تراثنا ـ العدد [ 52 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 52 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٢

الشيخ الطوسي في سطور :

هو الشيخ الأجل أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي رضي‌الله‌عنه ، أكبر من أن يقال بحقه : (ثقة) ، وفوق أن يبجل ب : (عين) ، وكيف لا يكون أكبر من جمل الثناء وهو إمام التفسير ، والفقه ، والفقه المقارن ، والحديث ، والرجال ، والفهرسة ، والفلسفة ، والكلام ، والعقائد ، والأخلاق ، والآداب العامة ، والتاريخ؟!

وأي معنى يبقى في سرد جمل الثناء بعد إجماع الشيعة على أنه : (شيخ الطائفة) ، ووصف غيرهم له بأنه : (شمس العلماء)؟! (١).

وكمثال آخر على عظمته ، شغف العلماء والباحثين قديما وحديثا من المسلمين والمستشرقين بالشيخ الطوسي وآثاره العلمية ، ويكفي في ذلك أن بلغت مصادر الدراسة عنه أكثر من ثلاثمائة مصدر (٢) ما بين كتاب كبير ، أو بحث متوسط ، أو مقال صغير ، أو رسالة مفردة ، أو ترجمة مطولة أو مختصرة ، كما أعدت بشأنه بعض الرسائل الجامعية ونوقشت ببغداد (٣) والقاهرة (٤).

__________________

(١) وصفه بذلك العلامة الشيخ محمود أبو رية المصري الشافعي ، في رسالة بعثها إلى المؤتمر الألفي لولادة الشيخ الطوسي.

راجع : بحوث المؤتمر ٢ / ٨٠٢ ، ستجد نص الرسالة.

(٢) راجع : مصادر الدراسة عن الشيخ الطوسي ـ للدكتور محمد هادي الأميني ـ فقد ذكر فيه مائتين وتسعة مصادر ، وقد فاته أكثر من أربعين بحثا عن الشيخ الطوسي ـ في ما أحصيته ـ ومنها رسائل جامعية.

(٣) كرسالة الماجستير «الشيخ الطوسي» ـ لأستاذنا الدكتور حسن عيسى علي الحكيم ـ نوقشت بجامعة بغداد سنة ١٣٩٤ ه.

(٤) كرسالة الدكتوراه «منهج الشيخ الطوسي في التفسير» ـ للدكتور گاصد ياسر حسين

٤١

ولد رضي‌الله‌عنه في شهر رمضان سنة ٣٨٥ ه (١) في مدينة طوس على الأرجح ، وهي من مدن خراسان الشهيرة ، التابعة إلى نيسابور قديما.

ويدل على ولادته في طوس ، أنه نسب إليها ، مع أخذه العلم في أوان شبابه عن بعض مشايخ نيسابور قبل قدومه إلى العراق (٢).

وبعد مرور ثلاث وعشرين سنة على ولادته هاجر إلى بغداد (٣) ، ومكث فيها أربعين سنة ، الخمس الأولى منها قضاها تحت كنف الشيخ المفيد قدس‌سره ، تلتها ثلاث وعشرون سنة تحت رعاية السيد المرتضى قدس‌سره ، ثم أعقبتها اثنتا عشرة سنة أخرى كان فيها الشيخ الطوسي رحمه‌الله زعيم الشيعة الديني ببغداد ، ثم هاجر بعد ذلك إلى النجف الأشرف ، وبقي فيها إلى أن وافاه أجله المحتوم في ليلة الاثنين ٢٢ محرم الحرام ٤٦٠ ه ، ودفن في داره الذي صار مسجدا فيما بعد ، ويعرف بمسجد الطوسي ، ولا زال قبره رضي‌الله‌عنه مشيدا في مسجده ، وهو على مقربة من مرقد أمير المؤمنين عليه‌السلام في مدينة النجف الأشرف.

وأما عن دوره في علوم الشريعة الإسلامية ، فيقتضي التطرق إلى مؤلفاته ، فنقول :

للشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه مؤلفات ضخمة نوعا وكما ، ولا زال بعضها مرجعا للكل ، بعد أن كان الأول من نوعه في تاريخ مؤلفات الشيعة مما

__________________

الزيدي ـ نوقشت في كلية الآداب جامعة القاهرة سنة ١٣٩٦ ه.

(١) الخلاصة ـ للعلامة الحلي ـ : ٢٤٩ رقم ٨٤٥.

(٢) راجع : «شخصيت علمي ومشايخ شيخ طوسي» مقال بالفارسية ـ للسيد المحقق عبد العزيز الطباطبائي رحمه‌الله نشر في مجموعة «ميراث إسلامي إيران».

(٣) الخلاصة : ٢٤٩ رقم ٨٤٥.

٤٢

أحدث ـ في وقته ـ نقلة جديدة في المسار الفكري ، وتطورا واسعا في بابه لا سيما في حقول التفسير ، والحديث ، والفقه ، والأصول ، والرجال.

وبالجملة ، فإن مؤلفاته رضي‌الله‌عنه لم تفقد أهميتها العلمية إلى الآن على الرغم من مرور أكثر من عشرة قرون على تأليفها ، وقد وصفها السيد محسن الأمين رحمه‌الله بقوله : «هي من عيون المؤلفات النادرة التي من شأنها أن توضع في أعلى رف من المكتبة العربية ، إذا وضعنا مؤلفات الناس في رفوف متصاعدة حسب قيمتها العلمية» (١).

هذا ، ويمكن توزيع مؤلفات الشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه على أربع مراحل من مراحل حياته الشريفة ، وهي المراحل التي امتدت من فترة دخوله إلى بغداد سنة ٤٠٨ ه إلى حين وفاته في النجف الأشرف سنة ٤٦٠ ه.

وأما السنوات التي أمضاها من عمره قبل وصوله إلى بغداد ، فلم يعرف له تأليف فيها ، والمتيقن أنه ـ بعد سن الطفولة ـ اشتغل في غضون تلك السنوات بتحصيل علوم الشريعة الإسلامية ، ويؤيد ذلك أنه ما أن وصل بغداد إلا وقد التحق ـ وهو في سن الثالثة والعشرين من العمر ـ بمدرسة الشيخ المفيد رحمه‌الله ، الذي كان زعيما للشيعة وقطبهم في وقته ، وهذه السن لا تكفي لتحصيل سائر العلوم الإسلامية والنبوغ فيها باستثناء القلة القليلة من النابغين ، كالمحمدين الثلاثة ونظرائهم رضي الله تعالى عنهم.

نعم ، كان وصوله إلى بغداد بداية لتلك المراحل التي ألمحنا إليها آنفا ، وهي :

المرحلة الأولى : ابتدأت من دخوله إلى بغداد سنة ٤٠٨ ه ، وانتهت

__________________

(١) أعيان الشيعة ـ للسيد محسن الأمين ـ ٩ / ١٦١ في ترجمة الشيخ الطوسي.

٤٣

بوفاة شيخه المفيد سنة ٤١٣ ه ، ودامت خمس سنوات ، وهي المدة التي قضاها مع الشيخ المفيد قدس‌سره في زعامته.

المرحلة الثانية : ابتدأت من سنة ٤١٣ ه إلى سنة ٤٣٦ ه ، ودامت ثلاث وعشرين سنة ، وهي مدة زعامة السيد المرتضى (ت ٤٣٦ ه).

المرحلة الثالثة : ابتدأت من سنة ٤٣٦ ه إلى سنة ٤٤٨ ه ، ودامت اثنتي عشرة سنة ، وهي المدة التي استقل بها الشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه بالزعامة الدينية المطلقة للشيعة ببغداد.

المرحلة الرابعة : ابتدأت من سنة ٤٤٨ ه إلى سنة ٤٦٠ ه ، ودامت اثنتي عشرة سنة ، وهي المدة المتبقاة من زعامته الدينية والتي انطوت في آخرها صفحة حياته الشريفة في النجف الأشرف بعد أن حل بها مهاجرا من بغداد في بداية هذه المرحلة.

وبعد وضوح تلك المراحل التي احتوت على جميع مؤلفات الشيخ زمانا ومكانا ، لا بد من التعرف على ما تناولته من العلوم الإسلامية بعيدا عن توزيعها على تلك المراحل أو بيان فائدة ذلك التوزيع وأهميته من الناحية العلمية لما بيناه في بحث آخر عن الشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه وكتابيه التهذيب والاستبصار (١).

ولأجل تلافي التكرار نكتفي بتقسيم مؤلفات الشيخ رضي‌الله‌عنه على العلوم الإسلامية ، ومن ثم بيان دوره في تلك العلوم ما أمكن ، فنقول :

من استقراء مؤلفات الشيخ رضي‌الله‌عنه وتصنيفها بحسب العلوم ، نجد أنفسنا أمام حقيقة ثابتة ، وهي أن الشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه قد تناول جميع العلوم

__________________

(١) قد يجد طريقه إلى النشر قريبا إن شاء الله تعالى.

٤٤

الإسلامية الأساسية والثانوية ، وهي :

١ ـ التفسير وعلوم القرآن الكريم.

٢ ـ الحديث الشريف وعلومه.

٣ ـ الرجال والترجمة والفهرسة.

٤ ـ الفقه الإسلامي : الروائي ، والمستنبط ، والمقارن.

٥ ـ أصول الفقه.

٦ ـ الفلسفة والكلام والعقائد.

٧ ـ الأخلاق وتهذيب السلوك.

٨ ـ التاريخ.

٩ ـ علوم مختلفة تناولها في أجوبة المسائل والرسائل.

١٠ ـ اللغة العربية وما يتصل بها ، كالنحو ، والإعراب ، والبلاغة ، والشعر ، وبمقدار ما يتصل منها بتوضيح النص وتيسير فهمه ، قرآنا كان أو سنة شريفة.

١١ ـ النقود والردود.

وفي ما يأتي بيان موجز عن دوره في تلك العلوم ، نبدؤها ب :

دوره في التفسير وعلوم القرآن الكريم :

لأجل التعرف على دور الشيخ الطوسي في ذلك ، لا بد من التعرض السريع إلى تاريخ التفسير عند الشيعة الإمامية ، فنقول :

ابتدأ نشاط الشيعة التفسيري بشكل ملحوظ في عصر الصحابة ، بعد أن تأثر حبر الأمة ابن عباس رضي‌الله‌عنه (ت ٦٨ ه) بتلميذ النبوة الأوحد وأستاذ الكل في التفسير الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ،

٤٥

إذ الثابت أن الوصي عليه‌السلام هو أعلم بالقرآن من كل أحد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أثبتت بعض الدراسات الأكاديمية ذلك ، وبرهنت عليه بدقة ، منطلقة من الأحاديث الواردة بحقه عليه‌السلام ، كالتي بينت علمه بالقرآن وصلته الوثقى به حتى عدا قرينين ، وكذلك من مصحفه الشريف المعروف بمصحف علي أو كتاب علي ، الذي اشتمل على فنون التفسير وعلوم القرآن الكريم (١).

ويعلم ذلك أيضا من تتبع ما نقل عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام في التفسير وعلوم القرآن الكريم في كتب الحديث والتفسير التي اختص أهلها بالذود عن تراث أهل البيت عليهم‌السلام والتفاني في حفظه وتدوينه.

وإلى ذلك المصحف أشار ابن النديم في الفهرست (٢) ، وقال عنه ابن سيرين : «لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم» (٣).

نعم ، تأثر حبر الأمة بأستاذه العظيم ، فصنف في التفسير ، وقد صرح بعضهم ـ كابن حجر ـ بأن ابن عباس أخذ علمه في التفسير عن علي عليه‌السلام (٤).

وأما في عصر التابعين ، فقد كان ميثم التمار (ت ٦٠ ه) أول مفسري التابعين قاطبة ، لا في تاريخ التشيع فحسب ، بل في تاريخ ذلك العصر كله بما ضم من مدارس وتيارات فكرية ، ثم صنف بعده التابعي الشهيد سعيد بن جبير (ت ٩٤ ه) ، وجابر الجعفي (ت ١٢٨ ه) ، وأبان بن تغلب الكوفي (ت ١٤١ ه).

__________________

(١) راجع : المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم ـ لهدى جاسم محمد أبو طبرة ـ : ٣٩ وما بعدها من الفصل الأول.

(٢) فهرست ابن النديم : ٥٠.

(٣) فهرست ابن النديم : ٤١.

(٤) الصواعق المحرقة : ٧٦.

٤٦

وفي أوائل عصر أتباع التابعين كان الإمام الصادق عليه‌السلام (ت ١٤٨ ه) القطب الذي تدور حول محوره علوم الإسلام برمتها بما في ذلك التفسير ، وقد عد عليه‌السلام من المصنفين فيه أيضا ، كما صنف فيه تلامذته أيضا ، كمحمد بن أبي سارة المعروف بأبي جعفر الرؤاسي ، وأبي حمزة الثمالي (ت ١٥٠ ه).

ثم صنف فيما بعد في التفسير : علي بن أسباط ، ويونس بن عبد الرحمن (ت ٢٠٨ ه) ، وابن فضال (ت ٢٢٤ ه) وغيرهم.

وفي أواسط المائة الثالثة حمل لواء التفسير الإمام الزكي الحسن العسكري عليه‌السلام (ت ٢٦٠ ه) ولدينا تفسير منسوب إليه عليه‌السلام ، وهو مطبوع متداول.

كما صنف في التفسير ـ بعد الإمام العسكري عليه‌السلام ـ محمد بن خالد أبو عبد الله البرقي ، وعبد الله بن الصلت ، والحسين بن الحكم الحبري (ت ٢٨٦ ه) ، وعلي بن إبراهيم بن هاشم (ت بعد سنة ٣٠٧ ه) ، والصدوق الأول (ت ٣٢٩ ه) ، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (ت ٣٤٣ ه) ، ومحمد بن إبراهيم النعماني (من أعلام القرن الرابع) والشيخ المفيد (ت ٤١٣ ه) ، والسيد المرتضى (ت ٤٣٦ ه) رضي‌الله‌عنهم أجمعين (١).

وللأسف الشديد فإن معظم هذه الجهود التفسيرية لا يزال في عداد المفقود من كتب الشيعة ، إذ لم يصل إلينا من تلك الجهود إلا القليل ،

__________________

(١) أنظر : المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم : ٤٥ ـ ٤٦ و ٥٠ ـ ٦٠ ، وانظر فيه التوثيق المنقول من مصادر الفريقين بشأن ما ذكرناه من أسماء المفسرين الشيعة الذين صنفوا في التفسير.

٤٧

كـ : تنوير المقباس من تفسير ابن عباس المنسوب إليه ، وكذلك التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام ، وتفسير الحبري ، وتفسير العياشي ، وتفسير علي بن إبراهيم ، وتفسير فرات الكوفي ، وتفسير النعماني.

ومن هنا يعلم أن كتاب التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي رحمه‌الله قد سبق بجهود تفسيرية شيعية كثيرة ، اشترك في رفدها تصنيفا عدد من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، بيد أن تلك الجهود كانت تجري على امتداد واحد ، ونمط واحد ، يتحكم فيها المنهج الأثري في أغلب الأحيان ، مع وجود بعض المحاولات الطفيفة النادرة التي تروم توسعة دائرة التفسير ، كما نجده في المأثور التفسيري عن ابن عباس الذي استخدم لغة العرب وآدابها لبعض الأغراض التفسيرية.

وكذلك الحال في اعتماد الشيخ المفيد والسيد المرتضى على الدليل العقلي في التفسير كما يظهر من بعض تراثهما ، وإن لم يصل إلينا ما ألفاه في التفسير خاصة.

ومع هذا بقي الطابع الأثري لتلك المصنفات هو السمة البارزة فيها قبل زمان التبيان في تفسير القرآن لشيخ الطائفة لما قلناه من محدودية تلك المحاولات وندرتها.

وأما السمة الأخرى التي لازمت جميع ما تراكم من تلك الجهود التفسيرية قبل زمان التبيان ، فهي سمة التفسير التجزيئي ، أو المنتخب من التفسير ـ إن صح التعبير ـ لعدم وجود تفسير شامل لجميع آي القرآن ، ولعل السبب في ذلك حاجة المفسرين ـ في ذلك العصر ـ إلى تفسير آيات الأحكام ، وتفسير الآيات الواردة في أهل البيت عليهم‌السلام أكثر من غيرها فأفردوها بالتصنيف وتركوا ما عدا ذلك مبثوثا في كتب الحديث الشيعية ، إذ

٤٨

لم يتصد أحد منهم إلى جمع المأثور التفسيري عن أهل البيت عليهم‌السلام ، ويصبه في كتاب واحد ليكون تفسيرا شاملا ، كما فعل بعض المفسرين المتأخرين عن عصر الشيخ الطوسي كالسيد البحراني في تفسيره البرهان مثلا.

وهناك سمة ثالثة لتلك الجهود أيضا ، وهي أنها لم تتعرض إلى علوم القرآن الكريم بالصورة التي تناولها الشيخ الطوسي في التبيان (١).

والواقع أن هذه السمات هي التي حملته على تصنيف التبيان ، وقد عبر عن ذلك في ديباجته قائلا :

«.. أما بعد ، فإن الذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب ، أني لم أجد أحدا من أصحابنا ـ قديما وحديثا ـ من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع القرآن ، ويشتمل على فنون معانيه. وإنما سلك جماعة منهم في جمع ما رواه ونقله وانتهى إليه في الكتب المروية في الحديث ، ولم يتعرض أحد منهم لاستيفاء ذلك أو تفسير ما يحتاج إليه» (٢).

لقد أعطى الشيخ بهذا الكلام وصفا دقيقا لكتب التفسير الشيعية السابقة ، وأما كتب التفسير لدى العامة ، فقد تعرض لنقدها أيضا وبين طرائق مفسريها ، وما يرد على كل مفسر منهم ، بعد أن وزعهم على أصناف.

صنف أطال في تفسيره ، واستوعب ما قيل فيه من الفنون ، كالطبري.

وصنف آخر مقصر في تفسيره ، إذ اقتصر على ذكر غريب القرآن ومعاني ألفاظه.

__________________

(١) بعض التفاسير الشيعية السابقة ـ كـ : تفسير القمي مثلا ـ وإن تناولت شيئا من علوم القرآن إلا أنها لم تبلغ في ذلك شأو التبيان.

(٢) التبيان في تفسير القرآن ١ / ١ ، من المقدمة.

٤٩

وصنف ثالث توسط بين الأمرين ، واختص بجانب معين في التفسير وترك ما لا معرفة له به ، كمن عني بالإعراب والتصريف ، مثل الزجاج والفراء ، أو استكثر من علم اللغة واشتقاق الألفاظ مثل المفضل بن سلمة ، أو صرف همته إلى ما يتعلق بالمعاني الكلامية كأبي علي الجبائي ، أو أدخل في التفسير ما لا يليق به من بسط فروع الفقه واختلاف الفقهاء مثل البلخي.

وصنف رابع سلك في تفسيره مسلكا جميلا مقتصدا فكان أحسن بكثير من غيره ، إلا أنه أطال الخطب فيه وأورد فيه كثير مما لا يحتاج إليه مثل أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني ، وعلي بن عيسى الرماني (١).

وبهذا نستطيع القول بأن التبيان كان فتحا جديدا في عالم التفسير ، إذ سلك الشيخ رحمه‌الله فيه مسلكا معتدلا ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، مع مراعاة الروح العلمية المقارنة في التفسير.

وللأسف الشديد أن هذه الخصلة الطيبة والصفة الحميدة ـ صفة التفسير المقارن ـ لم يحتذ بها أحد من المفسرين بعد عصر الشيخ رحمه‌الله إلا الشيعة أنفسهم كما نجده واضحا عند الشيخ الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان.

وبهذا يكون الشيخ الطوسي رحمه‌الله رائد علم التفسير المقارن في الإسلام بلا منازع ، ولو لم يكن غير هذا الفتح في تفسيره لكفى به مؤشرا على دوره المميز في تاريخ التفسير.

وثمة أمور أخر في تفسير التبيان تكشف عن دور الشيخ رحمه‌الله في هذا الحقل ، نوجزها بما يأتي :

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ١ / ١ ، من المقدمة.

٥٠

نقد التفسير بالرأي والحكم بعدم جوازه :

لا شك أن من الإفرازات الخطيرة التي أفرزها الابتعاد عن خط أهل البيت عليهم‌السلام هو منهج التفسير بالرأي الذي يعتمد بالدرجة الأساس على الاستحسان في الشرع ، والظن المحض المجرد عن الدليل ، مع الميل النفسي لاتباع الهوى ، والسير وراء الشهوات.

ومن هنا ورد التحذير الشديد والوعيد بالنار لمن فسر القرآن برأيه.

فعن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (١).

وعنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «اتقوا الحديث إلا ما علمتم ، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (٢).

كما عد المفسر بالرأي مخطئا حتى مع إصابته الواقع في تفسيره ، ففي حديث جندب بن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قال في القرآن برأيه فأصاب ، فقد أخطأ» (٣).

ومن هنا صرح الشيخ رحمه‌الله في مقدمة التبيان بقوله : «واعلم أن الرواية

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٨٥ ح ٢٠٧٠ ، ١ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥ ح ٢٤٢٥ من الطبعة المرقمة ، ١ / ٢٣٣ و ١ / ٢٦٩ من الطبعة القديمة ، سنن الترمذي ٥ / ١٩٩ ح ٢٩٥٠ باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه ، وقال : حديث حسن صحيح ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٢ / ٢٨ ح ١٢٣٩٢ بلفظ «من قال في كتاب الله ...» إلى آخره.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ١٩٩ ح ٢٩٥١.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٢٠٠ ح ٢٩٥٢ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٢ / ١٦٣ ح ١٦٧٢ ، المعجم الأوسط ـ له أيضا ـ ٦ / ٤٧ ح ٥٠٩٧.

٥١

ظاهرة في أخبار أصحابنا بأن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن الأئمة عليهم‌السلام الذين قولهم حجة كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن القول فيه بالرأي لا يجوز» (١).

ويلاحظ هنا ، أن الشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه ، وإن سبق إلى هذا المنهج ، أعني الابتعاد عن التفسير بالرأي والاعتماد على المأثور التفسيري دون غيره من مصادر التفسير الأخر ، كما هو حال أغلب المفسرين من الفريقين ، إلا أنه امتاز عن جميع من سبقه إلى ذلك بثلاث ميزات تكشف عن دور الشيخ في هذا الجانب ، هي :

الأولى : إن حصر الاستدلال ـ في جانب الأثر ـ في تفسير التبيان ، لم يكن مطلقا في أي أثر كالذي كان مألوفا عند من سبقه ، وإنما كان مقتصرا على الأخبار المتواترة ، والمشهورة ، والمؤيدة بالإجماع ، والمحتفة بقرائن قوية متصلة أو منفصلة ، حالية أو مقالية تكشف عن صحة ما تضمنه الخبر تارة ، وأخرى عن صحته في نفسه ، وهو ما عبر عنه بالأثر الصحيح.

وأما خبر الواحد الذي كان اعتماده في التفسير شائعا ، فلم يعتمد عليه الشيخ رضي‌الله‌عنه أصلا في تفسير التبيان ، ولم يستدل به على نقض شئ أو إثباته ، مصرحا في أكثر من مورد ـ ومنها ما في تفسير الآية السادسة من سورة الحجرات المباركة ـ بأنه لا يوجب العلم ولا العمل حتى وإن كان راويه عدلا ، وأنه لا يجوز العمل به إلا بدليل (٢).

وهذه الميزة لا تكاد تجدها في أي تفسير أثري قبل عصر الشيخ الطوسي رحمه‌الله.

__________________

(١) التبيان ١ / ٤ ، من المقدمة.

(٢) التبيان ٩ / ٣٤٣.

٥٢

الثانية : حصر حجية الخبر بخبر من قولهم حجة عقلا وشرعا ، وهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام ، مع الاستئناس بما ورد عن الصحابة في التفسير موقوفا عليهم ، أو بمراسيل التابعين لا بنحو الاحتجاج بالموقوف أو المرسل ، وإنما لنكتة ستأتي قريبا.

وهذه الميزة مهمة جدا على المستويين العامي والإمامي معا.

أما على الأول ، فإنه من الواضح أنه لم يلتزم أحد من مفسري العامة بحصر حجية الخبر بما حصره الشيخ رضي‌الله‌عنه.

وأما على الثاني ، فإن تفاسير الشيعة الإمامية قبل تفسير التبيان وإن حصرت ذلك بذلك ، إلا أنها لم تتعرض إلى ما عند القوم من روايات ـ مرفوعة ، أو موقوفة ، أو مرسلة ـ لكي يكتشف من خلالها قوة الفكر الإمامي ، وسلامة متبنياته التفسيرية المستمدة من مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

والواقع أن هذه الميزة الفريدة كشفت لنا بوضوح عما يؤيد مذهبنا من روايات العامة الواردة في تفسيرهم القرآن العظيم.

الثالثة : لم يكتف الشيخ رضي‌الله‌عنه بالتصريح المتقدم حول عدم جواز التفسير بالرأي ، وإنما حذر منه ، وكشف عن أخطاء المفسرين الذين اعتمدوه بعينات كثيرة جدا في التبيان ، لكي لا يغتر أحد بها فيحمل كتاب الله تعالى على تلك الآراء الباطلة البعيدة عن الحقيقة والواقع.

وبهذا يكون الشيخ رضي‌الله‌عنه قد أسدى خدمة جليلة للقرآن الكريم ، لم يسبقه إليها سابق بتلك الصورة من الشمول والاستيعاب ، إذ رد على كثير من الآراء كما سنبينه ـ بإذنه تعالى ـ في الكشف عن دوره في مجال النقود والردود ، مستغلا في ذلك ثقافته الموسوعية في التفسير وعلومه ، كمعرفة

٥٣

المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيد ، والخاص والعام ، وأسباب النزول ، ونحو ذلك من الأمور الأخر ، مع تسخيره طاقات اللغة العربية وآدابها لخدمة نقوده وردوده ، ولكل مما ذكرنا شواهد جمة في تفسيره ، ولا حاجة إلى تتبع موارد التفسير بالرأي التي نبه عليها الشيخ رضي‌الله‌عنه في هذا الموضع ، وسنكتفي بواحد منها اختصارا.

قال قدس‌سره : «فأما قولهم : إن معنى قوله تعالى : (كذلكم قال الله من قبل) (١) هو أنه أراد قوله تعالى : (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ..) (٢) مملوء بالغلط الفاحش في التاريخ ، لأنا قد بينا أن هذه الآية ـ التي في التوبة ـ نزلت بتبوك سنة تسع ، وآية سورة الفتح نزلت سنة ست ، فكيف تكون قبلها؟!!

وينبغي لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ ، ويراعي أسباب نزول الآية على ما روي ، ولا يقول على الآراء والشهوات» (٣).

أقول :

الذي دعاهم إلى هذا القول الباطل ، إنما هو التعصب الأعمى لأجل تصحيح خلافة الشيخين ، ولو على حساب التاريخ وأسباب النزول!

وقد بين الشيخ قدس‌سره وجه استدلالهم بالآية المذكورة أحسن التبيين ، فراجع.

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ : ١٥.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٨٣.

(٣) التبيان ٩ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦ في تفسير الآية المذكورة من سورة الفتح.

٥٤

التمييز بين التفسير بالرأي والاجتهاد في التفسير :

سبق أن التفسير بالرأي ، هو ما خضع للاستحسان وما شاكله ، وأما إعمال الرأي بحسب القرائن الحالية والمقالية ، المتصلة والمنفصلة ، وإخضاعها إلى المتبادر العرفي من دلالة الألفاظ ، فهو اجتهاد واستنباط يقوم على أساس من الكتاب والسنة ، بل هو من المأثور على وجه من الوجوه (١).

وقد استدل الشيخ الطوسي قدس‌سره على صحة الاستنباط التفسيري من القرآن الكريم نفسه.

فقال في تفسير قوله تعالى : (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (٢) : «معناه : أفلا يتدبرون القرآن بأن يتفكروا فيه ويعتبروا به ، أم على قلوبهم قفل يمنعهم من ذلك؟! تنبيها له على أن الأمر بخلافه وليس عليها ما يمنع من التدبر والتفكر ، والتدبر في النظر في موجب الأمر وعاقبته ، وعلى هذا دعاهم إلى تدبر القرآن».

ثم قال : «وفي ذلك حجة على بطلان قول من يقول : لا يجوز تفسير شئ من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع ، وفيه تنبيه على بطلان قول الجهال من أصحاب الحديث : إنه ينبغي أن يروى الحديث على ما جاء وإن كان مختلا في المعنى!! لأن الله دعا إلى التدبر والتفقه ، وذلك مناف للتجاهل والتعامي» (٣).

__________________

(١) راجع ما كتبه أستاذنا الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه الرائع : المبادئ العامة لتفسير القرآن العظيم : ٩٠.

(٢) سورة محمد ٤٧ : ٢٤.

(٣) التبيان ٩ / ٣٠١.

٥٥

وفي هذا الكلام فائدة جليلة تضفي لونا آخر من الاستدلال ـ زيادة على ما مر في حصر الاستدلال بالخبر الصحيح ـ.

وخلاصة تلك الفائدة : حرص الشيخ الطوسي قدس‌سره على نقاوة تفسيره وصفائه وعدم تعكيره بالأخبار المعلولة متنا ، لا سيما التي تمس المبادئ الإسلامية الثابتة عقلا وشرعا ، وأنه لا بد من ضربها عرض الجدار وإن صح سندها عند بعضهم ، وتناقلها المحدثون في كتبهم.

ومن ذلك حديث أبي هريرة الذي لا نشك بأخذه عن كعب الأحبار ، ذلك اليهودي الخبيث الداهية الصلف ، وإن ورد مرفوعا إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتب الحديث ، وقد طعن فيه أبو هريرة بصدق إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام من أنه كذب ثلاث كذبات ، في ما أخرجه عنه البخاري ومسلم وغيرهما (١).

وخبر أبي هريرة هذا قد طعن فيه الفخر الرازي صراحة ، واتهم رواته بالكذب ، فقال عنه في تفسيره ما هذا نصه :

«قلت لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل ، لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه‌السلام لا تجوز.

__________________

(١) أنظر : صحيح البخاري ٤ / ٥٩٨ ح ١٥١٥ باب قوله تعالى : (واتخذ الله إبراهيم خليلا) من كتاب الأنبياء ، صحيح البخاري بشرح الكرماني ١٤ / ١٥ ح ٣١٤١ و ٣١٤٢ الباب السابق من كتاب بدء الخلق ، صحيح مسلم ٤ / ١٤٦٨ ح ٢٣٧١ باب من فضائل إبراهيم عليه‌السلام من كتاب الفضائل!! صحيح مسلم بشرح النووي ١٥ / ١٣٣ ح ٢٣٧١ من الباب والكتاب السابقين ، الجمع بين الصحيحين ـ للموصلي ـ ٢ / ٣٩٥ ح ٢٤٥٠ باب ما يجوز من الكذب ، سنن الترمذي المسمى بالجامع الصحيح ٥ / ٣٢١ ح ٣١٦٦ باب سورة الأنبياء من كتاب تفسير القرآن ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح!!

٥٦

فقال ذلك الرجل : فكيف يحكم بكذب الرواة العدول؟!

فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه‌السلام ، كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى» (١).

وقد سبقه الشيخ الطوسي قدس‌سره إلى ذلك فقال في الرد على هذا الخبر : «فإنه خبر لا أصل له ، ولو حسن الكذب على وجه ـ كما يتوهم بعض الجهال ـ لجاز من القديم تعالى ذلك» (٢).

هذا ، ولم أجد عند مفسري القرآن الكريم بالأثر ـ من العامة سوى الفخر الرازي كما تقدم ـ من كذب هذا الأثر!! ومنه يعلم دور مفسري الشيعة ـ وعلى رأسهم الشيخ الطوسي قدس‌سره ـ في تنزيه الأنبياء عليهم‌السلام عن كل قبيح.

وفي مورد التمييز بين التفسير بالرأي والاجتهاد في التفسير يجب التنبيه على أنه ليست كل آية في القرآن الكريم قابلة للاجتهاد والاستنباط ، وإنما يتم ذلك في ما لم يكن مما اختص الله تعالى بعلمه كعلم الساعة مثلا ، ولا مما يتوقف بيانه على المعصوم عليه‌السلام كما لو كان معنى الآية مجملا لا ينبئ ظاهره عن المراد فيه تفصيلا ، أو كان اللفظ مشتركا بين معنيين أو أكثر ولم يترجح أحدها.

إذن مجالات الاجتهاد والاستنباط التفسيري تكون في ما وراء ذلك ، كما لو فسر شيئا من القرآن الكريم بآية أخرى محكمة ، ظاهرها مطابق لمعناها ، أو أول شيئا من القرآن بشاهد معتبر متفق عليه ، أو استخدم اللغة وآدابها اتساعا للعلم وقطعا للشغب وإزاحة للعلة لتوضيح ما هو مشتبه على

__________________

(١) التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ ٦ / ١٤٨.

(٢) التبيان ٧ / ٢٦٠ في تفسير الآيات ٦١ ـ ٦٣ من سورة الأنبياء.

٥٧

حد تعبير الشيخ قدس‌سره في مقدمة التبيان (١) ، مع مراعاة أن يكون شاهد اللغة والأدب معروفا شائعا ، وأما لو كان شاذا نادرا فلا يصح كدليل على صحة التأويل.

التأويل الصحيح والنهي عن التقليد :

لا شك أن التحريف المعنوي للقرآن الكريم عن طريق تأويله بحمل لفظه المقدس على معنى بعيد عنه ، مع مخالفة ذلك للمشهور يعد كارثة في الفكر الديني ، لما يتركه ذلك التأويل الخاطئ من آثار سلبية خطيرة على بناء عقيدة الفرد وثقافة المجتمع.

ويمكن إرجاع ظاهرة التحريف المعنوي في كتب التفسير إلى واحد ـ أو أكثر ـ من الأمور الآتية :

١ ـ التقليد الأعمى للمفسرين السابقين في تأويلاتهم للقرآن الكريم. كتقليد مفسري العامة للأخفش (ت ٢٠٧ ه) في حمله قراءة (وأرجلكم) بالكسر ـ في آية الوضوء ـ على الجر بالمجاورة (٢) ، ليبرر بذلك غسلها ، ولم يلتفتوا إلى ضعف هذا التأويل الذي لا يكون إلا في ضرورات الشعر ونحوها ، وهو مما يتنزه عنه كتاب الله عزوجل (٣).

__________________

(١) التبيان / ، من المقدمة.

(٢) بمعنى أن تكون لفظة (وأرجلكم) في سورة المائدة ٥ : ٦ مجرورة عطفا على «الرؤوس» في الإعراب لمجاورتها لها ، وعلى «الوجوه» في المعنى لكي تكون الأرجل مغسولة على كل حال. أنظر : معاني القرآن ـ للأخفش ـ ٢ / ٤٦٥.

(٣) وقد بين هذا مفصلا في تحقيق رسالة : نهاية الإقدام في وجوب المسح على الأقدام ـ للشهيد الثالث ـ : ٤١٠ هامش رقم ٤ ، وقد نشرت الرسالة في نشرة «تراثنا» في العددين ٤٧ ـ ٤٨ لسنة ١٤١٧ ه.

٥٨

٢ ـ التعصب ونصرة المذهب ، وذلك بتأويل اللفظ الكريم على ما يطابق أصل المذهب.

ومثاله : ما جاء في كتاب الفكر الأصولي للدكتور أبي سليمان ، إذ نقل في الصفحة ١٢٢ عن الكرخي أنه قال : «الأصل : أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ ، أو على الترجيح ، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق» (١).

ونظيره ما حكاه الشهيد الثالث عن بعضهم فقال : «.. كما روي عن بعضهم أنه أورد عليه في بعض المسائل : بأن ما قلته رد للكتاب المجيد ، قال : أيش أصنع إذا كان هذا هو المذهب» (٢)!

٣ ـ اتباع السبل غير الصحيحة في التأويل ، كاعتمادهم الشاذ النادر من شواهد اللغة وأشعار العرب التي لم تشتهر بين أهلها ، وهذا ما نبه عليه الشيخ قدس‌سره في مقدمة التبيان ، أو عدم الرجوع إلى الأدلة الصحيحة ، كرجوعهم ـ مثلا ـ إلى خبر عكرمة الخارجي عن ابن عباس في بيان المراد بأهل البيت في آية التطهير ، وزعمه بأن المراد بالآية أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، مع أن حديث الكساء المتواتر يؤكد على حصر مراد الآية بالخمسة أهل الكساء عليهم‌السلام ، وإخراج من عداهم عنها (٤).

__________________

(١) راجع : رسالة نهاية الإقدام : ٤٦٢ ، وص ٤٦٣ هامش رقم ١.

(٢) راجع : رسالة نهاية الإقدام : ٤٦٢ ، وص ٤٦٣ هامش رقم ١.

(٣) أورد خبره أبو حيان في تفسير البحر المحيط ٧ / ٢٣١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٦٠٣.

(٤) راجع تفصيل ذلك في رسالة : السحاب المطير في تفسير آية التطهير ـ للشهيد الثالث ـ ، الصفحات : ٤١٨ و ٤٢٠ ـ ٤٢١ ، مع الهوامش المرقمة ٨ و ١١ و ١٨ ، وقد نشرت الرسالة في نشرة «تراثنا» في العددين ٣٨ ـ ٣٩ لسنة ١٤١٥ ه.

٥٩

ومن هنا يتضح دور الشيخ الطوسي قدس‌سره في الحفاظ على نقاء التأويل والنهي عما يعكر صفاءه ، بتأكيده على ضرورة الابتعاد عن التقليد ، والرجوع إلى الأدلة الصحيحة ، وتجنب الشواهد اللغوية الشاذة النادرة ، وهذا نص كلامه :

قال رضي‌الله‌عنه : «ولا ينبغي لأحد أن ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد تفصيلا ، أو يقلد أحدا من المفسرين ، إلا أن يكون التأويل مجمعا عليه فيجب اتباعه لمكان الإجماع ، لأن من المفسرين من حمدت طرائقه ، ومدحت مذاهبه ، كابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد وغيرهم ، ومنهم من ذمت مذاهبه كأبي صالح ، والسدي ، والكلبي وغيرهم ، هذا في الطبقة الأولى.

وأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه ، وتأول على ما يطابق أصله ، ولا يجوز لأحد أن يقلد أحدا منهم ، بل ينبغي أن يرجع إلى الأدلة الصحيحة : إما العقلية ، أو الشرعية ، من إجماع عليه ، أو نقل متواتر به عمن يجب اتباع قوله ، ولا يقبل في ذلك خبر واحد ، خاصة إذا كان مما طريقه العلم.

ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللغة فلا يقبل من الشاهد إلا ما كان معلوما بين أهل اللغة شائعا بينهم.

وأما طريقة الآحاد من الروايات الشاردة والألفاظ النادرة ، فإنه لا يقطع بذلك ، ولا يجعل شاهدا على كتاب الله ، وينبغي أن يتوقف فيه ويذكر ما يحتمله ، ولا يقطع على المراد منه بعينه ، فإنه متى قطع بالمراد كان مخطئا وإن أصاب الحق كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه قال تخمينا وحدسا ، ولم يصدر ذلك عن حجة قاطعة ، وذلك باطل

٦٠