رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-275-X
الصفحات: ٥٠٣

صريحاً (١) ، ومع ذلك المعتبرة المستفيضة ناطقة به جدّاً.

ففي الصحيح : « كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (٢).

وفيه : « لا يحرم العصير حتّى يغلي » (٣).

وفي الموثق : « إذا نشّ العصير أو غلى حرم » (٤).

ويستفاد من صريحه وإطلاق أكثر البواقي والفتاوي عدم الفرق في الحكم بتحريمه بالغليان بين وقوعه بالنار أو غيرها ، وبه صرّح جماعة كالماتن في الشرائع ، والفاضل في التحرير ، وشيخنا في المسالك والروضة (٥) ، وكثير ممّن تبعه (٦).

وكذا لا فرق في ذهاب ثلثيه بين الأمرين ؛ لإطلاقات النصوص والفتاوي ، وبه صرّح جماعة (٧) أيضاً ، إلاّ أنّ ظاهر التحرير هنا القول بالفرق بينهما حيث قال بعد التصريح بعدم الفرق في الأوّل ـ : فإن غلى بالنار وذهب ثلثاه حلّ (٨) ؛ ولعلّه لمنع ما يدلّ على العموم ، لإمكان دعوى‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ٤ : ٣٦٨ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٢٦٩.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٩ / ١ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ / ٥١٦ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٤١٩ / ١ ، التهذيب ٩ : ١١٩ / ٥١٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣ ح ١.

(٤) الكافي ٦ : ٤١٩ / ٤ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣ ح ٤.

(٥) الشرائع ٣ : ٢٢٥ ، التحرير ٢ : ١٦١ ، المسالك ٢ : ٢٤٤ ، الروضة ٧ : ٣٢٠.

(٦) كالمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢٠٠ ، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع ٢ : ٢٢٠ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٢٦٩.

(٧) منهم الفيض الكاشاني في المفاتيح ٢ : ٢٢٠ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٢٦٩ ، والمختلف : ٥٨.

(٨) التحرير ٢ : ١٦١.

٤٤١

اختصاص الإطلاقات بحكم التبادر بذهاب الثلثين بالنار ، فيرجع في غيره إلى أصالة بقاء التحريم.

وهذه الدعوى وإن أمكن انسحابها في الأوّل أيضاً ، نظراً إلى تبادر الغليان الناري من مطلق الغليان ، إلاّ أنّ وجود الموثّق الناصّ على عدم الفرق فيه المعتضد بعدم الخلاف فيه ، اقتضى اختصاص عدم الفرق بين الأمرين به دون الثاني ، فما ذكره لعلّه لا يخلو عن وجه إن لم ينعقد الإجماع على خلافه ، مع أنّه في الجملة أحوط.

ثم إنّ ظاهر النصوص وأكثر الفتاوى المقتصرة في سبب التحريم على الغليان خاصّة عدم اعتبار شي‌ء آخر غيره. خلافاً للفاضل في الإرشاد (١) ، فاعتبر الاشتداد أيضاً.

ووجهه غير واضح عدا ما يدّعى من التلازم بين الأمرين ، وليس بثابت. بل الظاهر العدم كما صرّح به جمع (٢) ، وعلى تقديره فذكره مستدرك.

واعلم أنّ مقتضى الأصل والعمومات الدالّة على الإباحة من الكتاب والسنّة ، مع اختصاص ما دلّ على حرمة العصير فتوًى ورواية بعصير العنب كما مرّ وسيأتي إليه الإشارة حلّ عصيري التمر والزبيب وإن غليا ، ما لم يبلغا الشدّة المسكرة ، واختاره الفاضلان والشهيدان وفخر الإسلام والفاضل المقداد والمفلح الصيمري والمقدّس الأردبيلي وصاحب الكفاية (٣) ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١١١.

(٢) منهم : المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ١٩٨ ؛ وانظر الذخيرة : ١٥٤ ، والحدائق ٥ : ١٢٢.

(٣) المحقق في الشرائع ٤ : ١٦٩ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٦٣ ، الشهيد الأوّل في الدروس ٣ : ١٦ ١٧ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٤٤ ، فخر الإسلام في إيضاح الفوائد ٤ : ٥١٢ ، الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٣٦٨ ، المفلح الصيمري في غاية المرام ٤ : ٧٣ ، ٣٣٧ ، الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣١٢ ، الكفاية : ٢٥١.

٤٤٢

مدّعيين عليه كالمفلح الصيمري ـ (١) الشهرة ، ولا ريب فيها. بل ظاهر الدروس في التمري عدم وجود القول فيه بالحرمة (٢) ، حيث إنّه بعد نسبة الحلّ إلى بعض الأصحاب لم ينقل المخالف له ، وإنّما ظاهره نسبة المخالفة إلى رواية عمّار الآتية.

وأظهر منه كلام شيخنا في المسالك في هذا الكتاب وكتاب الحدود (٣) ، حيث إنّه حكى الخلاف عن بعض الأصحاب في الزبيبي خاصّةً ولم يشر إليه في التمريّ بالكلّية ، وإنّما ذكر في الكتاب الأخير وجه تردّد الماتن فيهما (٤).

وربما كان ذلك ظاهراً من اللمعتين أيضاً (٥) ، حيث لم يشيرا إلى الحكم فيه مطلقاً مع تصريحهما بأنّه لا يحرم العصير من الزبيب وإن غلى على الأقوى ، فلو وجد القول بالتحريم فيه أيضاً لألحقاه بالزبيبي جدّاً.

هذا مع أنّه حكي عن بعض الفضلاء التصريح بعدم الخلاف فيه أصلاً (٦) ، وهو حجّة أُخرى. ولا ينافيها تردّد الماتن في حكمهما ؛ لفتواه بالحلّ بعده صريحاً. وما ربما يقال من إشعار التردّد بوجود الخلاف فواضح‌

__________________

(١) غاية المرام ٤ : ٣٣٧.

(٢) الدروس ٣ : ١٧.

(٣) المسالك ٢ : ٢٤٥ ، ٤٣٩.

(٤) الشرائع ٤ : ١٦٩.

(٥) اللمعة ( الروضة البهية ٧ ) : ٣٢٢.

(٦) الحدائق ٥ : ١٢٥.

٤٤٣

الفساد ؛ لاحتمال حصوله بتعارض الاحتمالات دون الأقوال.

نعم ظاهر سياق كلام الدروس المتقدّم التردّد ؛ لموثّقة عمار : عن النضوح ، قال : « يطبخ [ التمر (١) ] حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يتمشّطن » (٢).

ونحوها موثّقته الأُخرى : عن النضوح المعتق ، كيف يصنع حتّى يحلّ؟ قال : « خذ [ ماء (٣) ] التمر فَاغْلِهِ حتى يذهب ثلثا ماء التمر » (٤).

وهو كما ترى ؛ لقصورهما عن المقاومة لما مضى من الأدلّة القطعية المعتضدة بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً ، المؤيّدة بعدم الخلاف المستفاد من الكتب المتقدّمة المصرّح به في كلام بعض الأجلّة (٥).

مضافاً إلى قصورهما دلالةً ؛ إذ لا تصريح فيهما بحرمة الشرب ، وإنّما غايتهما الأمر بغليه حتى يذهب ثلثاه ، وهو أعمّ من تحريمه بالغلي قبله.

ولعلّ الوجه فيه ما ذكره بعض الأصحاب (٦) من أنّ النَّضوح لغةً على ما في النهاية الأثيريّة (٧) ضرب من الطيب تفوح رائحته. وفي مجمع البحرين : إنّ في كلام بعض الأفاضل : أنّه طيب مائع ، ينقعون التمر والسكر والقرنفل والتفاح والزعفران وأشباه ذلك في قارورة فيها قدر مخصوص من الماء ويشدّ رأسها ، ويصبرون أيّاماً حتى ينشّ ويتخمّر.

__________________

(١) أثبتناه من المصادر.

(٢) التهذيب ٩ : ١٢٣ / ٥٣١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٧٩ أبواب الأشربة المحرمة ب ٣٧ ح ١. وفيهما : يمتشطن.

(٣) أثبتناه من المصادر.

(٤) التهذيب ٩ : ١١٦ / ٥٠٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٧٣ أبواب الأشربة المحرمة ب ٣٢ ح ٢.

(٥) الذخيرة : ١٥٥ ، الحدائق ٥ : ١٢٥.

(٦) الحدائق ٥ : ١٤٩.

(٧) النهاية ٥ : ٧٠.

٤٤٤

وهو شائع بين نساء الحرمين الشريفين (١).

وعلى هذا فتحمل الروايتان على أنّ الغرض من طبخه حتّى يذهب ثلثاه إنّما هو لئلاّ يصير خمراً ببقائه مدّةً ، لأنّ غليه على هذا الحدّ الذي يصير به دبساً يُذهب الأجزاء المائية التي يصير بها خمراً لو مكث مدّة كذلك ، لأنّه إنّما يصير خمراً بسبب ما فيه من تلك الأجزاء المائية ، فإذا ذهبت أمن من صيرورته خمراً.

ويؤيّد هذا قوله « النضوح المعتق » على صيغة اسم المفعول ، أي الذي يراد جعله عتيقاً بأن يحفظ زماناً حتى يصير عتيقاً.

ويؤيّده أيضاً قوله : « يتمشّطن » الظاهر في أنّ الغرض منه التمشط والوضع في الرأس والمراد من السؤال في الروايتين عن كيفيّة عمله ، هو التحرّز عن صيرورته بزيادة المكث خمراً نجساً يمتنع الصلاة فيه ، ولا يحلّ إذا تمشّطن ، وإلاّ فهو ليس بمأكول ، ولا الغرض من السؤال عن كيفيّة عمله حِلّ أكله حتى يكون الأمر بغليه على ذلك الوجه لأجله ، بل حِلّ استعماله.

ومع هذا الاحتمال لا يمكن أن يستند إلى الروايتين سيّما في تخصيص ما مرّ من الأدلّة القطعية ، فإنّ بناءه على قطعيّة الدلالة أو قوّتها ، وشي‌ء منهما لا يتحقّق مع هذا الاحتمال بلا شبهة وإن قلنا بمرجوحيّته بالإضافة إلى الظاهر ، لعدم بلوغ هذه المرجوحيّة درجةً يحصل فيها قوّة الدلالة التي هي المناط في تخصيص الأدلّة القاطعة.

وبهذا يجاب عن موثّقتيه الأُخريين الواردتين في الزبيب.

في إحداهما : وصف لي الصادق عليه‌السلام المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالاً ، فقال : « تأخذ ربعاً من زبيب وتنقيه ، وتصبّ عليه اثني عشر رطلاً من ماء ، ثمّ تنقعه ليلة ، فإن كان أيّام الصيف وخشيت أنّ ينشّ جعلته‌

__________________

(١) مجمع البحرين ٢ : ٤١٩.

٤٤٥

في تنّور مسجور قليلاً حتّى لا ينشّ ، ثمّ تنزع الماء منه كلّه حتّى إذا أصبحت صببت عليه من الماء بقدر ما يغمره » إلى أن قال : « ثمّ تغليه بالنار ، ولا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث » (١) الحديث. وقريب منها : الثانية (٢).

والخبر : شكوت إلى الصادق عليه‌السلام قراقر تصيبني في معدتي وقلّة استمرائي الطعام ، فقال لي : « لم لا تتّخذ شيئاً نشربه نحن » إلى أن قال : « تأخذ صاعاً من زبيب » إلى أن قال : « ثمّ تطبخه رقيقاً حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » إلى أن قال في آخر الخبر : « وهو شراب لا يتغيّر إذا بقي » (٣).

وذلك فإنّه لا يلزم من الأمر بطبخه على الثلث أن يكون لأجل حلّيته بعد حرمته بالغليان ، بل يجوز أن يكون لئلاّ يصير مسكراً كما يدل عليه قوله عليه‌السلام في آخر الرواية الأخيرة : « وهو شراب لا يتغيّر إذا بقي ».

ويجوز أن يكون لأجل أنّ الخاصيّة والنفع المترتّب عليه لا يحصل إلاّ بطبخه على الوجه المذكور ، كما ورد مثله في بعض النصوص : كتبت إليه عليه‌السلام : عندنا شراب يسمّى المَيْبة ، نعمد إلى السفرجل فنقشره ونلقيه في الماء ، ثم نعمد إلى العصير فنطبخه على الثلث ، ثم ندقّ ذلك السفرجل ونأخذ ماءه ، ثم نعمد إلى ماء هذا الثلث وهذا السفرجل إلى أن قال ـ : فنطبخه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، أيحلّ شربه؟ فكتب : « لا بأس به ما لم يتغيّر » (٤) فتدبّر.

نعم ربما يلوح التحريم من بعض ألفاظ الموثّقين ، كقول الراوي‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٤ / ١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٩ أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٥ / ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٠ أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ٣.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٦ / ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٠ أبواب الأشربة المحرمة ب ٥ ح ٤.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٧ / ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦٧ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٩ ح ٣.

٤٤٦

يطبخ حتّى يصير حلالاً ، وقوله عليه‌السلام : « وإذا كان في أيّام الصيف وخشيت أن ينشّ جعلته في تنور .. » فإنّ النشيش هو صوت الغليان. والظاهر من المحافظة عليه بأن لا ينشّ ليس إلاّ لخوف تحريمه بالغليان.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ قوله : كيف يطبخ حتّى يصير حلالاً ، إنّما هو من الراوي في سؤاله ، ولا حجّة فيه إلاّ من حيث تقرير المعصوم عليه‌السلام له على فهمه ، وهو وإن كان حجّة إلاّ أنّ في بلوغه درجة تخصيص الأدلّة نوع مناقشة ، سيّما مع أنّ أكثر ما ذكر في الكيفيّة بل كلّه عدا الغلي حتى يذهب الثلثان لا دخل له في الحلّية إجماعاً.

وأمّا قوله : « حتى لا ينشّ » فإنّ فيه : أنّه بعد ذلك أمر بغليانه حتّى يذهب ثلثاه ، فهو وإن حرم بالنشيش فلا مانع منه ، لتعقّبه بالغليان الموجب للتحليل بعد ذلك. وحينئذٍ فلعلّ المحافظة عليه من النشيش إنّما هو لغرض آخر لا لأنّه يحرم بعد ذلك ، فإنّه وإن حرم لكن لا منافاة فيه بعد غليه إلى ذهاب الثلثين المأمور به ثانياً. وحينئذٍ لا فرق في حصول التحريم فيه في وقت النشيش ولا وقت الغليان أخيراً.

ولعلّه لهذا أعرض عن هذه الأخبار متأخّروا الأصحاب ، ولم يذكروها دليلاً على التحريم في شي‌ء من المقامين. بل إنّما اقتصروا في إثباته في بيان وجه الترديد في التمرّي على دعوى إطلاق اسم النبيذ عليه ، أو مشابهته لعصير العنب ، وفي الزبيبي على دعوى الشركة مع العنبي في أصل الحقيقة ، وفحوى بعض النصوص كالخبر : عن الزبيب ، هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه ثمَّ يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث ثم يوضع فيشرب منه السنة؟ قال : « لا بأس به » (١).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢١ / ١٠ ، التهذيب ٩ : ١٢١ / ٥٢٢ ، قرب الإسناد : ٢٧١ / ١٠٧٧ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٥ أبواب الأشربة المحرمة ب ٨ ح ٢.

٤٤٧

وهذه الأدلّة أيضاً في غاية من الضعف ؛ لمنع صدق اسم النبيذ على مطلق عصير التمر حقيقةً ، ومنع القياس. والمشابهة والشركة في أصل الحقيقة لا تقتضي الشركة في الحرمة بعد اختصاص ما دلّ عليها من الفتوى والرواية بالعصير العنبي خاصّة. والرواية ضعيفة سنداً ودلالةً بنحو ما مرّ إليه الإشارة في الموثّقتين الأخيرتين.

هذا مضافاً إلى إشعار النصوص الواردة في علّة تحريم العصير باختصاص الحرمة بالعنبي دون الزبيبي ؛ لظهورها في أنّ العلّة إنّما هي شركة إبليس في شجرة الكرم وثمرته بالثلثين ، وأنّه إذا ذهب نصيبه منها حلّ الباقي (١). ولا ريب أنّ الزبيب قد ذهب ثلثاه وزيادة بالشمس.

وبهذا مضافاً إلى ما مضى من أصالة الإباحة وغيرها استدلّ الشهيدان وغيرهما (٢) على إباحته. وهو قويّ جدّاً.

وأمّا ما يورد عليه : بأنّ ذهاب الثلثين بالشمس إنّما يتمّ إذا كان قد نشّ بالشمس أو غلى حتّى يحرم ثم يحلّ بعد ذلك بذهاب الثلثين ، والغليان بالشمس غير معلوم فضلاً عن النشيش وهو صوت الغليان ، وأمّا ما جفّ بغير الشمس فلا غليان فيه ، فلا وجه لتحريمه حتّى يحتاج إلى التحليل بذهاب الثلثين ، على أنّ إطلاق العصير على ما في حبّات العنب كما ترى.

فضعيف بابتنائه على دلالة تلك النصوص أو غيرها على اعتبار كون ذهاب الثلثين بعد الغليان وحصول التحريم ، وأنّه لو ذهبا قبله لا يُعبأ به. وهو كما ترى ؛ إذ لا أثر له فيها ، بل ظاهرها اعتبار ذهاب الثلثين مطلقاً بعد‌

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢.

(٢) الشهيد الأول في الدروس ٣ : ١٦ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٣٩ ؛ وانظر مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣١٢ ، والكفاية : ٢٥١.

٤٤٨

الغلي كان أم لا. هذا.

وأمّا ما ربما يستدلّ به للحرمة في التمري والزبيبي من عموم قوله : « كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (١).

فلا ينبغي الإصغاء إليه ولا العروج في مقام التحقيق عليه ؛ لأنّ حمله على العموم مخالف للإجماع قطعاً. والبناء على التخصيص وكون العام فيما عداه حجّةً حسنٌ إن كان الباقي أكثر ، والحال أنّ الأمر بالعكس ، ومثله ليس بحجّة على الأصح. فينبغي صرفه إلى معهود ، وهو إمّا عصير العنب خاصّة كما هو ظاهر الأصحاب كافّةً واعترف به جماعة (٢) ، أو هو في الجملة من غير أن يعلم دخول عصير غيره فيه وعدمه. ومقتضى هذا القطع بإرادة عصير العنبي والتردّد في غيره ، ومعه لا يمكن صرف العموم إليه فضلاً أن يدّعى كونه التمري والزبيبي.

هذا مع أنّ المستفاد من النصوص المتقدّمة (٣) الدالّة على أنّ الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، إلى آخره. كون العصير في عرفهم عليهم‌السلام اسماً لما يؤخذ من العنب خاصّة ، وأنّ ما يؤخذ من التمر إنّما يسمّى بالنبيذ ، وما يؤخذ من الزبيب يسمّى بالنقيع.

قيل : وهذا هو الذي يساعده العرف أيضاً ، فإنّه لا يخفى أنّ العصير فيه إنّما يطلق على المأخوذ من الأجسام التي فيها مائيّة لاستخراج الماء منها ، كالعنب والرمان مثلاً ، وأمّا الأجسام الصلبة التي فيها حلاوة أو حموضة ويراد استخراج حلاوتها أو حموضتها مثل التمر والزبيب والسماق‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٩ / ١ ، التهذيب ٩ : ١٢٠ / ٥١٦ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٢ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ح ١.

(٢) منهم : البحراني في الحدائق ٥ : ١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٣٠ ، ١٤٦.

(٣) في ص ٤٣٦.

٤٤٩

ونحوها ، فإنّه إنّما يستخرج ما فيها من الحلاوة والحموضة إمّا بنبذها في الماء ونقعها فيه زماناً يخرج حلاوتها أو حموضتها إلى الماء ، أو أنّها تمرس في الماء من أوّل الأمر من غير نقع ، أو أنّها تغلي بالنار لأجل ذلك (١). وفيه نوع نظر.

نعم ، يستفاد ذلك من جمع من أهل اللغة ، كالفيومي في المصباح المنير ، وابن الأثير في النهاية ، والقاموس ، ومجمع البحرين (٢). قال هو كالأوّل في مادة عصر : والعصير من العنب يقال : عصرت العنب عصراً من باب ضرب : استخرجت ماءه ، واسم الماء العصير. وقالا في مادة نقع : والنقيع شراب يتّخذ من زبيب ينتقع في الماء من غير طبخ. وقال الأخير في مادة نبذ : والنبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير ونحو ذلك.

وعلى هذا فليس المراد من العصير في الخبر ما يعمّ عصير الزبيب والتمر ؛ لعدم إطلاق العصير عليهما حقيقةً ، وإنّما يطلق عليهما كذلك النبيذ والنقيع خاصّة. ولعلّه لهذا لم يستدلّ به على تحريمهما أحد من الأصحاب. هذا.

وعلى تقدير تسليم عمومه نقول : إنّه معارض بكثير من النصوص الدالّة على دوران الحكم في النبيذ حرمةً وحلاًّ مدار السكر وعدمه ، وهي مستفيضة جدّاً وسيأتي بعضها. ولو كان مجرّد الغليان يوجب التحريم وإن لم يبلغ حدّ الإسكار لجرى له ذكر أو إشارة ولو في بعضها ، سيّما مع ورودها جلاًّ بل كلاًّ في مقام الحاجة جدّاً.

__________________

(١) الحدائق ٥ : ١٢٥.

(٢) المصباح المنير : ٤١٣ ، ٦٢٢ ، النهاية ٥ : ٧ ، القاموس المحيط ٢ : ٩٣ ، مجمع البحرين ٣ : ٤٠٧ ، ١٨٩ ، وج ٤ : ٣٩٨.

٤٥٠

وأمّا ما يدّعى من أنّه بمجرّد الغليان يحصل منه السكر أو مباديه باعتبار بعض الأمزجة أو بعض الأمكنة ، فغير مفهوم للعبد بعد اتّفاق جملة من عبائر الأصحاب التي وقفت عليها في تردّد الماتن وبيان وجهه على عدم حصول السكر بمجرّد الغليان ما لم يبلغ الشدّة المسكرة.

وربما يومئ إليه وإلى ما مرّ من دوران الحكم فيهما حلاًّ وحرمةً على تحقّق السكر وعدمه بعض النصوص أيضاً ، كالخبر : عن النبيذ ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وما النبيذ؟ فصفوه لي » فقالوا :

يؤخذ من التمر ، فينبذ في إناء ، ثمّ يصبّ عليه الماء حتّى يمتلئ ، ويوقد تحته حتّى يطبخ ، فإذا انطبخ أخذوه فألقَوه في إناء آخر ، ثمّ صَبّوا عليه ماء ثمّ يمرس ، ثمّ صَفَوه بثوب ، ثمّ يلقى في إناء ، ثمّ يصبّ عليه من عَكَر ما كان قبله ، ثمّ يهدر ويغلي ، ثمّ يسكن على عَكَره ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفيسكر؟ » قال : نعم ، قال : « فكلّ مسكر حرام » (١). الخبر. هذا.

والإنصاف أنّ الحكم الباتّ بالحلّ في الزبيبي لا يخلو عن نوع أشكال ؛ لقوّة دلالة الموثّقين على خلافه (٢) ، مع وجود قائل به من الأصحاب كما يظهر من الشهيدين وغيرهما (٣) وإن لم يصرّحوا به ، لكنّه ظاهر الكليني حيث إنّه عنون الباب الذي ذكر فيه الموثقين وغيرهما بباب صفة الشراب الحلال (٤).

مضافاً إلى وقوع التصريح بحرمته في بعض الأخبار : في الزبيب يدقّ ويلقى في القدر ويصبّ عليه الماء ، قال : « حرام حتّى يذهب ثلثاه » قلت‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٧ / ٧ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٥ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٤ ح ٦.

(٢) راجع ص ٦٠٩٧.

(٣) الشهيد الأول في الدروس ٣ : ١٦ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٤٥ ؛ وانظر مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣١٣.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٤.

٤٥١

الزبيب كما هو يلقى في القدر ، قال : « هو كذلك سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فسد ، كلّما غلى بنفسه أو بالنار فقد حرم إلاّ أن يذهب ثلثاه » (١).

والخروج بهذه النصوص عن الأُصول القطعيّة المعتضدة بالشهرة ، ومجهوليّة القائل بها صريحاً أو ندرته وإن كان لا يخلو أيضاً عن إشكال ، إلاّ أنّ الاحتياط فيه لازم على كلّ حال.

ولا كذلك التمري ؛ لوضوح مأخذ الحلّ فيه من الأُصول والنصوص الدالّة على دوران الحكم فيه حلاًّ وحرمةً مدار السكر وعدمه ، وخصوص الرواية مع قصور ما يعارضها سنداً ودلالةً ، وعدم ما يدلّ على حرمته صريحاً مطلقاً مع عدم ظهور قائل بها فيه أصلاً. ومع ذلك الاجتناب عنه أحوط وأولى ؛ للشبهة الناشئة من الموثّقين المتقدّم إليهما الإشارة (٢) ، وبعض النصوص المشعرة بل الظاهر في اتحاد عصيري العنب والتمر في العلّة المحرمة.

وفيه بعد كلام طويل يتضمّن تعليل الحكم بحرمة العصير العنبي بمسّ إبليس منه ـ : « فأوحى الله إلى آدم عليه‌السلام أنّ العنب قد مصّه عدوّي وعدوّك إبليس لعنه الله تعالى ، وقد حرّمت عليك من عصيره الخمر ما خالطه نفس إبليس ، فحرّمت الخمر » إلى أن قال :

« ثمّ إنّه » أي إبليس « قال لحوّاء : لو أمصصتِني شيئاً من هذا التمر كما أمصصتني من العنب ، فأعطته تمرة فمصّها ، وكان العنب والتمر أشدّ رائحة وأزكى من المسك الأذفر وأحلى من العسل ، فلمّا مصّهما عدوّ الله ذهبت رائحتهما » إلى أن قال‌ :

__________________

(١) الأُصول الستة عشر : ٥٨ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٨ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ح ١ ؛ بتفاوت يسير.

(٢) في ص ٤٤٢.

٤٥٢

« ثمّ إنّ إبليس الملعون ذهب بعد وفاة آدم فبال في أصل الكرمة والنخلة ، فجرى الماء في عروقهما من بول عدوّ الله تعالى ، فمن ثمّ يختمر العنب والتمر ، فحرّم الله تعالى على ذرّية آدم كل مسكر ، لأنّ الماء جرى ببول عدوّ الله تعالى في النخل والعنب فصار كلّ مختمر خمراً لأنّ الماء اختمر في النخلة والكرمة من بول عدو الله تعالى إبليس لعنه الله تعالى » (١) فتأمّل.

ويقوّي الاحتياط فيه احتمال وجود قول بتحريمه من الحلّي في سرائره حيث قال بعد الحكم بحرمة عصير العنب بالنشيش ـ : وكذلك القول فيما ينبذ من الثمار في الماء ، أو اعتصر من الأجسام من الأعصار ، في جواز شربه ما لم يتغير ، فإن تغير بالنشيش لم يشرب (٢).

لكنّه ليس بصريح في التحريم بمجرّد الغليان بالنار ، بل غايته التحريم بالنشيش وهو صوت الغليان الحادث من طول المكث. ولا ريب في تحريمه حينئذٍ ؛ لاستلزامه السكر كما يستفاد من الأخبار. ولا كذلك الغليان بالنار ؛ لعدم معلومية استلزامه إيّاه ، بل معلوميّة عدمه كما مرّ.

وربما يشير إلى ما ذكرناه كلام شيخنا في الدروس حيث قال : ولا يحرم المعتصر من الزبيب ما لم يحصل فيه نشيش ، فيحلّ طبخ الزبيب على الأصح ؛ لذهاب ثلثيه بالشمس غالباً (٣).

فلو لا الفرق بما ذكرناه بين النشيش والغليان بالنار لتناقض الحكم بالتحريم مع حصول النشيش المستفاد من مفهوم صدر عبارته ، والحكم بتحليل الطبيخ المعلّل بذهاب ثلثيه ، مع وجود هذا التعليل فيه في الأوّل‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٩٣ / ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٣ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢ ح ٣.

(٢) السرائر ٣ : ١٢٩.

(٣) الدروس ٣ : ١٦.

٤٥٣

أيضاً.

فظهر أنّ الحكم بالتحريم فيه ليس من حيث العصيريّة ، بل من حيثية اخرى ، إمّا السكر ، أو صيرورته بالنشيش فقّاعاً كما ذكره بعض أصحابنا.

ولعلّ حكم الحلّي بالتحريم مع النشيش لأحد هذين من كونه مسكراً أو مسمّى النبيذ ، فتأمّل جدّاً. ولعلّه لهذا لم ينسب القول بالتحريم فيهما إليه أحد من أصحابنا.

( الثاني : الدم ) المسفوح ، أي المنصبّ من عرق بكثرة ، من سفحت الماء إذا أهرقته.

والأصل في حرمته بعد الإجماع المحكيّ في كلام جمع (١) المقطوع به الآيات الكثيرة عموماً وخصوصاً (٢) ، والنصوص المستفيضة جدّاً.

ومنها : الأخبار المستثنية من الذبيحة أُموراً عشرة المصرّحة بأن منها ما كان دماً (٣).

وخصوص المرسلة المعلّلة لتحريمه بإيراثه الكَلَب ، والقسوة في القلب ، وقلّة الرأفة والرحمة ، والماء الأصفر ، والبخر ، وغير ذلك من الأُمور المعدودة فيها (٤).

وإطلاق العبارة ككثير من الآيات والروايات وإن شمل ما يتخلّف في لحم الحيوان المأكول ممّا لا يقذفه المذبوح ، إلاّ أنّه حلال بالإجماع الظاهر‌

__________________

(١) منهم : ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ، والعلاّمة في المنتهي ١ : ١٦٣ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٢٦٦.

(٢) المائدة : ٣ ، الأنعام : ١٤٥ ، الأعراف : ١٥٧.

(٣) انظر الوسائل ٢٤ : ١٧١ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣١.

(٤) الكافي ٦ : ٢٤٢ / ١ ، الفقيه ٣ : ٢١٨ / ١٠٠٩ ، التهذيب ٩ : ١٢٨ / ٥٥٣ ، علل الشرائع : ٤٨٣ / ١ ، المحاسن : ٣٣٤ / ١٠٤ ، تفسير العياشي ١ : ٢٩١ / ١٥ ، الوسائل ٢٤ : ٩٩ أبواب الأطعمة المحرمة ب ١ ح ١.

٤٥٤

المصرّح به في كلام جمع كالمسالك وغيره (١). ويعضده الاعتبار ؛ لاستلزام تحريمه العسر والحرج المنفيّين شرعاً ، لعدم خلوّ اللحم عنه وإن غسل مرّات. مضافاً إلى تقييد المحرّم عنه في بعض الآيات بالمسفوح ، فتدبّر.

ومقتضاه مضافاً إلى الأصل والعمومات حلّ ما عدا المسفوح من الدماء ، كدم الضفادع والقُراد والسمك. وهو ظاهر جملة من الأصحاب المستدلّين به على طهارته كابني زهرة وإدريس والمختلف (٢) ، ولعلّه صريح الماتن في المعتبر في دم السمك حيث استدلّ فيه على طهارة دمه بأنّه لو كان نجساً لوقفت إباحة أكله على سفح دمه بالذبح كحيوان البرّ ، لكنّ الإجماع على خلاف ذلك ، وأنّه يجوز أكله بدمه (٣).

وهو ظاهر في دعوى الإجماع عليه. ولا بأس به في مورد عبارته ؛ لما ذكره ، مضافاً إلى ما مرّ من التأمل في خباثته. ويشكل في غيره ممّا مر ، ومن القطع بخباثته ، فيشمله عموم ما دلّ على تحريم كلّ خبيث. ولعلّ هذا أظهر ، وفاقاً للأكثر ، بل لم أقف فيه على مخالف صريح عدا مَن مرّ ومَن قيّد المحرّم من الدم بالمسفوح ولم يذكر تحريم غيره ، كالغنية (٤).

والتعارض بين عموم ما دلّ على تحريم كلّ خبيث ، وعموم المفهوم فيما قيّد فيه المحرّم من الدم بالمسفوح وحَصَر فيه ، وإن كان تعارض العموم والخصوص من وجه ، والأصل والعمومات يرجّح المحلّل منهما ، إلاّ أنّ اعتضاد المحرّم بعمل الأكثر يرجّحه.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٤٥ ؛ وانظر الكفاية : ٢٥٢.

(٢) ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ، ابن إدريس في السرائر ٣ : ١٢١ ، المختلف : ٥٩.

(٣) المعتبر ٢ : ٤٢١.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨.

٤٥٥

هذا مع ضعف المحلّل بمخالفة مفهوم الحصر فيه الإجماع من الكلّ ؛ لدلالته على حلّ ما عدا الميتة والدم ولحم الخنزير ، والبناء فيه على التخصيص وحجّية الباقي حسن إن بقي من الكثرة ما يقرب من مدلول العام ، وليس بباق بلا كلام. ولا مفرّ عن هذا المحظور إلاّ بجعل الحصر إضافيّاً أو منسوخاً ، وأيّا ما كان يضعّف الاستناد إليه في المقام ، كما لا يخفى على ذوي الأحلام.

ومن هنا يتّجه ما ذكره شيخنا في المسالك من أنّ الأصل في الدم التحريم إلاّ ما خرج بالنصّ والوفاق (١).

( وكذا العلقة ) محرّمة مطلقاً ( ولو ) كانت الموجودة ( في البيضة ) المحلّلة ؛ للخباثة بلا شبهة ، سيّما ما كان من نحو المرأة.

( وفي نجاستها تردّد ) واختلاف :

فبين قائلٍ بها ، كالماتن في المعتبر ، والشهيد في الدروس ، والفاضل المقداد في التنقيح (٢) ، وفاقاً للخلاف مدّعياً عليه الوفاق (٣) ، محتجّاً به وبإطلاق ما دلّ على نجاسة الدم.

وبين مائلٍ إلى الطهارة ، كالشهيد في الذكرى ، وصاحب المعالم ، وغيرهما (٤) ؛ لعدم انصراف الإطلاق إليها ، سيّما إلى التي في البيضة ، مع عدم معلوميّة [ تسمية (٥) ] ما فيها علقةً ، فلا تشمله حكاية إجماع الخلاف‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٤٥.

(٢) المعتبر ٢ : ٤٢٢ ، الدروس ١ : ١٢٣ ، التنقيح الرائع ٤ : ٥١.

(٣) الخلاف ١ : ٤٩٠.

(٤) الذكرى : ١٣ ، معالم الفقه : ٢٢٢ ؛ وانظر روض الجنان : ١٦٣.

(٥) أثبتناه من نسخة « ر » و « ح ».

٤٥٦

المتقدّمة. وهو حسن ، إلاّ أنّ نجاسة العلقة من الإنسان ونحوه بالإجماع المزبور ثابتة ، وهو يستعقب الثبوت فيما في البيضة ؛ لعدم القائل بالفرق بين الطائفة.

فإذاً ( أشبهه النجاسة ) مطلقاً ، لكن مع تأمّلٍ ما في ثبوتها لما في البيضة ، بناءً على التأمّل في بلوغ عدم القول بالفرق المزبور حدّ الإجماع المركّب الذي هو الحجّة. والاحتياط واضح سبيله.

( ولو وقع قليل دم ) نجس ( في قدر وهي تغلي لم يحرم المرق ولا ما فيها ) من اللحم والتوابل ( إذا ذهب ) الدم ( بالغليان ) وفاقاً للشيخين والديلمي (١) ، لكنّه كالمفيد لم يقيّد الدم بالقليل.

للخبرين : أحدهما الصحيح : قدر فيها جزور وقع فيها قدر أوقية من دم ، أيؤكل؟ قال : « نعم ، النار تأكل الدم » (٢).

وفي الثاني : عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم ومرق كثير قال : « يُهراق المرق ، أو يطعمه أهل الذمة أو الكلاب ، واللحم اغسله وكله » قلت : فإن قطر فيها الدم؟ قال : « الدم تأكله النار » (٣).

و ( من الأصحاب من منع من المائع وأوجب غسل ) اللحم ( والتوابل ) وهو الحلّي (٤).

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٥٨٢ ، الطوسي في النهاية : ٥٨٨ ، الديلمي في المراسم : ٢١٠.

(٢) الكافي ٦ : ٢٣٥ / ١ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٥ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٦ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٤ ح ٢.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٢ / ١ ، التهذيب ٩ : ١١٩ / ٥١٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٨ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٦ ح ١.

(٤) السرائر ٣ : ١٢١.

٤٥٧

( وهو حسن ) وعليه عامّة المتأخّرين ؛ أخذاً بالأصل المعتضد بعملهم ، والتفاتاً إلى ضعف الخبرين عن المقاومة له ، لذلك ، سيّما مع ضعف سند الثاني ، ومخالفة ما فيهما من التعليل للإجماع المنعقد على الظاهر على عدم حصول التطهير بالنار إلاّ بالاستحالة المفقودة في مفروض المسألة.

وبالجملة الحال فيه ( كما لو وقع غيره من النجاسة ) كالخمر والنبيذ المسكر والفأرة.

والأصل فيه بعد الأصل المتقدّم السليم عن المعارض بالكليّة الإجماع الظاهر من العبارة والمحكيّ في التحرير والدروس (١).

والرواية الثانية الصريحة في المطلوب كالقوية : عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة ، قال : « يُهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل » (٢).

وصريحها كالرواية الأُولى حجّة على المحكي عن القاضي من أنّه مع كثرة النجاسة لا يؤكل شي‌ء ممّا في القدر ، سواء كان مائعا أو غيره (٣).

ويضعّفه أيضاً الإجماع المحكيّ المتقدّم ، وأنّ ما ليس بمائع يطهر بالغَسل ، فلا وجه لتعطيله مع إمكان الانتفاع به.

قيل : واعلم أنّ التقي وافق الشيخين فيما قالا ، إلاّ أنّه اطّرد الحكم في النجاسات كلها (٤).

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٦١ ، الدروس ٣ : ٢٠.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦١ / ٣ ، التهذيب ٩ : ٨٦ / ٣٦٥ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٦ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٤ ح ١.

(٣) المهذب ٢ : ٤٣١.

(٤) قال به الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٥٣.

٤٥٨

ولعلّ وجهه فحوى التعليل المتقدّم في الصحيح. وفيه : أنّ متعلّقه الدم خاصّة ، فلا يتعدى به إلى غيره ، ولذا إنّ الخبر الثاني الذي بعده مع تضمّنه للتعليل المزبور بعينه قد فرق فيه بين الدم وغيره ، فتأمّل.

( الثالث : كل مائع لاقته نجاسة ) عينيّة أو عرضيّة ( فقد نجس ) إجماعاً فتوًى ودليلاً. ويحرم أكله ؛ لما مضى من حرمة الأعيان النجسة مطلقاً الشاملة للمتنجّسات أيضاً ، ولذا لم يذكر التحريم هنا اتّكالاً على ما مضى.

والنجاسة العينيّة كثيرة تقدّم ذكرها في كتاب الطهارة ، وقد أشار الماتن إلى جملة منها هنا ، فقال : ( كالخمر ) وفي معناه الفقّاع وكلّ مسكر ، والعصير العنبي خاصّة ، أو مطلقاً على قول فيهما.

( والميتة والدم ) من ذي النفس السائلة لا غيره.

( والكافر الحربي ) وفي حكمه المرتدّ وإن انتحل الإسلام مع جحده لبعض ضروريّاته.

( وفي ) نجاسة ( الذمّي روايتان ) أظهرهما و ( أشهرهما النجاسة ) بل عليه إجماع الإمامية ، كما في كلام جماعة (١) بحدّ الاستفاضة فصاعداً ، تقدّم ذكرها في كتاب الطهارة مفصّلاً.

وقد علم ثمّة أنّ الرواية الثانية الدالّة على الطهارة مع شذوذها ، وندرة القائل بها جدّاً محمولةٌ على التقيّة من العامّة العمياء.

( وفي رواية ) ثالثة أنّه ( إذا اضطرّ إلى مؤاكلته أمره بغسل يده (٢).

__________________

(١) منهم : العلاّمة في المنتهي ١ : ١٦٨ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ١٦٣ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ١ : ٧٠.

(٢) الفقيه ٣ : ٢١٩ / ١٠١٦ ، التهذيب ٩ : ٨٨ / ٣٧٣ ، الوسائل ٢٤ : ٢٠٩ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٣ ح ١ و ٤.

٤٥٩

وهي ) وإن كانت صحيحة إلاّ أنّها ( متروكة ) لا عامل بها عدا الشيخ في النهاية (١) ، مع أنّه صرّح قبل ذلك بأسطر قليلة بأنّه لا يجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم ، ولا استعمال أوانيهم إلاّ بعد غسلها بالماء. وأنّ كلّ طعام تولاّه بعض الكفار وباشروه بنفوسهم لم يجز أكله ؛ لأنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه.

وهذا الكلام صريح في الحكم بنجاستهم ، فلا بدّ من حمل كلامه الآخر المطابق لمضمون الخبر على خلاف ظاهره ؛ إذ من المستبعد جدّاً الرجوع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة وإبقاؤه مثبتاً في الكتاب. ولعلّ مراده المؤاكلة التي لا تتعدّى معها النجاسة ، كأن يكون الطعام جامداً ، أو في أوان متعدّدة ، ويكون وجه الأمر بغسل يديه إرادة تنظيفهما من آثار القاذورات التي لا ينفكّ الكافر عنها غالباً ، فمؤاكلته على هذه الحالة بدون غسل اليد مظنّة حصول النفرة.

وقد تعرّض الماتن في نكت النهاية للكلام على عبارة النهاية الموافقة لمضمون الرواية ، فذكر على جهة السؤال أنّه ما الفائدة في الغسل واليد لا تطهّر به؟ وأجاب بأنّ الكفّار لا يتورّعون عن كثير من النجاسات ، فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة ، ثم قال : وهذا يحمل على حال الضرورة أو على مؤاكلة اليابس ، وغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينية وإن لم يفد اليد طهارة (٢).

وبما ذكرنا ظهر وجه محمل للرواية على وجه يوافق القول بالنجاسة ، وفساد ما نسب إلى النهاية من القول بالطهارة.

__________________

(١) النهاية : ٥٨٩.

(٢) النهاية ونكتها ٣ : ١٠٧.

٤٦٠