيح (٢).

قالوا : سعد؟

قال : صاحب فرس وقوس ، وفي نص البلاذري : صاحب مقنب.

فقالوا : عبد الرحمن بن عوف؟

قال : ذاك فيه إمساك شديد ، ولا يصلح لهذا الأمر إلا معط في غير سرف وممسك في غير تقتير (٣).

وقال عمر لأبي بن كعب ـ حين قرأ : (من الذين استحق عليهم الأوليان) (٤) ـ : كذبت.

فقال له أبي : أنت أكذب!

فقيل له : تكذب أمير المؤمنين؟! (٥).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ١٧.

(٢) أنساب الأشراف ٥ / ١٦.

(٣) أخرجه القاضي أبو يوسف في كتابه «الآثار» عن شيخه أبي حنيفة كما في الغدير ـ للأميني ـ ٧ / ١٤٤.

(٤) سورة المائدة ٥ : ١٠٧.

(٥) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ ١ / ٤٧.

٦٥

وقول علي لنفر من أهل العراق : كذب [المغيرة بن شعبة] ، أحدث الناس عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قثم بن العباس (١).

وجاء عن أبي بكر أنه قال للسائل عن القدر : يا بن اللخناء (٢).

وعن عائشة قولها في عثمان : «لحيضة خير من عثمان الدهر» (٣) ، حتى إنها جوزت قتله ونسبته إلى الكفر بقولها : «اقتلوا نعثلا فقد كفر» (٤).

وقال الزبير عن عثمان : «جيفة على الصراط» (٥).

وقال أبو ذر لكعب الأحبار : «يا بن اليهودية» (٦) ، وتكذيب عبد الله ابن سلام لكعب الأحبار في خبر طويل (٧).

وقال عثمان لعمرو بن العاص : «... وإنك ها هنا يا بن النابغة .. قمل فروك» وفي آخر : «فروتك» (٨).

ونقل عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قوله لخالد بن الوليد لما هدده بالقتل : «من يقتلني أضيق حلقة است منك» (٩).

وجاء عن عثمان قوله : «كذب ابن عديس» (١٠).

__________________

(١) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ ١ / ٤٧.

(٢) تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ : ٦٥.

(٣) أنساب الأشراف ـ للبلاذري ـ ٥ /.

(٤) الفتوح ـ لابن أعثم ـ ١ / ٦٤ ، الكامل في التاريخ ٣ / ١٠٠ حوادث سنة ٣٦ ه.

(٥) أنساب الأشراف ـ للبلاذري ـ ٥ /.

(٦) تاريخ الطبري ٤ / ٢٨٤ ، الكامل في التاريخ ٣ / ١١٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٥٤.

(٧) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ ١ / ٤٨.

(٨) أنظر : تاريخ الطبري ٢ / ٦٤٣ و ٦٥٨ حوادث سنتي ٣٤ و ٣٥ ه ، الكامل في التاريخ ٣ / ٤٢ و ٥٤ حوادث سنتي ٣٤ و ٣٥ ه.

(٩) الإحتجاج ١ / ٢٣٣.

(١٠) البداية والنهاية ٧ / ١٤٥ حوادث سنة ٣٥ ه.

٦٦

وعن عبادة بن الصامت : «كذب أبو محمد ...» (١).

وكذب أنس بن مالك من أخبر عنه أن القنوت بعد الركوع (٢).

وردت عائشة على أبي الدرداء في خبر الوتر (٣).

وعن ابن عباس أنه قال : كذب نوف البكالي (٤).

هذا ، إلى غيرها من النصوص الكثيرة.

فهذه النصوص تؤكد على تكذيب الصحابة الواحد منهم للآخر ، وأن الفحش والسباب لم يكن بالمستهجن عندهم ، ولم يكن من مختلقات الشيعة والخوارج وغيرها من فرق الضلال كما يزعم بعضهم! بل إنها كانت حالة موجودة عندهم ، فإنهم لم يكونوا بمعصومين في قولهم وفعلهم ، حتى يعسر صدور مثل هذه الأقوال عنهم.

وقد جاء عن أبي بكر أنه كذب من حدثه بعد أن ائتمنه ووثق به ، لقوله : «... عن رجل ائتمنته ووثقته فلم يكن كما حدثني».

وإن طلبه من المغيرة بن شعبة أن يقرن ما سمعه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجدة بشاهد آخر ، دليل آخر على احتمال التخطئة عند الصحابة ، فشهد للمغيرة محمد بن مسلمة فأنفذ أبو بكر كلامه.

وقد طلب عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري أن يشهد له شخص آخر على ما سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع» فأتى بأبي سعيد الخدري إليه شاهدا فخلى سبيله.

__________________

(١) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ ١ / ٤٩ ، واسمه مسعود بن زيد.

أنظر : تهذيب التهذيب ١٢ / ٢٢٥ ، وجامع بيان العلم ٢ / ١٩١.

(٢) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ ١ / ٤٩.

(٣) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ ١ / ٤٩.

(٤) الكامل في الضعفاء ـ لابن عدي ـ ١ / ٤٩.

٦٧

نعم ، إن الأعلام حملوا بعض هذه الأمور على التثبت والتأكد ، ولكن : هل كان ذلك حقا هو من التثبت؟! أم أن هناك شيئا آخر؟!

فلو كانت سياسة الشيخين العامة هي التثبت في قبول الأخبار ، ولزوم إشهاد الآخرين على الأخبار ، فلماذا نراهم يقبلون بخبر الآحاد في سيرتهم العملية ، وهي ليست بالقليلة؟!

فمن تلك الأخبار : قبول عمر بن الخطاب برواية عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الوباء ، وذلك حينما بلغ عمر (سرغ) (١) قاصدا إلى الشام ، فقال له عبد الرحمن : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا سمعتم به [أي الوباء] بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» فرجع عمر من (سرغ) إلى محله (٢).

ومنها : ما روي عن عمر أنه ذكر المجوس ، فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟

فقال له عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : سنوا بهم سنة أهل الكتاب (٣).

وجاء عنه أنه أخذ بقول الضحاك بن سفيان ، من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) سرغ ـ بفتح أوله ، وسكون ثانيه ، ثم غين معجمة ـ : سروغ الكرم : قضبانه الرطبة ، الواحد سرغ ـ بالغين ـ والعين لغة فيه ، وهو أول الحجاز وآخر الشام بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام.

أنظر : معجم البلدان ٣ / ٢٣٩ رقم ٦٣٧٦.

(٢) صحيح البخاري ٧ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ح ٤٤ ، أنساب الأشراف ١٠ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، البداية والنهاية ٧ / ٦٣ حوادث سنة ١٧ ه.

(٣) مصنف ابن أبي شيبة ٧ / ٥٨٤ ح ٦ و ٧ ، كنز العمال ٤ / ٥٠٢ ح ١١٤٩٠.

٦٨

كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته (١).

فعمر بن الخطاب رجع إلى رواية الضحاك بعد أن كان يقول : «الدية للعاقلة ، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا».

وجاء عن عمر أخذه برواية علي بن أبي طالب ـ لما أراد رجم المجنونة ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله رفع القلم عن ثلاثة ...» (٢).

.. وغيرها كثير.

كل هذه النصوص تؤكد على أن الشيخين أخذا بأخبار الآحاد ، ولم يشترطا في قبول الرواية الاثنين أو الأكثر كما هو المشهور عنهما ، وأن هذه الروايات ، وحسب تعبير الدكتور الشيخ مصطفى السباعي : «في العدد أكثر من تلك التي روت أنه طلب راويا آخر ، ولا تقل في الصحة والثبوت عنها ، ولما كان عمل الصحابة جميعا الاكتفاء بخبر الصحابي الواحد ، كان لا بد من تأويل ما روي عن عمر مخالفا لعمله في الروايات الأخرى ، ولعمل الصحابة الآخرين ...» (٣).

وطريقة جمعنا بين النقلين هو القول : بأن الخليفة كان لا يشترط الإشهاد في القضايا الابتدائية ، بل كان يأخذ بأقوال الصحابة فيها ...

بخلاف الأمور التي أفتى بها الخليفة خلافا لما يذهب إليه الناقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أن الخليفة اعتقد بشئ يخالف نقل الراوي عن

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٥٢ ، سنن الترمذي ٤ / ١٩ ح ١٤١٥ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٨ / ١٣٤.

(٢) سنن أبي داود ٤ / ١٣٧ ـ ١٣٩ ح ٤٣٩٩ ـ ٤٤٠٣ ، المستدرك على الصحيحين ٢ / ٦٨ ح ٢٣٥١ وج ٤ / ٤٢٩ ح ٨١٦٨ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٨ / ٢٦٤.

(٣) السنة ومكانتها ـ للدكتور السباعي ـ : ٦٩.

٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتراه لا يقنع بنقل الصحابي الواحد فيه بل يطلب شاهدا آخر عليه ، تصحيحا للنقل ، وتأكيدا لما سمعه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولإعذار نفسه في الإفتاء بما خالف حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سابقا ، ولتوقفه في الحكم لاحقا.

والذي يؤكد مدعانا قضية شجار عمار بن ياسر وعمر بن الخطاب في قضية التيمم ، فإن عمر بن الخطاب كان قد نهى السائل الجنب عن الصلاة ، فعارضه عمار بن ياسر في فتواه بما سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

فلم يطلب عمر بن الخطاب شاهدا من عمار على كلامه ، لأنه ذكره بواقعة كان قد شاهدها مع الخليفة ، وهو إخبار عن حس لا عن حدس!!

الثالثة : لا بد لنا أن نبحث عن الاختلاف بين الصحابة في أي شئ كان؟! وهل نشأ عن عمد ، أم عن جهل؟! فلو قلنا بالأول فيكون معناه تكذيب الصحابة الواحد منهم للآخر في النقل ، ولو قلنا بالثاني فهو مبرر لمن منع التدوين والتحديث بدعوى الاكتفاء بالقرآن ، ونحن بذكرنا كلام الإمام علي عليه‌السلام في أسباب اختلاف النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقف على حقيقة الأمر بإذن الله تعالى.

قال عليه‌السلام : " إن في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعاما وخاصا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما. ولقد كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده ، حتى قام خطيبا فقال : أيها الناس! قد كثرت علي الكذابة ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار .. ثم كذب عليه من بعده.

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٥١ ح ٥ ، مسند أحمد ٤ / ٢٦٥ ، سنن النسائي ١ / ١٦٨ و ١٦٩ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١ / ٢٠٩.

٧٠

وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

رجل منافق يظهر الإيمان ، متصنع بالإسلام ، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله متعمدا ، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ، ولكنهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله ورآه وسمع منه وأخذ عنه ، وهم لا يعرفون حاله! وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم ، فقال عزوجل : (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) (١).

ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان ، فولوهم الأعمال ، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا ، إلا من عصمه الله ، فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئا فلم يحمله على وجهه ، ووهم فيه ، ولم يتعمد كذبا ، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعته من رسول الله ، فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله شيئا أمر به ، ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شئ ، ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله ، مبغض للكذب ، خوفا من الله

__________________

(١) سورة المنافقون ٦٣ : ٤.

٧١

وتعظيما لرسول الله ، لم ينسه ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به كما سمع ، لم يزد فيه ولم ينقص عنه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ.

فإن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل القرآن ، ناسخ ومنسوخ ، وخاص وعام ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول الله الكلام له وجهان : كلام عام ، وكلام خاص ، مثل القرآن ، وقال الله عزوجل في كتابه : (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (١) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله.

وليس كل أصحاب رسول الله كان يسأله عن الشئ فيفهم ، ومنهم من يسأله ولا يستفهمه ، حتى إن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله حتى يسمعوا!

وقد كنت أدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل يوم دخلة ، وكل ليلة دخلة ، فيخليني فيها ، أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لم يصنع ذلك بأحد غيري ، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله أكثر ذلك في بيتي.

وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري.

وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي ، لم تقم عني فاطمة ، ولا أحد من بني ، وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا ...» (٢).

__________________

(١) سورة الحشر ٥٩ : ٧.

(٢) أنظر : الكافي ١ / ٨٣ ح ١٨٩ باب اختلاف العلم ، كتاب سليم ٢ / ٦٢٠ ، الخصال : ٢٥٥ ح ١٣١.

٧٢

كان هذا كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في الأمر ، وقد صنف الأحاديث الموجودة بين الناس وأسباب اختلاف المسلمين في النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس في ما قاله ما يعني وجهات النظر الاستنباطية المعمول بها عند الفقهاء ، بل كل ما فيه يرتبط بوجوه النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقدرة تلقي الصحابي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهدافهم فيه ، فبعضهم لا يتحرج من الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمدا ، والآخر لم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذبا ، وثالث قد سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا أمر به ثم نهى عنه فلا يعرف الناسخ من المنسوخ ، ورابع جاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص ..

فيفهمنا هذا النص وغيره أن أبا بكر كان يعني اختلافهم في النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا اختلافهم في وجوه الاستنباط ، لقوله لهم : «فلا تحدثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا» فمجئ «عن» في الجملة تؤكد ارتباطه بالنقل لا الاستنباط ، ولقوله في نص آخر علل به حرق مدونته : «خشيت أن أموت وهي عندي ، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به ، ولم يكن كما حدثني» فجملة «حدثني» تعني النقل لا غير (١).

الرابعة : بعد هذا نتساءل عن المختلف فيه بين الصحابة : هل هو فيما يتعلق بالنصوص الصادرة بأمور الخلافة والإمامة فقط ، أم إنه أعم منها؟! لأننا نرى أن الخليفة نهى عن التحديث عموما بقوله : «لا تحدثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا»!!

ذهب غالب كتاب الشيعة (٢) وبعض أهل السنة والجماعة إلى القول

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢ ـ ٣.

(٢) أنظر : بحثنا بهذا الخصوص في كتابنا منع تدوين الحديث : ٥٧ ـ ٨٢.

٧٣

بالأول ، فقال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في كتابه الأنوار الكاشفة (١) :

«إن كان لمرسلة ابن أبي مليكة أصل ، فكونه عقب الوفاة النبوية يشعر بأنه يتعلق بأمر الخلافة ، كأن الناس عقب البيعة بقوا يختلفون ، يقول أحدهم : أبو بكر أهلها ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كيت وكيت ، فيقول آخر : وفلان ، قد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيت وكيت.

فأحب أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك وتوجيههم إلى القرآن» (٢).

ونحن لا نقبل هذا التعليل منفردا ، لأن النهي فيه عام ، وذلك لقول أبي بكر : «لا تحدثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا» ، وقول عمر : «أقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم»!

وقد أمر عمر الصحابة أن يأتوه بكتبهم جميعا بقوله : «فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به» ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار!

فلو كان المأمور به هو إبادة أدلة الإمامة والخلافة حسب ، فكيف وصلتنا هذه الأدلة الكثيرة الدالة على إمامتهم في المعاجم الحديثية ك :

__________________

(١) وهو الكتاب الرابع الذي كتب ردا على كتاب أضواء على السنة المحمدية للشيخ محمود أبو رية ، إذ كتب قبله الدكتور مصطفى السباعي بحوثا في السنة ، ثم جمعها وجعلها ردا على الشيخ أبو رية ، وطبعها باسم : السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي.

وقد كتب الشيخ محمد أبو زهو كتابا بهذا الصدد سماه : الحديث والمحدثون.

ومثله الحال بالنسبة للشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ، فقد كتب كتابا باسم : ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمدية.

(٢) الأنوار الكاشفة : ٥٤.

٧٤

«علي وصيي ، وخليفتي ، ووارث العلم من بعدي» و «مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها هوى وغرق» و «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» و «إني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي» و «علي مع القرآن ، والقرآن مع علي» .. وغيرها؟!

فالقول بأن المنع من التحديث عموما جاء لمحو أدلة الفضائل والإمامة فقط ، وأنهم منعوا الكل خوفا من بقاء الجزء ـ أدلة الإمامة ـ ، وأن اختلافهم كان في هذا الأمر بالخصوص ولا يتعدى إلى غيره ، هو كلام غير دقيق!

لأن الدليل أخص من المدعى ، فالشيخان نهيا نهيا عاما ، بحيث لو كانا يريدان عدم تناقل أحاديث الإمامة والخلافة ، أو ما يوجب الاختلاف بين الأمة في التنصيب والحكومة ، لأمكنهم حينما أوتوا بالمدونات أن يمحوا ما يدل على إمامة علي ويجعلا الباقي في كتاب ثم يعمموه على الأمصار ، مثلما فعل ذلك عمر بن عبد العزيز في أوائل القرن الثاني الهجري بالأحاديث التي جمعها ابن شهاب الزهري ، فإنه أمره بتدوينها وجعلها في دفاتر ، وأرسلها إلى الأمصار وأمرهم بالأخذ بها.

وعليه : فتفسيرهم وتعليلهم بهذا واختصاص العلة بهذا الوجه فقط ، غير صحيح بنظرنا ، ومن أراد المزيد فليراجع كتابنا منع تدوين الحديث.

هذا ، ولا يفوتنا الإشارة إلى أن خلق الأعذار من قبل الخلفاء ، كقول أبي بكر : «والناس بعدكم أشد اختلافا ، فمن سألكم ...» ، وقول عمر : «إني كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا ، فأكبوا عليها ، فتركوا كتاب الله تعالى ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشئ

٧٥

أبدا» ، وقوله : «أمنية كأمنية أهل الكتاب» ، فيها دلالة على مشروعية التدوين في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لأنا قد قرأنا عن المانعين أنهم قد ذهبوا إلى أن الرسول ما مات إلا وأمر التدوين شائع بين المسلمين ، ومعنى كلامهم هذا : أن المنع ليس له عين ولا أثر في أخريات حياته ، كما لم يكن له في أولياتها.

ومثل ذلك نقوله عن كتابة أبي بكر الأحاديث الخمسمائة ، فهو دليل على الجواز وإلا لما كتبها ، قال المعلمي : لو صح هذا ، لكان حجة على ما قلنا من عدم صحة النهي عن كتابة الحديث ، فلو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقا لما كتب أبو بكر (١).

وقال بعدها : لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريب ولا بعيد.

وقال الشيخ محمد أبو زهو : «إن النهي كان رأيا من عمر ـ إلى أن يقول : ـ فأراد عمر بثاقب فكره أن يحبس الناس على القرآن حتى يتمكن حفظه من نفوسهم ، وترسيخ صورته في قلوبهم ...» (٢).

وعليه : فالنهي من قبل الشيخين قد شرع لأسباب خاصة بهما ، ولا يرتبط بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريب ولا بعيد.

وقبله الكلام عن الاختلاف بين المسلمين في النقل ، فإنه لا يختص بنقل فضائل علي عليه‌السلام وغيره ، أو ما يدل على إمامتهم وخلافتهم فقط ، كما قال أنصار الرأي الأول ، بل الأمر أشمل مما ذكر ، لأن مواقف الخليفة ونقولاته كانت تتعارض مع أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله ، فتحاشيا من

__________________

(١) الأنوار الكاشفة : ٣٨.

(٢) الحديث والمحدثون : ١٢٦ ، وانظر : منع تدوين الحديث ـ لنا ـ : ٣٦٩.

٧٦

اصطدام القدرتين وتعارضهما ـ الرسول والخليفة ـ نهى أبو بكر من تناقل حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل شئ ، وأرجع الأمة إلى الأخذ بالقرآن فقط ، لقوله : «فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله» ، للوقوف أمام الاختلاف ـ بنظره ـ ، وإنا إن شاء الله سنوضح آفاق وأهداف الخليفة في الصفحات المقبلة.

سؤال وجواب :

والآن مع نكتة أخرى في النص ، هي : كيف ينسب إلى أبي بكر المنع من التدوين ، في حين نراه يمنع عن التحديث فقط ـ في هذا النص ـ لقوله : «لا تحدثوا»؟!

الجواب :

إن الخليفة حينما منع من التحديث كان يريد المنع من التدوين بطريق أولى ، لأن من يدعو إلى منع التحديث لا يعقل أن لا يقول بمنع التدوين أيضا ، وخصوصا حينما نرى علة الاختلاف والسبب في عدم التحديث هو الاختلاف ، لقوله : «والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا» ، وبما أن الكتابة أبقى للاختلاف المفروض وقوعه ، بل سبب لتداوله وتخليده بين المسلمين ، فالخليفة ينهى عنه بطريق أولى ، هذا أولا.

ثانيا : إن جملة «لا تحدثوا» تشمل الكتابة مثلما شملت التحديث ، لأن التحديث تارة يكون عن كتاب ، وتارة عن مشافهة ، فمثلا : لو عثرت فرقه تنقيب أثرية على لوحة من السومريين أو المعينيين فيها أصول

٧٧

حضارتهم ، فهم سيتحدثون عن تلك الحضارة بعد فتح رموزها ، وهذا يعني إمكان التحديث عن الكتابة وهو الملاحظ في كتبنا ، فنحن نحدث عن آراء ابن حجر وابن قتيبة والطوسي والمجلسي ، في حين أنا لم نسمع ذلك منهم شفاها ..

وعليه : فلا يستبعد إطلاق التحديث على المكتوب ، ومعناه : أن الخليفة نهى عن التحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عموما ، سواء كان عما سمعوه شفاها ، أو ما قرؤه في كتاب!

وثالثا : إن أبا بكر أحرق مدونته ، ذات الخمسمائة حديث ، وعلل ذلك بأنه غير متيقن من تلك النقولات ، وهذه العلة جارية في جميع مدونات الصحابة ، فيكون أبو بكر ناهيا قطعا عن التدوين إضافة إلى نهيه عن التحديث.

مناقشة تعليق الذهبي على مرسلة ابن أبي مليكة :

علق الذهبي بعد نقله مرسلة ابن أبي مليكة ، بقوله : «إن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية ... ولم يقل : حسبنا كتاب الله ، كما تقول الخوارج» (١).

فقوله : «إن مراد الصديق التثبت في الأخبار ، والتحري لا سد باب الرواية» لا يطابق إحراقه لمدونته ـ كما في النص الثاني ـ ، بل إن المنع الشامل للحديث يؤكد عدم إرادة التثبت ، لأن من يريد التثبت يسعى للإصلاح والانتخاب والتصحيح لا الإبادة ، فكان عليه أن يجمع الصحابة

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٣.

٧٨

ليستشيرهم في صحة المنقولات عموما وفي ما سمعه عمن ائتمنه ووثق به خصوصا (١) ، لا أن يبيد مدونته وأن يأمر بمنع التحديث عموما.

فجملة : «لا تحدثوا شيئا» تفيد النهي الشامل عن كل الأحاديث ، ولا تختص بالنهي عن تناقل أحاديث الإمامة والخلافة فقط ، لأن مجئ النكرة «شيئا» بعد النهي «لا تحدثوا» يفيد العموم ، ومعناه أن الخليفة لا يرتضي التحديث بشئ سوى القرآن.

فلو كان الخليفة يريد التثبت حقا لقال : «تثبتوا في نقلكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة الكذبة عليه» ، أو : «لا تحدثوا بكل شئ سمعتموه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بعد التثبت» .. وغيرها ، فعدم صدور هكذا نصوص عنه ، بل أمره بالمنع عن التحديث عموما ، وإحراقه لمدونته ـ كما في الخبر الآتي ـ يدل على أن الأمر لا يرتبط بالتثبت ، بل وراؤه أمر آخر! لأن منهج المتثبت يدعو إلى الحفظ لا الإبادة!

فإن فعله (الإحراق) ، ودعوته إلى ترك التحديث (لا تحدثوا) ، يؤكدان بما لا يقبل التشكيك حقيقة أن الخليفة بصدد منع التحديث والتدوين معا والاكتفاء بالقرآن ، وقد عرفت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يرتضي هذا الفعل ممن يخلفه ، لقوله : «لا أعرفن» ، و «لا ألفين» ، وقوله : «ألا إن ما حرم رسول الله كما حرم الله» ، وقوله : «ألا إن كلامي هو كلام الله».

فالخليفة ـ وبإرجاعه الناس إلى القرآن ـ كان يريد تعبدهم بالقرآن

__________________

(١) كما روي عنه استشارته للصحابة في خبر ميمون ، أنظر : أعلام الموقعين ـ لابن قيم ـ ١ / ٦٢.

٧٩

دون السنة ، وهذا ما لا يرتضيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو مما أخبر به قبل وفاته ، وقد عدت من دلائل صدق نبوته ـ حسب تعبير البيهقي (١)ـ.

أما جملة : «ولم يقل حسبنا كتاب الله كما يقول الخوارج» فهو تحكم في الموازين والأصول ، لأن قول وفعل الخليفة يخبر عن معتقده ، فقوله بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بيننا وبينكم كتاب الله» هو معنى آخر ل : «حسبنا كتاب الله» ، ولا يختص التشكيك بحجية السنة بما نقله الذهبي عن الخوارج.

هذا ، ويؤخذ على كلام الذهبي بأن الخوارج لم يقولوا : «حسبنا كتاب الله» ، بل الذي قالوه : «لا حكم إلا لله» ، وإن جملة : «حسبنا كتاب الله» هي من مقولات عمر عند مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومثلها مقولة أبي بكر : «بيننا وبينكم كتاب الله» ، فإنهما مقولتان متحدتان في معنى واحد ، وهو الإعراض عن السنة وتركها ، بحجة الاكتفاء بالقرآن ، وأين هذا من كلام الخوارج؟!!

وبهذا ، فقد توصلنا إلى أن هذه النظرة إلى السنة المطهرة من السلف هي التي سمحت لمحمد رشيد رضا وتوفيق صدقي من الكتاب الجدد وطائفة من القدماء أن ينكروا حجية السنة ، ويذهبوا إلى لزوم الاكتفاء بالقرآن ، لاعتقادهم بعدم صحة الأحاديث المبيحة للتدوين في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي المقابل ثبوت النهي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندهم ، ومن المحبذ أن نقف هنيئة هنا كي نناقش بعض شبهات الدكتور صدقي والشيخ رشيد رضا.

__________________

(١) دلائل النبوة ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

٨٠