رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-275-X
الصفحات: ٥٠٣

( ولو كان ما وقعت فيه النجاسة جامداً ) يصدق الجمود عليه عرفاً ، وضابطه أن لا ينصبّ من الإناء إذا صبّ ( القي ما يكتنف النجاسة ) من أطرافها ( وحلّ ما عداه ) إجماعاً في الظاهر ؛ للصحاح المستفيضة.

منها : « إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت ، فإن كان جامداً فألقها وما يليها ، وكُلْ ما بقي ، وإن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك » (١).

ومنها : عن الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه ، فقال : « إن كان سمناً أو عسلاً أو زيتاً فإنّه ربما يكون بعض هذا ، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله [ وكله (٢) ] ، وإن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به ، وإن كان [ ثَرداً (٣) ] ، فاطرح الذي كان عليه ، ولا تترك طعامك من أجل دابة ماتت عليه » (٤).

ومنها : جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل ، فقال : « أمّا السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله ، وأمّا الزيت فيستصبح به » ، وقال في بيع ذلك الزيت : « تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به » (٥).

( و ) يستفاد منه أنّه ( لو كان المائع ) المتنجس ( دهناً جاز بيعه للاستصباح به ) مع البيان للحال لمن يشتريه.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦١ / ١ ، التهذيب ٩ : ٨٥ / ٣٦٠ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٤ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٣ ح ٢.

(٢) أثبتناه من المصدر.

(٣) في النسخ : برداً ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) التهذيب ٩ : ٨٦ / ٣٦١ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ح ٣.

(٥) الكافي ٦ : ٢٦١ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٨٥ / ٣٥٩ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٤ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٣ ح ١ ؛ بتفاوت.

٤٦١

وفي وجوب كونه ( تحت السماء لا تحت الأظلّة ) أو جوازه مطلقاً قولان ، تقدّم ذكرهما في البيع مع تمام التحقيق في المقام (١) ، وأكثر ما يتعلّق به من الأحكام ( و ) منه أنّه ( لا يحلّ ما يقطع من أليات الغنم ، ولا يستصبح بما يذاب منها ).

( و ) اعلم : أنّ ( ما يموت فيه ممّا له نفس سائلة من المائع ينجس ) ويحرم ( دون ما لا نفس له ) كالذباب ونحوه ، إجماعاً ، فتوًى وروايةً ، كما تقدّم في كتاب الطهارة (٢).

واعلم أنّ في العبارة نوع تكرار في الجملة ، وحقّها أن يقال : المائع إنّما ينجس بالميتة إذا كانت له نفس سائلة دون ما لا نفس له. ومع هذا كان عليه أن ينبّه على هذا في الدم أيضاً ؛ لأنّه كالميتة جدّاً لا ينجس منه المائع إلاّ ما كانت له نفس سائلة.

الرابع : ( أبوال ما لا يؤكل لحمه ) شرعاً حرام إجماعاً ؛ لنجاستها واستخباثها قطعاً.

( وهل يحرم بول ما يؤكل لحمه؟ قيل : نعم إلاّ بول الإبل ) للاستشفاء ، كما عن ظاهر الشيخ في النهاية ، وصريح ابن حمزة ، واختاره الماتن في الشرائع ، والفاضل فيما حضرني من كتبه كالإرشاد والتحرير والقواعد والمختلف ، والشهيدان في صريح الدروس وظاهر الروضة (٣).

وهو في غاية القوّة إمّا للقطع بالاستخباث كما هو الظاهر ، أو احتماله‌

__________________

(١) راجع ج ٨ ص ١٣٧.

(٢) راجع ج ٢ ص ٧٠.

(٣) النهاية : ٥٩٠ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٦٤ ، الشرائع ٣ : ٢٢٧ ، الإرشاد ٢ : ١١١ ، التحرير ٢ : ١٦١ ، القواعد ٢ : ١٥٨ ، المختلف : ٦٨٦ ، الدروس ٣ : ١٧ ، الروضة ٧ : ٣٢٤.

٤٦٢

الموجب للتنزّه عنه ولو من باب المقدّمة.

هذا ، مضافاً إلى الأولويّة المستفادة ممّا قدّمناه من الأدلّة الدالة على حرمة الفرث والمثانة التي هي مجمع البول بناءً على بُعدهما بالإضافة إلى البول عن القطع بالخباثة ، فتحريمهما مع ذلك يستلزم تحريم البول القريب من القطع بالاستخباث بالإضافة إليهما بطريق أولى.

ويزيد وجه الأولوية فيه من جهة الفرث بظهور النصوص المعتبرة في سهولة الروث من الخيل والبغال والحمير بالإضافة إلى أبوالها في وجوب التنزّه عنهما ، أو استحبابه ، حتّى ظنّ جماعة لذلك الفرق بينهما بالطهارة في الروث والنجاسة في البول. والفرث في معنى الروث قطعاً ، وحينئذٍ فتحريم الأضعف يستلزم تحريم الأشدّ بالأولويّة المتقدّمة.

وحيث ثبت الحرمة في أبوال هذه الحمول الثلاثة المأكول لحمها على الأظهر الأشهر بين الطائفة ، ثبت الحرمة في أبوال غيرها من كلّ مأكول للحم ؛ لعدم القائل بالفرق بين الطائفة.

( والتحليل ) عند الماتن هنا وفي كتاب البيع من الشرائع (١) ( أشبه ) وفاقاً لجماعة من القدماء ، كالإسكافي والمرتضى والحلّي (٢) ، مدّعياً الثاني عليه إجماعنا ، بل نفى الخلاف عنه بين كلّ من قال بطهارة الأبوال ممّا يؤكل لحمه ؛ وهو الحجة للمدّعى ، مضافاً إلى أصالة الإباحة المستفادة من عمومات الكتاب والسنة.

ويضعّف الأوّل بمعارضته بما قدّمناه من الأدلّة التي منها الإجماع‌

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٩.

(٢) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٦٨٦ ، المرتضى في الانتصار : ٢٠١ ، الحلّي في السرائر ٣ : ١٢٥.

٤٦٣

المحقّق والمحكيّ على حرمة الروث والمثانة الدالّة على حرمة البول ، بما مرّ من الأولويّة التي هي من الدلالة الالتزامية التي لا فرق بينها وبين الدلالة المطابقية الموجودة في إجماع السيّد في الحجّية. والثاني بلزوم تخصيصه بتلك الأدلّة.

وبالجملة : لا ريب عند الأحقر في الحرمة ولا شبهة ، مع أوفقيّتها للاحتياط المطلوب في الشريعة.

وممّا ذكرناه من الدليل الأوّل للمختار يظهر وجه صحّة القول بتحريم بصاق الإنسان ونخامته وعرقه وبعض فضلات باقي الحيوانات كما هو المشهور.

وضعفِ احتمال الحلّ فيها وفي مفروض مسألتنا من المقدّس الأردبيلي وصاحب الكفاية (١) ، حيث قالا به لمنع صدق الخبيث عليها ، إذ لم يثبت له حقيقة شرعيّة ، وصدق العرفي واللغوي غير ظاهر ، وتنفّر بعض الطباع غير كافٍ ، فتبقى أدلّة الحلّ سالمة.

وهو كما ترى ؛ لظهور الصدق العرفي بل اللغوي قطعاً ، وتنفّر جميع الطباع عنها جدّاً ، وهو كافٍ في الحكم بالخباثة في ظاهر كلامهما.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من عدم الاحتياج إلى القطع بالخباثة وأنّه يكفي احتمالها ؛ لإيجابه لزوم التنزّه عن محتملها من باب المقدّمة. وليس التكليف باجتنابه تكليفاً مشروطاً بالعلم بخباثته بل هو مطلق ، ومن شأنه توقّف الامتثال فيه بالتنزّه عن محتملاته. وإن هو حينئذ إلاّ كالتكليف باجتناب السمومات والمضرّات ، فكلّ ما احتمل السمّ أو الضرر يجب التنزّه عنه قطعاً عقلاً بل ونقلاً ، وما نحن فيه كذلك جدّاً.

__________________

(١) الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢١٤ ، الكفاية : ٢٥٢.

٤٦٤

( الخامس : ألبان الحيوان المحرم كاللبْوَة ) بكسر اللام وفتحها : الأُنثى من الأسد ( والذئبة والهرة ) محرّمة كلحمها.

( ويكره لبن ما كان لحمه مكروهاً كالأُتن ) بضمّ الهمزة والتاء وبسكونها : جمع أتان بالفتح الحمارة.

بلا خلاف في شي‌ء من ذلك أجده ، بل عليه في صورة التحريم الإجماع في الغنية (١) ؛ وهو الحجّة ، مضافاً إلى المرسلة المنجبرة بعمل الطائفة : « كلّ شي‌ء يؤكل لحمه فجميع ما كان منه من لبن ، أو بيض ، أو إنفحة فكلّ ذلك حلال طيّب » (٢). وقد مرّ وجه دلالتها (٣).

فلا إشكال في التبعيّة في هذه الصورة ، وإن تأمّل فيه المقدّس الأردبيلي رحمه‌الله وصاحب الكفاية قائلين أنّ الحجّة عليها غير واضحة (٤).

والمناقشة فيه بعد ما عرفت ظاهرة ؛ لحجّية الإجماع المنقول ، والرواية المنجبرة باتّفاق الطائفة ، مع وضوح دلالتها كما مرّ إليه الإشارة.

مع اعتضادهما بأنّ اللبن قبل استحالته إلى صورته كان محرّماً قطعاً ، لكونه جزءاً يقيناً ، فبحرمة الكلّ يحرم هو أيضاً ، إذ لا وجود للكل إلاّ بوجود أجزائه ، فتحريمه في الحقيقة تحريم لها.

مع أنّه قبل الاستحالة دم ، وهو بنفسه حرام إجماعاً. فتأمّل جدّاً. وإذا ثبت التحريم قبل الاستحالة ثبت بعدها ، استصحاباً للحرمة السابقة.

هذا مع أنّ اللبن بنفسه جزء أيضاً حقيقةً ، فلا يحتاج في إثبات تحريمه إلى الاستصحاب بالمرّة.

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨.

(٢) الكافي ٦ : ٣٢٥ / ٧ ، الوسائل ٢٥ : ٨١ أبواب الأطعمة المباحة ب ٤٠ ح ٢.

(٣) راجع ص ٣٧٤.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢١٥ ، الكفاية : ٢٥٢.

٤٦٥

ومن هذا يظهر وجه حكمهم بكراهته ممّا يكره لحمه.

ولا ينافيها النصوص الواردة في شيراز (١) الأُتن ، كالصحيح : « هذا شيراز الأُتن اتّخذناه لمريض لنا ، فإن أحببت أن تأكل منه فكل » (٢).

والصحيح : عن شرب ألبان الأُتن ، فقال : « اشربها » (٣) والخبر : « لا بأس بها » (٤).

فإنّ غايتها الرخصة في الشرب ونفي البأس عنه الواردان في مقام توهّم الحظر ، ولا يفيدان سوى الإباحة بالمعنى الأعمّ الشامل للكراهة. فتأمّل الفاضلين المتقدّم إليهما الإشارة في التبعية في هذه الصورة أيضاً لا وجه له ، سيّما وأنّ المقام مقام كراهة يتسامح في دليلها بما لا يتسامح به في غيرها ، فيكتفى فيها بفتوى فقيه واحد ، فما ظنّك باتّفاق فتاوي الفقهاء الذي كاد أن يكون إجماعاً.

وبالجملة : لا إشكال في المسألة بشقّيها أصلاً. والحمد لله تعالى.

( القسم السادس : في اللواحق )

( وهي سبع ) مسائل.

( الاولى : شعر الخنزير نجس ) مطلقاً ( سواء أُخذ من حيّ أو ميّت

__________________

(١) الشيراز : اللبن الرائب المستخرج ماؤه. القاموس ٢ : ١٨٥.

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٨ / ١ ، التهذيب ٩ : ١٠١ / ٤٣٨ ، المحاسن : ٤٩٤ / ٥٩٤ ، الوسائل ٢٥ : ١١٥ أبواب الأطعمة المباحة ب ٦٠ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٣ ، التهذيب ٩ : ١٠١ / ٤٣٩ ، المحاسن : ٤٩٤ / ٥٩١ ، الوسائل ٢٥ : ١١٦ أبواب الأطعمة المباحة ب ٦٠ ح ٣.

(٤) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٤ ، التهذيب ٩ : ١٠١ / ٤٤٠ ، المحاسن : ٤٩٤ / ٥٩٢ ، الوسائل ٢٥ : ١١٦ أبواب الأطعمة المباحة ب ٦٠ ح ٤.

٤٦٦

على الأظهر ) الأشهر ، بل لا خلاف فيه يظهر إلاّ من المرتضى ، فقال بطهارة كلّ ما لا تحلّه الحياة من الحيوان مطلقاً (١). وهو ضعيف جدّاً كما في كتاب الطهارة قد مضى.

وعلى قوله يجوز استعماله مطلقاً ولو من دون ضرورة ، وفي جوازه كذلك على المختار خلاف ، والمشهور عدم جواز استعماله من غير ضرورة.

( فإن اضطرّ استعمل ما لا دسم فيه وغسل يده ) وذهب إليه الشيخ في النهاية ، والقاضي والحلّي والفاضلان والشهيدان وغيرهما من المتأخّرين (٢). وادّعى الثالث تواتر الأخبار بتحريم استعماله ؛ وهي الحجّة المنجبرة بالشهرة العظيمة.

مضافاً إلى الخبرين المانعين عن استعماله في الجملة ، وفي أحدهما : إنّا نعمل شعر الخنزير ، فربما نسي الرجل فصلّى وفي يده شي‌ء منه ، فقال : « لا ينبغي له أن يصلّي وفي يده شي‌ء منه » وقال : « خذوه فاغسلوه ، فما له دسم فلا تعملوا به ، وما لم يكن له دسم فاعملوا به ، واغسلوا أيديكم منه » (٣).

وفي الثاني : عن شعر الخنزير يعمل به ، قال : « خذ منه فاغسله بالماء‌

__________________

(١) الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ١٨٢.

(٢) النهاية : ٥٨٧ ، القاضي في المهذب ٢ : ٤٤٣ ، الحلّي في السرائر ٣ : ١١٤ ، المحقق في الشرائع ٣ : ٢٢٧ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ١٥٩ ، الشهيد الأول في الدروس ٣ : ١٥ ، الشهيد الثاني في الروضة ٧ : ٣٤٠ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٢٧١.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٢٠ / ١٠١٩ ، التهذيب ٩ : ٨٥ / ٣٥٦ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٧ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٦٥ ح ٢.

٤٦٧

حتى يذهب ثلث الماء ويبقى ثلثاه ، ثم اجعله في فخارة ليلة باردة ، فإن جمد فلا تعمل به ، وإن لم يجمد ليس عليه دسم فاعمل به واغسل يدك إذا مسسته عند كلّ صلاة » (١).

وحيث ثبت منهما المنع في الجملة ثبت المنع مطلقاً إلاّ عند الضرورة ؛ لعدم القائل بالفرق بين الطائفة ، إذ كلّ من قال بالمنع عن استعماله قال به كذلك إلاّ في الضرورة ، وكلّ من قال بجوازه قال به مطلقاً من دون استثناء صورة أصلاً ، إمّا بناءً على عدم نجاسته كما عليه المرتضى ، أو بناءً على عدم دليل على المنع عن الاستعمال أصلاً كما عليه الفاضل في المختلف (٢).

والقول بالمنع في صورة الدسم خاصّةً كما هي مورد الخبرين ، والجواز في غيرها مطلقاً ولو اختياراً لم يوجد به قائل أصلاً.

وصورة الجواز في الخبرين وإن كانت مطلقةً تعمّ حالتي الاختيار والاضطرار ، إلاّ أنّها مقيّدة بالحالة الثانية ، للإجماع المزبور جدّاً.

وقصورهما بالجهالة مجبور بالشهرة ، مع زيادة الانجبار في الأوّل بكون الراوي فيه عن موجبها عبد الله بن المغيرة الذي قد حكي على تصحيح ما يصحّ عنه إجماع العصابة (٣).

ويعضد الحكم في المسألة ما استدلّ به له جماعة (٤) من إطلاق تحريم الخنزير الشامل لموضع النزاع. والشمول وإن كان محلّ مناقشة بناء‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨٢ / ١١٣٠ ، الوسائل ١٧ : ٢٢٨ أبواب ما يكتسب به ب ٥٨ ح ٢.

(٢) المختلف : ٦٨٤.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٨٣٠.

(٤) منهم : الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٥٥ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٤٧ ، والروضة البهية ٧ : ٣٤٠.

٤٦٨

على تبادر الأكل منه خاصّةً ، ولذا لم نجعله حجّة ، سيّما مع تقييد المحرّم منه في الآية باللحم خاصّةً ، إلاّ أنّه صالح للتأييد والتقوية. مع احتمال أخذه حجّةً بجعل الشهرة مع الأقربيّة إلى الحقيقة في الحقيقة قرينةً على إرادة مطلق الانتفاعات ولو لم يكن متبادراً في العرف والعادة ينصرف إليه اللفظ عند التجرّد عن القرينة. هذا.

ولو لم يصلح كلّ واحد ممّا ذكرنا حجّة فلا ريب في حصول الحجّة من مجموعها ، فلا شبهة في المسألة بحمد الله سبحانه.

( ويجوز الاستقاء بجلود الميتة ) مطلقاً لما لا يشترط فيه الطهارة عند الماتن هنا وفي الشرائع ، والفاضل في الإرشاد تبعاً للنهاية (١). والأظهر خلافه كما في بحث حرمة الميتة قد مرّ إليه الإشارة ، مع بيان ضعف دليل المخالف (٢).

وظاهر الدروس التوقّف في ذلك (٣). ووجهه غير واضح.

( و ) أمّا أنّه ( لا يصلّى بمائها ) إن كان قليلاً فإجماع ووجهه واضح.

الثانية : ( إذا وجد لحم فاشتبه ) أنّه مذكّى أم ميتة فمقتضى الأُصول الحرمة إلاّ أن يعلم المذكّى بعينه.

إلاّ أنّ المشهور أنّه ( القي في النار فإن انقبض ) وتقلّص ( فهو ذكيّ ، وإن انبسط فهو ميتة ) بل عن الشهيد في النكت أنّه قال : لا أعلم أحداً خالف فيه ، إلاّ أنّ المحقّق في الشرائع والإمام المصنف أورداها بلفظ قيل‌

__________________

(١) الشرائع ٣ : ٢٢٧ ، الإرشاد ٢ : ١١٣ ، النهاية : ٥٨٧.

(٢) راجع ص ٤٠٩.

(٣) الدروس ٣ : ١٣.

٤٦٩

مشعراً بالضعف (١). وفي الدروس يكاد أن يكون إجماعاً (٢). ونفى عنه البعد في المسالك ، قال : ويؤيّده موافقة ابن إدريس عليه ، فإنّه لا يعتمد على أخبار الآحاد ، فلولا فهمه الإجماع لما ذهب إليه (٣) ، مع أنّه حكي عن بعض الأصحاب صريحاً (٤) ، وادّعاه في الغنية (٥) ؛ وهو الحجّة.

مضافاً إلى بعض المعتبرة المنجبر قصور سنده بالجهالة بالشهرة ، ورواية ابن أبي نصر عن موجبها ، وهو ممّن أجمعت على تصحيح ما يصحّ عنه العصابة : في رجل دخل قرية فأصاب فيها لحماً لم يدر أذكي هو أم ميّت ، قال : « فاطرحه على النار ، فكلّ ما انقبض فهو ذكيّ ، وكلّ ما انبسط فهو ميّت » (٦).

خلافاً للفاضل في الإرشاد والقواعد ، وولده في شرحه والمقداد في التنقيح ، والصيمري في شرح الشرائع (٧) حاكياً له أيضاً عمن مرّ وأبي العباس ، فاختاروا الحرمة ، وصرّح بها أيضاً في الروضة (٨) ؛ عملاً بالقاعدة من أصالة الحرمة ، وعدم الحكم بالتذكية إلاّ مع معلوميّتها ، كما مرّ في كتاب الصيد إليه الإشارة.

__________________

(١) غاية المراد ٣ : ٥٤٤ ، وانظر الشرائع ٣ : ٢٢٧ ، والإرشاد ٢ : ١١٣.

(٢) الدروس ٣ : ١٤.

(٣) المسالك ٢ : ٢٤٧ ، وانظر السرائر ٣ : ٩٦.

(٤) حكاه عنه السبزواري في الكفاية : ٢٥٢.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٩.

(٦) الكافي ٦ : ٢٦١ / ١ ، التهذيب ٩ : ٤٨ / ٢٠٠ ، الوسائل ٢٤ : ١٨٨ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٧ ح ١.

(٧) الإرشاد ٢ : ١١٣ ، القواعد ٢ : ١٥٩ ، إيضاح الفوائد ٤ : ١٦١ ، التنقيح ٤ : ٥٧ ، غاية المرام ٤ : ٦٩.

(٨) الروضة ٧ : ٣٣٧.

٤٧٠

وهو حسن لولا ما قدّمناه من الأدلّة.

والعجب من الشهيد عليه الرحمة في دعواه عدم معرفته الخلاف مع صدوره صريحاً عن العلاّمة وولده في كتبهما المعروفة المشهورة المتداولة :

قال في الدروس تفريعاً على الرواية ـ : ويمكن اعتبار المختلط بذلك ، إلاّ أنّ الأصحاب والأخبار أهملت ذلك (١).

واستضعف هذا الاحتمال في المسالك والروضة بأنّ المختلط يعلم أنّ فيه ميتاً يقيناً مع كونه محصوراً ، فاجتناب الجميع متعيّن ، بخلاف ما يحتمل كونه بأجمعه مذكّى ، فلا يصحّ حمله عليه مع وجود الفارق (٢).

وفيه نظر ؛ لظهور الخبر في تلازم علامتي الحلّ والحرمة للمذكّى والميتة من دون أن يكون لخصوص مورد السؤال فيه في ذلك مدخليّة ، فلا شبهة فيما ذكره ، لكن يأتي عليه ما قرّره.

ثمّ على المختار لو كان اللحم قطعاً متعدّدة فلا بدّ من اعتبار كلّ قطعة على حدة ؛ لإمكان كونه من حيوانات متعدّدة.

ولو فرض العلم بكونه متّحداً جاز اختلاف حكمه بأن يكون قد قطع بعضه منه قبل التذكية.

ولا فرق على القولين بين وجود محلّ التذكية ورؤيته مذبوحاً أو منحوراً وعدمه ؛ لأنّ النحر والذبح بمجردهما لا يستلزمان الحلّ ، لجواز تخلّف بعض الشروط.

وكذا لو وجد الحيوان غير مذبوح ولا منحور لكنّه مضروب بالحديد‌

__________________

(١) الدروس ٣ : ١٤.

(٢) المسالك ٢ : ٢٤٢ ، الروضة ٧ : ٣٣٧.

٤٧١

في بعض جسده ؛ لجواز كونه استعصى فذكّي كيف اتّفق حيث يجوز في حقّه ذلك. وبالجملة فالشرط إمكان كونه مذكّى على وجه يبيح لحمه.

واعلم أنّ مفروض المسألة وموردها إنّما هو وجدان اللحم المشتبه ذكاته في موضع لم يحكم بها شرعاً. ولو وجد في موضع يحكم بها فيه كسوق الإسلام ونحوه فلا أثر للاشتباه فيه جدّاً ، بل يحكم بكونه مذكّى إجماعاً ، فلا يحتاج إلى استعمال الأمارة أصلاً ، بل لو استعملت وظهرت أمارة الحرمة أمكن القول بالإباحة ، لكن على إشكال فيه يظهر من ملاحظة الرواية بالتقريب المتقدّم إليه الإشارة.

وعلى هذه الصورة يحمل المعتبرة من الصحيح والموثّق وغيرهما (١) ، الدالّة على أنّ كلّ شي‌ء يكون فيه حلال وحرام ، فهو حلال أبداً حتّى يعرف الحرام بعينه.

والقويّ : « إنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها ، وخبزها ، وجبنها ، وبيضها ، وفيها سكّين ، فقال عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإنّ جاء لها طالب غرموا له الثمن ، قيل : يا أمير المؤمنين ، لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي ، قال : هم في سعة حتّى يعلموا » (٢).

وإنّما خصّت هذه النصوص بها مع أنّها عامّة لها ولغيرها ؛ توفيقاً بينها وبين القواعد المتقدّمة المعتضدة بفتاوي الأصحاب كافّةً ، والرواية المتقدّمة الصريحة في عدم الحلّ بمجرد الاشتباه ، واحتياجه إلى معرفة المذكّى من الميتة ، ونحوها النصوص الآتية الصريحة في حرمة المذكّى المشتبه بالميتة ،

__________________

(١) انظر الوسائل ١٧ : ٨٧ أبواب ما يكتسب به ب ٤.

(٢) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٤٦٨ أبواب اللقطة ب ٢٣ ح ١.

٤٧٢

وإلاّ لما أُمر ببيع اللحم المختلط بها ممن يستحلّها.

هذا مع أنّ الرواية الأخيرة ظاهرة الاختصاص فيما حملت عليه من الصورة ، بناءً على وقوع السؤال والجواب فيها في بلاد الإسلام ، وهي كما عرفت ممّا لا يتعلّق بما يوجد فيه من اللحم ونحوه اشتباه بلا كلام.

( ولو اختلط الذكيّ ) من اللحم وشبهه ( بالميتة ) ولا سبيل إلى تمييزه وكانا محصورين يمكن التنزّه عنهما من دون حرج ( اجتنبا ) معاً وجوباً ؛ لوجوب اجتناب الميتة ، ولم يتمّ إلاّ به ، فيجب ولو من باب المقدمة. مع أنّه لا خلاف فيه أجده إلاّ من المقدس الأردبيلي وصاحب الكفاية (١) ، فمالا إلى الإباحة استناداً إلى الأُصول ، وما مرّ إليه الإشارة من النصوص الظاهرة فيها.

وقد عرفت الجواب عنها ، مع احتمالها الحمل على الشبهة الغير المحصورة التي لا خلاف في أنّ الحكم فيها الإباحة ، لاستلزام الحرمة فيها العسر والحرج المنفيّين في الشريعة.

وربما يعضده الصحيح : عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم ، أنأكله؟ فقال : « أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكله ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتى تعلم أنّه حرام » (٢) فتدبّر.

وبالجملة : لا ريب في ضعف ما ذكراه ولا شبهة ، سيّما فيما إذا كان الاختلاط بعنوان المزج لا اشتباه الأفراد ، فإنّ الحكم بالإباحة في مثله يستلزم الحكم بإباحة المحرّم القطعي وتناوله أوّل مرّة ، وهو ممّا يقطع‌

__________________

(١) الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢٧١ ، ٢٧٢ ، الكفاية : ٢٥٣.

(٢) التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٦ ، مستطرفات السرائر : ٧٨ / ٤ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٥ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٦٤ ح ١.

٤٧٣

بفساده من دون ريبة.

( و ) اعلم أنّ ما ( في رواية الحلبي ) بل روايتيه (١) الصحيحتين من أنّه ( يباع ) المشتبه المذكور ( ممّن يستحلّ الميتة ) على ردّهما ظاهر الدلالة كما مرّ إليه الإشارة ؛ إذ لو حلّ لما كان لإيجاب البيع فائدة.

وبمضمونهما من جواز البيع على مستحلّيها أفتى الشيخ في النهاية وابن حمزة (٢). ومنعه الحلّي والقاضي (٣) ؛ نظراً إلى إطلاق النصوص بتحريم الميتة وتحريم ثمنها.

واعتذر الفاضل (٤) عن الجواز تارة بأنّه ليس ببيع حقيقة وإنّما استنقاذ مال الكافر برضاه ، وأُخرى بصرف البيع إلى المذكّى خاصّة ، فينبغي أن يقصده ببيعه. واستحسن الأخير في الشرائع مفتياً به (٥).

وضعّفهما الشهيدان في الدروس والمسالك والروضة (٦) ، فالأوّل بأنّ من مستحلّه من الكفّار من لا يحلّ ماله كالذمّي. والثاني بجهالة المبيع على تقديره ، مع عدم إمكان تسليمه متميّزاً.

ويضعّف هذا زيادةً على ما ذكراه بأنّ البائع قد يأخذ أكثر من ثمن المذكّى ، فإنّه يبيع الاثنين ظاهراً ويبذل المشتري الثمن بإزائهما معاً ، وأنّه‌

__________________

(١) الاولى في : الكافي ٦ : ٢٦٠ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٤٨ / ١٩٩ ، الوسائل ٢٤ : ١٨٧ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٦ ح ١.

الثانية في : الكافي ٦ : ٢٦٠ / ١ ، التهذيب ٩ : ٤٧ / ١٩٨ ، الوسائل ٢٤ : ١٨٧ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٦ ح ٢.

(٢) النهاية : ٥٨٦ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٦٢.

(٣) الحلّي في السرائر ٣ : ١١٣ ، القاضي في المهذب ٢ : ٤٤٢.

(٤) المختلف : ٦٨٣.

(٥) الشرائع ٣ : ٢٢٣.

(٦) الدورس ٣ : ١٣ ، المسالك ٢ : ٢٤٢ ، الروضة ٧ : ٣٠٨.

٤٧٤

يقصد بيع الواحد والمشتري أكثر فيختلف المبيع زيادةً ونقصاناً ، وأنّه لو كان مع ذلك القصد يصحّ البيع من المستحلّ لصحّ من غيره أيضاً. فتأمّل جدّاً.

هذا وربما يتوهّم فيما ذكراه من الوجه في تضعيف الاعتذار الأوّل بأنّ احترام ماله لا يمنع من استنقاذ ماله برضاه ، ويدفع بأنّ رضاه إنّما يحصل بوجه خاصّ في ضمن البيع الفاسد ، فلا يؤثّر في إباحة ماله المحرّم على غيره ، فتأمّل.

وبالجملة : لا ريب في ضعفه كالاعتذار الثاني.

وحينئذٍ فإمّا أن يعمل بالرواية ؛ لصحّتها من غير تعليل ، أو يحكم بالبطلان مطلقاً. ولعلّه الأقوى ؛ لمخالفة الرواية وإنّ صحّ سندها للقاعدة المتقدّمة المجمع عليها من أصلها ، المعتضدة بالشهرة هنا حتى من الفاضلين المتقدّم ذكرهما ونحوهما ، لاعتذارهما عن الرواية بما يعرب عن عدم إعراضهما عن تلك القاعدة ، وصرفهما الحمل في الاعتذار الثاني بالتقييد إلى الرواية دون القاعدة.

ولما دلّ على أنّ الإعانة على الإثم محرّمة من الكتاب والسنة ، بناءً على مذهبنا من أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع ، وقد أثبتنا ذلك في رسالة مفردة.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة التوقّف في المسألة. ولا يخلو عن وجه ، مع أنّه أحوط في الفتوى بلا شبهة.

( الثالثة : لا ) يجوز أن ( يأكل الإنسان من مال غيره ) ممّن يحترم ماله وإن كان كافراً ( إلاّ بإذنه ) إجماعاً بالكتاب والسنة المستفيضة ، بل المتواترة.

٤٧٥

قال سبحانه ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (١).

وفي الحديث : « المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه » (٢).

وفي آخر : « لا يحلّ ماله إلاّ عن طيب نفس منه » (٣).

( وقد رخّص مع عدم ) العلم بـ ( الإذن في الأكل من بيوت مَن تضمّنته الآية ) في سورة النور ، وهي قوله سبحانه ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ) (٤).

فيجوز الأكل من بيوت المذكورين مع حضورهم وغيبتهم ( إذا ) لم يحمل ولم يفسد و ( لم يعلم الكراهة منهم ) بل قيل : ولو بالقرائن الحالية بحيث تثمر الظن الغالب بالكراهة ، فإنّ ذلك كافٍ في هذا ونظائره ، ويطلق عليه العلم كثيراً (٥).

ولا ريب أنّ ما ذكره من كفاية المظنّة بالكراهة أحوط ، وإن كان في تعيّنه نظر بعد إطلاق الكتاب والسنة المستفيضة بجواز الأكل من غير إذن ، الشامل لصورة الظنّ بعدمه ، بل لصورة العلم بعدمه أيضاً ، إلاّ أنّها خارجة بالإجماع ظاهراً ، وليس على إخراج الصورة الأُولى منعقداً ، لتعبير كثير‌

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٤٩١.

(٣) عوالي اللئلئ ٣ : ٤٢٤ / ١٦.

(٤) النور : ٦١.

(٥) قال به الشهيد الثاني في الروضة ٧ : ٣٤١.

٤٧٦

كالحلّي وغيره (١) عن الشرط ، بشرط أن لا ينهاه المالك.

وكيف كان ، لا فرق في ظاهر إطلاق العبارة ونحوها من عبائر جماعة (٢) وصريح آخرين (٣) وربما نسب إلى الشهرة (٤) : بين ما يخشى فساده في هذه البيوت وغيره ، ولا بين دخوله بإذنه وعدمه ؛ عملاً بإطلاق الآية والأخبار.

خلافاً لشاذٍّ غير معروف في الأوّل ، فقيّد الجواز بما يخشى فساده (٥). ومستنده غير واضح ، مع أنّ النصوص صريحة في ردّه ، كالصحيح المرويّ عن المحاسن وفيه : عمّا يحلّ للرجل من بيت أخيه من الطعام؟ قال : « المأدوم والتمر » (٦) الخبر.

والخبر : « هؤلاء الذين سمّى الله تعالى في هذه الآية ، تأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم » إلى أن قال : « وأمّا ما خلا ذلك من الطعام فلا » (٧) ولا ريب أنّ التمر ممّا لا يخشى فساده.

__________________

(١) الحلّي في السرائر ٣ : ١٢٤ ، الجامع للشرائع : ٣٩٢ ، وانظر التنقيح الرائع ٤ : ٦٠.

(٢) منهم : يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٣٩٢ ، والعلاّمة في القواعد ٢ : ١٥٩ ، والإرشاد ٢ : ١٣ ، والشهيد الأول في اللمعة ( الروضة البهية ٧ ) : ٣٤١.

(٣) كالشهيد الأول في الدروس ٣ : ٢٠ ، والشهيد الثاني في الروضة ٧ : ٣٤٢ ، والمسالك ٢ : ٢٤٨ والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٢٧٢ ، والسبزواري في كفاية الأحكام : ٢٥٣.

(٤) غاية المرام ٤ : ٧١.

(٥) انظر المقنع : ١٢٥.

(٦) المحاسن : ٤١٦ / ١٧٣ ، الوسائل ٢٤ : ٢٨٢ أبواب آداب المائدة ب ٢٤ ح ٦.

(٧) الكافي ٦ : ٢٧٧ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٩٥ / ٤١٣ ، الوسائل ٢٤ : ٢٨١ أبواب آداب المائدة ب ٢٤ ح ٢.

٤٧٧

وقريب منهما الرضوي : « ولا بأس للرجل أن يأكل من بيت أبيه وأخيه وأُمّه وأُخته وصديقه ، ما لا يخشى (١) عليه الفساد من يومه بغير إذنه ، مثل البقول والفاكهة وأشباه ذلك » (٢) فتأمّل.

وللحلّي (٣) في الثاني ، فقيّد الدخول بالإذن وحرّم الأكل مع الدخول بدونه.

ومال إليه الفاضل المقداد في التنقيح ، فقال بعد حكاية طعن العلاّمة عليه بمخالفة ما ذكره الإطلاق ـ : وفيه نظر ؛ لأنّ لابن إدريس أن يقول : الأكل في البيت يستلزم الدخول فيه ، واللازم منهيّ عنه إجماعاً إلاّ بالإذن ، فكذا الملزوم وهو الأكل. وأمّا مع إذن الدخول فلا ينهض الدليل ؛ لأنّ اللازم وهو الدخول ليس بمنهيّ عنه فلا يكون الأكل منهيّاً عنه. وأيضاً : الأصل تحريم أكل مال الغير بغير إذنه ، خرج ما خرج وبقي الباقي على أصله وهو التحريم وأيضاً : إذن الدخول قرينة دالّة على إذن الأكل ، وحيث لا إذن فلا قرينة لإذن الأكل فيحرم بالأصل (٤). انتهى.

وفيه نظر ، فإنّ النهي عن الدخول بغير إذن على تقدير تسليمه هنا لا يستلزم النهي عن الأكل بعد حصوله ، والتلازم بين النهيين غير ثابت.

وما ذكره من أنّ الأصل تحريم مال الغير .. مسلّم إلاّ أنّ المخصّص له في المسألة من إطلاقات الكتاب والسنة موجود ، والتمسّك بالأصل معها‌

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي فقه الرضا عليه‌السلام الطبع القديم : ٣٤ ، ولكن في فقه الرضا عليه‌السلام الطبع الجديد : ما يخشى.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٥٥ ، مستدرك الوسائل ١٦ : ٢٤٢ أبواب آداب المائدة ب ٢١ ح ١.

(٣) السرائر ٣ : ١٢٤.

(٤) التنقيح الرائع ٤ : ٦٠.

٤٧٨

غير معقول.

وما ذكره من أنّ إذن الدخول قرينةٌ .. ، فيه أوّلاً : عدم وضوح كونه قرينة ، بل لا تلازم بين الإذنين قطعاً.

وثانياً : على تقدير تسليمه نقول : إنّ عدم الإذن الأوّل لا يستلزم عدم الثاني ، ولو استلزم فلا ضير أيضاً بعد الاتّفاق حتّى منه على أنّ مبنى المسألة جواز الأكل من بيوت هؤلاء من دون إذن ولا رخصة ، فأيّ ضرر في عدمه. وإن هذا منه إلاّ إرجاع المسألة المستثناة من مسألة النهي عن أكل مال الغير إلاّ بإذنه إليها ، وحينئذٍ لا يترتّب على استثنائها منها فائدة أصلاً ، وهو مخالف للاتّفاق دليلاً وفتوى جدّاً.

واعلم أنّه لا يتعدّى الحكم إلى غير البيوت من أموالهم ؛ اقتصاراً فيما خالف الأصل على مورده. ولا إلى تناول غير المأكول ؛ لذلك ، مضافاً إلى الخبر المتقدّم المتضمّن لقوله عليه‌السلام : « وأمّا ما خلا ذلك من الطعام فلا » فتدبّر.

نعم ، لو دلّ عليه الأكل بمفهوم الموافقة كالشرب من مائه والوضوء به ، أو دلّ عليه بالالتزام كالكون بها حالته أمكن التعدية ، كما صرّح به في الروضة والكفاية (١).

وهو يجوز دخول البيوت لغير الأكل أو الكون بها بعده وقبله؟ نظر من تحريم التصرّف في مال الغير إلاّ ما استثني ، وليس منه هذا ، ومن دلالة القرائن على تجويز ذلك من المنافع التي لا يذهب بها من المال شي‌ء حيث جاز إتلافه بما ذكر. ولعلّ هذا أظهر.

__________________

(١) الروضة ٧ : ٣٤٢ ، الكفاية : ٢٥٣.

٤٧٩

والمراد بـ ( بُيُوتِكُمْ ) ما يملكه الآكل ؛ لأنّه حقيقة فيه. قيل (١) : ويمكن أن يكون النكتة فيه مع ظهور إباحته الإشارة إلى مساواة ما ذكر له في الإباحة ، والتنبيه على أنّ الأقارب المذكورين والصديق ينبغي جعلهم كالنفس في أن يحبّ لهم ما يحبّ لها ، ويكره لهم ما يكره لها كما جعل بيوتهم كبيته.

قيل : وهو بيت الأزواج والعيال (٢). وقيل : بيت الأولاد (٣) ؛ لأنّهم لم يذكروا في الأقارب مع أنّهم أولى منهم بالمودّة والموافقة ، ولأنّ ولد الرجل بعضه ، وحكمه حكم نفسه وهو وماله لأبيه ، فجاز نسبة بيته إليه ، وفي الحديث : « إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وأنّ ولده من كسبه » (٤).

وهذا القول حسن بالإضافة إلى إلحاق الأولاد بالأقارب في الحكم ، لا بالإضافة إلى دعوى دخولهم في بيوتكم.

ويظهر من وجه إلحاقهم بهم من الأولويّة وجه صحّة إلحاق الأجداد والجدّات بهم ؛ لأنّهم أدخل في القرب من الأعمام والأخوال.

و ( ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) قيل : هو العبد (٥) وقيل : من له عليه ولاية (٦). وقيل : ما يجده الإنسان في داره ولا يعلم به.

وفي المرسل كالصحيح : « إنّه الرجل له وكيل يقوم في ماله ، ويأكل‌

__________________

(١) الروضة البهية ٧ : ٣٤٣.

(٢) مجمع البيان ٤ : ١٥٦.

(٣) تفسير الصافي ٣ : ٤٤٨.

(٤) مستدرك الوسائل ١٣ : ٩ أبواب مقدمات التجارة ب ١ ح ١٢.

(٥) التبيان ٧ : ٤٦٣ ، مجمع البيان ٤ : ١٥٦.

(٦) مسالك الأفهام ٢ : ٢٤٧.

٤٨٠