رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-275-X
الصفحات: ٥٠٣

الدماغ ، والدم » (١).

هذا مع عدم ذكر جميع هذه الثلاثة في كلّ من هذه النصوص والاكتفاء في كلّ منها بذكر بعضها. مع تعارض الأوّلين في المثانة ؛ لدلالة الأوّل على الحلّ بالمفهوم ، والثاني على حرمته بالمنطوق. وتعارضهما مع الثالث في المشيمة ؛ لتصريحه بحرمتها مع دلالتهما على حلّها بالمفهوم.

ومن دعوى السيدين في الكتابين إجماع الإماميّة على حرمة ما عدا المرارة من الثلاثة (٢) ، وهو ظاهر الخلاف في المثانة (٣). فإذا ثبت بإجماعهم الحكم بالحرمة فيما عدا المرارة ثبت الحكم بها فيها بالقطع باستخباثها. مع احتمال الإجماع المركّب ؛ لاتّفاق كلّ من حرم ما عداها في الظاهر على حرمتها. وعدم ذكر نَقَلة الإجماع إيّاها لا ينافيه ؛ لكثير ممّا مرّ في دعوى الإجماعات المتقدّمة في حرمة الخمسة.

ومن هنا يمكن دعوى عدم الخلاف في حرمتها وحرمة المشيمة ؛ لأنّ الأصحاب ما بين مصرّح بحرمة الأربعة عشرة أشياء المذكورة في العبارة مع المشيمة ، كما عليه الحلّي ، والقواعد ، والدروس ، واللمعة ، والمهذب (٤) ، ونسبه في الروضة إلى جماعة ممّن تأخر عن الحلّي (٥).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٥٤ / ٤ ، التهذيب ٩ : ٧٤ / ٣١٧ ، الوسائل ٢٤ : ١٧٢ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣١ ح ٣.

(٢) الانتصار : ١٩٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨.

(٣) الخلاف ٦ : ٢٩.

(٤) الحلّي في السرائر ٣ : ١١١ ، القواعد ٢ : ١٥٧ ، الدروس ٣ : ١٤ ، اللمعة ( الروضة البهية ٧ ) : ٣٠٩ ، المهذب البارع ٤ : ٢١٨.

(٥) الروضة ٧ : ٣١٠.

٤٢١

ومُفتٍ بحرمتها خاصّة من دون ذكر المثانة ، كالشيخ في النهاية (١) ، وجملة ممن تبعه كالقاضي وابن حمزة (٢) ، بل نسبه في المختلف والتحرير إلى المشهور (٣). ومُفتٍ بحرمة هذه الثلاثة مع الخمسة السابقة ، كالماتن هنا فيما عدا المشيمة ، وفي الشرائع فيها (٤) أيضاً كالمسالك وغيره (٥). ومفتٍ بحرمة هذه الثمانية مع الفرج ، كالفاضل في الإرشاد والمختلف والتحرير (٦).

نعم ، في المختلف عن الحلبي أنّه كره المرارة ، ولكنّه شاذّ كقول الإسكافي بكراهتها وكراهة الطحال والمثانة والرحم والقضيب والأُنثيين (٧). مع احتمال الكراهة في كلامهما المعنى المرادف للحرمة أو الأعمّ منها ومن الكراهة بالمعنى المصطلح ، فلا يثبت المخالفة.

هذا مع إشعار العبارة بعدم الخلاف في هذه الثلاثة ، كما لا خلاف في الخمسة السابقة ؛ لعدم ذكر الخلاف فيها إلاّ فيما عدا الثلاثة ممّا سيأتي إليه الإشارة.

وكيف كان ( أشبهه التحريم ) وفاقاً للأكثر كما مرّ ، لا ( للاستخباث ) لعدم القطع به في الجميع. بل لما عرفت من الإجماعات المحكيّة المخصّصة لما مرّ من الأُصول والعمومات ، والجابرة مضافاً إلى الشهرة‌

__________________

(١) النهاية : ٥٨٥.

(٢) القاضي في المهذب ٢ : ٤٤١ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٦١.

(٣) المختلف : ٦٨٢ ، التحرير ٢ : ١٦١.

(٤) الشرائع ٣ : ٢٢٣.

(٥) المسالك ٢ : ٢٤٣ ؛ وانظر مفاتيح الشرائع ٢ : ١٩٤.

(٦) الإرشاد ٢ : ١١٢ ، المختلف : ٦٨٢ ، التحرير ٢ : ١٦١.

(٧) المختلف : ٦٨٢ ، نقله فيه عن الحلبي والإسكافي.

٤٢٢

العظيمة ، وغيرها ممّا يأتي إليه الإشارة لضعف أسانيد الأخبار السابقة والوهن الحاصل فيها باعتبار التعارضات المتقدّم إليها الإشارة.

مع إمكان الذبّ عن هذا الوهن بعد تسليم معارضة مثل هذا المفهوم للمنطوق بأنّ التعارض بينهما تعارض العموم والخصوص المطلق ؛ لدلالة المفهوم في الخبر الأوّل مثلاً على حلّ كلّ ما هو عدا العشرة وهو بمنزلة العامّ ، ودلالة منطوق الخبر الثاني على حرمة المثانة ، وهو بالنسبة إلى ذلك كالخاص فليكن مقدّماً.

وهكذا الحال في تعارض مفهومهما لمنطوق الأخير في المشيمة ؛ لدلالة الأوّل على حلّها في ضمن العموم ، ودلالة المنطوق بحرمتها على الخصوص.

والثاني (١) : سبعة أشار إليها الماتن بقوله :

( وفي ) حرمة ( الفرج ) الحياء ظاهره وباطنه ( والعِلباء ) بالمهملة المكسورة ، فاللام الساكنة ، فالباء الموحّدة ، فالألف الممدودة : عصبتان عريضتان ممدودتان من الرقبة إلى عجب الذنب.

( والنخاع ) مثلّث النون : الخيط الأبيض في وسط الظهر ينظم خرز سلسلة الظهر في وسطها ، وهو الوتين الذي لا قوام للحيوان بدونه.

( وذات الأشاجع ) وهي أُصول الأصابع التي تتّصل بعصب ظهر الكفّ ، وفي الصحاح جعلها الأشاجع بغير مضاف (٢). والواحد أشجع. والمراد منها في الحيوان ما جاور الظلف من الأعصاب.

( والغدد ) بضم الغين المعجمة التي تكون في اللحم ، وتكثر في‌

__________________

(١) أي : ما اختلف في ما يحرم من الذبيحة.

(٢) الصحاح ٣ : ١٢٣٦.

٤٢٣

الشحم ، مدوّرة في الأغلب تشبه البندق.

( وخرزة الدماغ ) بكسر الدال ، وهي في المشهور المخّ الكائن في وسط الدماغ شبه الدودة بقدر الحمّصة تقريباً ، يخالف لونها لونه وهي تميل إلى الغبرة.

( والحدق ) يعني حبّة الحدقة ، وهو الناظر من العين لا جسم العين كلّه.

( خلاف ) بين الأصحاب المتقدّم ذكرهم ، وأنّ التحريم هو الأشهر بينهم ، كما صرّح به في المختلف والتحرير (١).

( أشبهه ) عند الماتن وغيره كالفاضل في كتبه المتقدّمة لكن فيما عدا الفرج ( الكراهة ) لأدلّة الإباحة المتقدّمة في أحد شقّي الترديد في الثلاثة المتقدّمة ، مع سلامتها عن معارضة تلك الإجماعات المحكيّة ، وضعف النصوص السابقة ، كالدالّ على حرمة ذات الأشاجع وغيرها أيضاً من تلك المعدودات ، وعدم جابر لها في المسألة ، وعدم ظهور الاستخباث المدّعى في الجميع أو ما عدا الفرج.

وهو حسن لولا الشهرة المحكيّة في الكتابين ، بل الظاهرة الجابرة للنصوص في البين ، مضافاً إلى دعوى الإجماع في ظاهر الخلاف وصريح الغنية في الغدد والعلباء وخرزة الدماغ كما في الأوّل (٢) ، وفي الأوّلين خاصّة كما في الثاني (٣) ؛ وهما حجّة أُخرى مستقلّة على تحريم هذه الثلاثة موجبة لتحريم ما عداها بمعونة عدم القائل بالفرق بين الطائفة.

__________________

(١) المختلف : ٦٨٢ ، التحرير ٢ : ١٦١.

(٢) الخلاف ٦ : ٢٩.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ، لم يذكر فيها العلباء.

٤٢٤

هذا مع انجبار تلك النصوص بالاتّفاق في الجملة ؛ لتضمّنها تحريم الأُمور المجمع عليها ، فتأمّل.

مع أنّ أوّلها مرويّ في الخصال بسند صحيح على الظاهر. والثاني مرويّ في المحاسن بسند موثّق بإبراهيم بن عبد الحميد ، ومع ذلك روى ابن أبي عمير عنه. والثالث ليس في سنده سوى إسماعيل بن مرار ، وقد ذكر له في الرجال ما ربما يستأنس به للاعتماد عليه (١).

هذا مع اعتضادها بنصوص أُخر في الكتب الأربعة وغيرها مروية قريباً من حدّ الاستفاضة ، يظهر من مجموعها الحكم بالحرمة في جميع هذه الخمسة عشر. فإذاً المختار حرمتها أجمع ، مع أنّها أحوط.

وأعلم : أنّه احترز بقوله : من الذبيحة ، عن نحو السمك والجراد ، فلا يحرم منه شي‌ء من المذكورات ؛ للأصل ، واختصاص النصّ والفتوى بحكم التبادر بل التصريح في جملة منهما بغيرهما.

وإطلاقه كغيره من عبائر أكثر الأصحاب يشمل كبير الحيوان المذبوح كالجزور ، وصغيره كالعصفور. وبالتعميم صرّح جماعة ، ومنهم شيخنا في الروضة إلاّ أنّه قال بعده : ويشكل الحكم بتحريم جميع ما ذكر مع عدم تميّزه ؛ لاستلزام تحريم جميعه أو أكثره للاشتباه. والأجود اختصاص الحكم بالنعم ونحوها من الحيوان الوحشيّ دون العصفور وما أشبهه (٢).

وهو جيّد فيما كان المستند في تحريمه الإجماع ؛ لعدم معلوميّة تحقّقه في العصفور وشبهه ، مع اختصاص عبائر جماعة من الأصحاب‌

__________________

(١) انظر منتهى المقال ٢ : ٩٢.

(٢) الروضة ٧ : ٣١١ ، وانظر مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢٤٣.

٤٢٥

كالصدوق وغيره (١) ، وجملة من النصوص (٢) بالشاة والنعم ، وعدم انصراف إطلاقات باقي الفتاوى والروايات إليهما. وأمّا ما كان المستند في تحريمه الخباثة فالتعميم إلى كلّ ما تحقّقت فيه أجود. ومع ذلك الترك مطلقاً أحوط.

( ويكره ) أكل ( الكلى ) بضمّ الكاف وقصر الألف : جمع كلية وكلوة بالضم فيهما ، والكسر لحن كما عن ابن السكيت (٣) ( وأُذنا القلب ، والعروق ).

ولا يحرم شي‌ء منها ، بلا خلاف ظاهر مصرّح به في كلام جمع. وبه يصرف ظاهر النهي عنها في النصوص ، مع أنّ الوارد منها في الكلي في الكتب المشهورة مقطوع غير متضمّن للنهي ، بل تضمّن لفظ الكراهة الذي هو أعمّ من الحرمة قابل للحمل على الكراهة (٤) ، سيّما بملاحظة الخبرين المرويّين في العيون وغيره : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يأكل الكليتين من غير أن يحرمهما ؛ لقربهما من البول » (٥).

( وإذا شوى الطحال مثقوباً فما تحته ) من لحم كان أو غيره ( حرام ، وإلاّ ) يكن مثقوباً ( فهو ) أي المشويّ معه ( حلال ) على الأظهر الأشهر ؛

__________________

(١) الصدوق في المقنع : ١٤٣ ؛ وانظر المقنعة : ٥٨٢.

(٢) انظر الوسائل ٢٤ : أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣١ الأحاديث ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٨ ، ٩.

(٣) نقله عنه الجوهري في الصحاح ٦ : ٢٤٧٥.

(٤) الكافي ٦ : ٢٥٤ / ٦ ، التهذيب ٩ : ٧٥ / ٣١٨ ، الوسائل ٢٤ : ١٧٣ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣١ ح ٥.

(٥) العيون ٢ : ٤١ / ١٣١ ، علل الشرائع ٥٦٢ / ١ ، الوسائل ٢٤ : ١٧٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣١ ح ١٣ ، ١٨.

٤٢٦

للموّثق : عن الجرّي يكون في السَّفود (١) مع السمك ، فقال : « يؤكل ما كان فوق الجرّي ، ويُرمى ما سال عليه الجري » وعن الطحال في سَفود مع اللحم وتحته الخبز ، وهو الجُوذاب (٢) ، أيؤكل ما تحته؟ قال : « نعم يؤكل اللحم والجُوذاب ، ويُرمى بالطحال ؛ لأنّ الطحال في حجاب لا يسيل منه ، فإن كان الطحال مثقوباً أو مشقوقاً فلا تأكل مما يسيل عليه الطحال » (٣).

خلافاً للصدوقين ، فحكما بأنّ اللحم إذا كان أسفل لم يؤكل مطلقاً ، وأمّا الجوذاب فيؤكل مع عدم الثقب ، ولا يؤكل مع الثقب (٤).

وهو شاذّ ومستنده غير واضح.

وهل حكم الجرّي أو غيره ممّا لا يؤكل لحمه حكم الطحال مع اللحم في ذلك من اعتبار الأعلى والأسفل؟ ظاهر المحكي عن الصدوقين وابن حمزة الأوّل (٥). واختاره في التنقيح ؛ لصدر الموثق المتقدّم (٦). وهو حسن.

خلافاً للمختلف ، فخصّ الحكم بالطحال ؛ عملاً بأصالة الإباحة واستضعافاً للرواية (٧).

ولا وجه له بعد القول بحجّية الموثّق كما هو الأصحّ الأشهر ، سيّما‌

__________________

(١) السَّفود بالفتح كتنور : الحديدة التي يُشوى بها اللحم. مجمع البحرين ٣ : ٧٠.

(٢) الجُوذاب بالضم : طعام من سكر وأرز ولحم. مجمع البحرين ٢ : ٢٢.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٢ / ١ ، الوسائل ٢٤ : ٢٠٢ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٩ ح ١.

(٤) الصدوق في المقنع : ١٤٣ ، وحكاه عن والده في المختلف : ٦٨٣.

(٥) الصدوق في المقنع : ١٤٣ ، ونقله عن والده في المختلف : ٦٨٣ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٦٢.

(٦) التنقيح الرائع ٤ : ٤٨.

(٧) المختلف : ٦٨٣.

٤٢٧

بعد انجباره واعتضاده في الجملة بالشهرة ، مع أنّ الحكمة في الحرمة في الطحال وغيره واحدة ، وهي سيلان الرطوبة المحرّمة من حيث الجزئيّة لا من حيث النجاسة إلى ما تحته وتشرّب الأسفل بها فيحرم.

ومن هنا يظهر أنّه ينبغي تقييد الحكم بالتحريم في المسألتين بصورة إمكان سيلان الرطوبة من الأعلى المحرّم إلى الأسفل المحلّل. فلو قطع بعدم السيلان لم يحرم الأسفل ؛ للأصل ، واختصاص إطلاق الفتاوى والنص بحكم التبادر والغلبة في موردهما بصورة إمكان السيلان أو مقطوعيّته أو ظهوره ، سيّما مع التصريح بالحكمة في كثير من النصوص والفتاوى.

وإطلاقهما يقتضي الحرمة مع الشك في السيلان ، مع احتمالهما التقييد بصورة القطع به أو ظهوره ، فيحلّ في غيرها ، عملاً بالأصل. ولا ريب أنّ التجنّب أحوط.

الثالث : ( الأعيان النجسة ) بالأصالة ( كالعذرات ) ونحوها.

والأصل في تحريمها بعد الإجماع المقطوع به المحكيّ في الغنية وغيرها (١). بل يمكن عدّه من الضروريّات جدّاً الأخبار المتواترة معنى قطعاً ، الظاهرة على المتتبّع لها في مباحث عديدة لا تكاد تحصى.

ومنها ما دلّ على حرمة المتنجّسات بالخمر والميتة والدم وغيرها ، فإنّ النصوص الدالّة على حرمتها دالّة على حرمة ما هنا بطريق أولى.

هذا مع أنّ جملة منها ، بل لعلّها كلّها منصوص على تحريمها بخصوصها ، مضافاً إلى كونها كلاًّ أو جلاًّ من الخبائث المحرّمة بالإجماع والكتاب والسنة كالامور الثلاثة.

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ؛ وانظر المسالك ٢ : ٢٤٣.

٤٢٨

( و ) نحوها ( ما أُبين من الحيّ ) إذا كان ممّا تحلّه الحياة ؛ لأنّه ميتة أو بحكمها نصّاً وفتوى ، كما مضى في بحثها (١).

( والعجين إذا عجن بالماء النجس ) حرام مطلقاً ولو خبز وأكلت النار ما فيه من الرطوبات ولو كلّها ، على الأشهر الأقوى ، بل عليه كافّة متأخري أصحابنا ومنهم الشيخ في التهذيب وكتاب الأطعمة من النهاية (٢) ؛ لأصالة بقاء الحرمة ، والمرسلين كالصحيحين بابن أبي عمير ، المجمع على تصحيح رواياته ، ومراسيله كمسانيده.

في أحدهما : العجين يعجن من الماء النجس ، كيف يصنع به؟ قال : « يباع ممّن يستحلّ أكل الميتة » (٣).

وفي الثاني : « يدفن ولا يباع » (٤).

وإطلاقهما ، بل عمومها أو أحدهما الناشئ عن ترك الاستفصال يشمل صورة إمكان الخبز وعدمها. بل لعلّهما ظاهران في الصورة الأُولى ؛ لأغلبيّتها.

فالعدول فيهما عن الأمر بالخبز الذي هو أسهل إلى الأمر بالبيع أو الدفن اللذين لا يخلوان عن وجه منع ، سيّما الثاني ، لاستلزامه إضاعة المال المحترم بمقتضى الفرض ، وإمكان الانتفاع به على الوجه المحلّل. ظاهر في تعيّنهما وعدم الحلّ بالخبز أصلاً.

__________________

(١) راجع ص ٤٠٨.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٤ ، النهاية : ٥٩٠.

(٣) التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٥ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٦ ، الوسائل ١ : ٢٤٢ أبواب الأسآر ب ١١ ح ١.

(٤) التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٦ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٧ ، الوسائل ١ : ٢٤٢ أبواب الأسآر ب ١١ ح ٢.

٤٢٩

فما يقال في القدح عليهما في الدلالة على المدعى : من أنّه ما لم يخبز بالنار نجس ، فحكمه في البيع ما تضمنّاه ، وهذا لا ينافي الرواية الآتية بتقدير الدلالة على الطهارة إذا خبز. كما ترى. ولذا إنّ الشيخ في الكتابين فهم كغيره التعارض بين الروايتين اللتين مضى ذكر أولاهما ، وأشار إلى الثانية منهما بقوله :

( وفيه رواية بالجواز ) أي جواز أكله ( بعد خبزه ؛ لأنّ النار قد طهّرته ) والمراد بالرواية الجنس ، لتعدّدها ، منها : المرسل كالصحيح بابن أبي عمير المتقدم : في عجين عجن وخبز ، ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة ، قال : « لا بأس ، أكلت النار ما فيه » (١).

ومنها : عن البئر يقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت ، فيعجن من مائها ، أيؤكل ذلك الخبز؟ قال : « إذا أصابته النار فلا بأس بأكله » (٢).

وفي سنده جهالة ، مع عدم مقاومتهما للروايتين المتقدّمتين ؛ لاعتبار سنديهما معاً ، واعتضادهما بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً. بخلاف هاتين ؛ لقصور سند إحداهما ، وشذوذ القائل بهما ، إذ لم أقف إلاّ على الشيخ في كتاب الاستبصار وبحث المياه من النهاية (٣). ورائه في الأوّل غير معلوم ؛ لاحتمال قصده بذلك مجرّد الجمع بين الأخبار‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٤ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٥ ، الوسائل ١ : ١٧٥ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٨.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٣ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٤ ، الوسائل ١ : ١٧٥ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٧.

(٣) الإستبصار ١ : ٢٩ ، النهاية : ٨.

٤٣٠

المختلفة ، ولذا ذكر جملة من الأجلّة أنّ فتاويه في الكتابين في الجمع بين النصوص المختلفة غير معلومة. وأمّا فتواه بذلك في النهاية وإن كانت صريحة إلاّ أنّه قد رجع عنها فيها في كتاب الأطعمة.

فما هذا شأنه كيف يعرض به الأخبار السابقة ، سيّما مع ما هما عليه من عدم الصراحة ، لاحتمالهما التقييد بصورة طهارة الماء ، إذ ليس فيهما ما يدلّ صريحاً على كونه نجساً ، فإنّ الميتة في الأُولى أعمّ من ذي النفس وغيره ممّا يكون طاهراً ، مع أنّ العلم بوقوعها فيه أعمّ من العلم بكون الوقوع قبل الاستعمال ، والشك فيه. وعليه يكون الماء طاهراً استصحاباً. والفأرة في الثانية وإن كانت ذات نفس سائلة ميتتها نجسة ، إلاّ أنّ نجاسة البئر بمجرّد ملاقاتها محلّ مناقشة ، بل الأقوى الطهارة كما مرّ في كتابها إليه الإشارة.

واحتمال السؤال التغيّر بها فيعمّ الجواب بترك الاستفصال له ، حَسَن وجارٍ مثله فيما تقدّمه ، إلاّ أنّه لا يوجب الصراحة التي هي المناط في تخصيص الأدلّة ، بل غايته الظهور ، فلا يمكن الخروج بهما عن الاستصحاب والخبرين اللذين تقدّما ، وإن اعتضد ظهورهما بما فيهما من العلّة وما في حكمها ، إذ لا يوجبان الصراحة جدّاً بعد احتمال كون المراد ممّا تأكله النار النفرة الحاصلة للنفس ، أو الموجبة للكراهة لا النجاسة ، سيّما مع الاتّفاق على أنّ النار إنّما تطهر بالإحالة لا بالتجفيف ونحوه.

ثمّ لو سلّم الصراحة فهما كما عرفت قاصرتان عن المقاومة لما مرّ من الأدلّة من وجوه عديدة ، ومنها الشذوذ والندرة فيهما دون السابقة. فلا شبهة في المسألة بحمد الله سبحانه.

الرابع : ( الطين. وهو ) بجميع أصنافه ( حرام ) إجماعاً فتوًى ونصّاً‌

٤٣١

مستفيضاً ، بل متواتراً.

منها : « أكل الطين حرام كلحم الخنزير ، ومن أكله ثمّ مات فيه لم أُصلّ عليه ، إلاّ طين القبر ، فإنّ فيه شفاء من كلّ داء ، ومن أكله بشهوة لم يكن فيه شفاء » (١).

وفي رواية : « وأماناً من كل خوف » (٢).

ويستفاد منه ومن غيره ممّا تضمّن الاستثناء المذكور فيه المشار إليه في كلام الأصحاب بقولهم : ( إلاّ طين قبر الحسين عليه‌السلام للاستشفاء ) أنّ المراد بالطين هنا ما يعمّ التراب الخالص ، والممزوج بالماء الذي هو معناه الحقيقي لغةً وعرفاً ، مضافاً إلى تعليل التحريم بالإضرار للبدن الوارد في بعض النصوص (٣) والفتاوي بناءً على حصول الضرر في الخالص أيضاً.

ومنه يظهر وجه ما اشتهر بين المتفقّهة من حرمة التراب والأرض كلّها حتّى الرمل والأحجار ، وضعف ما أُورد عليهم من أنّ المذكور في النصوص الطين الذي هو حقيقة في التراب الممزوج بالماء ، إلاّ أن يخصّ الإيراد بصورة القطع بعدم ضرر هذه الأشياء. فهو حسن إن صحّ ثبوتها ، مع أنّ الظاهر عدمها ، بل الظنّ حاصل بضررها مطلقاً ، فتأمّل جدّاً.

فكيف كان لا خلاف في صحّة الاستثناء. بل عليه وعلى حرمة الطين مطلقاً الإجماع في الغنية وغيرها (٤) ؛ وهو الحجّة ، مضافاً إلى النصوص‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٥ / ١ ، علل الشرائع : ٥٣٢ / ٢ ، كامل الزيارات : ٢٥٨ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٦ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٩ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٦ / ٩ ، التهذيب ٩ : ٨٩ / ٣٧٧ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٦ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٩ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢٤ : ٢٢٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ؛ وانظر التنقيح ٤ : ٥٠.

٤٣٢

المستفيضة ، بل المتواترة جدّاً.

منها : زيادة على ما مضى المرويّ في المصباح : أنّ رجلاً سأل الصادق عليه‌السلام ، فقال : إنّي سمعتك تقول : « إنّ تربة الحسين عليه‌السلام من الأدوية المفردة ، وأنّها لا تمرّ بداء إلاّ هضمته » فقال : « قد قلت ذلك ، فما بالك؟ » فقلت : إنّي تناولتها فما انتفعت بها ، قال : « أما إنّ لها دعاء ، فمن تناولها ولم يدع به واستعملها لم يكن ينتفع بها » فقال له : ما يقول إذا تناولها؟ قال : « تُقبّلها قبل كلّ شي‌ء وتضعها على عينيك ، ولا تناول منها أكثر من حمّصة ، فإنّ [ من ] تناول منها أكثر من ذلك فكأنّما أكل لحومنا ودماءنا ، فإذا تناولت فقل : اللهم .. » الدعاء (١).

ويستفاد منه أنّه يشترط في الاستشفاء بها أخذها بالدعاء المأثور فيه مع قراءة إنا أنزلناه وختمها بها.

ولكن إطلاقات باقي النصوص والفتاوي تقتضي الجواز مطلقاً ، ولم أقف على مشترط لذلك أصلاً. بل صرّح جماعة (٢) بأنّ ذلك لزيادة الفضل كالشرائط الأُخر المذكورة في محلّه.

وهو الأقوى ؛ لضعف الخبر ، وعدم قابليته لتقييد ما مرّ وإن كان مراعاتها أحوط ، اقتصاراً فيما خالف الأصل الدالّ على حرمة الطين مطلقاً على القدر المتيقّن من الإطلاقات.

ومن هنا يظهر عدم جواز أكلها لغير الاستشفاء ، مضافاً إلى التقييد به‌

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٦٧٧ ، الوسائل ٢٤ : ٢٢٩ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٥٩ ح ٧ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) منهم الشهيد الثاني في الروضة ٧ : ٣٢٦ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٥١ ، والفيض في مفاتيح الشرائع ٢ : ٢٢١.

٤٣٣

فيما دلّ على جواز أكله من النص والفتوى.

( و ) يستفاد من الرواية اشتراط أن ( لا يتجاوز قدر الحمّصة ) المعهودة المتوسطة ، وبه صرّح الماتن وجماعة (١). وعليه ينزّل إطلاق أكثر النصوص والفتاوي ، مع ظهورهما في أن استثناءها للضرورة ، فليقتصر فيها على قدر ما تندفع به ، وهو القدر المزبور فما دونه.

ثم إنّ مقتضى الأصل لزوم الاقتصار في الاستثناء المخالف له على المتيقن من ماهية التربة المقدّسة ، وهو ما أُخذ من قبره عليه‌السلام أو ما جاوره عرفاً ، ويحتمل إلى سبعين ذراعاً كما في الرواية (٢) فمشكل ، إلاّ أنّ يأخذ منه ويوضع على القبر أو الضريح فيقوى احتمال جوازه حينئذٍ ، نظراً إلى أنّ الاقتصار على المتيقّن أو ما قاربه يوجب عدم بقاء شي‌ء من أرض تلك البقعة المباركة ، لكثرة ما يؤخذ منها في جميع الأزمنة ، وستؤخذ إن شاء الله تعالى إلى يوم القيامة ، وظواهر النصوص بقاء تربته الشريفة بلا شبهة.

وبما ذكرنا صرّح جماعة ، كالفاضل المقداد في التنقيح (٣) ، وشيخنا في الروضة فقال : والمراد بطين القبر الشريف تربة ما جاوره من الأرض عرفاً ، وروى إلى أربعة فراسخ ، وروى ثمانية. وكلّما قرب منه كان أفضل ، وليس كذلك التربة المحترمة منها ، فإنّها مشروطة بأخذها من الضريح المقدّس أو خارجه كما مرّ مع وضعها عليه وأخذها بالدعاء. ولو وجد‌

__________________

(١) منهم : الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٤٤ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٥١ ، والفيض في مفاتيح الشرائع ٢ : ٢٢١.

(٢) الكافي ٤ : ٥٨٨ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٧٤ / ١٤٤ ، كامل الزيارات : ٢٧٩ ، الوسائل ١٤ : ٥١١ أبواب المزار ب ٦٧ ح ٣.

(٣) التنقيح ٤ : ٥١.

٤٣٤

تربة منسوبة إليه عليه‌السلام حكم باحترامها حملاً على المعهود (١).

وهل يجوز أكله لمجرّد التبرّك بها في عصر يوم عاشوراء ويومي عيد الفطر والأضحى؟ ظاهر الأكثر وصريح الحلّي في السرائر وغيره (٢) : لا.

خلافاً للشيخ في المصباح (٣) ، وحجّته غير واضحة سيّما في مقابلة إطلاقات الأدلّة المانعة. ولعلّه لذا رجع عنه في النهاية (٤) ، كما في السرائر وغيره.

واعلم أنّ ظاهر العبارة ككثير (٥) من حيث الاقتصار في الاستثناء على التربة الحسينية خاصّة : عدم استثناء غيرها مطلقاً.

خلافاً للشهيدين في الدروس واللمعتين (٦) ، فاستثنيا الطين الأرمنيّ أيضاً للمنفعة.

فإن أرادا بها المنفعة المسوِّغة لإباحة المحرّم عند الضرورة كما هو ظاهر الروضة فله وجه صحّة على القول بجواز مثله ، إلاّ أنّه لا وجه لتخصيصه بالاستثناء والذكر ، فإنّ كلّ محرّم كذلك على ذلك القول ، طيناً كان أو غيره.

وإن أرادا بها مطلق المنفعة وإن لم تكن في حال ضرورة فحجّتهما عليه غير واضحة ، عدا روايات وردت بذلك ، وهي بحسب السند قاصرة.

كالمرسل المرويّ في المصباح ومكارم الأخلاق : قال : سئل‌

__________________

(١) الروضة ٧ : ٣٢٧.

(٢) السرائر ٣ : ١٢٤ ؛ وانظر المسالك ٢ : ٢٤٤.

(٣) مصباح المتهجد : ٧١٣.

(٤) النهاية : ٥٩٠.

(٥) انظر النهاية : ٥٩٠ ، والتبصرة : ١٦٨ ، والمهذَّب ٢ : ٤٢٩.

(٦) الدروس ٣ : ١٤ ، اللمعة ( الروضة البهية ٧ ) : ٣٢٧.

٤٣٥

أبو عبد الله عليه‌السلام عن طين الأرمني يؤخذ للكسير والمبطون ، قال : « لا بأس به ، أما إنّه من طين قبر ذي القرنين. وطين قبر الحسين عليه‌السلام خير منه » (١).

والمرويّ مسنداً عن طبّ الأئمّة عليهم‌السلام عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنّ رجلاً شكا إليه الزحير (٢) ، فقال له : « خذ من الطين الأرمني وَاقْلِهِ بنارٍ ليّنة ، واستفّ (٣) منه ، فإنّه يسكن عنك » (٤).

وعنه عليه‌السلام أنّه قال في الزحير : « تأخذ جزءاً من خَربَق (٥) أبيض ، وجزءاً من بزر القطونا ، وجزءاً من صَمغ عربيّ ، وجزءاً من الطين الأرمني يُقلى بنارٍ ليّنة ، ويستفّ منه » (٦).

هذا مع ضعف دلالتها ، فالأوّل بعدم التصريح فيه بجواز الأخذ للأكل ، بل غايته الدلالة على جواز الأخذ الذي هو أعمّ من الأخذ للأكل ، المحتمل للأخذ للطلاء أو الضماد. والثاني باحتمال اختصاصه بحال الضرورة. وهذا جارٍ في الرواية السابقة أيضاً على تقدير تسليم الدلالة.

وبالجملة : فالخروج عن مقتضى إطلاقات الأدلّة المانعة فتوًى وروايةً بهذه الروايات سيّما مع ما هي عليه من وجوه الضعف مشكل غايته ، وإن احتمل دعوى عدم انصراف الإطلاق إلى مثل هذا الطين وما شاكله ممّا‌

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ١٦٧ ، مصباح المتهجد : ٦٧٦ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٠ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٦٠ ح ٣.

(٢) الزحير : تقطيع في البطن يُمشّي دَماً. لسان العرب ٤ : ٣٢٠.

(٣) استففت الدواء : إذا أخذته غير ملتوت. وكلّ دواء يؤخذ غير معجون فهو السَّفوف كرسول. مجمع البحرين ٥ : ٧١.

(٤) طب الأئمة : ٦٥ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٠ ح ١.

(٥) الخَرْبقَ : نبات يَجلو ويسخن وينفع الصرع والجنون .. ويسهل الفضول اللزجة. القاموس المحيط ٣ : ٢٢٥.

(٦) طب الأئمة : ٦٥ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٠ ح ٢.

٤٣٦

هو من الأفراد النادرة الغير المنساق إليها الذهن عند إطلاق اللفظ مجرّداً عن القرينة ، سيّما مع ما في بعض النصوص والفتاوي المتضمّنة لتلك الإطلاقات من التعليل بالضرر ، المفقود في هذا الطين في صورة الفرض.

الخامس : ( السموم القاتلة ) والأشياء الضارّة حرام كلّها بجميع أصنافها جامدة كانت أو مائعة ( قليلها وكثيرها. وما يقتل ) أو يضرّ ( كثيره ) من دون قليله كالأفيون والسقمونيا ، وشحم الحنظل وغيرها ( فالمحرّم منه ما بلغ ذلك الحدّ ).

هذا إذا أُخذ منفرداً ، أمّا لو أُضيف إلى غيره فقد لا يضرّ منه الكثير كما هو معروف عند الأطباء. وضابط المحرّم ما يحصل به الضرر على البدن وإفساد المزاج.

والأصل فيه بعد الإجماع حديث نفي الضرر والإضرار ، وما ورد في المنع عن الطين من التعليل بأنّ فيه إعانة على النفس في قتلها أو ضعفها (١) ، وهو جارٍ هنا أيضاً.

( القسم الخامس : في المائعات والمحرّم منها خمسة ) ‌

الأوّل : ( الخمر ) بالضرورة من الدين ، والكتاب والسنّة المتواترة ناطقان به.

( و ) يلحق به ( كلّ مسكر ) إجماعاً ؛ للنص النبوي : « كلّ مسكر خمر ، وكلّ خمر حرام » (٢) والصحاح به مع ذلك مستفيضة ، كغيرها من‌

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٢٢٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨.

(٢) عوالي اللئلئ ١ : ١٧٨ / ٢٢٨ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٦١ أبواب الأشربة المحرمة ب ١١ ح ١٥.

٤٣٧

المعتبرة.

ففي الصحيح وغيره : « إنّ الله تبارك وتعالى لم يحرّم الخمر لاسمها ، ولكن حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » (١) وبمعناهما غيرهما (٢).

وفي الصحيح (٣) : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخمر من خمسة : العصير من الكَرْم ، والنقيع من الزبيب ، والبِتْع من العسل ، والمِزْر من الشعير ، والنبيذ من التمر » (٤).

وفي المرسل كالصحيح : « الخمر من خمسة أشياء : من التمر ، والزبيب ، والحنطة ، والشعير ، والعسل » (٥).

ولا خلاف في أنّ المعتبر في التحريم إسكار كثيره ، فيحرم قليله ولو كان مستهلكاً كما في الأخبار ؛ حسماً لمادّة الفساد ، وللنصوص المستفيضة بل المتواترة.

وفيها الصحيح وغيره : « ما أسكر كثيره فقليله حرام » (٦).

وزيد في بعض الصحاح منها قلت : فقليل الحرام يحلّه كثير الماء‌

__________________

(١) الصحيح في : الكافي ٦ : ٤١٢ / ٢ ، التهذيب ٩ : ١١٢ / ٤٨٦ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٢ أبواب الأشربة المحرمة ب ١٩ ح ١. وغيره في : الكافي ٦ : ٤١٢ / ١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٩ ح ٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٢ / ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٩ ح ٣.

(٣) في « ر » زيادة : وما يقرب منه بصفوان بن يحيى : الكافي ٦ : ٣٩٢ / ٣ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٠ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١ ح ٣.

(٤) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ١ ، الوسائل ٢٥ : ٢٧٩ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١ ح ١.

(٥) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٧٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١ ح ٢.

(٦) انظر الوسائل ٢٥ : ٣٣٦ أبواب الأشربة المحرمة ب ١٧.

٤٣٨

فردّ عليه بكفّه مرّتين لا ، لا (١).

وفي الخبر : ما تقول في قدح من المسكر يغلب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ فقال : « لا والله ، ولا قطرة تقطر منه في حُبّ إلاّ أُهريق ذلك الحُبّ » (٢).

ويلحق بالمسكر الفقّاع قليله وكثيره مطلقاً وإن لم يكن مسكراً ، بلا خلاف بين الأصحاب ، بل عليه الإجماع في كثير من العبارات كالغنية والسرائر والتحرير ، والدروس والمسالك وغيرها (٣) من كتب الجماعة ؛ وهو الحجّة ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة من غير تقييد بالاسكار.

وفيها : « إنّه خمر مجهول » (٤) و « إنّه الخمر بعينها » (٥) و « إنّ حدّه حدّ شارب الخمر » (٦).

وفي بعض : « كلّ مسكر حرام وكلّ مخمّر [ حرام (٧) ] والفقّاع حرام » (٨).

وربّما يظهر منه عموم التحريم لصورة عدم الإسكار كما ذكروه ،

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٠٨ / ٤ ، التهذيب ٩ : ١١١ / ٤٨١ ، الوسائل ٢٥ : ٣٣٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٧ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٤١ / ١٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٥٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٦ ح ٢.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨ ، السرائر ٣ : ١٢٨ ، التحرير ٢ : ١٦١ ، الدروس ٣ : ١٦ ، المسالك ٢ : ٢٤٤ ؛ وانظر المفاتيح ٢ : ٢١٩.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٧ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٧ ح ٨.

(٥) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٤ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤٢ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٧ ح ٧.

(٦) الكافي ٦ : ٤٢٤ / ١٥ ، التهذيب ٩ : ١٢٤ / ٥٣٤ ، الإستبصار ٤ : ٩٥ / ٣٧٠ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦٠ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٧ ح ٢.

(٧) أثبتناه من المصادر.

(٨) الكافي ٦ : ٤٢٤ / ١٤ ، التهذيب ٩ : ١٢٤ / ٥٣٦ ، الإستبصار ٤ : ٩٥ / ٣٦٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦٠ أبواب الأشربة ب ٢٧ ح ٣.

٤٣٩

فتدبّر.

ومقتضى الأُصول دوران الحكم بالتحريم مدار تسميته في العرف فقاعاً فيحرم معها مطلقاً ، إلاّ أنّه ذكر جماعة ومنهم الشهيدان (١) أنّه إنّما يحرم مع الغليان.

ولعلّه لظاهر الصحيح : كان يعمل لأبي الحسن عليه‌السلام الفقّاع في منزله.

قال محمّد بن يحيى : قال أبو أحمد يعني ابن أبي عمير ـ : ولا يُعمل فقاع يَغلي (٢).

وفسّر الغليان بالنشيش الموجب للانقلاب.

وفي الصحيح : عن شراب الفقّاع الذي يعمل في السوق ويباع ، ولا أدري كيف عمل ولا متى عمل ، أيحلّ شربه؟ قال « لا أُحبّه » (٣) وفيه إشعار بكراهة المجهول الحال.

قيل : ونزّلها الأصحاب على التحريم (٤). ولا ريب فيه مع إطلاق الاسم عليه حقيقةً عرفاً ، وأمّا مع عدمه ففيه إشكال وإن كان الترك أحوط.

( و ) يحرم ( العصير ) وهو المعتصر من ماء العنب خاصّة في ظاهر الأصحاب ( إذا غَلى ) بأنّ صار أسفله أعلى قبل أن يذهب ثلثاه ، بلا خلاف (٥). بل عليه الإجماع ظاهراً ، وحكي في التنقيح وغيره‌

__________________

(١) الشهيد الأوّل في الدروس ٣ : ١٦ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٤٤ ، الفيض الكاشاني في المفاتيح ٢ : ٢١٩.

(٢) التهذيب ٩ : ١٢٦ / ٥٤٥ ، الوسائل ٢٥ : ٣٨١ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣٩ ح ١.

(٣) التهذيب ٩ : ١٢٦ / ٥٤٧ ، الإستبصار ٤ : ٩٧ / ٣٧٦ ، الوسائل ٢٥ : ٣٨٢ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣٩ ح ٣.

(٤) قاله الفيض الكاشاني في المفاتيح ٢ : ٢١٩.

(٥) في « ر » زيادة : كما في المسالك ٢ : ٢٤٤.

٤٤٠