رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-275-X
الصفحات: ٥٠٣

المقام الثاني

في‌ ( الذبائح )

والكلام فيه ( يستدعي بيان فصول ) ثلاثة.

( الأوّل ) في بيان ( الذابح ).

( ويشترط فيه الإسلام أو حكمه ) كالمتولّد منه بشرط التمييز ( ولو كان أُنثى ) لعدم الخلاف في عدم اشتراط البلوغ والذكورة في المذكّي ، كما لا خلاف في عدم اشتراط الفحولة ولا الطهارة ولا البصر ولا كمال العقل فيه ، بل التمييز خاصّة بعد الشرائط الأُخر المعتبرة ؛ للأصل والصحاح وغيرها.

وفي الصحيح : « إذا كانت المرأة مسلمة ، وذكرت اسم الله عزّ وجلّ على ذبيحتها حلّت ذبيحتها ، وكذلك الغلام إذا قوي على الذبيحة ، وذكر اسم الله عزّ وجلّ عليها ، وذلك إذا خيف على الذبيحة ولم يوجد من يذبح غيرهما » (١).

ونحوه في اشتراط الاضطرار ، المرسل : « لا بأس بذبيحة الخصيّ والصبيّ والمرأة إذا اضطرّوا إليه » (٢).

وهما بظاهرهما غير معمول عليهما ، مع أنّ البأس المفهوم من الأخير مع عدم الشرط أعمّ من الحرمة ، فليحمل على الكراهة ، جمعاً بينهما وبين باقي الصحاح المطلقة الوارد أكثرها في مقام الحاجة.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٣٧ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٢١٢ / ٩٨٣ ، التهذيب ٩ : ٧٣ / ٣٠٨ ، الوسائل ٢٤ : ٤٥ أبواب الذبائح ب ٢٣ ح ٧.

(٢) الكافي ٦ : ٢٣٨ / ٤ ، الوسائل ٢٤ : ٤٦ أبواب الذبائح ب ٢٣ ح ١٠.

٣٠١

منها : عن ذبيحة الخصيّ ، فقال : « لا بأس » (١).

ومنها : عن ذبيحة الصبيّ ، فقال : « إذا تحرّك ، وكان له خمسة أشبار وأطاق الشفرة » وعن ذبيحة المرأة ، فقال : « إذا كنّ نساء ليس معهنّ رجل فلتذبح أعقلهنّ ، ولتذكر اسم الله عزّ وجلّ عليها » (٢).

وليس في اشتراط البلوغ خمسة أشبار فيه وفي رواية أُخرى (٣) ، كاشتراط فقد الرجل ، مخالفةٌ للمجمع عليه ؛ إذ الظاهر من الشرط الأوّل وهو البلوغ خمسة أشبار الإشارة إلى اشتراط التمييز المتحقّق بذلك غالباً لا أنّه يكون شرطاً زائداً عليه ، وورود الشرط الأخير مورد الغالب ، لأنّ الغالب عدم ذبح المرأة مع وجود الرجل : مع أنّ اشتراط عدمه أعمّ من الاضطرار المشترط في الروايات السابقة.

ويتفرّع على اشتراط الإسلام أو حكمه حرمة ذبائح أصناف الكفّار ، سواء في ذلك الوثني ، وعابد النار ، والمرتدّ ، وكافر المسلمين كالغلاة وغيرهم ، والكتابي.

ولا خلاف فيمن عدا الكتابي ، بل في المسالك وغيره (٤) : أنّ عليه إجماع المسلمين ؛ وهو الحجّة بعد أصالة الحرمة المتقدّم في بحث الصيد إليها الإشارة ؛ مضافاً إلى فحاوي النصوص الآتية ، وخصوص الصحيحين (٥)

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٣٨ / ٦ ، الوسائل ٢٤ : ٤٧ أبواب الذبائح ب ٢٤ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٢٣٧ / ١ ، الفقيه ٣ : ٢١٢ / ٩٨١ ، التهذيب ٩ : ٧٣ / ٣١٠ ، الوسائل ٢٤ : ٤٢ أبواب الذبائح ب ٢٢ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ٢٣٨ / ٨ ، الوسائل ٢٤ : ٤٢ أبواب الذبائح ب ٢٢ ح ٣.

(٤) المسالك ٢ : ٢٢٣ ، الكفاية : ٢٤٦.

(٥) أحدهما في : التهذيب ٩ : ٦٤ / ٢٧١ ، الإستبصار ٤ : ٨١ / ٣٠٤ ، الوسائل ٢٤ : ٥٨ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ١٩.

والآخر في : التهذيب ٩ : ٦٦ / ٢٧٩ ، الإستبصار ٤ : ٨٣ / ٣١٢ ، الوسائل ٢٤ : ٥٩ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٢٣.

٣٠٢

وغيرهما (١) الناهية عن ذبائح نصارى العرب معلّلاً في الأخير بأنّهم مشركو العرب ، وفي أحد الأوّلين بأنّهم ليسوا من أهل الكتاب.

وهذه الأدلّة مع اعتضاد بعضها ببعض سليمة عمّا يصلح للمعارضة بالكلية حتّى إطلاق الكتاب والسنّة بحلّ أكل ما ذكر عليه اسم الله سبحانه ، بناءً على أنّ المتبادر من الذكر عند الإطلاق : الذكر الصادر عن المسلم المعترف بحقيقته والراجي للمثوبة به عنده لا ذكر العابث به أو المستهزئ ونحوه أو القاصد به غيره فليحمل عليه ، لكونه نكرةً في سياق الإثبات لا تفيد العموم لغةً.

( و ) أمّا ( في الكتابي ) فقد اختلف الأصحاب على ثلاثة أقوال ؛ لاختلاف الروايات الواردة فيه عن أهل العصمة سلام الله عليهم. ولكن ( روايتان ) منها مشهورتان ، بمعنى عدم ندرة القائل بهما كندرته في الثالثة ، وإلاّ فـ ( أشهرهما ) روايةً وفتوى ما دلّ على ( المنع ) مطلقاً. ونسبه في المسالك إلى جملة المتأخّرين ، بل قال : كاد أن يعدّ من المذهب (٢). وفي الخلاف والانتصار جعلاه من متفرّدات الإماميّة مدّعيين الإجماع عليه (٣) ، وهي مع ذلك مستفيضة بل كادت تكون متواترةً.

وهي ما بين مصرّحة بالمنع ولو مع سماع التسمية ، كالخبر المنجبر ضعفه وضعف ما يأتي بما مرّ من الأصل وعمل الأكثر : عن ذبيحة الذميّ ، قال : « لا تأكله إن سمّى وإن لم يسمّ » (٤).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٦٥ / ٢٧٥ ، الإستبصار ٤ : ٨٢ / ٣٠٨ ، الوسائل ٢٤ : ٥٨ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٢٢.

(٢) المسالك ٢ : ٢٢٣ ، ٢٢٥.

(٣) الخلاف ٦ : ٢٤ ، الانتصار : ١٨٨.

(٤) الكافي ٦ : ٢٣٨ / ١ ، التهذيب ٩ : ٦٥ / ٢٧٦ ، الإستبصار ٤ : ٨٢ / ٣٠٩ ، الوسائل ٢٤ : ٥٤ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٥.

٣٠٣

ومطلقة وهي ما عداه :

منها الصحيح : عن ذبائح أهل الكتاب ، فقال عليه‌السلام : « قد سمعتم ما قال الله عزّ وجلّ في كتابه » فقالوا له : نحبّ أن تخبرنا ، فقال : « لا تأكلوها » (١).

ومنها الصحيح : « لا تدخل ثمنها مالك ، ولا تأكلها ، وإنّما هو الاسم ، ولا يؤمن عليه إلاّ مسلم ، فقال له الرجل : [ قال الله تعالى : ( الْيَوْمَ ] أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) فقال : كان أبي يقول : إنّما هي الحبوب وأشباهها » (٢).

وهو ظاهر في التحريم ؛ لكون النهي حقيقة فيه ، مضافاً إلى شهادة السياق به من حيث فهم الراوي إيّاه ، ولذا عارضه بالآية المتضمنة للحلّية الغير المنافية للكراهة ، مع تقرير المعصوم له على فهمه وجوابه له بما أجابه.

ولا ينافي ما ذكرناه إضافة الثمن إليها بناءً على أنّه لا يعوّض به الميتة في الشريعة ؛ لصدق الإضافة بأدنى ملابسة ، وهو هنا مجرّد المعاوضة وإن كانت فاسدة ، وورودها كذلك في الفتاوي والمعتبرة غير عزيز.

فجعل المسالك (٣) الرواية دالة على الإباحة بذلك غريب وأيّ غريب؟. فإنّ ما ذكرناه من القرينة صريحة في الحرمة ، فيترجّح على الإضافة التي هي حقيقة فيما ذكرناه ؛ لأنّ غايتها على تقدير التسليم ـ

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٦٦ / ٢٨٢ ، الإستبصار ٤ : ٨٣ / ٣١٤ ، الوسائل ٢٤ : ٥٩ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٢٥.

(٢) الكافي ٦ : ٢٤٠ / ١٠ ، التهذيب ٩ : ٦٤ / ٢٧٠ ، الوسائل ٢٤ : ٤٨ أبواب الذبائح ب ٢٦ ح ١ وما بين المعقوفين من المصادر. والآية في سورة المائدة : ٥.

(٣) المسالك ٢ : ٢٢٥.

٣٠٤

الظهور المرجوع إلى الصريح ، وعلى تقدير التنزّل عن الصراحة فالظهور لا أقلّ منه ، وغايته تعارض الظاهرين ، فترجيح الظاهر الذي ذكره على ما قابلة غير واضح.

وكذا جعله الصحيح الدالّ على النهي عن أكل ذبائح نصارى العرب دليلاً على الحلّ فيمن عداهم نظراً منه إلى أنّ عموم التحريم ينفي فائدة التخصيص بهم غريب ؛ لابتنائه على حجيّة مفهوم اللقب ولا يقول به.

وبه يظهر الجواب عن جعله الصحيح الآخر الدالّ على النهي عن ذبح اليهودي والنصراني الأُضحية دليلاً على الحلّية أيضاً ، بناءً منه على أنّ مفهومه أنّ غيرها ليس كذلك ، قال : والمفهوم وإن لم يكن حجةً إلاّ أنّ التخصيص بالأُضحية لا نكتة فيه لو كانت ذبائحهم محرّمة مطلقاً.

وهو كما ترى ؛ فإنّ عدم درك النكتة لا يدلّ على عدمها ، أو كونها اختصاص الحرمة بالأُضحية ، مع أنّ الأخير لو تمّ لكان المفهوم حجّة مع أنّه أنكره ، ومعارضاً بمفهوم التخصيص باليهودي والنصراني ، مع أنّ النهي غير مختصّ بهما كما في الصحيح : « إنّ الأُضحيّة لا يتولّى ذبحها إلاّ مالكها » (١) وهو مقرّر في بابها ، واعترف هو به هنا ، فما وجه تخصيص النهي عن الذبح بهما؟ فما هو الجواب عن هذا فهو الجواب عمّا مضى.

ومنها الموثّقان : عن ذبيحة اليهودي والنصراني ، فقال : « لا تقربوها » (٢).

__________________

(١) لم نعثر على النصّ المذكور ، وقد ورد مؤدّاه في الوسائل ٢٤ : ٥٨ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٢٠.

(٢) الأوّل في : الكافي ٦ : ٢٣٩ / ٥ ، التهذيب ٩ : ٦٣ / ٢٦٦ ، الإستبصار ٤ : ٨١ / ٢٩٩ ، الوسائل ٢٤ : ٥٥ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٩.

الثاني في : التهذيب ٩ : ٦٧ / ٢٨٥ ، الإستبصار ٤ : ٨٤ / ٣١٧ ، الوسائل ٢٤ : ٦١ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣٠.

٣٠٥

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة المتضمّن جملة منها كالصحيحة الثانية تعليل الحرمة بأنّه الاسم ولا يؤمن عليه إلاّ المسلم ، وهو وإن أوهم في بادئ النظر اختصاص الحكم بالحرمة بصورة عدم سماع التسمية ، بناءً على أنّ عدم الأمن من التسمية إنّما هو من حيث خوف تركها لا عدم القصد إلى مدلولها ، لكن التعليل به على الإطلاق ، بل العموم في جملة منها المستفاد من ترك الاستفصال ، ظاهر في عدم الاختصاص ، وأنّ المراد من عدم الأمن إنّما هو من حيث عدم القصد إلى المدلول.

ويعضده الخبر الأوّل الصريح في المنع مع التسمية أيضاً ؛ إذ لو أُريد به عدمه من الحيثيّة التي ذكرت أوّلاً لكان الحكم بالتحريم فيه في هذه الصورة لا وجه له أصلاً مع إشعار التعليل بمقتضى ذلك بعدمه ، فتأمّل جدّاً.

وأمّا قصور الأسانيد أو ضعفها فقد مرّ الجواب عنهما.

وأمّا الرواية الثانية الدالّة على الحلّ مطلقاً فنصوص مستفيضة ، وهي كالاوّلة ما بين مطلقة للحلّ ، كالصحيح : عن ذبيحة أهل الكتاب ونسائهم ، فقال : « لا بأس به » (١) ونحوه الخبر (٢).

ومصرّحة به مع العلم بعدم التسمية كالخبرين : عن ذبيحة اليهودي ، فقال : « حلال » قلت : فإن سمّى المسيح؟ قال : « وإن سمّى المسيح فإنّه إنّما أراد به الله تعالى » (٣).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٦٨ / ٢٩٠ ، الإستبصار ٤ : ٨٥ / ٣٢٢ ، الوسائل ٢٤ : ٦٢ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣٤.

(٢) التهذيب ٩ : ٧٠ / ٢٩٧ ، الإستبصار ٤ : ٨٦ / ٣٢٩ ، الوسائل ٢٤ : ٦٤ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٤١.

(٣) الأول في : الفقيه ٣ : ٢١٠ / ٩٧٢ ، التهذيب ٩ : ٦٨ / ٢٩١ ، الإستبصار ٤ : ٨٥ / ٣٢٣ ، الوسائل ٢٤ : ٦٢ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣٥. الثاني في : التهذيب ٩ : ٦٩ / ٢٩٢ ، الإستبصار ٤ : ٨٥ / ٣٢٤ ، الوسائل ٢٤ : ٦٢ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣٦.

٣٠٦

وهي مع قصور أسانيد أكثرها ، وعدم جابر لها من شهرة أو غيرها إذ لم يحك القول بها إلاّ عن شذوذ منّا كالإسكافي والعماني (١) ضعيفة التكافؤ لما قدّمنا من وجوه شتّى ، معارضة بالكتاب والسنّة المشترطين في الحلّ مطلقاً ذكر اسم الله تعالى ، وبما سيأتي من المعتبرة المستفيضة الصريحة في النهي عن ذبيحتهم مع عدم سماع التسمية.

ومع ذلك موافقة للعامّة ، كما صرح به الشيخ في كتابي الأخبار والخلاف وجماعة (٢) ، وربّما يجعل مصير الإسكافي إليها على ذلك قرينة.

فلا ريب في ضعف هذا القول وإن أُيّد (٣) بآية ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (٤) بناءً على أنّ الطعام إمّا ما يطعم مطلقاً فيشمل ما نحن فيه ، أو الذبائح خاصّة كما فسّره بعضهم (٥) فهو نصّ فيه ؛ لما ظهر لك من الجواب عنه في الصحيح الثاني (٦) ، ونحوه غيره (٧) ، وحاصله : حمل الطعام فيها على الحبوب.

وأمّا قول بعض الأصحاب (٨) في الجواب عنه بأنّ حمله على الحبوب كما ورد في الأخبار بعيد مع أنّ حلّها غير مختصّ بهم ، بل شامل لجميع‌

__________________

(١) حكاه عنهما في المختلف : ٦٧٩.

(٢) الاستبصار ٤ : ٨٧ ، التهذيب ٩ : ٧٠ ، الخلاف ٦ : ٢٤ ، وانظر المختلف : ٦٨٠ ، والكفاية : ٢٤٦ ، ومفاتيح الشرائع ٢ : ١٩٦.

(٣) كما في المسالك ٢ : ٢٢٤ ، ومفاتيح الشرائع ٢ : ١٩٦.

(٤) المائدة : ٥.

(٥) انظر مجمع البيان ٢ : ١٦٢.

(٦) المتقدم في ص ٣٠٢.

(٧) الكافي ٦ : ٢٤١ / ١٧ ، الوسائل ٢٤ : ٥٠ أبواب الذبائح ب ٢٦ ح ٦.

(٨) المسالك ٢ : ٢٢٤.

٣٠٧

أصناف الكفّار ، فغريب وأيّ غريب بعد الاعتراف بالورود في الأخبار التي منها الصحيح الصريح ، وإن هو إلاّ اجتهاد صرف في مقابلته غير مسموع لا يمكن المصير إليه ، بل ولا الإصغاء إليه.

مع أنّه على تقدير سلامتها عن الجواب المزبور معارضةٌ بعمومات ما دلّ على حرمة ما لم يذكر عليه اسم الله سبحانه من الكتاب والسنّة. والرجحان لهذه ؛ لوجوه كثيرة منها : أصالة الحرمة وعدم معلومية التذكية الشرعية.

( وفي رواية ثالثة ) حكي القول بها عن الصدوق (١) أنّه ( إذا سمعت تسميته فكل ) وهي أيضاً مستفيضة.

منها الصحيح : في ذبائح أهل الكتاب : « فاذا شهدتموهم وقد سمّوا اسم الله تعالى فكلوا ذبائحهم ، وإن لم تشهدهم فلا تأكله ، وإن أتاك رجل مسلم فأخبرك أنّهم سمّوا فكل » (٢).

والحسن : في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني : « لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله تعالى » قلت : المجوسي؟ فقال : « نعم إذا سمعته يذكر اسم الله تعالى » (٣).

والخبر : « إذا سمعتم يسمّون أو يشهدك من رآهم يسمّون فكل ، فإن لم تسمعهم ولم يشهد عندك من رآهم فلا تأكل ذبيحتهم » (٤).

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٦٧٩ ، والتنقيح ٤ : ١٧ ، وهو في المقنع : ١٤٠.

(٢) التهذيب ٩ : ٦٩ / ٢٩٤ ، الإستبصار ٤ : ٨٦ / ٣٢٦ ، الوسائل ٢٤ : ٦٣ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣٨.

(٣) التهذيب ٩ : ٦٨ / ٢٨٧ ، الإستبصار ٤ : ٨٤ / ٣١٩ ، الوسائل ٢٤ : ٦١ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣١.

(٤) التهذيب ٩ : ٦٩ / ٢٩٥ ، الإستبصار ٤ : ٨٦ / ٣٢٧ ، الوسائل ٢٤ : ٦٣ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣٩.

٣٠٨

ويرد عليها أكثر ما ورد على سابقها من قصور سند أكثرها ، وضعف جميعها عن المقاومة لما قدّمناه من وجوه شتّى ، أعظمها اعتضاده بالشهرة العظيمة التي كادت تكون بالإجماع ملحقة ، دون هذه الرواية ؛ لندرة القائل بها ، إذ لم يحك القول بها إلاّ عمّن ذكرناه خاصّة. ومخالفته العامة ، دونها ، لموافقتها لهم كما ادّعاه شيخ الطائفة وجماعة ، ولكن أنكرها في المسالك قال : لأنّ أحداً منهم لا يشترط في حلّ ذبائحهم أن يسمعهم يذكرون اسم الله تعالى عليها (١).

ولو صحّ ما ذكره ولم تكن أدلّة الحرمة بالشهرة المزبورة معتضدة لكان المصير إلى هذه الرواية في غاية القوة ؛ لوضوح الجمع بها بين الروايتين الأوليين الدالّتين على التحريم والحلّية ، بحمل الاولى على عدم سماع التسمية ، والثانية على السماع. وتجعل هذه قرينة على أنّ المراد بالتعليل المتقدّم إليه الإشارة في أخبار الحرمة بأنّها اسم ولا يؤمن عليه إلاّ مسلم : المعنى المستفاد منه في بادئ النظر ، وهو كون عدم الأمن من حيث خوف الترك لا خوف عدم القصد إلى ما دلّ.

نعم ، لا يمكن الجمع بها بين صريحهما ، لكنّه غير محتاج إليه أصلاً ، لضعف سندهما طرّاً ، وموافقة الثانية منهما للتقيّة جدّاً. فالتعارض الموجب للتردّد حقيقةً إنّما هو ما وقع بين المعتبرة من أخباريهما ، وهو يرتفع بهذه الرواية المفصلّة جدّاً ، فلا إشكال في المصير إليها لولا رجحان رواية الحرمة مطلقها وصريحها بالشهرة ، لكن بعده سيّما مع ندرة القائل بهذه الرواية لا مسرح عن العمل بتلك الرواية ولا مندوحة ، مع أنّ من روايات الحلّية ما لا يقبل الحمل على هذه المفصّلة مع أنّها صحيحة : عن ذبائح اليهود‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٢٥.

٣٠٩

والنصارى والمجوس ، فقال : « كل » فقال بعضهم : إنّهم لا يسمّون ، فقال : « فإن حضرتموهم فلم يسمّوا فلا تأكلوا » وقال : « إذا غاب فكل » (١).

لكن يمكن الذبّ عنها بالحمل على التقيّة ، مع ندرة القائل بها منّا من حيث التسوية فيها بين الفرق الثلاث ، مع أنّ العماني الذي هو أحد القائلين بالحلّية يفرق بينها فيحكم في ذبيحة المجوسي بالحرمة مطلقاً (٢) ، فانحصر القائل بها في الإسكافي خاصّة (٣).

( والأفضل أن يليه ) أي الذبح ( المؤمن ) للصحيح : « إنّي أنهاك عن ذبيحة كلّ من كان على خلاف الدين الذي أنت عليه وأصحابك إلاّ عند الضرورة » (٤).

وظاهر النهي وإن أفاد الحرمة إلاّ أنّه محمول عند الأكثر ، بل عامّة من تأخّر على الكراهة ؛ التفاتاً إلى إشعار السياق بها ، من حيث تخصيص الراوي بالخطاب بالنهي ، جمعاً بينه وبين الصحيح الآخر : « ذبيحة من دان بكلمة الإسلام وصام وصلّى لكم حلال إذا ذكر اسم الله تعالى » (٥).

والجمع بينهما بتخصيص هذا بالمؤمن غير ممكن ؛ لخروج الأكثر ، مع اعتضاد الجمع الأوّل بعمل الأكثر ، وعموم ( وَما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) (٦).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٦٨ / ٢٨٩ ، الإستبصار ٤ : ٨٥ / ٣٢١ ، الوسائل ٢٤ : ٦٢ أبواب الذبائح ب ٢٧ ح ٣٣.

(٢) كما نقله عنه في المختلف : ٦٧٩.

(٣) على ما حكاه عنه في المختلف : ٦٧٩.

(٤) التهذيب ٩ : ٧٠ / ٢٩٨ ، الإستبصار ٤ : ٨٦ / ٣٣٠ ، الوسائل ٢٤ : ٦٧ أبواب الذبائح ب ٢٨ ح ٥.

(٥) التهذيب ٩ : ٧١ / ٣٠٠ ، الإستبصار ٤ : ٨٨ / ٣٣٦ ، الوسائل ٢٤ : ٦٦ أبواب الذبائح ب ٢٨ ح ١.

(٦) الأنعام : ١١٩.

٣١٠

مضافاً إلى ما مرّ من المعتبرة المعلّلة للنهي عن أكل ذبائح أهل الذمة بأنّها اسم ولا يؤمن عليها إلاّ المسلم ؛ لظهورها في حصول الأمانة في التسمية إذا كانت الذبيحة من مسلم ، وهو مطلقاً أو فيها بقرينة المقابلة لأهل الذمة أعمّ من المؤمن بلا شبهة ، ومع ذلك دالّة بمفهوم الحصر على عدم اعتبار شي‌ء آخر في التذكية غير التسمية ، وهي في المفروض حاصلة.

وما دلّ على حلّ ما يشتري من اللحوم والجلود من أسواق المسلمين ، وهو عامّ أيضاً لغير المؤمن ، بل ظاهر فيه ؛ لأنّه الأغلب في زمان صدور هذه النصوص ، بل مطلقاً.

فقول القاضي والحلبي (١) بالمنع عن ذبيحة غير المؤمن مطلقاً كما عن الأوّل ، أو إذا كان جاحداً للنص كما عن الثاني ، ضعيف جدّاً ، إلاّ أن يقولا بكفر من منعا عن ذبيحته وعدم كونه مسلماً حقيقةً ، وهو أضعف من منعهما عنها على التقدير الأوّل جدّاً. ويشير إليه المعاضد الأخير بمعونة ما بعده من التعليل ؛ لظهوره في غير المؤمن.

ومنه يظهر ضعف قول الفاضل أيضاً بالمنع عن ذبيحة من لا يعتقد وجوب التسمية (٢) كما سيظهر ، مع أنه لا وجه لاشتراط اعتقاد الوجوب بعد إطلاق الكتاب والسنّة بحلّ ما ذكر عليه اسم الله سبحانه ، لكنّه مع ذلك له وجه إن خصّص المنع بما إذا لم يعلم منه التسمية ، وهو أنّ يقال : إنّ مقتضى النصوص المتقدّمة المعلِّلة للنهي عن ذبائح أهل الذمّة بأنّها اسم ولا يؤمن عليها إلاّ مسلم ، اعتبار حصول الأمّ بتحقّق التسمية في حلّ الذبيحة ، وهو لا يحصل في ذبيحة من لا يعتقد وجوبها حيث لا يحصل العلم بتسميته عليه ؛ لاحتمال تركه لها بمقتضى مذهبه. وهذا لا ينافي‌

__________________

(١) القاضي في المهذّب ٢ : ٤٣٩ ، الحلبي في الكافي : ٢٧٧.

(٢) انظر المختلف : ٦٧٩.

٣١١

مقتضاها بحصول الأمن بتحققها في المسلم ؛ لأنّ المراد من المسلم فيها من يعتقد الوجوب لا مطلقاً للتبادر والغلبة جدّاً ، فإنّ أكثر أهل الإسلام يعتقدونه قطعاً.

وبهذا يجاب عن التمسك لضعف هذا القول بالمعاضد المزبور الدالّ على أصالة الحلّ في اللحوم المشتراة من أسواق المسلمين ، بناءً على استلزام صحّته لزوم الاجتناب عنها من باب المقدّمة ؛ لاحتمال كونها ذبائح من لا يعتقد الوجوب فتركها ، وهو مناف للمعاضد المزبور جدّاً. وذلك لاحتمال كون أكثرية معتقدي الوجوب منهم موجبة للأصالة المزبورة ، ونحن نقول بموجبها حيث لا تؤخذ الذبيحة من يد من يعلم أنّه لا يعتقد وجوب التسمية ، وأمّا إذا أُخذت من يده فلا نقول به ، وإطلاق الحكم بحلّ ما يؤخذ من السوق منصرف بحكم التبادر والغلبة إلى غير هذه الصورة ، وهو ما إذا أُخذ من يد من لا يعلم حاله في اعتقاد وجوب التسمية وعدمه.

وهذا الوجه في غاية من المتانة والقوّة ، ولم أقف على من تفطّن له وذكره ، فالاحتياط عنه لازم البتّة.

واعلم : أنّ سياق العبارة لمّا دلّ على إباحة ذبيحة مطلق المسلم ولا يقول به الماتن وغيره ؛ لتحريمهم ذبيحة الناصب استدرك ذلك بقوله :

( نعم لا تحلّ ذبيحة المعادي لأهل البيت عليهم‌السلام ) المعبّر عنه بالناصب بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في المهذّب (١) ؛ وهو الحجّة.

مضافاً إلى المعتبرة ، منها : الموثّقان القريبان من الصحيح بحمّاد بن عيسى ونضر بن سويد ، في أحدهما : « لم تحلّ ذبائح الحروريّة » (٢) وهم من‌

__________________

(١) المهذّب ٤ : ١٦٣.

(٢) التهذيب ٩ : ٧١ / ٣٠٢ ، الإستبصار ٤ : ٨٧ / ٣٣٣ ، الوسائل ٢٤ : ٦٧ أبواب الذبائح ب ٢٨ ح ٣.

٣١٢

جملة النصّاب ؛ لنصبهم العداوة لعلي عليه‌السلام كغيرهم من فرق الخوارج.

وفي الثاني : « ذبيحة الناصب لا تحلّ » (١).

ونحوهما خبر آخر في مشتري اللحم من النصّاب : « ما يأكل إلاّ [ مثل ] الميتة والدم ولحم الخنزير » الحديث (٢).

وأمّا الحسن : « لا تأكل ذبيحة الناصب إلاّ أن تسمعه يسمّي » (٣) فلعلّه محمول على التقيّة كما يشعر به الصحيح : عن ذبيحة المرجئ والحروريّ؟ فقال : « كل وقرّ واستقرّ حتى يكون ما يكون » (٤).

( الثاني :) في بيان ( الآلة ) التي بها يذكّي الذبيحة.

( و ) اعلم أنه ( لا تصحّ ) التذكية ( إلاّ بالحديد مع القدرة ) عليه ، فلا يجزئ غيره وإن كان من المعادن المنطبعة كالنحاس والرصاص والذهب والفضة وغيرها بلا خلاف بيننا ، بل في ظاهر المسالك وغيره (٥) أنّ عليه إجماعنا ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى أصالة الحرمة ، مع اختصاص الإطلاقات كتاباً وسنّةً بحكم التبادر والغلبة بالحديدة ، مع أنها واردة لبيان أحكام أُخر غير حكم الآلة ، هذا.

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧١ / ٣٠١ ، الإستبصار ٤ : ٨٧ / ٣٣٢ ، الوسائل ٢٤ : ٦٧ أبواب الذبائح ب ٢٨ ح ٢.

(٢) التهذيب ٩ : ٧١ / ٣٠٣ ، الإستبصار ٤ : ٨٧ / ٣٣٤ ، الوسائل ٢٤ : ٦٧ أبواب الذبائح ب ٢٨ ح ٤ وما بين المعقوفين من المصادر.

(٣) التهذيب ٩ : ٧٢ / ٣٠٤ ، الإستبصار ٤ : ٨٧ / ٣٣٥ ، الوسائل ٢٤ : ٦٨ أبواب الذبائح ب ٢٨ ح ٧.

(٤) الكافي ٦ : ٢٣٦ / ١ ، الفقيه ٣ : ٢١٠ / ٩٧٠ ، التهذيب ٩ : ٧٢ / ٣٠٥ ، الإستبصار ٤ : ٨٨ / ٣٣٧ ، الوسائل ٢٤ : ٦٨ أبواب الذبائح ب ٢٨ ح ٨.

(٥) المسالك ٢ : ٢٢٦ ؛ وانظر الكفاية : ٢٤٦ ، وكشف اللثام ٢ : ٢٥٨ ، ومفاتيح الشرائع ٢ : ٢٠٠.

٣١٣

والمعتبرة به مع ذلك مستفيضة ، منها الصحيحان : « لا ذكاة إلاّ بحديد » (١) وفي معناهما الموثّقة والحسنة (٢).

( ويجوز ) التذكية ( بغيره ممّا يفري الأوداج ) ويقطعها بحدّة إذا كان ذلك ( عند الضرورة ) بالاضطرار إلى الأكل ، أو الخوف من فوت الذبيحة ( ولو ) كانت الآلة ( مروة ) وهي حجر يقدح بها النار ( أو ليطة ) بفتح اللام وهي القشر الأعلى للقصب المتصل به ( أو زجاجة ).

مخيّر في ذلك من غير ترجيح بلا خلاف ، بل في صريح المسالك وظاهر غيره الإجماع عليه (٣) ؛ وهو الحجّة.

مضافاً إلى أنّ الضرورات تبيح المحظورات كما دلّ عليه الإجماع والأدلّة الأُخر العقلية والنقلية ، وخصوصِ النصوص المعتبرة.

ففي الصحيح : عن رجل لم يكن بحضرته سكّين ، أيذبح بقصبة؟

فقال : « اذبح بالحجر والعظم والقصبة والعود إذا لم تصب الحديدة ، إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس » (٤).

__________________

(١) الأوّل في : الكافي ٦ : ٢٢٧ / ١ ، التهذيب ٩ : ٥١ / ٢١١ ، الإستبصار ٤ : ٧٩ / ٢٩٤ ، الوسائل ٢٤ : ٧ أبواب الذبائح ب ١ ح ١ ؛ في الجميع : بحديدة.

الثاني في الكافي ٦ : ٢٢٧ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٥١ / ٢١٢ ، الإستبصار ٤ : ٨٠ / ٢٩٥ ، الوسائل ٢٤ : ٧ أبواب الذبائح ب ١ ح ٢ ؛ في الجميع : بحديدة.

(٢) الموثقة في : الكافي ٦ : ٢٢٧ / ٤ ، التهذيب ٩ : ٥١ / ٢١٠ ، الإستبصار ٤ : ٧٩ / ٢٩٣ ، الوسائل ٢٤ : ٨ أبواب الذبائح ب ١ ح ٤.

الحسنة في : الكافي ٦ : ٢٢٧ / ٣ ، التهذيب ٩ : ٥١ / ٢٠٩ ، الإستبصار ٤ : ٧٩ / ٢٩٢ ، الوسائل ٢٤ : ٨ أبواب الذبائح ب ١ ح ٣.

(٣) المسالك ٢ : ٢٢٦ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٢٥٨.

(٤) الكافي ٦ : ٢٢٨ / ٣ ، التهذيب ٩ : ٥١ / ٢١٣ ، الإستبصار ٤ : ٨٠ / ٢٩٦ ، الوسائل ٢٤ : ٩ أبواب الذبائح ب ٢ ح ٣.

٣١٤

وفيه : عن المروة والقصبة والعود ، يذبح بهنّ إذا لم يجد سكّيناً؟ قال : « إذا فرى الأوداج فلا بأس » (١).

ونحوهما غيرهما (٢).

( وفي الظفر والسنّ مع الضرورة تردّد ) ينشأ من عموم أدلّة إباحة الضرورات للمحظورات ، وظواهر النصوص المتقدّمة حيث اعتبرت قطع الحلقوم وفري الأوداج ولم تعتبر خصوصية القاطع وهو موجود فيهما ، مضافاً إلى إطلاق العظم في بعضها الشامل لهما.

ومن أصالة الحرمة ودعوى الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية (٣) على المنع عنهما إجماع الإمامية ، ولذا قالا به مستدلّين بالاحتياط ، والروايةِ العامية : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله تعالى عليه فكلوا ما لم يكن سنّاً أو ظفراً وساحدّثكم عن ذلك ، أمّا السنّ فعظم ، وأمّا الظفر فمدى الحبشة » (٤).

والأوّل أقوى كما عليه كافّة متأخّري أصحابنا ، وفاقاً للحلّي نافياً الخلاف فيه بيننا (٥). وهو عليه حجّة أُخرى يعارض به الإجماع الذي مضى ، مع كونه موهوناً بندرة القائل بالمنع جدّاً ؛ إذ ليس إلاّ الناقل له والإسكافي (٦) من القدماء ، وتبعه الشهيد في بعض كتبه من متأخّري‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٢٨ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٥٢ / ٢١٤ ، الإستبصار ٤ : ٨٠ / ٢٩٧ ، الوسائل ٢٤ : ٨ أبواب الذبائح ب ٢ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٠٨ / ٩٥٥ ، الوسائل ٢٤ : ٩ أبواب الذبائح ب ٢ ح ٢.

(٣) الخلاف ٦ : ٢٢ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨.

(٤) سنن البيهقي ٩ : ٢٤٦ ، مستند أحمد ٣ : ٤٦٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٦١ / ٣١٧٨ ، صحيح البخاري ٧ : ١١٨ ، صحيح مسلم ٣ : ١٥٥٨ / ٢٠ ، سنن أبي داود ٣ : ١٠٢ / ٢٨٢١.

(٥) السرائر ٣ : ٨٦.

(٦) كما نقله عنه في المختلف : ٦٧٣.

٣١٥

أصحابنا (١).

هذا مع أنّه غير معلوم كون مورد الإجماع في كلامه المنع عنهما حال الاضطرار ؛ لاحتمال كون المنع حال الاختيار وقد نزّله عليه الفاضل في المختلف والشهيد في الدروس (٢) ، مدّعيين ظهور التنزيل بأنّ الناقل جوّز مثل ذلك في التهذيب عند الضرورة. وفي دعوى الظهور بذلك نوع مناقشة.

وكيف كان ، فقبول مثل هذا الإجماع الذي بهذه المثابة لا يخلو عن مناقشة.

وأمّا الرواية العامية فضعيفة سنداً ومكافأة لما مرّ من الأدلّة ، مع غرابة تعليل المنع فيها عن الظفر بأنّه مدى الحبشة ، وربما يستفاد منه كون النهي للكراهة.

وظاهر القولين عدم الفرق في الجواز والمنع بين كونهما متّصلين أو منفصلين. ونسبه في المهذّب وشرح الشرائع للصيمري إلى الأصحاب (٣) ، ناقلين الفرق بينهما بذلك عن أبي حنيفة حيث قال بالجواز في الثاني ، والمنع في الأوّل ، معلّلاً بأنّ ذلك أشبه بالأكل والتقطيع ، والمقتضي للتذكية هو الذبح.

وربما احتمله الشهيد الثاني (٤) ، وهو أحوط ، وأحوط منه القول بالمنع المطلق.

__________________

(١) غاية المراد ٣ : ٥١٣.

(٢) المختلف : ٦٧٣ ، الدروس ٢ : ٤١٢.

(٣) المهذّب ٤ : ١٦٦ ، غاية المرام ٤ : ٢٠.

(٤) الروضة البهية ٧ : ٢١٤.

٣١٦

وعلى تقدير الجواز هل يساويان غيرهما ممّا يفري غير الحديد ، أو يترتّبان على غيرهما مطلقاً متّصلين كانا أم لا؟ مقتضى الاستدلال بالنصوص : الأوّل. وفي الدروس (١) استقرب الجواز بهما مطلقاً مع عدم غيرهما ، وهي ظاهرة في اللمعة أيضاً (٢) ، ولا ريب أنّه أحوط وأولى.

( الثالث :) في بيان ( الكيفيّة ) كيفية الذبح.

( وهي قطع الأعضاء الأربعة ) في المذبوح ( المري‌ء ) بفتح الميم وكسر الراء والهمزة مع الياء من غير مدّ ، وهو مجرى الطعام المتّصل بالحلقوم من تحته ، ( والودجان ) بفتح الواو والدال المهملة ، وهما عرقان محيطان بالحلقوم على ما ذكره جماعة (٣) أو المري‌ء على ما ذكره بعضهم (٤) ( والحلقوم ) بضمّ الحاء المهملة ، وهو مجرى النفس.

واشتراط قطعها هو المشهور بين الطائفة كما ادّعاه الماتن في الشرائع وجماعة (٥) ، بل في ظاهر الغنية فيما عدا المري‌ء (٦) وصريح المهذّب والمفلح الصيمري (٧) الإجماع عليه ؛ وهو الحجّة.

مضافاً إلى أصالة الحرمة السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، عدا إطلاق‌

__________________

(١) الدروس ٢ : ٤١١.

(٢) اللمعة ( الروضة البهية ٧ ) : ٢١٣.

(٣) القواعد ٢ : ١٥٤ ، الدروس ٢ : ٤١٢ ، المهذّب البارع ٤ : ١٦٧ ، الروضة البهية ٧ : ٢٢١.

(٤) المفاتيح ٢ : ٢٠١ ، كشف اللثام ٢ : ٢٥٩.

(٥) الشرائع ٣ : ٢٠٥ ، المسالك ٢ : ٢٢٦ ، الكفاية : ٢٤٦ ، كشف اللثام ٢ : ٢٥٨.

(٦) كذا في النسخ ، ولكن اشتراط قطع المري‌ء موجود في الغنية المطبوعة في ضمن الجوامع الفقهية ( ص ٦١٨ ). نعم ، لا يوجد في الغنية المطبوعة في سلسلة الينابيع الفقهية ٢١ : ١٤٥.

(٧) المهذّب البارع ٤ : ١٦٨ ، غاية المرام ٤ : ٢١.

٣١٧

الكتاب والسنّة بحلّ ما تحقّق فيه التذكية ، ( و ) ما ( في الرواية ) الصحيحة المتقدّمة (١) في جواز التذكية بغير الحديد مع الضرورة من أنّه ( إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس )

والمناقشة فيهما واضحة ؛ لعدم انصراف الإطلاقات بحكم التبادر والغلبة إلاّ إلى ما قطع أوداجه الأربعة مع أنّها واردة لبيان حكم آخر غير الكيفية ؛ ومعارضة الصحيح بمثلها المذكور تلوها ثمّة لصراحتها في اشتراط فري الأوداج. والبأس المفهوم منه على تقدير عدم فريها وإن كان أعمّ من الحرمة إلاّ أنّها مرادة بقرينة السؤال الواقع في الظاهر عن الجواز والرخصة كالصحيحة الاولى.

والمناقشة (٢) بأنّ دلالة هذه بالمفهوم وتلك بالمنطوق ، وهو أرجح من المفهوم.

مخدوشةٌ أوّلاً : بمنع الرجحان.

وثانياً : على تقدير تسليمه معارض برجحان إرادة الأوداج من الحلقوم في تلك الصحيحة ، من حيث غلبة استعماله فيها ، وشيوع التذكية بفريها دون الحلقوم الحقيقي خاصّة ، مع أنّ قطعه يستلزم قطعها غالباً ؛ لغاية اتّصالها بعضاً ببعض ، وعليه نبّه الفاضل المقداد في شرح الكتاب فقال : إنّ الأوداج الأربعة متّصلة بعضها مع بعض ، فإذا قطع الحلقوم أو الودجان فلا بُدّ أن ينقطع الباقي معه ، ولذلك ليس في الروايتين ذكر المري‌ء (٣).

__________________

(١) في ص ٣١٣.

(٢) الكفاية : ٢٤٦.

(٣) التنقيح الرائع ٤ : ٢٠.

٣١٨

وحيث تعارض الرجحان والمرجوحية فيهما فلا بدّ من الترجيح ، وهو في جانب الرواية الثانية ؛ للأصل والاعتضاد بالشهرة العظيمة والإجماعات المحكيّة ، مع ندرة القائل بالرواية المعارضة ؛ إذ ليس إلاّ الإسكافي كما حكاه جماعة (١).

وما يقال : من أنّ هذه الرواية المعارضة أصحّ سنداً من رواية الأوداج ، فضعيف جدّاً ؛ إذ ليس في سندها سوى إبراهيم بن هاشم الثقة على الصحيح ولذا عدّ رواياته في جملة الأبواب من الصحيح ، وفاقاً لجماعة من المحقّقين (٢). وعلى تقدير حسنه كما هو المشهور وعليه بناء القول فهي بسند آخر في الكافي صحيحة عند الكلّ مرويّة.

وأمّا ما ربما يناقش في دلالتها بعدم ظهورها في اعتبار قطع الأوداج المعتبر عند القائلين بها ، وإنّما غايتها الدلالة على اشتراط فريها ، وهو أعمّ من القطع جدّاً الصادق على مجرّد الشقّ المجامع لعدم القطع أيضاً كما عن الهروي (٣).

فيمكن الذبّ عنه أوّلاً : بأنّ الموجود في بعض ما عندي من كتب اللّغة تفسيره بما هو ظاهر في القطع ، بل ما هو صريح فيه ، وحكي أيضاً عن القاموس والصحاح (٤).

وثانياً : بأنّ المتبادر من الفري حيث يطلق في التذكية هو : ما يحصل‌

__________________

(١) منهم : العلاّمة في المختلف : ٦٩٠ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٢٦ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٤٦.

(٢) منهم : الشهيد في المسالك ١ : ٥٢ ، وصاحبا المدارك ٦ : ١٨١ ، والحدائق ١٢ : ٧٣ ، ٧٧ ، ٨١.

(٣) غريب الحديث ٢ : ٢٩٢ ، وقد حكاه عنه في المسالك ٢ : ٢٢٦.

(٤) القاموس ٤ : ٣٧٦ ، الصحاح ٦ : ٢٤٥٣.

٣١٩

به القطع بحكم التبادر والغلبة.

وثالثاً : بأنّ حمله على الأعمّ على تقدير تسليمه مخالف للإجماع ، إذ القول بعدم الاكتفاء بقطع الحلقوم ولزوم فريها بمعنى الشقّ لم يذهب إليه أحد من أصحابنا حتّى العماني ؛ لأنّه وإن اكتفى بالشقّ إلاّ أنّه اكتفى بقطع الحلقوم أيضاً مخيّراً بينهما ، وهو غير ما دلّت عليه الرواية من لزوم فري الأوداج خاصّة ، فهذا الإجماع أقوى قرينة على إرادة القطع من الفري فيها ، مضافاً إلى الإجماعات المحكيّة.

( وأربعاً : بأنّ الفري فيه بالنظر إلى الحلقوم بمعنى القطع إجماعاً ، فينبغي أن يكون بالنظر إلى الباقي كذلك ، وإلاّ لزم استعمال اللفظ الواحد في استعمال واحد في معنيين حقيقيين ، أو مجازيين ، وهو غير مرضيّ عند المحقّقين. فتأمّل.

وخامساً : بأنّ الأوداج تشمل المري‌ء المفسّر في كلامه وكلام غيره (١) بما تحت الحلقوم ، وشقّه غير ممكن إلاّ بقطع ما فوقه من الأوداج ، فإذا ثبت وجوب قطعها من هذه الرواية ولو من باب المقدّمة ثبت وجوب قطع الجميع ؛ لعدم القائل بالفرق بين الطائفة حتّى من لم يعتبر المري‌ء ، فإنّه لم يعتبره مطلقاً لا قطعاً ولا شقّاً ، وأمّا اعتباره شقّاً خاصّةً لا قطعاً فلم يقل به بالضرورة ) (٢).

واعلم أنّ ظاهر الفاضل في المختلف التردّد في لزوم قطع المري‌ء (٣).

__________________

(١) انظر المسالك ٢ : ٢٢٦ ، والكفاية : ٢٤٦.

(٢) ما بين القوسين أضفناه من « ر » و « ح ».

(٣) المختلف : ٦٩٠.

٣٢٠