رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٣

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-275-X
الصفحات: ٥٠٣

حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) فإنّه يدلّ على أن الأكثر ليس بمؤمن ، وكلّ من ليس بمؤمن غاوٍ ، فينتج أن الأكثر غاوٍ.

وفي كلّ من دعوى شذوذ هذا القول ، والاستدلال على ردّه نظر :

فالأوّل بأنّه مذهب جماعة من المحققين من النحاة والأُصوليين ، بل في التنقيح (٢) : إنّه مذهب أكثر النحاة وجماعة من الأُصوليين.

والثاني بتوقفه على أنّ المراد من العباد هو الناس فقط ، وهو في حيّز المنع سيما مع إفادة اللفظ العموم اللغوي ، فيشمل الملائكة وغيرهم من عباد الله تعالى.

والمستثنى منه (٣) على هذا التقدير أكثر من المستثنى قطعاً. ولا ينافيه نفي الإيمان عن أكثر الناس في الآية الأخيرة ؛ إذ نفيه عن أكثرهم لا يستلزم النفي عن أكثر العباد.

هذا مع أن سند هذا القول قوي متين ، وتمام التحقيق في الأُصول.

والمستفاد من التنقيح (٤) أنّ القول الأوّل هو الحق عند الفقهاء ، مؤذناً بدعوى إجماعهم عليه. ولعلّه كذلك ؛ إذ لم أقف في هذا الكتاب على مخالف منهم ، بل ظاهرهم الإطباق على ما في المتن.

وعليه ( فلو قال : له عليّ عشرة إلاّ ستة لزمه أربعة ) ويلزم المستثنى منه كملاً على القول الأخر ؛ لبطلان الاستثناء على تقديره ، وإن هو إلاّ نحو قول القائل : له عليّ عشرة إلاّ عشرة ، وقد اتّفقوا فيه على لزوم العشرة‌

__________________

(١) يوسف : ١٠٣.

(٢) التنقيح الرائع ٣ : ٤٩٤.

(٣) في المطبوع و « ر » : وما بقي من المستثنى منه ..

(٤) التنقيح ٣ : ٤٩٤.

١٤١

كاملة ، لبطلان الاستثناء بالاستيعاب.

( ولو قال ) بدل إلاّ في المثال : ( ينقصه ستة لم يقبل ) بل يلزم بالعشرة ؛ لأنّه رجوع عن الإقرار بها فلا يكون مسموعاً.

والفرق بينه وبين الاستثناء وقوع الاتّفاق كما في شرح الكتاب للسيد ، بل الإجماع كما في التنقيح (١) على قبوله ؛ لوقوعه في فصيح الكلام ، بخلاف غيره من الألفاظ المتضمنة للرجوع عن الإقرار. كذا قيل (٢).

والأظهر في بيان وجه الفرق أنّ الاستثناء مع المستثنى منه يعدّ جملة واحدة ، يكون الاستثناء كجزء منها ، لا يمكن فصله عنها ، ولا كذلك ينقص في المثال ، لكونه جملة أُخرى منفصلة عما سبقها ، فيكون كالمنافي لها فلا يسمع.

نعم ، لو أبدلها بالوصف فقال : عشرة ناقصة ، ثم فسّر الناقص بالستة قبل ؛ لكونه كالاستثناء مما لا يتمّ إلاّ بسابقه جدّاً ، بخلاف بدله لإمكان فصله عنه وتماميّته بدونه ، بخلافهما.

ولذا لا خلاف في ناقصة ، بل عليه الإجماع في شرح الإرشاد للمقدس الأردبيلي رحمه‌الله (٣). دون ينقص فلم يقبلوه ، من غير خلاف أجده إلاّ من السيد في شرح الكتاب حيث قال : ويحتمل قويّاً القبول مع الاتصال ؛ لأنّ الكلام إنّما يتمّ بآخره ، ولأنّه لو قال : ناقصة ، لم يلزمه غيرها ، وهذه في معناها. وهو كما ترى ؛ لظهور ضعفه مما قدّمناه.

( ولو قال : له عليّ عشرة إلاّ خمسة إلاّ ثلاثة لزمه ثمانية ) بناءً على‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ٣ : ٤٩٣.

(٢) انظر التنقيح الرائع ٣ : ٤٩٣.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ٤٦٢.

١٤٢

مقدّمات :

إحداها ما مرّ من عدم اشتراط نقصان المستثنى عن المستثنى منه.

والثانية : كون الاستثناء من الإثبات نفياً ، كما هو إجماع محقق ظاهراً ، ومحكيّ في كلام جمع صريحاً (١). ومنه إثباتاً ، كما هو أصحّ القولين للأُصوليين ؛ لكلمة التوحيد. خلافاً لبعضهم (٢) ؛ لوجه غير واضح مطّرد في الأوّل أيضاً ، مع كونه مسلّماً.

والثالثة : لزوم رجوع كلّ استثناء إلى متلوّه. ولا خلاف فيه ؛ وذلك لقربه ، واستلزام عوده إلى البعيد ترجيحه على الأقرب من غير سبب ، وعوده إليهما يوجب التناقض ، إذ المستثنى والمستثنى منه متخالفان نفياً وإثباتاً ، كما مضى.

وحيث ثبت هذه المقدمات ثبت لك صحة الحكم بلزوم الثمانية في المثال ؛ لأنّ الاستثناء الأوّل ينفي من العشرة المثبتة خمسة ، والثاني يثبت من الخمسة المنقية ثلاثة ، فتضم إلى الخمسة الباقية من العشرة ، فيلزمه ثمانية.

ولو زاد في المثال : إلاّ واحداً لزمه سبعة ؛ لاستلزام الاستثناء نفيه عن الثلاثة المثبتة ، فيبقى اثنان ، وينضّمان إلى الخمسة الباقية فيلزمه سبعة. وقس على هذا ما يرد عليك من سائر الأمثلة.

ومثله ما لو قال : له عشرة إلاّ تسعة إلاّ ثمانية إلاّ سبعة إلاّ ستة إلاّ خمسة إلاّ أربعة إلاّ ثلاثة إلاّ اثنين إلاّ واحداً ، فيلزمه خمسة.

__________________

(١) منهم : الفاصل المقداد في التنقيح الرائع ٣ : ٤٩٤ والمحقق الثاني في جامع المقاصد ٩ : ٢٩٥ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ١٧١ ، والروضة ٦ : ٤١٠.

(٢) نُسب إلى أبي حنيفة في التذكرة ٢ : ١٦٣.

١٤٣

والضابط : أن تسقط المستثنى الأوّل من المستثنى منه ، وتجبر الباقي منه بما ثبت بالاستثناء الثاني ، وتسقط ما نفاه الاستثناء الثالث من مجموع ما ثبت ، وتجبر الباقي منه بالرابع وهكذا. أو تجمع [ الأعداد ] (١) المثبتة على حدة والمنفية كذلك ، وتسقط جملة المنفي من جملة المثبت. فهو في المثال الأوّل ثلاثة عشر ، والمنفي فيه ستة إذا أسقطته من الأوّل بقي سبعة. ومن المثال الثاني ثلاثون ، والمنفي منه خمسة وعشرون ، والباقي بعد الإسقاط خمسة.

ثم إنّ كلّ ذا إذا لم يتعدّد الاستثناء بعاطف ، ولم يكن مساوياً للأوّل ، ولا أزيد منه ، وإلاّ رجع الجميع إلى المستثنى منه الأوّل.

أمّا مع العطف فللزوم اشتراك المتعاطفين في الحكم فيهما كالجملة الواحدة. ولا فرق فيه بين تكرّر حرف العطف وعدمه ، ولا بين زيادة الثاني عن الأوّل ، ومساواته له ، ونقصانه عنه.

وأمّا مع زيادة الثاني عن الأول أو مساواته فلاستلزام عوده إلى الأقرب الاستغراق ، وهو باطل. فيصان كلامه عن الهذر مهما أمكن بعودهما جميعاً إلى المستثنى منه.

( و ) حينئذ فـ ( لو قال : له عليّ عشرة إلاّ ثلاثة إلاّ ثلاثة كان إقراراً بأربعة ).

واعلم أنّه لا يلزم من عود الجميع إليه صحّته كلاًّ ، بل يراعى بعدم استلزام العود الاستغراق : فإن لم يستغرق المستثنى منه كما في المثال صحّ ، وإلاّ لغا ما يلزم منه الاستغراق خاصّة ، لأنّه هو الذي أوجب الفساد.

__________________

(١) في نسخة الأصل : الأفراد.

١٤٤

فلو قال : له عشرة إلاّ خمسة إلاّ خمسة ، لغا الثانية خاصّة ، وكان إقراراً بخمسة. وكذا مع العطف ، سواء كان الثاني مساوياً للأوّل كما ذكر ، أم أزيد ، كَلَه عشرة ، إلاّ ثلاثة وإلاّ سبعة ، أو أنقص ، كما لو قدّم السبعة على الثلاثة.

( ولو قال : له عليّ درهم ودرهم إلاّ درهماً لزمه درهمان ) وفاقاً للخلاف (١) ، والمختلف والقواعد والتذكرة وجماعة (٢) ؛ بناءً على اختصاص الاستثناء المتعقب للجمل المتعاطفة بالرجوع إلى الأخيرة ، كما هو الأظهر الأشهر بين الطائفة ، إذ يلزم حينئذ بطلان الاستثناء ، للاستغراق.

خلافاً للشيخ في قوله الآخر ، وتبعه الحلّي (٣) ؛ بناءً منهما على رجوع الاستثناء إلى الجمل جميعاً. وهو ضعيف جدّاً كما بيّن في الأُصول مستقصى.

ثم إنّ بناء الخلاف في المسألة على تلك المسألة الأُصولية مشهور بين الطائفة ، ومنهم الشيخ والحلّي ، والماتن في الشرائع (٤).

خلافاً للفاضل في كتبه المذكورة ، والسيد في شرح الكتاب وغيرهما (٥) ، فلم يصحّحوا البناء وقالوا بلزوم الدرهمين مطلقاً ولو قلنا برجوع الاستثناء إلى الجميع ؛ إذ هو حيث يصحّ ويمكن ، وليس منه الفرض ، لاستلزام الرجوع فيه إلى الجميع التناقض ، لورود الإقرار على‌

__________________

(١) الموجود في الخلاف ٣ : ٣٦٤ خلاف ما نسب إليه وأنه يلزم درهم واحد.

(٢) المختلف : ٤٤٠ ، القواعد ١ : ٢٨٤ ، التذكرة ٢ : ١٦٥ ؛ وانظر كشف الرموز ٢ : ٣١٨ ، والتنقيح الرائع ٣ : ٤٩٦.

(٣) المبسوط ٣ : ١٠ ، السرائر ٢ : ٥٠٢.

(٤) الشرائع ٣ : ١٥١.

(٥) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٥٤.

١٤٥

الدرهم بلفظ يفيد الخصوصيّة ، فلم يصح إخراج أحدهما بعد أن نصّ على ثبوته ، كما لو قال : جاء زيد وعمرو إلاّ زيداً. ولا كذلك درهمان إلاّ درهماً ؛ لجواز التجوّز في المستثنى منه ، فلا يكون تناقضاً.

ويضعّف بصحة التجوّز في كلّ من الدرهمين عن نصفه أيضاً ، كما في : له درهم إلاّ نصفه ، فيمكن أن يكون استثنى من كلّ درهم نصفه. ونصفا درهمٍ تمامه ، فارتفع النصوصية الموجبة للتناقض.

وقياس المفروض على المثال المذكور قياس مع الفارق ؛ لعدم احتمال التجوز فيه عن الشخصين ببعضهما بالاستثناء.

وما أبعد ما بين هذا وبين القول بصحة الاستثناء ، ولزوم درهم مطلقاً ولو قلنا باختصاصه بالعود إلى الأخيرة ؛ نظراً إلى أنّ الاختصاص إنّما هو حيث يمكن. وأمّا مع عدم الإمكان كما في الفرض للاستغراق فيجب عوده إلى الجميع ، كما يجب عوده إلى المستثنى منه لو كان مستغرقاً للاستثناء ؛ لأنّ إلغاء الاستثناء ومخالفة قوله أشدّ مخالفة للأصل من عوده إلى الجميع ، فيجب صونه عن الهذرية (١).

ولعلّه لا يخلو عن وجه ، سيما مع أنّ الأصل براءة الذمة.

( ولو قال : له ) عليّ ( عشرة إلاّ ثوباً ) قبل و ( سقط من العشرة قيمة الثوب ) بناءً على ما مرّ من قبول الاستثناء المنقطع ولو كان مجازاً ، فإنّه يجب قبوله بعد قيام القرينة عليه ، وهي هنا عدم إمكان إرادة المتصل الذي هو الحقيقة (٢).

( و ) إذا قبل ( رجع إليه في تفسير القيمة ) وقبل منه كلّ ما فسّره‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٩ : ٣٠٦.

(٢) في المطبوع و « ر » و « ت » زيادة : مع أنه ربما قيل بكون هذا الاستثناء متّصلاً.

١٤٦

( ما لم تستغرق العشرة ) وأمّا مع استغراقها ففي بطلان الاستثناء فيؤخذ بتمام العشرة ، لأصالة الحقيقة السليمة عن معارضة الاستثناء ، لاستغراقه لها بتفسيره ، فيكون كما لو ذكر ابتداءً استثناءً مستغرقاً ، أو بطلان التفسير خاصّة ، لأنّ الاستغراق إنّما نشأ منه فيطالب بتفسير آخر ليصحّ (١) ، قولان ، احتملهما في القواعد (٢). واختار أوّلهما في الروضة (٣) ، وثانيهما الفاضل في الإرشاد (٤) ، والسيد في شرح الكتاب. وفي تعليله السابق نظر ، إلاّ أنّه أوفق بأصالتي براءة الذمة وبقاء صحة الاستثناء السابقة.

واعلم أنّه يتصور وقوع الإقرار على الوجه المذكور في المثال بأن يكون للمقرّ له على المقرّ عشرة ، فيدفع إليه الثوب قضاءً ولا يحاسبه عليه ، فيسقط قيمته من العشرة التي في ذمته.

( الثاني : في تعقيب الإقرار بما ينافيه ).

اعلم أنه ( لو قال : هذا ) مشيراً إلى شي‌ء معيّن مملوك له بظاهر اليد ( لفلان ) ثم أضرب عنه فقال : ( بل لفلان ، فهو ) أي المقرّ به ( للأوّل ) التفاتا إلى مقتضى إقراره للأوّل ( ويغرم قيمته للثاني ) لأنّه حال بينه وبين الشي‌ء المقرّ به بإقراره الأوّل فيغرم ؛ للحيلولة الموجبة للغرم ، فكان كما لو أتلف عليه مالاً. إلاّ أن يصدّقه المقرّ له الأوّل في أنّها للمقرّ له الثاني ، فيدفع إليه من غير غرم للأوّل ؛ لتصديقه الموجب لإقراره بانتفائه عن نفسه.

( ولو قال : له عليّ مال من ثمن خمر ) أو خنزير أو ما شاكلهما مما‌

__________________

(١) في المطبوع : ليصحّ الأصل.

(٢) القواعد ١ : ٢٨٤.

(٣) الروضة ٦ : ٤١٧.

(٤) الإرشاد ١ : ٤١٥.

١٤٧

لا يصحّ تملّكه شرعاً ( لزمه للمال ) إذا فصل بين الإقرار ورافعه بسكوت أو كلام أجنبيّ ، بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في التذكرة (١).

وكذا إذا لم يفصل مطلقاً في ظاهر إطلاق العبارة ، وغيرها من عبائر الجماعة ، بل ادّعى عليه الإجماع منّا ومن أكثر العامة بعض الأجلّة ، ولكنه قوّى ما سيأتي من التفصيل بعد أن حكاه عن بعض العامّة. وهو ينافي دعواه المزبورة ، مع أنّ في الروضة أفتى بما قوّاه ، فقال بعد تعليل الحكم بنحو ما في العبارة بقوله : لتعقيبه الإقرار بما يقتضي سقوطه ؛ لعدم صلاحية الخمر وما بعدها مبيعاً يستحقّ به الثمن في شرع الإسلام ـ :

نعم ، لو قال المقرّ : كان ذلك من ثمن خمر أو خنزير فظننته لازماً لي ، وأمكن الجهل بذلك في حقه ، توجّهت دعواه ، وكان له تحليف المقرّ له على نفيه إن ادّعى العلم بالاستحقاق. ولو قال : لا أعلم الحال حلف على عدم العلم بالفساد. ولو لم يمكن الجهل بذلك في حق المقرّ لم يلتفت إلى دعواه (٢).

ويظهر من المقدس الأردبيلي رحمه‌الله الميل إليه ، قال : لأنّ الإقرار مبني على اليقين ، فكلّما لم يتيقّن لم يلزم بشي‌ء ، ولا يخرج عنه بالظن وغيره ، ويسمع فيه الاحتمال ، وإن كان نادراً. ولا شك أنّه محتمل اعتقاده بلزوم الثمن بمتابعة هذه الأشياء ؛ لاعتقاده صحة ذلك مطلقاً أو إذا كان الشراء من الكافر ، أو لزوم ذلك إذا كان في زمان الكفر ونحو ذلك. وبالجملة مع إمكان الاحتمال لا يلزم معه شي‌ء ، ولا يصير الكلام لغواً محضاً ومتناقضاً بحسب اعتقاده. ويشكل الحكم باللزوم بمجرّد ما تقدّم ؛ للأصل‌

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٦٦.

(٢) الروضة ٦ : ٤١٩.

١٤٨

والقاعدة (١).

وهو كما ترى في غاية القوّة إن لم ينعقد الإجماع على خلافه كما هو الظاهر.

( ولو قال ابتعت بخيار وأنكر البائع الخيار قبل ) الإقرار ( في البيع دون الخيار ) وكذا لو قال : له عليّ عشرة من ثمن مبيع لم أقبضه ، الزم بالعشرة ، ولم يلتفت إلى دعواه عدم قبض المبيع ، كما هنا وفي الشرائع والإرشاد واللمعة (٢). ونسب الأخير في المسالك والكفاية إلى الشهرة (٣).

قيل (٤) : للتنافي بين قوله عليّ وما في معناه ، وكونه مع الخيار وعدم قبض المبيع ؛ لأنّ مقتضى الأوّل ثبوت الثمن في الذمّة ووجوب أدائه إليه في جميع الأحوال ، ومقتضى الثاني عدم استقراره فيها ، لجواز الفسخ ، وتلف المبيع قبل القبض ، وعدم وجوب أدائه إليه مطلقاً ، بل مع تسليم المبيع.

خلافاً للمسالك والروضة وسبطه في شرح الكتاب ، وتبعهما الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله في شرح الإرشاد ، وصاحب الكفاية (٥) ، وحكاه في الأوّلين والتذكرة عن الشيخ (٦) ، وفي المختلف عنه في المبسوط والخلاف وعن القاضي (٧) واختاره فيه.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ٤٥٩.

(٢) الشرائع ٣ : ١٥٥ ، الإرشاد ١ : ٤١٣ ، اللمعة ( الروضة البهية ٦ ) : ٤١٨.

(٣) المسالك ٢ : ١٧٩ ، الكفاية : ٢٣١.

(٤) كما في الروضة ٦ : ٤١٨.

(٥) المسالك ٢ : ١٧٩ ، الروضة ٦ : ٤١٨ ، مجمع الفائدة والبرهان ٩ : ٤٦١ ، الكفاية : ٢٣١.

(٦) المسالك ٢ : ١٧٩ ، الروضة ٦ : ٤١٨ ، التذكرة ٢ : ١٦٦.

(٧) المختلف : ٤٤٠ ، وانظر المبسوط ٣ : ٣٤ ، والخلاف ٣ : ٣٧٥ ، المهذّب ١ : ٤١٤.

١٤٩

ولعلّه لا يخلو عن قوّة ؛ للأصل وكون الكلام جملة واحدة لا يتمّ إلاّ بآخره. وإنما يحكم بإلغاء الضميمة إذا كانت رافعة لأوّل الكلام ومناقضة له ، كما في المسألة السابقة مطلقاً أو في بعض صورها. وليس المقام من هذا القبيل ؛ لأنّ ثبوت الخيار وعدم القبض لا ينافي الابتياع وإن كانا قد يؤولان إلى رفع الإقرار به على بعض الوجوه ، كما إذا فسخ البيع أو تلف المبيع قبل القبض ، فإنّ ذلك بمجرّده لا يوجب إلغاء دعوى الأمرين. إنّما المقتضي لإلغاء الضميمة مناقضتها لصريح أوّل الكلام ، وهي كما عرفت مفقودة في المقام.

هذا مضافاً إلى التأيّد بأنّ للإنسان أن يخبر بما في ذمّته ، وقد يبتاع شيئاً بخيار أو لم يقبضه ، فيخبر بالواقع ، فلو الزم بغير ما أقرّ به كان ذريعةً إلى سدّ باب الإقرار ، وهو منافٍ للحكمة الإلهيّة.

( الثالث : في الإقرار بالنسب ) وهو مقبول كالإقرار بالمال ، بلا خلاف بين العلماء ، وادّعى عليه إجماعهم كافّةً السيّد في شرح الكتاب وصاحب الكفاية (١) ؛ وهو الحجّة ، مضافاً إلى عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » في الجملة ، والمعتبرة المستفيضة في الولد خاصّة ، وفيها الصحاح وغيرها ، مضى إلى بعضها الإشارة في كتاب النكاح في بحث حكم الأولاد ، ومنها زيادةً عليه الخبران :

أحدهما القوي المرتضوي : « إذا أقرّ الرجل بالولد ساعة لم ينتف منه أبداً » (٢).

وثانيهما المرسل : عن رجل ادّعى ولد امرأة لا يعرف له أب ، ثم‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٣٢.

(٢) التهذيب ٨ : ١٨٣ / ٦٣٩ ، الوسائل ٢٦ : ٢٧١ أبواب ميراث ولد الملاعنة ب ٦ ح ٤.

١٥٠

انتفى من ذلك ، قال : « ليس له ذلك » (١).

ويعضدها فحوى النصوص الواردة في اللعان الدالّة على لحوق الولد بالملاعن بدعواه إيّاه بعد انتفائه عنه باللعان.

( و ) اعلم أنّه ( يشترط ) في المقرّ هنا ما اشترط فيه سابقاً من البلوغ والعقل ورفع الحجر و ( في الإقرار بالولد الصغير ) أو الكبير مطلقاً ذكراً كان أو أُنثى ( إمكان البنوّة ) للمقر ، فلو أقرّ ببنوّة من هو أسنّ منه أو مساويه أو أصغر بحيث لا يمكن تولّده منه عادةً لم ينفذ. وكذا لو كان بين المقرّ وبين أُمّ الولد مسافة لا يمكن الوصول إليها في مثل عمر الولد ، أو علم عدم وصول المقرّ إليها.

( وجهالة نسبـ ) ـه مطلقاً صغيراً كان أو كبيراً. ولا وجه لتخصيص ( الصغير ) بهذا الشرط وغيره المتقدّم والآتي.

فلو أقرّ ببنوّة من انتسب إلى غيره شرعاً لم يعتدّ بإقراره ؛ لأنّ النسب المحكوم به شرعاً لا ينتقل. وإن صدّقه الولد ومن انتسب إليه شرعاً لم يلتفت إليه.

ولو أقرّ ببنوّة المنفي نسبه عن أبيه باللعان ففي قبوله وجهان : من أنه أقرّ بنسب لا منازع له فيه ، ومن بقاء شبهة النسب. ولذا لو استلحقه الملاعن بعد ذلك ورثه الولد.

( وعدم المنازع ) له في نسب المقرّ به. فلو أقرّ ببنوّة من استلحقه غيره ممن يمكن اللحاق به لم ينفذ ؛ فإنّ الولد حينئذٍ لا يلحق بأحد المتنازعين إلاّ ببينّة أو قرعة.

__________________

(١) التهذيب ٨ : ١٦٧ / ٥٨٢ ، الوسائل ٢٦ : ٢٧١ أبواب ميراث ولد الملاعنة ب ٦ ح ٣.

١٥١

ولا خلاف في شي‌ء من ذلك ، بل لعلّه مجمع عليه ، ويساعده الاعتبار.

مضافاً إلى الصحاح المستفيضة المتقدمة في البحث المتقدم من النكاح في مسألة وطء الشركاء الأمة المشتركة مع تداعيهم جميعاً ولدها في الأخير ، ففيها : إنّهم يقرع بينهم ، فمن خرج كان الولد ولده (١).

والخبر في الأوّل : في المرأة يغيب عنها زوجها فتجي‌ء بولد : « إنّه لا يلحق الولد بالرجل إذا كانت غيبته معروفة ، ولا تصدّق أنّه قدم فأحبلها » (٢).

وبهذه الأدلّة تقيّد الأخبار المتقدّمة وغيرها بلحوق الولد بالمقرّ به مطلقاً ، مع بُعد شمول إطلاقها للإقرار بالولد مع عدم هذه الشرائط جدّاً ، كبعد شموله لغير الولد للصلب ، لانصرافه بحكم التبادر إلى الولد للصلب ، فينبغي الرجوع في غيره إلى الأصل الدالّ على عدم ثبوت النسب بالإقرار.

فلو أقرّ ببنوّة ولد ولده فنازلاً اعتبر التصديق كغيره من الأقارب. نصّ عليه الشهيدان وغيرهما (٣). لكن يثبت بالإقرار ما يتعلّق بالمال والنسب من جهة المقرّ ، كوجوب الإنفاق وحرمة التزويج ؛ لعموم إقرار العقلاء.

ثم إنّ إطلاق العبارة وغيرها من عبائر الجماعة (٤) يقتضي عدم الفرق‌

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ أبواب كيفية الحكم ب ١٣.

(٢) الكافي ٥ : ٤٩٠ / ١ ، التهذيب ٨ : ١٦٧ / ٥٧٩ ، الوسائل ٢١ : ٤٩٧ أبواب أحكام الأولاد ب ١٠٠ ح ١.

(٣) الشهيد الأول في الدروس ٣ : ١٥٠ ، الشهيد الثاني في الروضة ٦ : ٤٢٤ ؛ وانظر جامع المقاصد ٩ : ٣٥٤.

(٤) انظر النهاية : ٦٨٤ ، والمبسوط ٣ : ٣٨ ، والوسيلة : ٢٢٥ ، والجامع للشرائع : ٣٤٣ ، والإرشاد ١ : ٤١١ ، والتذكرة ٢ : ١٧٣.

١٥٢

في المقرّ بالولد بين كونه أباً أو امّاً. وهو أحد القولين في المسألة. ولكن أصحّهما عند الشهيدين (١) وغيرهما (٢) الفرق ، واختصاص ذلك بإقرار الأب ، أمّا الأُمّ فيعتبر التصديق لها ؛ لاختصاص النصوص المتقدمة بالرجل فلا يتناول المرأة.

واتّحاد طريقهما ممنوع ؛ لإمكان إقامتها البينة على الولادة دونه ، ولأنّ ثبوت نسب غير معلوم على خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على القدر المتيقن من النص والفتوى.

لكن في الصحيحين : عن المرأة تسبى من أرضها ومعها الولد الصغير فتقول : هو ابني ، والرجل يسبى ، فيلقى أخاه فيقول : أخي ، ويتعارفان وليس لهما على ذلك بينة إلاّ قولهما ، فقال : « ما يقول مَن قبلكم؟ » قلت : لا يورثونهم ؛ لأنّهم لم يكن لهم على ذلك بيّنة ، إنّما كانت ولادة في الشرك ، فقال : « سبحان الله ، إذا جاءت بابنها أو بنتها معها ولم تزل مقرّة ، وإذا عرف أخاه وكان ذلك في صحّة من عقلهما ولم يزالا مقرَّين ، ورث بعضهم من بعض » (٣).

ولا يبعد المصير إليهما في موردهما ، وهو كون الام والأخ مسبيّين بل مطلقاً ، كما يستفاد من قوله : « سبحان الله » الذي هو في حكم التعليل جدّاً.

هذا بالإضافة إلى النسب المطلق ، وأمّا بالإضافة إلى ما يتعلّق بالمال والنسب من جهتها فيثبته الإقرار قولاً واحداً ؛ للعموم الذي مضى.

__________________

(١) الأوّل في الدروس ٣ : ١٥٠ ، والثاني في الروضة ٦ : ٤٢٤.

(٢) انظر الكفاية : ٢٣٢.

(٣) الكافي ٧ : ١٦٥ / ١ ، الفقيه ٤ : ٢٣٠ / ٧٣٣ ، التهذيب ٩ : ٣٤٧ / ١٢٤٧ ، الإستبصار ٤ : ١٨٦ / ٦٩٨ ، الوسائل ٢٦ : ٢٧٨ أبواب ميراث ولد الملاعنة ب ٩ ح ١.

١٥٣

( ولا يشترط ) في الصغير المقرّ به ( التصديق ) منه للمقرّ بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في كثير من العبارات (١) ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى إطلاق الأخبار المتقدمة و ( لعدم الأهلية ) منه لذلك ، لسلب العبرة عن أقواله في الشرع.

ولا يتوقف نفوذ الإقرار به على بلوغه إجماعاً ، كما حكاه بعض أصحابنا (٢).

( ولو بلغ فأنكر لم يقبل ) إنكاره ، بلا خلاف بين علمائنا فيه أيضاً ؛ للحكم بثبوته حال صغره ، فلا يرتفع إلاّ بما عدّه الشارع رافعاً ، ولم يثبت كون الإنكار كذلك جدّاً.

واعلم أنّه ألحق الأصحاب من غير خلاف يعرف بينهم بالصغير المجنون مطلقاً ذكراً كان أو أُنثى ، والميت كذلك وإن كان بالغاً عاقلاً ولم يكن ولداً فقالوا : لا يعتبر تصديقهما ، بل يثبت نسبهما بالنسبة إلى المقرّ بمجرد إقراره ؛ لأنّ التصديق إنّما يعتبر مع إمكانه وهو ممتنع منهما.

والظاهر أنّه مجمع عليه بينهم ، وقد صرّح به في المجنون بعض الأصحاب (٣). ويظهر من الروضة دعواه في الميت حيث قال بعد أن استشكل حكمه كبيراً مما تقدّم ، ومن إطلاق اشتراط تصديق البالغ العاقل في لحوقه ، وأنّ تأخير الاستلحاق إلى الموت يوشك أن يكون خوفاً من إنكاره إلاّ أنّ فتوى الأصحاب على القبول ، قال : ولا يقدح فيه التهمة باستيثاق مال الناقص وإرث الميت (٤).

__________________

(١) انظر جامع المقاصد ٩ : ٣٤٩ ، والمسالك ٢ : ١٨٠ ، ومفاتيح الشرائع ٢ : ٣٧٧.

(٢) كالسبزواري في الكفاية : ٢٣٢.

(٣) جامع المقاصد ٩ : ٣٤٩.

(٤) الروضة ٦ : ٤٢٣.

١٥٤

وهو كذلك ؛ للإطلاق ، مع عدم ظهور مخالف فيه من الأصحاب ، وإنما ردّ بذلك بعض العامة (١).

( ولا بدّ في ) الولد ( الكبير ) إذا لم يكن ميتاً ولا مجنوناً ( من التصديق ) للمقرّ في دعواه ، فلو لم يصدّقه لم ينسب إليه ، وفاقاً للإسكافي والمبسوط والحلّي (٢) ، وأكثر الأصحاب (٣) ، بل في المختلف (٤) عن الأوّل : أنه لا يعلم فيه خلافاً ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى أصالة عدم الانتساب ، وأنّه إقرار في حق الغير فلا ينفذ.

خلافاً لظاهر إطلاق النهاية (٥) ، فلم يعتبر فيه التصديق كالصغير. وحجته غير معلومة ، وإن احتجّ له في المختلف بأمر موهوم (٦).

نعم ، ربما دلّت عليه إطلاقات الأخبار المتقدمة ، إلاّ أن عدم تبادر الكبير من إطلاق الولد فيها يقتضي تخصيصها بالصغير.

ثم إنّ مقتضى كلامهم أنّه إذا ثبت النسب بين المقرّ والصغير ثبت نسبه مثل الفراش ، فيكون أب المقرّ جدّاً ، وأُمّه جدّةً ، وإخوته وأخواته أعماماً وعمّات ، وولده إخوةً وأخوات.

نبّه على ذلك المقدس الأردبيلي رحمه‌الله ، وحكى عن التذكرة ماله على ذلك دلالة ، فقال : قال فيها : إذا أقرّ بالولد وحصلت الشرائط ثبت النسب‌

__________________

(١) وهو أبو حنيفة ، حكاه عنه ابن قدامة في المغني ٥ : ٣٣٤.

(٢) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٤٤١ ، المبسوط ٣ : ٣٨ ، السرائر ٣ : ٣٠٨.

(٣) منهم : فخر المحققين في إيضاح الفوائد ٢ : ٤٦٤ ، والشهيد الأوّل في اللمعة ( الروضة البهية ٦ ) : ٤٢٣ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ١٨٠.

(٤) المختلف : ٤٤١.

(٥) النهاية : ٦٨٤.

(٦) المختلف : ٤٤١.

١٥٥

بينه وبين الولد ، وكذا بين الولد وكلّ من ثبت بينه وبين الولد المشهور (١). وبذلك صرّح جماعة (٢).

( وكذا ) يعتبر التصديق ( في غيره من الأنساب ) بلا خلاف ظاهر ، وصرّح به في الكفاية (٣) والسيّد في شرح الكتاب ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى ما مرّ من الأدلة ، وأنّه في الحقيقة إلحاق بغير المقرّ ؛ فإنّه إذا قال : هذا أخي ، كان معناه أنّه ابن أبي وأُمّي ، وكذا باقي الأنساب.

وظاهر العبارة كغيرها عدم اعتبار ما عدا التصديق. خلافاً للتذكرة والمسالك (٤) والسيّد في الشرح ، فاشترطوا موت الملحق به حتى إنّه ما دام حيّاً لم يكن لغيره الإلحاق به وإن كان مجنوناً.

وزاد الثاني اشتراط أن لا يكون الملحق به قد نفى المقر به ، قال : إذا نفاه ثم استلحقه وارثه بعد موته ففي لحوقه وجهان : من سبق الحكم ببطلان هذا النسب. وفي إلحاقه به بعد الموت إلحاق عارٍ بنسبه ، وشرط الوارث أن يفعل ما فيه خطّ المورث لا ما يتضرّر به. ومن أنّ المورث لو استلحقه بعد ما نفاه باللعان وغيره لحق به وإن لم يرثه عندنا. وهذا أقوى.

وللقاصر في فهم المراد بالمشروط بهذين الشرطين عجز ؛ فإنّه إن كان ثبوت النسب بين المتصادقين بحيث يتوارثان ، ويتعدّى توارثهما إلى غيره فللاشتراط وجه ، إلاّ انهم كما يأتي لا يقولون به ، بل صرّحوا بأنّ غاية هذا الإقرار بعد التصادق ثبوت التوارث بين المتصادقين خاصّة ، وأنّه‌

__________________

(١) مجمع الفائدة ٩ : ٤٤٨ ، وهو في التذكرة ٢ : ١٧٠.

(٢) منهم السبزواري في الكفاية : ٢٣٢.

(٣) الكفاية : ٢٣٢.

(٤) التذكرة ٢ : ١٧٢ ، المسالك ٢ : ١٨٠.

١٥٦

لا يتعدّى التوارث إلى غيرهما إلاّ أن يقرن الدعوى بالبيّنة.

وإن كان ثبوت النسب بينهما خاصّة ، بحيث يتوارثان من دون تعدية كما هو الظاهر من حكمهم المذكور بعدم تعدّي التوارث عنهما إلى غيرهما من الأقارب فلا وجه للاشتراط ، ولا لما مرّ في توجيه اشتراط الشرط الثاني من أنّ شرط الوارث أن لا يفعل ما يضرّ بالمورث ؛ وذلك فإنّ المشروط بهذا المعنى يحصل بمجرد الإقرار والتصديق الذي هو بمنزلته ، وليس فيهما ما يوجب الضرر على المورّث ، لعدم استيراث المقرّ به من إرثه ولا من إرث أقاربه ، وإنّما يرث المقرّ بعد وفاته إذا لم يكن له وارث غيره.

( و ) كيف كان ( إذا تصادقا ) أي المقرّ والمقرّ به ( توارثا بينهما ) حيث لا وارث لهما ، بلا خلاف كما في كثير من العبارات (١) ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى النصوص الكثيرة :

منها زيادةً على الصحيحين للمتقدمين في ثبوت نسب الصغير بإقرار الأُمّ من دون تصديق (٢) ـ : الصحيح المروي عن الكافي والتهذيب : عن رجلين جي‌ء بهما من أرض الشرك ، فقال أحدهما لصاحبه : أنت أخي ، فعرفا بذلك ، ثم أُعتقا ومكثا يعرفان بالإخاء ، ثم إنّ أحدهما مات ، قال : « الميراث للأخ يصدقان » (٣).

مع أنّ الحق لهما فلا يعدوهما.

__________________

(١) انظر جامع المقاصد ٩ : ٣٥٥ ، واللمعة ( الروضة البهية ٦ ) : ٤٢٦ ، والكفاية : ٢٣٢.

(٢) راجع ص ١٥٢.

(٣) الكافي ٧ : ١٦٦ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٣٤٧ / ١٢٤٨ ، الإستبصار ٤ : ١٨٦ / ٦٩٩ ، الوسائل ٢٦ : ٢٧٩ أبواب ميراث ولد الملاعنة ب ٩ ح ٢.

١٥٧

( ولا يتعدّى ) التوارث ( إلى غير المتصادقين ) بلا خلاف أيضاً ؛ لأنّ النسب هنا لم يثبت بالبيّنة وإنّما ثبت بالإقرار ، وحكمه لا يتعدّى إلى غير المقرّ بلا خلاف ، للأصل.

وإطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في ذلك بين الإقرار بالولد الكبير الذي يعتبر تصديقه وغيره من الأنساب. وعليه يتفاوت الإقرار بالولد بالنسبة إلى الصغير والكبير ؛ لثبوت النسب الموجب للتوارث على الإطلاق بالإقرار في الأوّل وعدم ثبوته كذلك ولو مع التصادق في الثاني.

خلافاً لظاهر عبارة الماتن في الشرائع ، فدلت على أنّ قصر الحكم على المتصادقين إنّما هو في غير الولد للصلب (١).

وصرّح بذلك في المسالك من دون إشكال ولا حكاية خلاف ، فقال بعد نقل العبارة الدالّة على الحكم ـ : هذا من جملة ما افترق فيه الإقرار بالولد من غيره ؛ فإنّ الإقرار بالولد مع التصديق بدونه يثبت به النسب ويتعدّى التوارث إلى غيرهما من أنسابهما بشرطه. وأمّا الإقرار بغير الولد للصلب وإن كان ولد ولد ، فيختصّ حكمه مع التصديق بالمتصادقين ؛ لما تقرّر أنّ ذلك إقرار بنسب الغير ، فلا يتعدّى المقرّ. ولو لم يحصل تصديق افتقر إلى البينة (٢).

ويظهر من سبطه في شرح الكتاب التردّد في ذلك ، واحتماله ما يستفاد من إطلاق العبارة من عدم تعدّي التوارث إلى غير المتصادقين ، من دون فرق بين الولد الكبير وغيره من الأنساب ؛ لأصالة عدم التعدّي إلى غيرهما. قال : وليس في المسألة نصّ يرجع إليه في هذا الحكم. لكن الذي‌

__________________

(١) الشرائع ٣ : ١٥٧.

(٢) المسالك ٢ : ١٨٠.

١٥٨

يقتضيه الأصل عدم التعدي إلى غير المتصادقين ، فيقتصر فيه على موضع الوفاق.

وهو كما ترى في غاية الجودة. اللهم إلاّ أن يقال : قد انعقد على ما ذكر جدّه الإجماع. وهو غير واضح.

وربما يظهر منه أيضاً التردّد في الفرق في الروضة حيث قال : ومقتضى قولهم غير التولد أنّ التصادق في التولد يتعدّى. مضافاً إلى ما سبق من الحكم بثبوت النسب في إلحاق الصغير مطلقاً ، والكبير مع التصادق. والفرق بينه وبين غيره من الأنساب مع اشتراكهما في اعتبار التصادق غير بيّن (١).

( ولو كان للمقرّ ورثة مشهورون ) في نسبه ( لم يقبل إقراره ) حينئذ مطلقاً. ( ولو تصادقا ).

قالوا : لأنّ ذلك إقرار في حق الغير ، بناءً على أنّ الإرث ثابت شرعاً للورثة المعروفين بنسبهما ، فإقراره بوارث آخر وتصديقه له يقتضي منعهم عن جميع المال أو بعضه ، فلا يسمع.

ومقتضى هذا التعليل كإطلاق العبارة ، وغيرها من عبائر أكثر الطائفة كما حكاه جماعة (٢) عدم الفرق في الحكم بين الإقرار بالولد مطلقاً ، وغيره.

خلافاً لظاهر المحكي عن النهاية (٣) ؛ حيث خصّ الحكم بغير الإقرار‌

__________________

(١) الروضة ٦ : ٤٢٦.

(٢) منهم : العلاّمة في القواعد ١ : ٢٨٨ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ١٨٠ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٣٢.

(٣) النهاية : ٦٨٥.

١٥٩

بالولد.

والأجود الأوّل ؛ اقتصاراً في الحكم بالتوارث المخالف للأصل على مورد القطع ، وهو ما إذا لم يكن للمتصادقين ورثه ؛ فإنّه الذي يثبت فيه الحكم بالتوارث بالإجماع. ولولاه لكان الأوفق بالأصل الحكم بعدم التوارث فيه أيضاً.

لكن يشكل ذلك في الإقرار بالولد الصغير ؛ لظهور إطلاق النصوص الواردة في الإقرار به في ثبوت نسبه بذلك ، وهو مستلزم للحكم بالتوارث بينه وبين من أقرّ به مطلقاً كان لهما ورثة أم لا ، بل وربّما استلزم تعدّي التوارث إلى غيرهما.

ولعلّه غير محل النزاع ، وإنّما هو الولد الكبير الذي يتوقف ثبوت نسبه بالإقرار على التصادق. بل لا يبعد أن يقال بخروجه أيضاً عن محل النزاع ، وأنّ المراد من إطلاقات العبائر الإقرار بغير الولد من الأنساب ؛ وذلك لتصريحهم بثبوت نسبه بالتصادق ، وهو مستلزم لثبوت التوارث على الإطلاق ، فلا خلاف بينها وبين ما عن النهاية.

نعم ، يبقى التأمّل حينئذٍ في وجه إلحاقه بالولد الصغير في الحكم المذكور ؛ لاختصاص النصوص الدالّة عليه به ، فلا يتعدّى الحكم إلى غيره ، لمخالفته الأصل كما مرّ ، فإن كان إجماع وإلاّ ففي التعدية نظر.

( وإذا أقرّ الوارث ) المحكوم بكونه وارثاً ظاهراً ( بآخر وكان أولى منه ) في الميراث ، كما إذا أقرّ الأخ بولد للميّت ( دفع إليه ما في يده ) من المال وجوباً ؛ لاعترافه بكونه أولى منه بالإرث.

( وإن كان ) المقرّ به غير أولى ، بل ( مشاركاً له ) في الميراث ، كما‌

١٦٠