رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-275-X
الصفحات: ٥٠٣

( كتاب النذر والعهود )

هو في اللغة : الوعد بخير أو شرّ. وشرعاً على ما في المهذب والدروس (١) وغيرهما : التزام الكامل المسلم المختار القاصد غير المحجور عليه ، بفعل أو ترك ، بقول الله عزّ وجلّ ، ناوياً القربة.

والأصل في مشروعيّته ولزوم الوفاء بعد إجماع الأُمة المتحقق المستفيض النقل في كلام جماعة (٢) الآيات الكريمة.

قال سبحانه ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) (٣) ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ) (٤).

والسنّة المطهّرة به مع ذلك مستفيضة.

منها : زيادة على ما يأتي إليه الإشارة النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه » (٥).

__________________

(١) المهذب البارع ٤ : ١٣٣ ، الدروس ٢ : ١٤٩.

(٢) منهم : الشيخ في الخلاف ٦ : ١٩٢ ، وابن فهد في المهذب البارع ٤ : ١٣٣ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٠٤ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٢ : ٥.

(٣) الحج : ٢٩.

(٤) النحل : ٩١.

(٥) عوالي اللئلئ ٣ : ٤٤٨ / ١ ، المستدرك ١٦ : ٩٢ أبواب النذر والعهد ب ١٢ ح ٢.

٢٠١

( والنظر في ) هذا الكتاب يقع ( في أُمور أربعة ).

( الأوّل : في الناذر )

( و ) اعلم أنّه ( يعتبر فيه التكليف ) بالبلوغ والعقل والاختيار ( والإسلام ، والقصد ) إلى مدلول الصيغة.

فلا ينعقد نذر الصبيّ والمجنون مطلقاً إلاّ في ذوي الأدوار حال إفاقته مع الوثوق بعقله ، ولا المكره ، ولا غير القاصد كالعابث أو اللاعب بصيغته ، ولا الكافر مطلقاً ، لتعذّر القربة منه على وجهها وإن استحبّ له الوفاء به لو أسلم ، للنبوي المتضمن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أوف بنذرك » بعد أن سأله عمر : كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية (١). ولضعفه حمل على الاستحباب.

ولا خلاف في شي‌ء من ذلك أجده إلاّ في اعتبار الإسلام ، فقد تأمّل فيه السيّد في الشرح ، وتبعه في الكفاية (٢) ، قال بعد نسبة الاعتبار إلى الشهرة وذكر تعليلهم المتقدم إليه الإشارة ـ : وفيه منع واضح ، فإنّ إرادة التقرب ممكنة من الكافر المقرّ بالله تعالى.

ولا يخلو عن قوة إن لم يكن انعقد الإجماع على خلافه كما هو الظاهر ، إذ لم أر مخالفاً سواهما. والاحتياط لا يخفى.

( ويشترط في ) صحة ( نذر المرأة إذن الزوج. وكذا في نذر المملوك ) إذن المالك ، بلا خلاف في الأخير (٣) ؛ لعموم أدلة الحجر عليه‌

__________________

(١) سنن أبي داود ٣ : ٢٤٢ / ٣٣٢٥.

(٢) نهاية المرام ٢ : ٣٤٧ ، الكفاية : ٢٢٨.

(٣) في « ح » و « ر » زيادة : بل عليه الإجماع في صريح المدارك مضافاً إلى عموم .. انظر المدارك ٧ : ٩٤.

٢٠٢

من الكتاب والسنة ، مضافاً إلى ما يأتي.

والمرويّ في الوسائل عن قرب الإسناد : « إنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : ليس على المملوك نذر إلاّ أن يأذن له سيّده » (١).

وتردّد فيه في الكفاية (٢). ولا وجه له.

وعلى المشهور بين الأصحاب سيّما المتأخرين كما قيل (٣) في الأوّل ؛ استناداً إلى خصوص الصحيح : « ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ، ولا صدقة ، ولا تدبير ، ولا هبة ، ولا نذر في مالها ، إلاّ أن يأذن زوجها ، إلاّ في حجّ ، أو زكاة ، أو برّ والديها ، أو صلة رحمها » (٤). فتأمل.

مضافاً إلى المعتبرين المتقدّمين في اليمين (٥) ، بناءً على شيوع إطلاقها على النذر في النصوص المستفيضة :

منها : ما وقع الإطلاق فيه في كلام الأئمّة عليهم‌السلام كالمعتبرين ، أحدهما : الموثق بعثمان عن سماعة : « لا يمين في معصية ، إنّما اليمين الواجبة التي ينبغي لصاحبها أن يفي بها ما جعل لله عليه في الشكر ، إن هو عافاه من مرضه ، أو عافاه من أمر يخافه ، أو ردّ عليه ماله ، أو ردّه من سفره أو رزقه رزقاً ، قال : لله عليَّ كذا وكذا شكراً ، فهذا الواجب على صاحبه أن يفي به » (٦).

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٠٩ / ٣٧٦ ، الوسائل ٢٣ : ٣١٦ أبواب النذر والعهد ب ١٥ ح ٢.

(٢) الكفاية : ٢٢٨.

(٣) المسالك ٢ : ٢٠٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٢٧٧ / ١٣١٥ ، التهذيب ٧ : ٤٦٢ / ١٨٥١ ، الوسائل ٢٣ : ٣١٥ أبواب النذر والعهد ب ١٥ ح ١.

(٥) راجع ص ١٨٤.

(٦) التهذيب ٨ : ٣١١ / ١١٥٤ ، الإستبصار ٤ : ٤٦ / ١٥٨ ، الوسائل ٢٣ : ٣١٨ أبواب النذر والعهد ب ١٧ ح ٤.

٢٠٣

والثاني : الخبر وليس في سنده سوى السندي بن محمد وفيه : جعلت على نفسي مشياً إلى بيت الله تعالى ، فقال : « كفِّر عن يمينك ، فإنّما جعلت على نفسك يميناً ، فما جعلته لله تعالى ففِ به » (١).

ومنها : ما وقع الإطلاق فيه في كلام الرواة مع تقرير الأئمّة عليهم‌السلام لهم عليه ، وهو مستفيض.

منها : الخبر : إنّ لي جارية ليس لها منّي مكان وهي تحتمل الثمن ، إلاّ أنّي كنت حلفت فيها بيمين ، فقلت : لله عليّ أن لا أبيعها أبداً ، ولي إلى ثمنها حاجة مع تخفيف المئونة ، فقال : « فِ لله تعالى بقولك » (٢).

ونحوه آخر (٣).

وفي الثالث : عن الرجل يحلف بالنذر ، ونيّته في يمينه التي حلف عليها درهم أو أقلّ ، قال : « إذا لم يجعله لله فليس بشي‌ء » (٤).

وفي الرابع : إنّي كنت أتزوّج المتعة ، فكرهتها وتشأمت بها ، فأعطيت الله تعالى عهداً بين الركن والمقام وجعلت عليّ في ذلك نذراً أو صياماً أن لا أتزوّجها ، ثمّ إن ذلك شقّ عليّ وندمت على يميني ولم يكن بيدي من القوّة ما أتزوّج به في العلانية ، فقال : « عاهدت الله أن لا تطيعه؟! والله لئن‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٥٨ / ١٨ ، التهذيب ٨ : ٣٠٧ / ١١٤٠ ، الإستبصار ٤ : ٥٥ / ١٩١ ، الوسائل ٢٣ : ٣٠٨ أبواب النذر والعهد ب ٨ ح ٤.

(٢) التهذيب ٨ : ٣١٠ / ١١٤٩ ، الإستبصار ٤ : ٤٦ / ١٥٧ ، الوسائل ٢٣ : ٣٢٠ أبواب النذر والعهد ب ١٧ ح ١١.

(٣) التهذيب ٨ : ٣٠١ / ١١١٦ ، الإستبصار ٤ : ٤٣ / ١٤٨ ، الوسائل ٢٣ : ٢٤١ أبواب الأيمان ب ١٨ ح ٥.

(٤) الكافي ٧ : ٤٥٨ / ٢٢ ، التهذيب ٨ : ٣٠٧ / ١١٤٢ ، الوسائل ٢٣ : ٢٩٤ أبواب النذر والعهد ب ١ ح ٤.

٢٠٤

لم تطعه لتعصينّه » (١).

هذا ، مضافاً إلى النصوص المتقدمة في اليمين الدالّة على اشتراطها بالقربة (٢) ، ومنها الصحيحان (٣).

ولا يمكن حمل اليمين فيها على ما قابل النذر ؛ للإجماع ظاهراً ومحكياً كما مضى على عدم اشتراطه بالقربة ، فتكون محمولاً على النذر المشروط بها اتّفاقاً فتوًى وروايةً ، كما سيأتي إليه الإشارة ، جمعاً بين الأدلّة.

وحيث ثبت إطلاق اليمين على النذر فإمّا أن يكون على سبيل الحقيقة ، أو المجاز والاستعارة. وعلى التقديرين فدلالة المعتبرين على المقصود واضحة ؛ لكون النذر على الأوّل من جملة أفراد الحقيقة المنفية ، وعلى الثاني مشاركاً لها في أحكامها الشرعية ، ومنها انتفاؤها عند عدم إذن الثلاثة.

هذا ، مضافاً إلى التأيّد بالاستقراء والتتّبع التامّ الكاشف عن اشتراك النذر واليمين في كثير من الأحكام ، ولذا يقال : إنّه نفسها في المعنى.

وبالجملة : بملاحظة جميع ما ذكرنا يظهر الظنّ المعتمد عليه بصحة ما عليه الأكثر.

ويستفاد منه مشاركة الولد للزوجة والمملوك في توقف نذره على‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٥٠ / ٧ ، التهذيب ٧ : ٢٥١ / ١٠٨٣ ، الإستبصار ٣ : ١٤٢ / ٥١٠ ، الوسائل ٢١ : ١٦ أبواب المتعة ب ٣ ح ١.

(٢) راجع ص ١٩١.

(٣) الكافي ٧ : ٤٤١ / ١٢ ، ١٣ ، التهذيب ٨ : ٣١٢ / ١١٦٠ ، الإستبصار ٤ : ٤٧ / ١٦٠ ، الوسائل ٢٣ : ٢٣٠ أبواب الأيمان ب ١٤ ح ١ ، ٢.

٢٠٥

إذن والده ، كما صرّح به العلامة في جملة من كتبه (١) ، والشهيد في الدروس (٢). فلا وجه لاقتصار العبارة ونحوها من عبائر الجماعة على ذكر الأوّلين خاصة.

كما لا وجه لاقتصار السيد في شرح الكتاب على المملوك (٣) ؛ لتطرّق القدح إلى ما زعمه من انحصار ما دلّ على إطلاق النذر على اليمين في بعض ما مرّ من الأخبار ، وضعفه ، وقصور دلالته بأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة بعدم الحصر ، لاستفاضة النصّ كما مرّ ، وفيه ما هو معتبر السند بالصحّة والموثّقية ، مع احتمال الضعيف منها الانجبار بالشهرة التي اعترف بها ، وأنّ مبنى الاستدلال ليس دعوى ثبوت كون الإطلاق بعنوان الحقيقة خاصّةً ليرد ما ذكره ، بل إمّا هي على القول بها ، أو ما قدّمنا إليه الإشارة من كونه مجازاً أو استعارةً يقتضي الشركة مع الحقيقة فيما ثبت لها من الأحكام الشرعية ، ومنها عدم الصحة عند عدم إذن أحد من الثلاثة.

( فلو بادر أحدهما ) وكذا الولد بإيقاع النذر من دون إذن ( كان للزوج والمالك ) والوالد ( فسخه ) وإبطاله ( ما لم يكن على فعل واجب أو ترك محرّم ).

والكلام على ما يستفاد من هذه العبارة من بطلان النذر لا مانعية النهي عنه مطلقاً حتى في فعل الواجب وترك المحرّم وفروعات المسألة كما مرّ في اليمين ، لاتّحاد المأخذ (٤).

__________________

(١) كالإرشاد ٢ : ٩٠ وحكاه عن التلخيص للعلاّمة في كشف اللثام ٢ : ٢٣٢.

(٢) الدروس ٢ : ١٤٩.

(٣) نهاية المرام ٢ : ٣٤٨.

(٤) راجع ص ١٨٣.

٢٠٦

( ولا ينعقد ) النذر ( في سكر يرفع القصد ) إلى المدلول ( ولا ) في ( غضب كذلك ) أي رافع للقصد ؛ لما مرّ من اعتباره ، وللخبر المعتبر المنجبر قصور سنده باشتراك راويه برواية صفوان بن يحيى عنه.

وفيه : جعلت فداك ، إنّي جعلت لله عليّ أن لا أقبل من بني عمي إلى أن قال : فقال : « إن كنت جعلت ذلك شكراً فَفِ به ، وإن كنت إنّما قلت ذلك من غضب فلا شي‌ء عليك » (١).

( الثاني : في الصيغة )

( وهي ) قد تكون برّاً ، وهو إمّا ( أن يكون شكراً ) على حدوث النعمة ( كقوله : إن رزقت ولداً فلله عليّ كذا ، أو استدفاعاً ) للبلية ( كقوله : إن أبرأ الله تعالى المريض فلله تعالى عليّ كذا ) ويسمّى هذا نذر مجازاة.

( و ) قد تكون ( زجراً ، كقوله : إن فعلت كذا من المحرّمات ، أو إن لم أفعل كذا من الطاعات ، فلله عليّ كذا. أو تبرّعاً كقوله : لله عليّ كذا ) من دون تعليق على شرط ، وهذا من أقسام نذر البرّ أيضاً.

( ولا ريب ) ولا خلاف بين العلماء كافةً بل ادّعى إجماعهم جماعة (٢) ( في انعقاده ) ولزوم الوفاء به ( مع ) التعليق على ( الشرط ) واستجماعه الشرائط المعتبرة ، وعمومات الكتاب والسنّة وخصوصاتها على ذلك متفقة.

( و ) إنّما الريبة ( في انعقاد التبرّع ) ففيه ( قولان ) بين الطائفة‌

__________________

(١) التهذيب ٨ : ٣١٦ / ١١٧٨ ، الإستبصار ٤ : ٤٧ / ١٦٢ ، الوسائل ٢٣ : ٣٢٤ أبواب النذر والعهد ب ٢٣ ح ١.

(٢) منهم : السيد المرتضى في الانتصار : ١٦٣ ، وقال المجلسي في ملاذ الأخيار ١٤ : ٨٣ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٢٨ : لا أعرف خلافاً.

٢٠٧

كالعامّة ( أشبههما ) وأشهرهما بيننا سيّما المتأخرين ، بل عن الخلاف الإجماع عليه (١) : ( الانعقاد ) عكس هؤلاء المردة ؛ للإجماع المزبور ، المعتضد بالشهرة العظيمة وإطلاقات الكتاب والسنة ، بناءً على أنّ النذر المذكور فيهما حقيقة في الأعمّ من المتبرّع وغيره إمّا مطلقاً أو في العرف خاصةً ، لوجود خواصّها فيه أيضاً بلا شبهة ، فيرجع إليه مطلقاً ولو خالفته اللغة ، لرحجانه عليها حيث حصل بينهما معارضة ، كما حقّق في محله ، مع أنّ مخالفتها له في المسألة محلّ مناقشة ، كما سيأتي إليه الإشارة.

هذا ، مع أنّ النصوص الدالّة على أحكام النذر غير مرتّبة كلّها لها على لفظه ، بل جملة منها رتّبها على صيغة « لله عليّ » ونحوها من دون ذكر للفظ النذر بالمرّة.

ففي الصحيح : « من جعل لله عليه أن لا يركب محرّماً سمّاه فركب ، فليعتق رقبةً ، أو ليصم شهرين ، أو ليطعم ستّين مسكيناً » (٢).

ونحوه الخبر في العهد : « من جعل عليه عهداً لله تعالى وميثاقه في أمر لله [ فيه ] طاعة فحنث ، فعليه عتق أو صيام » (٣) الحديث.

وفي الصحيح : « إن قلت : لله عليّ ، فكفارة يمين » (٤).

__________________

(١) الخلاف ٦ : ١٩٢.

(٢) التهذيب ٨ : ٣١٤ / ١١٦٥ ، الإستبصار ٤ : ٥٤ / ١٨٨ ، الوسائل ٢٣ : ٣٢٢ أبواب النذر والعهد ب ١٩ ح ١ ؛ بتفاوت يسير.

(٣) التهذيب ٨ : ٣١٥ / ١١٧٠ ، الإستبصار ٤ : ٥٤ / ١٨٧ ، الوسائل ٢٣ : ٣٢٦ أبواب النذر والعهد ب ٢٥ ح ٢.

(٤) الكافي ٧ : ٤٥٦ / ٩ ، الفقيه ٣ : ٢٣٠ / ١٠٨٧ ، التهذيب ٨ : ٣٠٦ / ١١٣٦ ، الإستبصار ٤ : ٥٥ / ١٩٣ ، الوسائل ٢٢ : ٣٩٢ أبواب الكفارات ب ٢٣ ح ١ وج ٢٣ : ٢٩٧ أبواب النذر والعهد ب ٢ ح ٥.

٢٠٨

وفيه : « فما جعلته لله تعالى فَفِ به » (١).

وفيه : « ليس من شي‌ء هو لله طاعة يجعله الرجل عليه ، إلاّ ينبغي له أن يفي » (٢) الحديث.

وفي الموثق : رجل جعل على نفسه لله عتق رقبة ، فأعتق أشلّ إلى أن قال : قال : « فعليه ما اشترط وسمّى » (٣).

ونحوها الخبران المتقدّمان في نذر عدم بيع الجارية (٤).

وهذه النصوص وإن احتملت التقييد بصورة التعليق إلاّ أنّه فرع وجود الدليل وليس ، كما يأتي.

ودعوى ورودها مورد الغالب وهو المعلّق دون المطلق مردودة ، كدعوى ورودها لبيان حكم آخر غير الصيغة ؛ فإنّ الدعويان لا تجريان إلاّ في نحو المطلقات ، وليس منها الأخبار المزبورة ، فإنّها ما بين عامّة لغةً وعامة بترك الاستفصال ، لإفادته إيّاه على الأشهر الأقوى ، هذا.

ويعضده ما مرّ من النصوص المطلقة لليمين على النذر ، المقتضية لذلك اشتراكه معها في الأحكام ، ومنها لزومها مطلقاً ، فليكن النذر كذلك أيضاً. ولو لا تخيّل كون هذا الحكم من الأفراد النادرة غير المنساقة إلى الذهن عند إطلاق أحكام اليمين ، لكانت هذه النصوص حجة أُخرى مستقلّة في المسألة ، كما كانت كذلك في المسألة السابقة ، مع أنّ الظاهر فساد‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٥٨ / ١٨ ، التهذيب ٨ : ٣٠٧ / ١١٤٠ ، الإستبصار ٤ : ٥٥ / ١٩١ ، الوسائل ٢٢ : ٣٩٢ أبواب الكفارات ب ٢٣ ح ٣.

(٢) التهذيب ٨ : ٣١٢ / ١١٥٩ ، الوسائل ٢٣ : ٣١٨ أبواب النذر والعهد ب ١٧ ح ٦.

(٣) الكافي ٧ : ٤٦٣ / ١٦ ، التهذيب ٨ : ٣٠٨ / ١١٤٥ ، الوسائل ٢٣ : ٤٥ كتاب العتق ب ٢٣ ح ٣.

(٤) في ص ٢٠٣.

٢٠٩

التخيّل ، فأخذها حجةً أولى من جعلها معاضدة.

فإذاً هذا القول في غاية القوة.

خلافاً للمرتضى وابن زهرة (١) ، فأبطلاه ؛ للأصل. ويندفع بما مرّ.

والإجماع. ويعارض بالمثل الذي هو أرجح بالشهرة ، مع ظهور وهنه بعدم وجود مفتٍ بما ذكره سوى ابن زهرة ، فكيف يكون دعوى مثل هذا الإجماع مسموعة؟!

وما نقل عن ثعلب من أنّ النذر عند العرب وعد بشرط (٢) ، والشرع نزل بلسانهم والأول عدم النقل. ويعارض بما نقل عنهم من أنّه وعد بغير شرط أيضاً. ولو سلّم فقد المعارض من اللغة واتّفاق أهلها على ما ذكره ، يعارض بالعرف المتقدّم عليها ، كما مرّ إليه الإشارة.

نعم ، ربّما يستأنس له ببعض المعتبرة كالصحيح : « إذا قال الرجل : عليّ المشي إلى بيت الله تعالى وهو محرم بحجّة ، أو عليّ هدي كذا وكذا ، فليس بشي‌ء حتى يقول : لله عليّ المشي إلى بيته ، أو يقول : لله عليّ هدي كذا وكذا إن لم أفعله كذا وكذا » (٣).

والموثق : عن رجل جعل عليه أيماناً أن يمشي إلى الكعبة ، أو صدقة ، أو نذراً ، أو هدياً إن كلّم هو أباه ، أو أخاه ، أو ذا رحم ، أو قطع قرابة ، أو مأثماً يقيم عليه ، أو أمرا لا يصلح له فعله ، فقال : « لا يمين في معصية ، إنّما اليمين الواجبة التي ينبغي لصاحبها أن يفي بها ما جعل لله عليه‌

__________________

(١) المرتضى في الانتصار : ١٦٣ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٧.

(٢) نقله عنه في الخلاف ٦ : ١٩١.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥٤ / ١ ، التهذيب ٨ : ٣٠٣ / ١١٢٤ ، الوسائل ٢٣ : ٢٩٣. أبواب النذر والعهد ب ١ ح ١.

٢١٠

في الشكر ، إن هو عافاه الله تعالى في مرضه ، أو عافاه من أمر يخافه ، أو ردّ عليه ماله ، أو ردّه من سفره ، أو رزقه رزقاً قال : لله عليّ كذا وكذا شكراً ، فهذا الواجب على صاحبه ينبغي له أن يفي به » (١).

ويمكن الذبّ عنهما بأنّ المقصود منهما بيان لزوم ذكر الله تعالى في النذر وعدم تعلّقه بالمحرّم ، لا لزوم التعليق كما يتوهم ، فلا عبرة بمفهومهما ، وإن هما حينئذ إلاّ كالمطلق المنساق لبيان حكم آخر غير محلّ الفرض.

هذا مع احتمال ورود التعليق فيهما مورد الغالب ، فإنّ الغالب في النذر ذلك لا المطلق. مضافاً إلى ما يقال في الصحيح من أنّ الظاهر أنّ الشرط فيه متعلّق بالجملة الثانية خاصة (٢) ، وعليه فليس أيضاً له على ما ذكر دلالة ، بل فيه على القول المختار شهادة وأي شهادة.

وبالجملة : فهذا القول ضعيف غايته ، كالتوقف الظاهر من الفاضل في الإرشاد ، والشهيد في الدروس ، والسيد في الشرح ، وصاحب الكفاية (٣) ، لكنّهما قرّبا الأوّل.

( ويشترط ) في صحّته ( النطق بلفظ الجلالة ) والقصد إلى معناه المعبّر عنه عندهم بالقربة ( فلو قال : عليّ كذا ) من غير أن يقصد القربة ( لم يلزم ) بلا خلاف أجده ، بل عليه الإجماع في كلام جماعة (٤) ؛ وهو‌

__________________

(١) التهذيب ٨ : ٣١١ / ١١٥٤ ، الإستبصار ٤ : ٤٦ / ١٥٨ ، الوسائل ٢٣ : ٣١٨ أبواب النذر والعهد ب ١٧ ح ٤.

(٢) نهاية المرام ٢ : ٣٤٩.

(٣) الإرشاد ٢ : ٩٦ ، الدروس ٢ : ١٤٩ ، نهاية المرام ٢ : ٤٩ ، الكفاية : ٢٢٩.

(٤) منهم الشهيد في الروضة ٣ : ٣٩ والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٢٣٢ وقال الفيض الكاشاني في المفاتيح ٢ : ٣٠ والسبزواري في الكفاية ٢٢٩ : بلا خلاف.

٢١١

الحجّة ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة.

منها زيادة على المعتبرين المتقدّمين حجّةً للسيّد في المسألة السابقة القريب من الصحيح : « ليس النذر بشي‌ء حتى يسمّى شيئاً لله » (١).

ونحوهما الخبر المنجبر ضعف راويه بدعوى الشيخ الإجماع على العمل بروايته (٢) ، وفيه : « ليس بشي‌ء حتى يسمّي النذر ، فيقول : عليّ صوم لله » الخبر (٣).

ومقتضى العبارة كالمحكي عن الأكثر في الشرح للسيد والكفاية (٤) اعتبار خصوص لفظ الجلالة ، ونسباه إلى مقتضى النصوص المزبورة.

وفيه مناقشة : فإنّ المراد من الله فيها بحكم سياقها والتأمّل الصادق فيها ، إنّما هو ذاته المقدسة لا خصوص هذه اللفظة ، ولعلّه لذا إنّ شيخنا في الدروس اكتفى بأحد أسمائه الخاصة (٥). وهو في غاية القوة ، كاحتمال انعقاد النذر بإبدال لفظ الجلالة بمرادفه من الألفاظ الغير العربية ، وإن استشكلاه في الكتابين المتقدم إلى ذكرهما الإشارة ، إلاّ أنّ ظاهر الانتصار اعتبار خصوص اللفظة مدّعياً عليه إجماع الإمامية (٦).

ثم إنّ المستفاد من النصوص أنّه يكفي في القربة ذكر لفظ الجلالة مع‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٥٥ / ٢ ، التهذيب ٨ : ٣٠٣ / ١١٢٥ ، الوسائل ٢٣ : ٢٩٣. أبواب النذر والعهد ب ١ ح ٢.

(٢) عدّة الأُصول ١ : ٣٨١.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥٥ / ٣ ، التهذيب ٨ : ٣٠٣ / ١١٢٦ ، الوسائل ٢٣ : ٢٩٤ أبواب النذر والعهد ب ١ ح ٣.

(٤) نهاية المرام ٢ : ٣٥٠ ، الكفاية : ٢٢٩.

(٥) الدروس ٢ : ١٤٩.

(٦) الانتصار : ١٦١.

٢١٢

النيّة من غير اشتراط جعل القربة غايةً بعد الصيغة ، فلا يحتاج بعدها إلى قوله : قربة إلى الله ، ونحوه. وبه صرّح الشهيدان وغيرهما (١). خلافاً لنادر (٢) ، فاشترطه. ووجهه مع ندرته غير واضح.

( ولو اعتقد أنّه إن كان كذا فلله تعالى عليّ كذا ، ولم يتلفّظ بالجلالة ) بل نواه في ضميره خاصة ( فـ ) في انعقاده ( قولان ، أشبههما ) وأشهرهما بين المتأخرين وفاقاً للإسكافي والحلّي (٣) ( أنّه لا ينعقد ) للأصل ، وأنّه في الأصل وعد بشرط أو بدونه ، والوعد لفظيّ والأصل عدم النقل ، مضافاً إلى أنّه المتبادر من النذر في العرف.

وعلى تقدير التنزّل وتسليم عدم ثبوت اعتبار اللفظ فيه نقول : لا أقلّ من الشك في كونه بمجرد النية نذراً حقيقياً أُمرنا بالوفاء به شرعاً ، ومعه لا يمكن الخروج من الأصل القطعي السليم بحسب الظاهر عمّا يصلح للمعارضة ، كما سيأتي إليه الإشارة ، سيّما مع اعتضاده بظواهر النصوص المتقدّمة الدالّة على اعتبار التلفظ بالجلالة. وإنّما لم نتخذها حجّةً لاحتمال كون المراد بها اشتراط قصد القربة خاصةً لا اشتراط الصيغة ، ويظهر ذلك من سياقها بلا شبهة. وإنّما ذكر التلفّظ والتسميّة تبعاً للنذور الغالبة حيث إنّها ملفوظة لا منويّة.

ولعلّه لهذا لم يستدلّ بها شيخنا في الروضة مع أنّه استدلّ بها في المسالك (٤) ، وتبعه عليه من بعده جماعة ، منهم سبطه في الشرح وصاحب‌

__________________

(١) الشهيد الأوّل في الدروس ٢ : ١٥٠ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٠٥ ؛ والروضة ٣ : ٤٠ وانظر الكفاية : ٢٢٩.

(٢) حكاه في المسالك ٢ : ٢٠٥ عن بعض.

(٣) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٦٦٠ ، الحلي في السرائر ٣ : ٥٨.

(٤) الروضة ٣ : ٤٤ ، المسالك ٢ : ٢٠٥.

٢١٣

الكفاية (١).

والقول الآخر للشيخين والقاضي وابن حمزة (٢).

واستدلّ لهم في الروضة بالأصل (٣) ، ولا أصل له. وبعموم الأدلّة ، وهو فرع صدق النذر على المتنازع بعنوان الحقيقة ، وقد ظهر لك ما فيه من المناقشة.

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكل امرئ ما نوى » (٤) وإنّما للحصر ، والباء للسببيّة ، فدلّ على حصر السبيبة فيها.

وهو فرع كون المسبّب هو وجوب الأعمال بها لا صحّتها أو كمالها ، ولم يثبت ، بل الظاهر العكس ، كما يستفاد من استدلال العلماء على احتياج الأعمال صحّةً أو كمالاً إلى النيّة بالقول المزبور ، ولم يستدلّ أحد به لوجوبها بها.

ولذا إنّ بعض من وافق على هذا القول ردّ هذا الدليل فقال بعد التنظر فيه ـ : إذ لا كلام في اعتبار النيّة ، وإنّما الكلام في الاكتفاء بها (٥).

وبأنّ اللفظ في العقود إنّما اعتبر ليكون دالاّ على الإعلام بما في الضمير ، والعقد هنا مع الله تعالى العالم بالسرائر (٦).

__________________

(١) نهاية المرام ٢ : ٣٥٠ ، الكفاية : ٢٢٩.

(٢) المفيد في المقنعة : ٥٦٣ ، الطوسي في النهاية : ٥٦٢ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٤٠٩ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٥٠.

(٣) الروضة ٣ : ٤٤.

(٤) عوالي اللئالئ ١ : ٣٨٠ / ٢ ، ووردت في الوسائل ١ : ٤٨ أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ٧ ، ١٠ بتفاوت يسير.

(٥) المفاتيح ٢ : ٣٠.

(٦) انظر الروضة ٣ : ٤٥.

٢١٤

وهو حسن إن وجد ما يدلّ على لزوم الوفاء بمطلق العقد بحيث يشمل مثل هذا وليس ، إذ ليس هنا سوى ما يدلّ على لزوم الوفاء بالنذر ، والمتيقّن منه كما عرفت ليس إلاّ النذر الملفوظ لا المنويّ ، فاعتبار اللفظ ليس للإعلام بما في الضمير ، بل لقصر الحكم المخالف للأصل على المتيقّن عن الدليل.

وبالجملة ، فهذا القول ضعيف ، كالتوقّف الظاهر من المختلف والمهذّب والدروس والروضة (١) ( وإن كان الإتيان به أفضل ) حذراً عن شبهة الخلاف ، والتفاتاً إلى أنّ المنذور لا بدّ أن يكون طاعةً كما سيجي‌ء بيانه قريباً ، وفعلها حسن مطلقاً.

( وصيغة العهد ان يقول : عاهدت الله تعالى أنّه متى كان كذا فعليّ كذا ) ومقتضى هذه العبارة كعبارته في الشرائع ـ (٢) عدم وقوعه إلاّ مشروطاً.

والأقوى وقوعه مطلقاً أيضاً ، وفاقاً للمحكيّ عن الفاضل في جملة من كتبه (٣) (٤) ؛ لإطلاق الكتاب والسنّة بلزوم الوفاء به ، بناءً على صدقه على المتبرّع به حقيقةً عرفاً ولغةً.

قال سبحانه ( أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (٥).

وقال تعالى ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) الآية (٦).

__________________

(١) المختلف : ٦٦٠ ، المهذّب البارع ٤ : ١٣٦ ، الدروس ٢ : ١٥٠ ، الروضة ٣ : ٤٥.

(٢) الشرائع ٣ : ١٩٣.

(٣) كالقواعد ٢ : ١٤٤.

(٤) في « ح » و « ر » زيادة : والشيخ في الخلاف مدّعياً عليه الإجماع ( الخلاف ٦ : ١٩٢ ).

(٥) البقرة : ٤٠.

(٦) الرعد : ٢٥.

٢١٥

وفي الخبر : عن رجل عاهد الله تعالى في غير معصية ، [ ما عليه ] إن لم يف بعهده؟ قال : « يعتق رقبة ، أو يتصدّق بصدقة ، أو يصوم شهرين متتابعين » (١).

وفي آخر : « من جعل عليه عهداً لله تعالى وميثاقه في أمر لله طاعة فحنث ، فعليه عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستّين مسكيناً » (٢).

( وينعقد نطقاً ) إجماعاً ( وفي انعقاده اعتقاداً قولان : أشبههما ) وأشهرهما ( أنه لا ينعقد ) كالنذر. والخلاف هنا كالخلاف فيه ، والمختار المختار ، والدليل الدليل.

( ويشترط فيه القصد ) إلى المدلول ( كالنذر ) لاتحاد الدليل.

( الثالث : في متعلق النذر ) أي الملتزم بصيغته.

( وضابطه ) مطلقاً ، مشروطاً كان أم تبرعاً ( ما كان طاعة لله تعالى ) مأموراً بها وجوباً أو استحباباً. فلا ينعقد نذر المحرّم والمكروه مطلقاً إجماعاً ، كما في الروضة (٣) ؛ لقولهم عليهم‌السلام : « لا نذر في معصية » (٤).

وكذا المباح مطلقاً تساوى طرفاه أم ترجّح ديناً أو دنياً ، في ظاهر إطلاق العبارة هنا ، وفي الشرائع والإرشاد وغيرهما من كتب الأصحاب (٥).

__________________

(١) التهذيب ٨ : ٣٠٩ / ١١٤٨ ، الإستبصار ٤ : ٥٥ / ١٨٩ ، الوسائل ٢٢ : ٣٩٥ أبواب الكفارات ب ٢٤ ح ١.

(٢) التهذيب ٨ : ٣١٥ / ١١٧٠ ، الإستبصار ٤ : ٥٤ / ١٨٧ ، الوسائل ٢٢ : ٣٩٥ أبواب الكفارات ب ٢٤ ح ٢.

(٣) في « ح » و « ر » زيادة : الانتصار. انظر الروضة ٣ : ٤٢ ، والانتصار : ١٦٢.

(٤) الوسائل ٢٣ : ٣١٧ أبواب النذر والعهد ب ١٧.

(٥) الشرائع ٣ : ١٨٦ ، الإرشاد ٢ : ٩١ ؛ وانظر المفاتيح ٢ : ٦.

٢١٦

وفي المسالك عزاه إلى المشهور (١). بل في ظاهر المختلف في مسألة نذر صوم أوّل يوم من رمضان الإجماع عليه ، حيث قال بعد اختيار جوازه ردّاً على المبسوط والحلّي ـ : للإجماع منّا على أنّ النذر إنّما ينعقد إذا كان طاعةً بأن يكون واجباً أو مندوباً ، إلى آخر ما ذكره (٢).

وهو الحجّة ، مضافاً إلى النصوص المتقدّمة الدالة على اشتراط القربة ، ولا تحصل إلاّ فيما إذا كان متعلّق النذر طاعة.

خلافاً للدروس ، فحكم بانعقاده مطلقاً إذا لم يكن مرجوحاً (٣) ؛ للخبرين المتقدّمين (٤) : في الجارية حلف فيها بيمين فقال : لله عليّ أن لا أبيعها ، فقال : « فِ لله بقولك ».

وفيهما قصور من حيث السند ، فلا عمل عليهما سيّما في مقابلة تلك النصوص المعتبرة المعتضدة بالشهرة.

مع احتمالهما الضعف في الدلالة ؛ لعدم الصراحة باحتمال اختصاصهما بصورة رجحان ترك بيع الجارية بحيث يحصل معه نية القربة. وترك الاستفصال في الجواب وإن كان يأباه إلاّ أنّه لا يوجب الصراحة ، بل غايته الظهور في العموم ، وهو يقبل التخصيص بتلك الصورة ، جمعاً بينهما وبين ما مرّ من المستفيضة.

ولا مسرح عن هذا الجمع ولا مندوحة ؛ لاستلزام تركه والعمل بهما طرح تلك المستفيضة مع ما هي عليه من الاعتبار سنداً ، وعملاً ،

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٠٥.

(٢) المختلف : ٦٦٣.

(٣) الدروس ٢ : ١٥٠.

(٤) في ص ٢٠٣.

٢١٧

والاستفاضة ، والاعتضاد بالشهرة جدّاً ، والصراحة التي معها لا يمكن حملها على ما يجتمع معهما.

هذا ، مع أنّهما تضمّنا لزوم الوفاء بالنذر مع رجحان تركه للحاجة. وهو مناف لما ذكره جماعة (١) من جواز المخالفة في هذه الصورة ، بل في المختلف في مسألة موردهما عن الحلّي : أنّه نفى الخلاف فيه بين أصحابنا ، وبه ردّ على القاضي والنهاية في عملهما بمضمون الروايتين المتقدّم إلى ذكرهما الإشارة (٢).

ولا ريب فيما ذكره ؛ للإجماع المحكي في كلامه ، مضافاً إلى بعض المعتبرة الواردة في النذر : « كلّ ما كان لك فيه منفعة في دين أو دنيا ، فلا حنث عليك فيه » (٣).

ويعضده ما ورد بنحوه في اليمين ، بناءً على اشتراك النذر معها غالباً ، واقتضاء إطلاقها عليه اشتراكهما في الأحكام كما مضى.

وللّمعة ، ففصّل بين المشروط فالأوّل ، والتبرّع فالثاني مع تخصيص المباح بالراجح ديناً أو دنيا (٤).

ولا وجه له وإن نسبه في شرحها إلى المشهور.

ولا يذهب عليك ما بين نسبة هذا إليهم في هذا الكتاب ، ونسبة‌

__________________

(١) منهم : الحلّي في السرائر ٣ : ٦٣ ، والمحقق في الشرائع ٣ : ١٩٠ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢١٢ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٣٠.

(٢) المختلف : ٦٦٠.

(٣) الكافي ٧ : ٤٦٢ / ١٤ ، التهذيب ٨ : ٣١٢ / ١١٥٧ ، الإستبصار ٤ : ٤٥ / ١٥٤ ، الوسائل ٢٣ : ٣١٧ أبواب النذر والعهد ب ١٧ ح ١.

(٤) اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٤٢.

٢١٨

القول الأوّل إليهم في الكتاب الأوّل من التنافي (١). ووافقه في النسبة الثانية خالي العلاّمة المجلسي طاب رمسه (٢). ولم يظهر للعبد وجه صحّةٍ لها ، بل الذي يظهر من تتبّع كلمات القوم هو صحّة النسبة الاولى.

وهنا قول رابع حكاه جماعة (٣) ، وهو كالثالث إلاّ أنّه أطلق فيه جواز نذر المباح في الشقّ الثاني وقال بصحّته مطلقاً ولو كان متساوي الطرفين. ولم أقف على قائله ، مع أنّه ضعيف كسابقه.

نعم ، يمكن اختيار الصحّة في المباح الراجح ديناً إذا كان راجعاً إلى الطاعة ، كما إذا قصد به التقوّي على العبادة ، ومنع النفس عن الشهوات المهلكة ؛ لرجوعه إلى قصد القربة.

ويشترط فيه أيضاً كونه ( مقدوراً للناذر ) بلا خلاف ؛ لاستحالة التكليف بالممتنع مطلقاً. والمراد بمقدوريّته صلاحيّة تعلّق القدرة منه به عادةً في الوقت المضروب له فعلاً كان أو قوّةً. فإن كان وقته معيّناً اعتبرت فيه ، وإن كان مطلقاً فالعمر.

واعتبرنا ذلك مع كون المتبادر من كلامهم القدرة الفعلية ، لأنّها غير مرادة لهم كما صرّحوا به كثيراً (٤) ، لحكمهم بأنّ الناذر للحجّ العاجز عنه بالفعل الراجي للقدرة ينعقد نذره ويتوقّعها في الوقت ، فإن خرج وهو عاجز بطل.

وكذا الناذر للصدقة بمال وهو فقير ، ونحو ذلك.

__________________

(١) أي : المسالك.

(٢) ملاذ الأخيار ١٤ : ٨٣.

(٣) منهم : الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٠٥ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٢٩.

(٤) كالمسالك ٢ : ٢٠٥ ، والكفاية : ٢٢٩.

٢١٩

وإنّما أخرجوا بالقيد الممتنعَ عادةً ، كنذر الصعود إلى السماء ، أو عقلاً كالكون في غير الحيّز والجمع بين الضدّين ، أو شرعاً كالاعتكاف جنباً مع القدرة على الغسل. وهذا القسم يمكن دخوله في كونه طاعةً أو مباحاً ، فيخرج بهذا القيد أو به وبالأوّل أيضاً.

( و ) يتفرّع على القيد أنّه ( لا ينعقد النذر مع العجز ) من الناذر عن المنذور مطلقاً ( ويسقط ) التكليف به عنه ( لو تجدّد له العجز ) عنه بعد قدرته عليه ابتداءً.

وفي الخبر المنجبر ضعفه بصفوان وعمل الأعيان : « من جعل لله شيئاً فبلغ جهده فليس عليه شي‌ء » (١).

وظاهره كالعبارة ونحوها من عبائر الجماعة عدم لزوم شي‌ء عليه من حنث أو كفّارة.

لكن في الصحيح : « كلّ من عجز عن نذرٍ نذره فكفّارته كفّارة يمين » (٢).

وفي الخبر : رجل يجعل عليه صياماً في نذر ولا يقوى ، قال : « يعطي من يصوم عنه في كلّ يوم مدّين » (٣).

وظاهرهما لزوم كفّارة. وقد قدّمنا الكلام عليهما في بحث الكفّارات فليطلب ثمة (٤).

__________________

(١) التهذيب ٨ : ٣١٣ / ١١٦٣ ، الإستبصار ٤ : ٤٩ / ١٧٠ ، الوسائل ٢٣ : ٣٠٨ أبواب النذر والعهد ب ٨ ح ٥.

(٢) الكافي ٧ : ٤٥٧ / ١٧ ، التهذيب ٨ : ٣٠٦ / ١١٣٧ ، الإستبصار ٤ : ٥٥ / ١٩٢ ، الوسائل ٢٢ : ٣٩٣ أبواب الكفارات ب ٢٣ ح ٥.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥٧ / ١٥ ، الفقيه ٣ : ٢٣٥ / ١١١١ ، التهذيب ٨ : ٣٠٦ / ١١٣٨ ، الوسائل ٢٣ : ٣١٢ أبواب النذر والعهد ب ١٢ ح ١.

(٤) في « ح » و « ر » زيادة : ويأتي الكلام على نحوهما أيضاً إن شاء الله تعالى.

٢٢٠